تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله عز وجل: {الّذين يأكلون الرّبا} الآية، الرّبا هو الزيادة وهو مأخوذ من ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان، وغالبة ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم أتقضي أم تربي؟ فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه، ومن الربا البين التفاضل في النوع الواحد لأنها زيادة، وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما في عين مال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه، ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة، فإن قيل لفاعلها: آكل ربا فبتجوز وتشبيه، والربا من ذوات الواو، وتثنيته ربوان عند سيبويه، ويكتب بالألف. قال الكوفيون: يكتب ويثنى بالياء لأجل الكسرة التي في أوله. وكذلك يقولون في الثلاثية من ذوات الواو إذا انكسر الأول أو انضم، نحو ضحى، فإن كان مفتوحا نحو صفا فكما قال البصري.
ومعنى هذه الآية: الذين يكسبون الربا ويفعلونه، وقصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الإنسان في المال، ولأنها دالة على الجشع، فأقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كله، فاللباس والسكنى والادخار والإنفاق على العيال وغير ذلك داخل كله في قوله: {الّذين يأكلون}، وقال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد: «معنى قوله: لا يقومون من قبورهم في البعث يوم القيامة»، قال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنفة، وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر، ويقوي هذا التأويل المجمع عليه في أن في قراءة عبد الله بن مسعود «لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه، مخلط في هيئة حركاته، إما من فزع أو غيره، قد جن هذا، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله:
وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما ....... ألم بها من طائف الجنّ أولق
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل ويتخبّطه «يتفعله» من خبط يخبط كما تقول: تملكه وتعبده وتحمله. والمسّ الجنون، وكذلك الأولق والألس والرود، وقوله تعالى: {ذلك بأنّهم قالوا إنّما البيع مثل الرّبا} معناه عند جميع المتأولين في الكفار، وأنه قول تكذيب للشريعة ورد عليها.
والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل فله ما سلف ولا يقال ذلك لمؤمن عاص، ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية، ثم جزم تعالى الخير في قوله: {وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا} وقال بعض العلماء في قوله: {وأحلّ اللّه البيع} هذا من عموم القرآن، لأن العرب كانت تقدر على إنفاذه، لأن الأخذ والإعطاء عندها بيع، وكل ما عارض العموم فهو تخصيص منه، وقال بعضهم: هو من مجمل القرآن الذي فسر بالمحلل من البيع وبالمحرم، والقول الأول عندي أصح، قال جعفر بن محمد الصادق: «حرم الله الربا ليتقارض الناس». وقال بعض العلماء: حرمه الله لأنه متلفة للأموال مهلكة للناس.
وسقطت علامة التأنيث في قوله: {فمن جاءه} لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي وهو بمعنى وعظ، وقرأ الحسن «فمن جاءته» بإثبات العلامة، وقوله: {فله ما سلف} أي من الربا لاتباعه عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة قاله السدي وغيره، وهذا حكم من الله تعالى لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ومن كان يتجر هناك، وسلف معناه تقدم في الزمن وانقضى.
وفي قوله تعالى: {وأمره إلى اللّه} أربع تأويلات: أحدها أن الضمير عائد على الربا بمعنى: وأمر الربا إلى الله في إمرار تحريمه أو غير ذلك. والثاني أن يكون الضمير عائدا على ما سلف. أي أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعية فيه. والثالث أن يكون الضمير عائدا على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثيبه على الانتهاء أو يعيده إلى المعصية في الربا. والرابع أن يعود الضمير على المنتهي ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير. كما تقول وأمره إلى طاعة وخير وموضع رجاء. وكما تقول وأمره في نمو أو إقبال إلى الله وإلى طاعته، ويجيء الأمر هاهنا ليس في الربا خاصة بل وجملة أموره. وقوله تعالى: {ومن عاد} يعني إلى فعل الربا والقول إنّما البيع مثل الرّبا وإن قدرنا الآية في كافر فالخلود خلود تأبيد حقيقي، وإن لحظناها في مسلم عاص فهذا خلود مستعار على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد، عبارة عن دوام ما لا على التأبيد الحقيقي). [المحرر الوجيز: 2/ 95-98]
تفسير قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يمحق اللّه الرّبا ويربي الصّدقات واللّه لا يحبّ كلّ كفّارٍ أثيمٍ (276) إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وأقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (277)}
يمحق معناه: ينقص ويذهب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه، ويربي الصّدقات معناه ينميها ويزيد ثوابها تضاعفا، تقول: ربت الصدقة وأرباها الله تعالى ورباها وذلك هو التضعيف لمن يشاء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله، أو فلوه، حتى يجيء يوم القيامة وأن اللقمة لعلى قدر أحد».
وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن الزبير: «يمحّق الله» بضم الياء وكسر الحاء مشددة، «ويربّي» بفتح الراء وشد الباء، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك.
وقوله تعالى: {واللّه لا يحبّ كلّ كفّارٍ أثيمٍ} يقتضي أن الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين على جهة التكذيب للشرع إنّما البيع مثل الرّبا ووصف الكفار ب أثيمٍ، إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان، وإما ليذهب الاشتراك الذي في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض. قاله ابن فورك قال ومعنى قوله: {واللّه لا يحبّ} أي لا يحب الكفار الأثيم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «محسنا صالحا بل يريده مسيئا فاجرا، ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم».
وهذه تأويلات مستكرهة، أما الأول فأفرط في تعدية الفعل وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه، وأما الثاني فغير صحيح المعنى، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ولطف به، وحرص على حفظه، وتظهر دلائل ذلك، والله تعالى يريد وجود الكافر على ما هو عليه، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه نحو ما ذكرناه في الشاهد، وتلك المزية موجودة للمؤمن). [المحرر الوجيز: 2/ 98-101]