تفسير قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وقوموا للّه قانتين (238)}
الخطاب لجميع الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها وبجميع شروطها، وذكر تعالى الصّلاة الوسطى ثانية وقد دخلت قبل في عموم قوله الصّلوات لأنه قصد تشريفها وإغراء المصلين بها، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي «والصلاة الوسطى» بالنصب على الإغراء، وقرأ كذلك الحلواني.
واختلف الناس في أي صلاة هو هذا الوصف، فذهبت فرقة إلى أنها الصبح وأن لفظ «وسطى» يراد به الترتيب، لأنها قبلها صلاتا ليل يجهر فيهما، وبعدها صلاتا نهار يسر فيهما، قال هذا القول علي بن أبي طالب، وابن عباس، وصلى بالناس يوما الصبح فقنت قبل الركوع فلما فرغ قال: «هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين»، وقاله أبو العالية ورواه عن جماعة من الصحابة، وقاله جابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح وعكرمة ومجاهد وعبد الله بن شداد بن الهاد والربيع ومالك بن أنس. وقوى مالك ذلك بأن الصبح لا تجمع إلى غيرها، وصلاتا جمع قبلها وصلاتا جمع بعدها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا»، وقال: «إنهما أشدّ الصلوات على المنافقين»، وفضل الصبح لأنها كقيام ليلة لمن شهدها والعتمة نصف ليلة، وقال الله تعالى: {إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً} [الإسراء: 78]، فيقوي هذا كله أمر الصبح.
وقالت فرقة: «هي صلاة الظهر». قاله زيد بن ثابت ورفع فيه حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر. واحتج قائلو هذه المقالة بأنها أول صلاة صليت في الإسلام، فهي وسطى بذلك، أي فضلى، فليس هذا التوسط في الترتيب، وأيضا فروي أنها كانت أشق الصلوات على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كانت تجيء في الهاجرة، وهم قد نفعتهم أعمالهم في أموالهم، وأيضا فيدل على ذلك ما قالته حفصة وعائشة حين أملتا: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، فهذا اقتران الظهر والعصر».
وقالت فرقة: «الصّلاة الوسطى صلاة العصر لأنها قبلها صلاتا نهار وبعدها صلاتا ليل»، وروي هذا القول أيضا عن علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد الخدري، وفي مصحف عائشة رضي الله عنها «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر»، وهو قولها المروي عنها. وقاله الحسن البصري وإبراهيم النخعي، وفي إملاء حفصة أيضا «والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر»، ومن روى «وصلاة العصر» فيتناول أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى وهما لشيء واحد. كما تقول جاءني زيد الكريم والعاقل، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر» على البدل، وروى هذا القول سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا»، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «كنا نرى أنها الصبح حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر. فعرفنا أنها العصر»، وقال البراء ابن عازب: «كنا نقرأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر. ثم نسخها الله، فقرأنا: حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى. فقال له رجل: فهي العصر؟، قال: «قد أخبرتك كيف قرأناها وكيف نسخت»، والله أعلم. وروى أبو مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة الوسطى صلاة العصر». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وعلى هذا القول جمهور الناس وبه أقوال والله أعلم».
وقال قبيصة بن ذؤيب: «الصلاة الوسطى صلاة المغرب»، لأنها متوسطة في عدد الركعات ليست ثنائية ولا رباعية، وأيضا فقبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر، وحكى أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر في شرح باب جامع الوقوت وغيره عن فرقة أن الصّلاة الوسطى صلاة العشاء الآخرة، وذلك أنها تجيء في وقت نوم وهي أشد الصلوات على المنافقين، ويستحب تأخيرها وذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها، وأيضا فقبلها صلاتان وبعدها صلاتان.
وقالت فرقة: الصّلاة الوسطى لم يعينها الله تعالى لنا، فهي في جملة الخمس غير معينة، كليلة القدر في ليالي العشر، فعل الله ذلك لتقع المحافظة على الجميع، قاله نافع عن ابن عمر وقاله الربيع بن خثيم.
وقالت فرقة: الصّلاة الوسطى هي صلاة الجمعة فإنها وسطى فضلى، لما خصت به من الجمع والخطبة وجعلت عيدا، ذكره ابن حبيب ومكي.
وقال بعض العلماء: الصّلاة الوسطى المكتوبة الخمس، وقوله أولا على الصّلوات يعم النفل والفرض، ثم خص الفرض بالذكر، ويجري مع هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى».
وقوله تعالى:{وقوموا للّه قانتين} معناه في صلاتكم، واختلف الناس في معنى قانتين، فقال الشعبي: «معناه مطيعين»، وقاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير، وقال الضحاك: «كل قنوت في القرآن فإنما يعنى به الطاعة»، وقاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أهل كل دين فهم اليوم يقومون لله عاصمين، فقيل لهذه الأمة وقوموا لله مطيعين، وقال نحو هذا الحسن بن أبي الحسن وطاوس، وقال السدي: «قانتين معناه ساكتين»، وهذه الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة وكان ذلك مباحا في صدر الإسلام. وقال عبد الله بن مسعود: «كنا نتكلم في الصلاة ونرد السلام ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته» قال: «ودخلت يوما والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس فسلمت فلم يرد عليّ أحد، فاشتد ذلك عليّ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة»، والقنوت السكوت، وقاله زيد بن أرقم، وقال: «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وقوموا للّه قانتين}، فأمرنا بالسكوت»، وقال مجاهد: «معنى قانتين خاشعين، القنوت طول الركوع والخشوع وغض البصر وخفض الجناح». قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وإحضار الخشية والفكر في الوقوف بين يدي الله تعالى»، وقال الربيع: «القنوت طول القيام وطول الركوع والانتصاب له»، وقال قوم: القنوت الدعاء، وقانتين معناه داعين، روي معنى هذا عن ابن عباس، وفي الحديث: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان»، فقال قوم: معناه دعا، وقال قوم: معناه طوّل قيامه، ولا حجة في هذا الحديث لمعنى الدعاء).[المحرر الوجيز: 1/ 597-602]
تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً فإذا أمنتم فاذكروا اللّه كما علّمكم ما لم تكونوا تعلمون (239)}
أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحالة قنوت، وهو الوقار والسكينة وهدوء الجوارح، وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطمأنينة، ثم ذكر تعالى حالة الخوف الطارئة أحيانا، فرخص لعبيده في الصلاة رجالا متصرفين على الأقدام، وركباناً على الخيل والإبل، ونحوه إيماء وإشارة بالرأس حيث ما توجه، هذا قول جميع العلماء وهذه هي صلاة الفذ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة أو من سبع يطلبه أو عدو يتبعه أو سيل يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو يبيح ما تضمنته هذه الآية، وأما صلاة الخوف بالإمام وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية، وفرق مالك رحمه الله بين خوف العدو المقاتل وبين خوف السبع ونحوه بأن استحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن، وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء، وقوله تعالى فرجالًا هو جمع راجل أو رجل من قولهم رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل ورجل» بضم الجيم وهي لغة أهل الحجاز، يقولون مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا، حكاه الطبري وغيره ورجلان ورجيل، ورجل وأنشد ابن الأعرابي في «رجلان»:
عليّ إذا لاقيت ليلى بخلوة ....... أن ازدار بيت الله رجلان حافيا
ويجمع على رجال ورجيلى ورجالى ورجّالى ورجّالة ورجّال ورجالي ورجلان ورجلة ورجلة ورجلة بفتح الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل، والرجل الذي هو اسم الجنس يجمع أيضا على رجال، فهذه الآية وقوله تعالى: {يأتوك رجالًا} [الحج: 27] هما من لفظ الرجلة أي عدم المركوب، وقوله تعالى: {شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282] فهو جمع اسم الجنس المعروف، وحكى المهدوي عن عكرمة وأبي مجلز أنهما قرآ «فرجّالا» بضم الراء وشد الجيم المفتوحة، وعن عكرمة أيضا أنه قرأ «فرجالا» بضم الراء وتخفيف الجيم، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قرأ «فرجّلا» دون ألف على وزن فعل بضم الفاء وشد العين، وقرأ جمهور القراء «أو ركبانا» وقرأ بديل بن ميسرة «فرجالا فركبانا» بالفاء، والركبان جمع راكب، وهذه الرخصة في ضمنها بإجماع من العلماء أن يكون الإنسان حيث ما توجه من السموات، ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه. واختلف الناس كم يصلي من الركعات. فمالك رحمه الله وجماعة من العلماء لا يرون أن ينقص من عدد الركعات شيئا، بل يصلي المسافر ركعتين ولا بد. وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما: يصلي ركعة إيماء. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة». وقال الضحاك بن مزاحم: «يصلي صاحب خوف الموت في المسايفة وغيرها ركعة، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين»، وقال إسحاق بن راهويه: «فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه»، ذكره ابن المنذر.
واختلف المتأولون في قوله تعالى: فإذا أمنتم فاذكروا اللّه الآية، فقالت فرقة: المعنى فإذا زال خوفكم الذي ألجأكم إلى هذه الصلاة فاذكروا الله بالشكر على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء ولم تفتكم صلاة من الصلوات، وهذا هو الذي لم يكونوا يعلمونه، وقالت فرقة: المعنى فإذا كنتم آمنين قبل أو بعد، كأنه قال: فمتى كنتم على أمن فاذكروا الله، أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها، أي فصلوا كما علمكم صلاة تامة، حكاه النقاش وغيره.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وقوله على هذا التأويل ما لم تكونوا بدل من «ما» التي في قوله كما، وإلا لم يتسق لفظ الآية»، وعلى التأويل الأول ما مفعولة ب علّمكم، وقال مجاهد: «معنى قوله فإذا أمنتم، فإذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة»، ورد الطبري على هذا القول، وكذلك فيه تحويم على المعنى كثير، والكاف في قوله كما للتشبيه بين ذكر الإنسان لله ونعمة الله عليه في أن تعادلا، وكان الذكر شبيها بالنعمة في القدر وكفاء لها، ومن تأول «اذكروا» بمعنى صلوا على ما ذكرناه فالكاف للتشبيه بين صلاة العبد والهيئة التي علمه الله). [المحرر الوجيز: 1/ 602-605]
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراجٍ فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهنّ من معروفٍ واللّه عزيزٌ حكيمٌ (240)}
الّذين رفع بالابتداء، والخبر في الجملة التي هي «وصية لأزواجهم»، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر «وصية» بالرفع، وذلك على وجهين: أحدهما الابتداء والخبر في الظرف الذي هو قوله لأزواجهم، ويحسن الابتداء بنكرة من حيث هو موضع تخصيص كما حسن أن يرتفع «سلام عليكم»، وخير بين يديك، وأمت في حجر لا فيك، لأنها مواضع دعاء، والوجه الآخر أن تضمر له خبرا تقدره، فعليهم وصية لأزواجهم، ويكون قوله لأزواجهم صفة. قال الطبري: «قال بعض النحاة: المعنى كتبت عليهم وصية»، قال: «وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود»، وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر «وصية» بالنصب، وذلك حمل على الفعل كأنه قال: ليوصوا وصية، ولأزواجهم على هذه القراءة صفة أيضا، قال هارون: «وفي حرف أبي بن كعب «وصية لأزواجهم متاع» بالرفع، وفي حرف ابن مسعود «الوصية لأزواجهم متاعا»، وحكى الخفاف أن في حرف أبيّ «فمتاع لأزواجهم» بدل وصية.
ومعنى هذه الآية أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تقيم في منزله سنة وينفق عليها من ماله، وذلك وصية لها، واختلف العلماء ممن هي هذه الوصية، فقالت فرقة: كانت وصية من الله تعالى تجب بعد وفاة الزوج، قال قتادة: «كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها فلها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها ما لم تخرج برأيها، ثم نسخ ما في هذه الآية من النفقة بالربع أو بالثمن الذي في سورة النساء، ونسخ سكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر». وقال الربيع وابن عباس والضحاك وعطاء وابن زيد، وقالت فرقة: «بل هذه الوصية هي من الزوج، كانوا ندبوا إلى أن يوصوا للزوجات بذلك ف يتوفّون على هذا القول معناه يقاربون الوفاة ويحتضرون، لأن الميت لا يوصي»، قال هذا القول قتادة أيضا والسدي. وعليه حمل الآية أبو علي الفارسي في الحجة، قال السدي: «إلا أن العدة كانت أربعة أشهر وعشرا، وكان الرجال يوصون بسكنى سنة ونفقتها ما لم تخرج. فلو خرجت بعد انقضاء العدة الأربعة الأشهر والعشر سقطت الوصية. ثم نسخ الله تعالى ذلك بنزول الفرائض. فأخذت ربعها أو ثمنها، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة وصارت الوصايا لمن لا يرث»، وقال الطبري عن مجاهد: «إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية، منها سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى: {غير إخراجٍ}، فإن خرجن فلا جناح عليكم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وألفاظ مجاهد رحمه الله التي حكى عنها الطبري لا يلزم منها أن الآية محكمة، ولا نص مجاهد ذلك، بل يمكن أنه أراد ثم نسخ ذلك بعد بالميراث».
ومتاعاً نصب على المصدر، وكان هذا الأمر إلى الحول من حيث العام معلم من معالم الزمان قد أخذ بحظ من الطول، وقوله تعالى: {غير إخراجٍ} معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها، وغير نصب على المصدر عند الأخفش، كأنه قال: لا إخراجا، وقيل: نصب على الحال من الموصين. وقيل: هي صفة لقوله متاعاً، وقوله تعالى: {فإن خرجن} الآية، معناه أن الخروج إذا كان من قبل الزوجة فلا جناح على أحد ولي أو حاكم أو غيره فيما فعلن في أنفسهن من تزويج وترك حداد وتزين إذا كان ذلك من المعروف الذي لا ينكر، وقوله تعالى: {واللّه عزيزٌ} صفة تقتضي الوعيد بالنقمة لمن خالف الحد في هذه النازلة فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج. حكيمٌ أي محكم لما يأمر به عباده، وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوّله الطبري مجاهدا رحمه الله، وفي ذلك نظر على الطبري رحمه الله).[المحرر الوجيز: 1/ 605-607]
تفسير قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف حقًّا على المتّقين (241) كذلك يبيّن اللّه لكم آياته لعلّكم تعقلون (242)}
اختلف الناس في هذه الآية، فقال أبو ثور: «هي محكمة، والمتعة لكل مطلقة دخل بها أو لم يدخل، فرض لها أو لم يفرض، بهذه الآية»، وقال الزهري: «لكل مطلقة متعة، وللأمة يطلقها زوجها».
وقال سعيد بن جبير: «لكل مطلقة متعة». وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة: «جعل الله تعالى المتاع لكل مطلقة بهذه الآية، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة، وزعم زيد بن أسلم أنها نسختها».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ففر ابن القاسم رحمه الله من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء، والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم. وإذا التزم ابن القاسم أن قوله وللمطلّقات عمّ كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد». وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: «هذه الآية في الثيب اللواتي قد جومعن إذ قد تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في هذا العموم».
فهذا يجيء قوله على أن قوله تعالى: {وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ} [البقرة: 237] مخصصة لهذا الصنف من النساء، ومتى قيل إن العموم تناولها فذلك نسخ لا تخصيص، وقال ابن زيد: «هذه الآية نزلت مؤكدة لأمر المتعة، لأنه نزل قبل {حقًّا على المحسنين} [البقرة: 236] فقال رجل: فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع، فنزلت: {حقًّا على المتّقين} فوجب ذلك عليهم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هذا الإيجاب هو من تقويل الطبري لا من لفظ ابن زيد».
وقوله تعالى: {حقًّا} نصب على المصدر، و{المتّقين} هنا ظاهره أن المراد من تلبس بتقوى الله تعالى). [المحرر الوجيز: 1/ 607-609]
تفسير قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والكاف في قوله كذلك للتشبيه، وذلك إشارة إلى هذا الشرع والتنويع الذي وقع في النساء وإلى إلزام المتعة لهن، أي كبيانه هذه القصة يبين سائر آياته، ولعلّكم ترجّ في حق البشر، أي من رأى هذا المبين له رجا أن يعقل ما يبين له). [المحرر الوجيز: 1/ 609]