تفسير قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ فمن يكفر بالطّاغوت ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميعٌ عليمٌ (256)}
الدّين في هذه الآية المعتقد والملة، بقرينة قوله قد تبيّن الرّشد من الغيّ، والإكراه الذي في الأحكام من الإيمان والبيوع والهبات وغير ذلك ليس هذا موضعه وإنما يجيء في تفسير قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، فإذا تقرر أن الإكراه المنفي هنا هو في تفسير المعتقد من الملل والنحل فاختلف الناس في معنى الآية، فقال الزهري: سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى: {لا إكراه في الدّين} فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له»، قال الطبري: «والآية منسوخة في هذا القول».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ويلزم على هذا، أن الآية مكية، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف»، وقال قتادة والضحاك بن مزاحم: «هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة، قالا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية، ونزلت فيهم لا إكراه في الدّين».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وعلى مذهب مالك في أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش أي نوع كان، فتجيء الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب كما قال قتادة والضحاك». وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: «إنما نزلت هذه الآية في قوم من الأوس والخزرج كانت المرأة تكون مقلاة لا يعيش لها ولد، فكانت تجعل على نفسها إن جاءت بولد أن تهوده، فكان في بني النضير جماعة على هذا النحو، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا، إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذ جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه، فنزلت {لا إكراه في الدّين} الآية»، وقال بهذا القول عامر الشعبي ومجاهد، إلا أنه قال:«كان سبب كونهم في بني النضير الاسترضاع»، وقال السدي: «نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين، كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع أتاهم ابنا أبي حصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يردهما، فنزلت {لا إكراه في الدّين}، ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: «أبعدهما الله هما أول من كفر»، فوجد أبو الحصين في نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما، فأنزل الله جل ثناؤه: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم} [النساء: 65]، ثم إنه نسخ لا إكراه في الدّين، فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والصحيح في سبب قوله تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون}، حديث الزبير مع جاره الأنصاري في حديث السقي»، وقوله تعالى: قد تبيّن الرّشد من الغيّ معناه بنصب الأدلة ووجود الرسول الداعي إلى الله والآيات المنيرة، والرّشد مصدر من قولك رشد بكسر الشين وضمها يرشد رشدا ورشدا ورشادا، والغيّ مصدر من غوى يغوي إذا ضل في معتقد أو رأي، ولا يقال الذي في الضلال على الإطلاق، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «الرشاد» بالألف، وقرأ الحسن والشعبي ومجاهد «الرّشد» بفتح الراء والشين. وروي عن الحسن «الرّشد» بضم الراء والشين، و «الطاغوت» بناء مبالغة من طغى يطغى، وحكى الطبري «يطغو» إذا جاوز الحد بزيادة عليه، وزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للكثير والقليل، ومذهب أبي على أنه مصدر كرهبوت وجبروت وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين، وعينه موضع اللام فقيل: طاغوت، وقال المبرد: هو جمع، وذلك مردود.
واختلف المفسرون في معنى «الطاغوت»، فقال عمر بن الخطاب ومجاهد والشعبي والضحاك وقتادة والسدي: «الطاغوت: الشيطان». وقال ابن سيرين وأبو العالية: «الطاغوت: الساحر»، وقال سعيد بن جبير ورفيع وجابر بن عبد الله وابن جريج: «الطاغوت: الكاهن». قال أبو محمد: «وبين أن هذه أمثلة في الطاغوت لأن كل واحد منها له طغيان، والشيطان أصل ذلك كله»، وقال قوم: الطاغوت: الأصنام، وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمرود ونحوه، وأما من لا يرضى ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام ومن لا يعقل كالأوثان فسميت طاغوتا في حق العبدة، وذلك مجاز، إذ هي بسبب الطاغوت الذي يأمر بذلك ويحسنه وهو الشيطان»، وقدم تعالى ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. و «العروة» في الأجرام وهي موضع الإمساك وشد الأيدي. واستمسك معناه قبض وشد يديه، والوثقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه، واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه بالعروة، فقال مجاهد: «العروة الإيمان». وقال السدي: «الإسلام». وقال سعيد بن جبير والضحّاك: «العروة لا إله إلا الله».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد». والانفصام: الانكسار من غير بينونة، وإذا نفي ذلك فلا بينونة بوجه، والفصم كسر ببينونة، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة، ومن ذلك قول ذي الرمة:
كأنه دملج من فضة نبه ....... في ملعب من عذارى الحي مفصوم
ولما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات سميعٌ من أجل النطق وعليمٌ من أجل المعتقد). [المحرر الوجيز: 2/ 29-33]
تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {اللّه وليّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور والّذين كفروا أولياؤهم الطّاغوت يخرجونهم من النّور إلى الظّلمات أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (257)}
ال وليّ فعيل من ولي الشيء إذا جاوره ولزمه، فإذا لازم أحد أحدا بنصره ووده واهتباله فهو وليه، هذا عرفه في اللغة. قال قتادة: «الظّلمات الضلالة، والنّور الهدى». وبمعناه قال الضحاك والربيع.
وقال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة: «إن قوله: {اللّه وليّ الّذين آمنوا} الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فكأن هذا القول أحرز نورا في المعتقد خرج منه إلى ظلمات». ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص. بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، ومترتب في الناس جميعا، وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود الداعي النبي المرسل فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان، إذ هو معد وأهل للدخول فيه. وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر ما: أخرجتني يا فلان من هذا الأمر وإن كنت لم تدخل فيه البتة.
ولفظة الطّاغوت في هذه الآية تقتضي أنه اسم جنس، ولذلك قال أولياؤهم بالجمع، إذ هي أنواع، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، أولياؤهم الطواغيت، يعني الشياطين، وحكم عليهم بالخلود في النار لكفرهم). [المحرر الوجيز: 2/ 33-34]