تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وكتب: معناه فرض.
والصيام في اللغة الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال، ومنه قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ....... تحت العجاج وخيل تعلك اللّجما
أي خيل ثابتة ممسكة، ومنه قول الله تعالى: {إنّي نذرت للرّحمن صوماً} [مريم: 26] أي إمساكا عن الكلام، ومنه قول امرئ القيس: كأنّ الثّريّا علّقت في مصامها أي في موضع ثبوتها وامتساكها، ومنه قوله:
فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بجسرة ....... ذمول إذا صام النّهار وهجّرا
أي وقفت الشمس عن الانتقال وثبتت، والصيام في الشرع إمساك عن الطعام والشراب مقترنة به قرائن من مراعاة أوقات وغير ذلك، فهو من مجمل القرآن في قول الحذاق، والكاف من قوله كما في موضع نصب على النعت، تقديره كتبا كما، أو صوما كما، أو على الحال كأن الكلام: كتب عليكم الصيام مشبها ما كتب على الذين من قبلكم.
وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع على النعت للصيام إذ ليس تعريفه بمحض لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة فلذلك جاز نعته ب كما إذ لا تنعت بها إلا النكرات فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول.
واختلف المتأولون في موضع التشبيه، فقال الشعبي وغيره: «المعنى كتب عليكم رمضان كما كتب على النصارى»، قال: «فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره قرنا بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي».
قال النقاش: «وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي»، وقيل: بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام، ثم آخر سبعة، ثم آخر ثلاثة، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.
وقال السدي والربيع: «التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام، وكذلك كان في النصارى أولا، وكان في أول الإسلام، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمة بما يأتي من الآيات في ذلك».
وقال عطاء: «التشبيه كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وفي بعض الطرق: ويوم عاشوراء كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان».
وقالت فرقة: التشبيه كتب عليكم كصيام بالإطلاق، أي قد تقدم في شرع غيركم، ف {الّذين} عام في النصارى وغيرهم، {ولعلّكم} ترجّ في حقهم، و{تتّقون} قال السدي: {معناه تتقون الأكل والشرب والوطء بعد النوم على قول من تأول ذلك}، وقيل: تتقون على العموم، لأن الصيام كما قال عليه السلام: «جنة» ووجاء وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات). [المحرر الوجيز: 1/ 434-436]
تفسير قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وأيّاماً مفعول ثان ب كتب، قاله الفراء، وقيل: هي نصب على الظرف، وقيل: نصبها ب الصّيام، وهذا لا يحسن إلا على أن يعمل الصيام في الكاف من كما على قول من قدر: صوما كما، وإذا لم يعمل في الكاف قبح الفصل بين المصدر وبين ما عمل فيه بما عمل فيه غيره، وذلك إذا كان العامل في الكاف كتب، وجوز بعضهم أن يكون أيّاماً ظرفا يعمل فيه الصّيام، ومعدوداتٍ، قيل: رمضان، وقيل: الثلاثة الأيام.
وقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ}، التقدير: فأفطر فعدّةٌ من أيّامٍ أخر، وهذا يسمونه فحوى الخطاب.
واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر: فقال قوم: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المريض صح الفطر قياسا على المسافر أنه يفطر لعلة السفر وإن لم تدعه إلى الفطر ضرورة، وقاله ابن سيرين.
وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤذيه ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح له الفطر، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك رحمه الله، وبه يناظرون، وأما لفظ مالك فهو: «المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به».
وقال الحسن: «إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر».
وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر، وهذا قول الشافعي رحمه الله.
واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال قوم والشافعي ومالك في بعض ما روي عنه: «الصوم أفضل لمن قوي»، وجل مذهب مالك التخيير.
وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما: «الفطر أفضل».
وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: «أيسرهما أفضلهما»، وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر.
وقال ابن عمر: «من صام في السفر قضى في الحضر»، وهو مذهب عمر رضي الله عنه، ومذهب مالك في استحبابه الصوم لمن قدر عليه. وتقصير الصلاة حسن، لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة وهي مشغولة في أمر الصيام، والصواب المبادرة بالأعمال. وقال ابن عباس رضي الله عنه: «الفطر في السفر عزمة»، وذهب أنس بن مالك إلى الصوم، وقال: «إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع، ونغدو إلى جوع»، والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز والقول بالجواز أرجح وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح، ومسافة سفر الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة، واختلف في قدر ذلك، فقال مالك: «يوم وليلة ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا»، وروي عنه: يومان، وروي عنه في العتبية: خمسة وأربعون ميلا، وفي المبسوط: أربعون ميلا، وفي المذهب: ستة وثلاثون ميلا، وفيه: ثلاثون.
وقال ابن عمر وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، وفي غير المذهب: يقصر في ثلاثة أميال فصاعدا.
وقوله تعالى: {فعدّةٌ} مرفوع على خبر الابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح أن يرتفع على ابتداء والخبر بعده والتقدير فعدة أمثل له، ويصح فعليه عدة، واختلف في وجوب تتابعها على قولين، وأخر لا ينصرف عند سيبويه لأنه معدول عن الألف واللام لأن هذا البناء إنما يأتي بالألف واللام كما تقول الفضل والكبر فاجتمع فيه العدل والصفة، وجاء في الآية أخر ولم يجئ أخرى لئلا تشكل بأنها صفة للعدة، والباب أن جمع ما لا يعقل يجري في مثل هذا مجرى الواحدة المؤنثة ومنه قوله تعالى:{ يا جبال أوّبي معه} [سبأ: 10]، إلى غير ذلك.
وقرأ جمهور الناس «يطيقونه» بكسر الطاء وسكون الياء والأصل «يطوقونه» نقلت حركة الواو إلى الطاء وقلبت ياء لانكسار ما قبلها، وقرأ حميد «يطوقونه» وذلك على الأصل، والقياس الإعلال.
وقرأ ابن عباس «يطوقونه» بمعنى يكلفونه.
وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار «يطوقونه» بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة.
وقرأت فرقة «يطيّقونه» بضم الياء وفتح الطاء وشد الياء المفتوحة.
وقرأ ابن عباس «يطيّقونه» بفتح الياء وشد الطاء وشد الياء المفتوحة بمعنى يتكلفونه، وحكاها النقاش عن عكرمة، وتشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف.
وقرأ نافع وابن عامر من طريق ابن ذكوان «فدية طعام مساكين» بإضافة الفدية.
وقرأ هاشم عن ابن عامر «فدية طعام مساكين» بتنوين الفدية.
وقرأ الباقون «فدية» بالتنوين «طعام مسكين» بالإفراد، وهي قراءة حسنة لأنها بينت الحكم في اليوم، وجمع المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية.
قال أبو علي: «فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون؟، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل واحد مسكينا، ونظير هذا قوله تعالى: {والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً} [النور: 4] فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون».
واختلف المتأولون في المراد بالآية فقال معاذ بن جبل وعلقمة والنخعي والحسن البصري وابن عمر والشعبي وسلمة بن الأكوع وابن شهاب: «كان فرض الصيام هكذا على الناس من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} [البقرة: 185].
وقالت فرقة: وعلى الّذين يطيقونه أي على الشيوخ والعجّز، الذين يطيقون، لكن بتكلف شديد فأباح الله لهم الفدية والفطر، وهي محكمة عند قائلي هذا القول. وعلى هذا التأويل تجيء قراءة يطوقونه و «يطوقونه».
وقال ابن عباس: «نزلت هذه الرخصة للشيوخ والعجّز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ثم نسخت بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} [البقرة: 185]، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم».
وقال السدي: «وعلى الّذين يطيقونه أي على الذين كانوا يطيقونه وهم بحالة الشباب ثم استحالوا بالشّيخ فلا يستطيعون الصوم»، وهي عنده محكمة، ويلزم الشيوخ عنده الفدية إذا أفطروا، ونحوه عن ابن عباس.
وقال مالك: «لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة، وتستحب لمن قدر عليها»، والآية عنده إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتركه فعليه الفدية.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: «على الشيخ العاجز الإطعام».
وحكى الطبري عن عكرمة أنه كان يقرؤها «وعلى الذين يطّيّقونه» فأفطر، ومذهب مالك رحمه الله وجماعة من العلماء أن قدر الدية مد لكل مسكين.
وقال قوم: قوت يوم، وقال قوم: عشاء وسحور.
وقال سفيان الثوري: «نصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو زبيب»، والضمير في يطيقونه عائد على الصّيام، وقيل على الطعام وهو قول ضعيف.
واختلف في الحامل فقال ابن عمر وابن عباس: «تفدي وتفطر ولا قضاء عليها».
وقال الحسن وعطاء والضحاك والزهري وربيعة ومالك: «تقضي الحامل إذا أفطرت ولا فدية عليها».
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل ومجاهد: «تقضي وتفدي إذا أفطرت»، وكذلك قال مالك في المرضع: «إنها إذا أفطرت تقضي وتفدي»، هذا هو المشهور عنه، وقال في مختصر ابن عبد الحكم: «لا إطعام على المرضع».
وقوله تعالى: {فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ له} الآية، قال ابن عباس وطاوس وعطاء والسدي: «المراد من أطعم مسكينين فصاعدا».
وقال ابن شهاب: «من زاد الإطعام على الصوم» وقال مجاهد: «من زاد في الإطعام على المد»، وخيرٌ الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث، وخيرٌ الأول قد نزل منزلة مالا أو نفعا، وقرأ أبيّ بن كعب «والصوم خير لكم» بدل وأن تصوموا.
وقوله تعالى:{إن كنتم تعلمون} يقتضي الحض على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا). [المحرر الوجيز: 1/ 436-441]
تفسير قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدًى للنّاس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدّة ولتكبّروا اللّه على ما هداكم ولعلّكم تشكرون (185) وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون (186) }
الشهر مشتق من الاشتهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ورمضان علقه الاسم من مدة كان فيها في الرمض وشدة الحر، وكان اسمه قبل ذلك ناثرا، كما سمي ربيع من مدة الربيع، وجمادى من مدة الجمود، وكره مجاهد أن يقال رمضان دون أن يقال شهر رمضان كما قال الله تعالى، وقال: «لعل رمضان اسم من أسماء الله عز وجل».
وقرأ جمهور الناس «شهر» بالرفع، ووجهه خبر ابتداء أي ذلكم شهر، وقيل: بدل من الصيام، وقيل: على الابتداء وخبره الّذي أنزل فيه القرآن، وقيل: ابتداء وخبره فمن شهد، والّذي أنزل نعت له، فمن قال إن الصّيام في قوله: {كتب عليكم الصّيام} [البقرة: 183] هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هاهنا بالابتداء، ومن قال: إن الصّيام هنالك هو رمضان وهو الأيام المعدودة قال هنا بخبر الابتداء أو بالبدل من الصيام، وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب «شهر» بالنصب، ورواها أبو عمارة عن حفص عن عاصم ورواها هارون عن أبي عمرو، وهي على الإغراء، وقيل: نصب ب تصوموا وقيل:نصب على الظرف، وقرأت فرقة بإدغام الراء في الراء وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه.
واختلف في إنزال القرآن فيه: فقال الضحاك: «أنزل في فرضه وتعظيمه والحض عليه»، وقيل: بدىء بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس فيما يؤثر: «أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ليلة أربع وعشرين من رمضان ثم كان جبريل ينزله رسلا رسلا في الأوامر والنواهي والأسباب»، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين».
وترك ابن كثير همزة القرآن مع التعريف والتنكير حيث وقع، وقد قيل: إن اشتقاقه على هذه القراءة من قرن، وذلك ضعيف، وهدىً في موضع نصب على الحال من القرآن، فالمراد أن القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ هدى، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه يعني الحلال والحرام والمواعظ والمحكم كله، فالألف واللام في الهدى للعهد والمراد الأول، والفرقان المفرق بين الحق والباطل، وشهد بمعنى حضر، والشّهر نصب على الظرف، والتقدير: من حضر المصر في الشهر، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي والزهري وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو حيوة «فليصمه» بتحريك اللام، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن على أصلها الذي هو الكسر، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعبيدة السلماني: «من شهد» أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه سافر بعد ذلك أو أقام وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر، وقال جمهور الأمة: «من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيما»، وقال أبو حنيفة وأصحابه: «من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام، ومن جن أول الشهر أو آخره فإنه يقضي أيام جنونه»، ونصب الشّهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح ب شهد، وقوله تعالى: {أو على سفرٍ} بمنزلة أو مسافرا فلذلك عطف على اسم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويحيى بن وثاب وابن هرمز وعيسى بن عمر «اليسر» و «العسر» بضم السين، والجمهور: بسكونه، وقال مجاهد والضحاك بن مزاحم: «اليسر الفطر في السفر والعسر الصوم في السفر»، والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم «دين الله يسر».
وقوله تعالى: {ولتكملوا العدّة} معناه وليكمل من أفطر في سفره أو في مرضه عدة الأيام التي أفطر فيها، وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو في بعض ما روي عنه «ولتكمّلوا» بتشديد الميم، وقد روي عنهما التخفيف كالجماعة، وهذه اللام متعلقة إما ب يريد فهي اللام الداخلة على المفعول، كالذي في قولك ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا، هذا قول البصريين، ونحوه قول قيس كثير بن صخر: أريد لأنسى ذكرها وإما بفعل مضمر بعد، تقديره ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، وهذا قول بعض الكوفيين، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام.
وقوله: {ولتكبّروا اللّه} حض على التكبير في آخر رمضان، واختلف الناس في حده، فقال ابن عباس: «يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره»، وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة، وقال سفيان: «هو التكبير يوم الفطر»، وقال مالك: «هو من حين يخرج الرجل من منزله إلى أن يخرج الإمام»، ولفظه عند مالك وجماعة من العلماء: «الله أكبر، الله أكبر الله أكبر»، ثلاثا، ومن العلماء من يكبر ثم يهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: «الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا». وقد قيل غير هذا، والجميع حسن واسع مع البدأة بالتكبير.
و{هداكم}، وقيل المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وتعميم الهدى جيد، {ولعلّكم تشكرون} ترجّ في حق البشر، أي على نعمة الله في الهدى). [المحرر الوجيز: 1/ 442-446]