تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ولما انقضى ذكرهم عقب بذكر ضدهم ليبين ما بين الحالين فقال: {إنّ الّذين آمنوا} الآية، وقد تقدم تفسير مثل ألفاظ هذه الآية، وخص الصّلاة والزّكاة بالذكر وقد تضمنهما عمل الصّالحات تشريفا لهما، وتنبيها على قدرهما، إذ هما رأس الأعمال الصلاة في أعمال البدن، والزكاة في أعمال المال). [المحرر الوجيز: 2/ 101]
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من اللّه ورسوله وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279)}
سبب هذه الآية أنه كان الربا بين الناس كثيرا في ذلك الوقت، وكان بين قريش وثقيف ربا، فكان لهؤلاء على هؤلاء. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته في اليوم الثاني من الفتح: «ألا كل ربا في الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب»، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به، وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل على نفسه وخاصته، فيستفيض حينئذ في الناس، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل على مكة عتاب بن أسيد، فلما استنزل أهل الطائف بعد ذلك إلى الإسلام اشترطوا شروطا، منها ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لم يعطه، وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه ثم ردها الله بهذه الآية، كما رد صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية.
وذكر النقاش رواية: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء، وكانت الديون لبني المغيرة وهم بنو عمرو بن عمير من ثقيف، وكانت لهم على بني المغيرة المخزوميين فقال بنو المغيرة لا تعطي شيئا فإن الربا قد وضع، ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد بمكة، فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب فعلمت بها ثقيف فكفت»، هذا سبب الآية على اختصار مجموع مما روى ابن إسحاق وابن جريج والسدي وغيرهم.
فمعنى الآية، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا وصفحكم عنه. وقوله: {إن كنتم مؤمنين} شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام وإذا قدرنا الآية فيمن تقرر إيمانه فهو شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلا فافعل كذا، وحكى النقاش عن مقاتل بن سليمان أنه قال: «إن في هذه الآية بمعنى إذ».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا مردود لا يعرف في اللغة»، وقال ابن فورك: «يحتمل أنه يريد يا أيّها الّذين آمنوا بمن قبل محمد من الأنبياء»، ذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين بمحمد، إذ لا ينفع الأول إلا بهذا وهذا مردود بما روي في سبب الآية). [المحرر الوجيز: 2/ 101-103]
تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم توعدهم تعالى إن لم يذروا الربا بحرب من الله ومن رسوله وأمته، والحرب داعية القتل، وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لأكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقال ابن عباس أيضا: «من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستنيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه»، وقال قتادة: «أوعد الله أهل الربا بالقتل فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا»، ثم ردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أموالهم، وقال لهم: لا تظلمون في أخذ الربا ولا تظلمون
في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم، فتذهب أموالكم. ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل، لأن مطل الغني ظلم، كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا. وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار على كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر، فقال كعب:
نعم يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للآخر: «قم فاقضه»، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات، وقرأ الحسن «ما بقي» بكسر القاف وإسكان الياء، وهذا كما قال جرير:
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ....... ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
ووجهها أنه شبه الياء بالألف، فكما لا تصل الحركة إلى الألف فكذلك لم تصل هنا إلى الياء، وفي هذا نظر، وقرأ أبو السمال من «الرّبو» بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو، وقال أبو الفتح: شذ هذا الحرف في أمرين:
أحدهما الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما، والآخر وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل، نحو يغزو ويدعو وأما ذو الطائية بمعنى الذي فشاذة جدا، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع، فيقول رأيت ذا قام، ووجه القراءة أنه فخم الألف انتحاء بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم، الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر والكسائي: «فأذنوا» مقصورة مفتوحة الذال، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «فآذنوا» ممدودة مكسورة الذال.
قال سيبويه: «آذنت أعلمت»، وأذنت ناديت وصوت بالإعلام قال: وبعض يجري آذنت مجرى أذنت، قال أبو علي: «من قال: «فأذنوا» فقصر، معناه فاعلموا الحرب من الله»، قال ابن عباس وغيره من المفسرين: «معناه فاستيقنوا الحرب من الله تعالى».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهي عندي من الإذن، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه، فكأنه قال لهم فقرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله، ملزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون بها، إذ هم الآذنون بها وفيها، ويندرج في هذا المعنى الذي ذكرته علمهم بأنهم حرب وتيقنهم لذلك»، قال أبو علي: «ومن قرأ «فآذنوا» فمد، فتقديره فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول محذوف، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى: {فقل آذنتكم على سواءٍ} [الأنبياء: 109] وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة، قال: ففي إعلامهم علمهم، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم، فقراءة المد أرجح، لأنها أبلغ وآكد» قال الطبري: «قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والقراءتان عندي سواء لأن المخاطب في الآية محضور بأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا، فإن قيل لهم: «فأذنوا» فقد عمهم الأمر، وإن قيل لهم: «فآذنوا» بالمد فالمعنى أنفسكم وبعضكم بعضا، وكأن هذه القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء والتثبيت أي فأعلموا نفوسكم هذا ثم انظروا في الأرجح لكم، ترك الربا أو الحرب»، وقرأ جميع القراء «لا تظلمون» بفتح التاء و «لا تظلمون» بضمها وقد مضى تفسيره.
وروى المفضل عن عاصم: لا «تظلمون» بضم التاء في الأولى وفتحها في الثانية. قال أبو علي: «وتترجح قراءة الجماعة فإنها تناسب قوله: {فإن تبتم} في إسناد الفعلين إلى الفاعل فيجيء «تظلمون» بفتح التاء أشكل بما قبله» ). [المحرر الوجيز: 2/ 103-105]
تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ وأن تصدّقوا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون (280) واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه ثمّ توفّى كلّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون (281)}
حكم الله تعالى لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر. قال المهدوي: «وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين»، وحكى مكي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ، وإلا فليس بنسخ»، و «العسرة» ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة، والنظرة التأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر، وارتفع ذو عسرةٍ ب كان التامة التي هي بمعنى وجد وحدث. هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما، ومن هنا يظهر أن الأصل الغنى ووفور الذمة، وأن العدم طارئ حادث يلزم أن يثبت. وقال بعض الكوفيين، حكاه الطبري: «بل هي كان الناقصة والخبر محذوف، تقديره وإن كان من غرمائكم ذو عسرةٍ وارتفع قوله: {فنظرةٌ} على خبر ابتداء مقدر، تقديره فالواجب نظرة، أو فالحكم نظرة».
قال الطبري: «وفي مصحف أبي بن كعب: وإن كان ذو عسرةٍ على معنى وإن كان المطلوب»، وقرأ الأعمش «وإن كان معسرا فنظرة». قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى: «وكذلك في مصحف أبي بن كعب»، قال مكي والنقاش: «وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ وإن كان ذو عسرةٍ بالواو فهي عامة في جميع من عليه دين». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا غير لازم».
وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان، «فإن كان» بالفاء ذو عسرةٍ بالواو، وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن: «فنظرة» بسكون الظاء، وكذلك قرأ الضحاك، وهي على تسكين الظاء من نظرة، وهي لغة تميمية، وهم الذين يقولون: كرم زيد بمعنى كرم، ويقولون: كبد في كبد، وكتف في كتف، وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة» على وزن فاعلة، وقال الزجّاج: «هي من أسماء المصادر، كقوله تعالى: {ليس لوقعتها كاذبةٌ} [الواقعة: 2] وكقوله تعالى: {تظنّ أن يفعل بها فاقرةٌ} [القيامة: 25]، وكخائنة الأعين وغيره»، وقرأ نافع وحده «ميسرة» بضم السين، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «ميسرة» بفتح السين على وزن مفعلة، وهذه القراءة أكثر في كلام العرب، لأن مفعلة بضم العين قليل.
قال أبو علي: «قد قالوا: مسربة ومشربة، ولكن مفعلة بفتح العين أكثر في كلامهم»، وقرأ عطاء بن أبي رياح أيضا ومجاهد: «فناظره إلى ميسره» على الأمر في «ناظره» وجعلا الهاء ضمير الغريم، وضما السين من «ميسره» وكسرا الراء وجعلا الهاء ضمير الغريم، فأما ناظره ففاعله من التأخير، كما تقول: سامحه، وأما ميسر فشاذ، قال سيبويه: «ليس في الكلام مفعل»، قال أبو علي: «يريد في الآحاد، فأما في الجمع فقد جاء قول عدي بن زيد:
أبلغ النّعمان عنّي مألكا ....... أنّه قد طال حبسي وانتظار
وقول جميل:
بثين الزمي- لا- إنّ- لا- إن لزمته ....... على كثرة الواشين أيّ معون
فالأول جمع مالكة، والآخر جمع معونة»، وقال ابن جني: «إن عديا أراد مالكة فحذف، وكذلك جميل أراد أي معونة، وكذلك قول الآخر: «ليوم روع أو فعال مكرم» «أراد مكرمة»، فحذف قال: ويحتمل أن تكون جموعا كما قال أبو علي».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فإن كان ميسر جمع ميسرة فيجري مجرى هذه الأمثلة، وإن كان قارئه أراد به الإفراد فذلك شاذ»، وقد خطأه بعض الناس، وكلام سيبويه يرده، واختلف أهل العلم: هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة: واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال؟
فقال ابن عباس وشريح: «ذلك في الربا خاصة، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة، بل تؤدى إلى أهلها»، وكأن هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح، فالحكم هي النظرة ضرورة، وقال جمهور العلماء: «النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الدين ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة»، فسره الضحاك.
وقوله تعالى: {وأن تصدّقوا} ابتداء وخبره خيرٌ، «وندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره»، قاله السدي وابن زيد والضحاك وجمهور الناس. وقال الطبري: «وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم»، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالا لقتادة وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته، بل هي كقول جمهور الناس، وليس في الآية مدخل للغني، وقرأ جمهور القراء: «تصّدقوا» بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا. وقرأ عاصم «وأن تصدقوا» بتخفيف الصاد وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وأن تصدقوا» بفك الإدغام.
وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال: «كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة». وقال ابن عباس: «آخر ما نزل آية الربا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم، قال: آخر آية قوله تعالى: {واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه} »). [المحرر الوجيز: 2/ 105-109]
تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال: «كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة». وقال ابن عباس: «آخر ما نزل آية الربا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم، قال: آخر آية قوله تعالى: {واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه} ».
وقال سعيد بن المسيب: «بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين»، وروي أن قوله عز وجل: {واتّقوا} نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال، ثم لم ينزل بعدها شيء، وروي بثلاث ليال، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه قال عليه السلام: «اجعلوها بين آية الربا وآية الدين»، وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية، من البقرة».
وقوله تعالى: {واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه} إلى آخر الآية، وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان، ويوماً منصوب على المفعول لا على الظرف. وقرأ أبو عمرو بن العلاء «ترجعون» بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ باقي السبعة «ترجعون» بضم التاء وفتح الجيم، فمثل قراءة أبي عمرو {إنّ إلينا إيابهم} [الغاشية: 25] ومثل قراءة الجماعة {ثمّ ردّوا إلى اللّه} [الأنعام: 62] {ولئن رددت إلى ربّي} [الكهف: 36] المخاطبة في القراءتين بالتاء على جهة المبالغة في الوعظ والتحذير، وقرأ الحسن «يرجعون» بالياء على معنى يرجع جميع الناس.
قال ابن جني: «كأن الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تنفطر له القلوب. فقال لهم: واتّقوا يوماً، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم»، وقرأ أبي بن كعب «يوما تردون» بضم التاء، وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية، وقال قوم هو يوم الموت، والأول أصح بحكم الألفاظ في الآية، وفي قوله: {إلى اللّه} مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه، وقوله: {وهم} رد على معنى كل نفس لا على اللفظ إلا على قراءة الحسن «يرجعون»، فقوله: {وهم} رد على ضمير الجماعة في «يرجعون»، وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق بكسب الإنسان. وهذا رد على الجبرية). [المحرر الوجيز: 2/ 108-110]