تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين الآية، المعنى واذكر يا محمد «إذ» ويحتمل أن يكون «أخذ» هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسما، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه، ثم جمع اللفظ في حكاية الحال في هذه الآية، والمعنى: أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به، الإيمان بمن أوتي بعده من الرسل، الظاهرة براهينهم والنصرة له، واختلف المفسرون في العبارة عن مقتضى ألفاظ هذه الآية، فقال مجاهد والربيع: إنما أخذ ميثاق أهل الكتاب، لا ميثاق النبيين، وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود: «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب»، قال مجاهد: هكذا هو القرآن، وإثبات «النبيين» خطأ من الكتاب.
قال الفقيه الإمام: وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه، وقال ابن عباس رضي الله عنه: إنما أخذ اللّه ميثاق النّبيّين على قومهم، فهو أخذ لميثاق الجميع، وقال طاوس: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما بعث الله نبيا، آدم فمن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذه على قومه، ثم تلا هذه الآية، وقاله السدي: وروي عن طاوس أنه قال: صدر الآية أخذ الميثاق على النبيين وقوله: ثمّ جاءكم مخاطبة لأهل الكتاب بأخذ الميثاق عليهم.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: حكاه الطبري وهو قول يفسده إعراب الآية، وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس، لأن الأخذ على الأنبياء أخذ على الأمم.
وقرأ حمزة وغيره سوى السبعة: «لما» بكسر اللام، وهي لام الجر، والتقدير لأجل ما آتيناكم، إذ أنتم القادة والرؤوس، ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه، و «ما» في هذه القراءة بمعنى الذي الموصولة، والعائد إليها من الصلة تقديره آتيناكموه، و «من» لبيان الجنس، وقوله، ثمّ جاءكم الآية، جملة معطوفة على الصلة، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول، فتقديره عند سيبويه: رسول به مصدق لما معكم، وحذف تخفيفا كما حذف الذي في الصلة بعينها لطول الكلام، كما قال تعالى: أهذا الّذي بعث اللّه رسولًا [الفرقان: 41] والحذف من الصلات كثير جميل، وأما أبو الحسن الأخفش، فقال قوله تعالى: لما معكم. هو العائد عنده على الموصول، إذ هو في المعنى بمنزلة الضمير الذي قدر سيبويه، وكذلك قال الأخفش في قوله تعالى: إنّه من يتّق ويصبر فإنّ اللّه لا يضيع أجر المحسنين [يوسف: 90] لأن المعنى لا يضيع أجرهم، إذ المحسنون هم من يتقي ويصبر، وكذلك قوله تعالى: إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملًا [الكهف: 30] وكذلك ما ضارع هذه الآيات، وسيبويه رحمه الله لا يرى أن يضع المظهر موقع المضمر، كما يراه أبو الحسن، واللام في لتؤمننّ، هي اللام المتعلقة للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز.
وقرأ سائر السبعة: «لما» بفتح اللام، وذلك يتخرج على وجهين، أحدهما أن تكون «ما» موصولة في موضع رفع بالابتداء، واللام لام الابتداء، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى: وإذ أخذ اللّه ميثاق وخبر الابتداء قوله لتؤمننّ، ولتؤمننّ متعلق بقسم محذوف، والمعنى والله لتؤمنن، هكذا قال أبو علي الفارسي، وفيه من جهة المعنى نظر، إذا تأملت على أي شيء وقع التحليف لكنه متوجه بأن الحلف يقع مرتين تأكيدا فتأمل، والعائد الذي في الصلة، والعائد الذي في الجملة المعطوفة على الصلة هنا في هذه القراءة هما على حد ما ذكرنا هما في قراءة حمزة، أما أن هذا التأويل يقتضي عائدا من
الخبر الذي هو لتؤمننّ فهو قوله تعالى: به فالهاء من به عائدة على «ما» ولا يجوز أن تعود على رسولٌ فيبقى الموصول حينئذ غير عائد عليه من خبره ذكر، والوجه الثاني الذي تتخرج عليه قراءة القراء «لما» بفتح اللام، هو أن تكون «ما» للجزاء شرطا، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم وجاءكم معطوف في موضع جزم، واللام الداخلة على «ما» ليست المتلقية للقسم، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى: لئن لم ينته المنافقون والّذين في قلوبهم مرضٌ [الأحزاب: 60] لأنها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله، لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله: لتؤمننّ وهذه اللام الداخلة على «أن» لا يعتمد القسم عليها، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة، كما قال تعالى: وإن لم ينتهوا عمّا يقولون ليمسّنّ الّذين كفروا منهم عذابٌ أليمٌ [المائدة: 73]. قال الزجاج: لأن قولك، والله لئن جنتني لأكرمنك، إنما حلف على فعلك، لأن الشرط معلق به، فلذلك دخلت اللام على الشرط، وما في هذا الوجه من كونها جزاء لا تحتاج إلى عائد لأنها مفعولة والمفعول لا يحتاج إلى ذكر عائد.
والضمير في قوله تعالى: لتؤمننّ به عائد على رسولٌ، وكذلك هو على قراءة من كسر اللام، وأما الضمير في قوله ولتنصرنّه فلا يحتمل بوجه إلا العود على رسول، قال أبو علي في الإغفال: وجزاء الشرط محذوف بدلالة قوله لتؤمننّ عليه، قال سيبويه: سألته، يعني الخليل عن قوله تعالى: وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم فقال: «ما» هنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما دخلت على إن، حين قلت: لئن فعلت لأفعلن، ثم استمر يفسر وجه الجزاء قال أبو علي: أراد الخليل بقوله: هي بمنزلة الذي، أنها اسم كما أن الذي اسم ولم يرد أنها موصولة كالذي، وإنما فرّ من أن تكون «ما» حرفا كما جاءت حرفا في قوله تعالى: وإنّ كلًّا لمّا ليوفّينّهم ربّك أعمالهم [هود: 111] وفي قوله وإن كلّ ذلك لمّا متاع الحياة الدّنيا [الزخرف: 35]، والله المستعان، وحكى المهدوي ومكي عن سيبويه والخليل: أن خبر الابتداء فيمن جعل «ما» ابتداء على قراءة من فتح اللام هو في قوله: من كتابٍ وحكمةٍ ولا أعرف من أين حكياه لأنه مفسد لمعنى الآية لا يليق بسيبويه، والخليل، وإنما الخبر في قوله، لتؤمننّ كما قال أبو علي الفارسي ومن جرى مجراه كالزجاج وغيره، وقرأ الحسن: «لمّا آتيناكم» بفتح اللام وشدها قال أبو إسحاق:
أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق، وتكون اللام تؤول إلى الجزاء، كما تقول لما جئتني أكرمتك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويظهر أن «لما» هذه هي الظرفية أي لما كنتم بهذه الحال، رؤساء الناس وأماثلهم، أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يؤخذ، فيجيء هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة، وذهب ابن جني في «لما» في هذه الآية إلى أن أصلها «لمن ما»، وزيدت «من» في الواجب على مذهب الأخفش، ثم أدغمت، كما يجب في مثل هذا، فجاء لهما، فثقل اجتماع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى فبقي «لما»، وتتفسر هذه القراءة على هذا التوجيه المحلق تفسر «لما» بفتح الميم مخففة، وقد تقدم، وقرأ نافع وحده، «آتيناكم» بالنون، وقرأ الباقون، «آتيناكم» بالتاء، ورسولٌ في هذه الآية اسم جنس، وقال كثير من المفسرين: الإشارة بذلك إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف ابن مسعود: «مصدقا» بالنصب على الحال.
قوله تعالى: ... قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشّاهدين (81)
هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه، وذلك يحتمل موطن القسم، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه، وأخذتم في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم أيضا وقال الطبري: أخذتم في هذه الآية معناه: قبلتم، و «الإصر»: العهد، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك، وقوله تعالى فاشهدوا يحتمل معنيين: أحدهما فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد، هذا قول الطبري وجماعة، والمعنى الثاني، بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به، وشهادة الله تعالى هذا التأويل، وفي التي في قوله وأنا معكم من الشّاهدين هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم، هذا قول الزجّاج وغيره.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها، والقول الثاني هو الأمر بأدائها وحكم الله تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق على أن قوله، فاشهدوا أمر بالأداء). [المحرر الوجيز: 2/270-274]
تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (فمن تولّى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (82) أفغير دين اللّه يبغون وله أسلم من في السّماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون (83)
وحكم الله تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره). [المحرر الوجيز: 2/274] (م)
تفسير قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ أبو عمرو: «يبغون» بالياء مفتوحة، و «ترجعون» بالتاء مضمومة، وقرأ عاصم، «يبغون» و «يرجعون» بالياء معجمة من تحت فيهما، وقرأ الباقون بالتاء فيهما، ووجوه هذه القراءات لا تخفى بأدنى تأمل وتبغون معناه: تطلبون، وأسلم في هذه الآية بمعنى: استسلم عند جمهور المفسرين، ومن في هذه الآية تعم الملائكة والثقلين، واختلفوا في معنى قوله طوعاً وكرهاً فقال مجاهد: هذه الآية كقوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السّماوات والأرض ليقولنّ اللّه [الزمر: 38] فالمعنى أن إقرار كل كافر بالصانع هو إسلام كرها.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: فهذا عموم في لفظ الآية، لأنه لا يبقى من لا يسلم على هذا التأويل وأسلم فيه بمعنى استسلم، وقال بمثل هذا القول أبو العالية رفيع، وعبارته رحمه الله: كل آدمي فقد أقر على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومن أخلص فهذا الذي أسلم طوعا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ الميثاق، وروي عن مجاهد أنه قال: الكره في هذه الآية هو بسجود ظل الكافر فيسجد المؤمن طوعا ويسجد الكافر وهو كاره، وقال الشعبي: الآية عبارة عن استقادة جميع البشر لله وإذعانهم لقدرته وإن نسب بعضهم الألوهية إلى غيره، وذلك هو الذي يسجد كرها.
قال الفقيه الإمام: وهذا هو قول مجاهد وأبي العالية المتقدم وإن اختلفت العبارات، وقال الحسن بن أبي الحسن: معنى الآية: أنه أسلم قوم طوعا، وأسلم قوم خوف السيف، وقال مطر الوراق: أسلمت الملائكة طوعا، وكذلك الأنصار وبنو سليم وعبد القيس، وأسلم سائر الناس كرها حذر القتال والسيف.
قال الفقيه الإمام: وهذا قول الإسلام فيه هو الذي في ضمنه الإيمان، والآية ظاهرها العموم، ومعناها الخصوص، إذ من أهل الأرض من لم يسلم طوعا ولا كرها على هذا الحد، وقال قتادة: الإسلام كرها هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه.
قال الفقيه الإمام: ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك، وهذا غير موجود إلا في أفراد، والمعنى في هذه الآية، يفهم كل ناظر أن هذا القسم الذي هو الكره إنما هو في أهل الأرض خاصة، والتوقيف بقوله أفغير إنما هو لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار والكفار، وقرأ أبو بكر عن عاصم، «أصري»، بضم الألف وهي لغة). [المحرر الوجيز: 2/274-275]