تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {اللّه لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ له ما في السّماوات وما في الأرض من ذا الّذي يشفع عنده إلاّ بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}
هذه سيدة آي القرآن، ورد ذلك في الحديث ورود أنها تعدل ثلث القرآن، وورد أن من قرأها أول ليله لم يقربه شيطان، وكذلك من قرأها أول نهاره. وهذه متضمنة التوحيد والصفات العلى، واللّه مبتدأ، ولا إله مبتدأ ثان، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود، وإلّا هو بدل من موضع لا إله، والحيّ صفة من صفات الله تعالى ذاتية، وذكر الطبري، عن قوم أنهم قالوا: الله تعالى حي لا بحياة. وهذا قول المعتزلة وهو قول مرغوب عنه، وحكي عن قوم أنه حي بحياة هي صفة له، وحكي عن قوم أنه يقال حي كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، والقيّوم فيعول من القيام أصله قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء، وقيوم بناء مبالغة أي: هو القائم على كل أمر بما يجب له، وبهذا المعنى فسره مجاهد والربيع والضحاك، وقرأ ابن مسعود وعلقمة وإبراهيم النخعي والأعمش: «الحي القيام» بالألف ثم نفى عز وجل أن تأخذه سنةٌ أو نومٌ، وفي لفظ الأخذ غلبة ما، فلذلك حسنت في هذا الموضع بالنفي، والسنة بدء النعاس، وهو فتور يعتري الإنسان وترنيق في عينيه، وليس يفقد معه كل ذهنه، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا تدركه آفة ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال، فجعلت هذه مثالا لذلك وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع، وهذا هو مفهوم الخطاب كما قال تعالى: {فلا تقل لهما أفٍّ} [الإسراء: 23]، ومما يفرق بين الوسن والنوم قول عدي بن الرقاع:
وسنان أقصده النّعاس فرنّقت ....... في عينه سنة وليس بنائم
وبهذا المعنى في السنة فسر الضحاك والسدي، وقال ابن عباس وغيره: «السنة النعاس»، وقال ابن زيد: «الوسنان، الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل حتى ربما جرد السيف على أهله».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا الذي قال ابن زيد فيه نظر وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب»، وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال: «وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما، قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت فانكسرت القارورتان، قال: ضرب الله مثلا أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض»، وقوله تعالى: {له ما في السّماوات وما في الأرض} أي بالملك. فهو مالك الجميع وربه، وجاءت العبارة ب ما وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود، ثم قرر ووقف تعالى على من يتعاطى أن يشفع عنده إلا أن يأذن هو فيه جل وعلا وقال الطبري: «هذه الآية نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى»، فقال الله: {له ما في السّماوات وما في الأرض} الآية وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهنا هم الأنبياء والعلماء وغيرهم، والإذن هنا راجع إلى الأمر فيما نص عليه، كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: واشفع تشفع وإلى العلم والتمكين إن شفع أحد من الأنبياء والعلماء قبل أن يؤمر، والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار، وهو بين المنزلتين أو وصل ولكن له أعمال صالحة.
وفي البخاري، في باب بقية من باب الرؤية، أن المؤمنين يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا، فهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب الجنة الحديث، وهذا إنما هو في قرابتهم ومعارفهم وأن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين بالذنوب الذين لم تنلهم شفاعة الأنبياء.
وأما شفاعة محمد في تعجيل الحساب فخاصة له، وهي الخامسة التي في قوله: «وأعطيت الشفاعة» وهي عامة للناس، والقصد منها إراحة المؤمنين، ويتعجل للكفار منها المصير إلى العذاب، وكذلك إنما يطلبها إلى الأنبياء المؤمنون، والضميران في قوله: {أيديهم وما خلفهم} عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: {له ما في السّماوات وما في الأرض}، وقال مجاهد: «{ما بين أيديهم} الدنيا {وما خلفهم} الآخرة»، وهذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده، وبنحو قول مجاهد قاله السدي وغيره.
قوله عز وجل: {... ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلاّ بما شاء وسع كرسيّه السّماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العليّ العظيم (255)}
قوله تعالى: {ولا يحيطون بشيءٍ من علمه} معناه: من معلوماته، وهذا كقول الخضر لموسى عليهما السلام حين نقر العصفور من حرف السفينة: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر»، فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض، ومعنى الآية: لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه، واختلف الناس في الكرسي الذي وصفه الله تعالى بأنه وسع السموات والأرض، فقال ابن عباس: «كرسيّه: علمه»، ورجحه الطبري: وقال: «منه الكراسة للصحائف التي تضم العلم»، ومنه قيل للعلماء الكراسيّ، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، وهذه الألفاظ تعطي نقض ما ذهب إليه من أن الكرسي العلم، قال الطبري: ومنه قول الشاعر:
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة ....... كراسيّ بالأحداث حين تنوب
يريد بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها، وقال أبو موسى الأشعري: «الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل»، وقال السدي: «هو موضع قدميه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وعبارة أبي موسى مخلصة لأنه يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك، وهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه نسبة الكرسي إلى سرير الملك، والكرسي هو موضع القدمين، وأما عبارة السدي فقلقة، وقد مال إليها منذر البلوطي وتأولها بمعنى: ما قدم من المخلوقات على نحو ما تأول في قول النبي عليه السلام وفي كتاب الله، وأما في عبارة مفسر فلا»، وقال الحسن بن أبي الحسن: «الكرسي هو العرش نفسه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم منه»، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس»، وقال أبوذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض»، وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى، والمستفاد من ذلك عظم قدرته إذ لا يؤده حفظ هذا الأمر العظيم، ويؤده: معناه يثقله، يقال آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم، وروي عن الزهري وأبي جعفر والأعرج بخلاف عنهم، تخفيف الهمزة التي على الواو الأولى، جعلوها بين بين لا تخلص واوا مضمومة ولا همزة محققة، كما قيل في لؤم لوم، والعليّ: يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا قول جهلة مجسمين»، وكان الوجه أن لا يحكى وكذا العظيم هي صفة بمعنى عظم القدر والخطر، لا على معنى عظم الأجرام، وحكى الطبري عن قوم: «أن العظيم معناه المعظم، كما يقال العتيق بمعنى المعتق وأنشد قول الأعشى:
وكأن الخمر العتيق من الاس ....... فنط ممزوجة بماء زلال
وذكر عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب أن لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم، إذ لا معظم له حينئذ). [المحرر الوجيز: 2/ 22-29]