التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى...}
فإنه نزل في حيّين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر في الكثرة والشرف، فكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مهور، فقتل الأوضع من الحيّين من الشريف قتلى، فأقسم الشريف ليقتلنّ الذكر بالأنثى والحرّ بالعبد وأن يضاعفوا الجراحات، فأنزل الله تبارك وتعالى هذا على نبيّه، ثم نسخه قوله: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} إلى آخر الآية.
فالأولى منسوخة لا يحكم بها.
وأما قوله: {فاتّباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسانٍ} فإنه رفع. وهو بمنزلة الأمر في الظاهر؛ كما تقول: من لقي العدوّ فصبرا واحتسابا, فهذا نصب؛ ورفعه جائز, وقوله تبارك وتعالى: {فاتّباعٌ بالمعروف} , رفع ونصبه جائز. وإنما كان الرفع فيه وجه الكلام؛ لأنها عامّة فيمن فعل ويراد بها من لم يفعل, فكأنه قال: فالأمر فيها على هذا، فيرفع, وينصب الفعل إذا كان أمرا عند الشيء يقع ليس بدائم؛ مثل قولك للرجل: إذا أخذت في عملك فجدّاً جدّاً , وسيرا سيرا, نصبت؛ لأنك لم تنو به العموم , فيصير كالشيء الواجب على من أتاه وفعله؛ ومثله قوله: {ومن قتله منكم متعمّداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم} , ومثله : {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ}, ومثله في القرآن كثير، رفع كله؛ لأنها عامّة. فكأنه قال: من فعل هذا فعليه هذا.
وأمّا قوله: {فضرب الرّقاب}, فإنه حثّهم على القتل إذا لقوا العدوّ؛ ولم يكن الحثّ كالشيء الذي يجب بفعلٍ قبله؛ فلذلك نصب، وهو بمنزلة قولك: إذا لقيتم العدوّ فتهليلا وتكبيرا , وصدقا عند تلك الوقعة .
قال الفرّاء: ذلك وتلك لغة قريشٍ، وتميم تقول : ذاك وتيك الوقعة , كأنه حثّ لهم، وليس بالمفروض عليهم أن يكبّروا، وليس شيء من هذا إلا نصبه جائز على أن توقع عليه الأمر؛ فليصم ثلاثة أيّامٍ، فليمسك إمساكاً بالمعروف, أو يسرّح تسريحاً بإحسانٍ). [معاني القرآن: 1/ 109-110]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فمن عفى له من أخيه شيءٌ }:أي: ترك له). [مجاز القرآن: 1/ 66]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان ذلك تخفيفٌ مّن رّبّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ}
قال: {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان}, أي: "فعليه اتباعٌ بالمعروف أو أداءٌ إليه بإحسان" , على الذي يطلب). [معاني القرآن: 1/ 125]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فمن عفي له من أخيه شيء}: ترك له). [غريب القرآن وتفسيره: 87]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كتب عليكم القصاص}, قال ابن عباس:«كان القصاص في بني إسرائيل , ولم تكن فيهم الدّية, فقال اللّه عز وجل لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص}».
والكتاب يتصرّف على وجوه قد بينتها في «تأويل المشكل».
{فمن عفي له من أخيه شيءٌ}, قال: قبول الدية في العمد، والعفو عن الدم.
{فاتّباعٌ بالمعروف},أي: مطالبة بالمعروف, يري: د ليطالب آخذ الدية الجاني مطالبة لا يرهقه فيها.
{وأداءٌ إليه بإحسانٍ}, أي: ليوأد المطالب ما عليه أداء بإحسان, لا يبخسه, ولا يمطله مطل مدافع.
{ذلك تخفيفٌ من ربّكم}: عما كان على من قبلكم, يعني: القصاص, {ورحمةٌ}لكم.
{فمن اعتدى بعد ذلك},أي: قتل بعد أخذ الدية، فله عذاب أليم , قال قتادة:«يقتل, ولا تؤخذ منه الدية».
وقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم: «لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذه الدية»). [تفسير غريب القرآن: 71-72]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}
معنى {كتب عليكم}: فرض عليكم،
وقوله {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثثى} يقال : إنه كان لقوم من العرب طول على آخرين , فكانوا يتزوجون فيهم بغير مهور، ويطلبون بالدم أكثر من مقداره، فيقتلون بالعبد من عبيدهم الحر من الذين لهم عليهم طول , فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} أي: من ترك له القتل , ورضي منه بالدّية , وهو قاتل متعمد للقتل , عفي له بأن ترك له دمه، ورضي منه بالدية , قال اللّه عز وجلّ: {ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة}, وذكر أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم إلا النفس , كما قال عزّ وجلّ: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس}, أي: في التوراة -, فتفضل اللّه على هذه الأمة بالتخفيف , والدية إذا رضي بها , وفي الدم.
ومعنى {فاتّباع بالمعروف}على ضربين:
جائز أن يكون: فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف، أي: المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء بإحسان ,
وجائز أن يكون: الإتباع بالمعروف , والأداء بإحسان جميعاً على القاتل , واللّه أعلم.
وقوله غز وجلّ: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}أي: بعد أخذ الدية، ومعنى اعتدى: ظلم، فوثب فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية ,{فله عذاب أليم},أي: موجع.
ورفع {فاتّباع بالمعروف}على معنى فعليه اتباع , ولو كان في غير القرآن لجاز , فاتباعاً بالمعروف , وأداء على معنى , فليتبع أتباعاً, ويؤد أداء, ولكن الرفع أجود في العربية, وهو على ما في المصحف, وإجماع القراء ,فلا سبيل إلى غيره). [معاني القرآن: 1/ 248-249]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({كتب عليكم}, أي: فرض عليكم.
{فمن عفي له}, أي ترك، وقيل: يسر، وقيل: هي قبول الدية في العمد.
{فمن اعتدى بعد ذلك}, أي: قتل بعد أن أخذ الدية من الجاني، قال قتادة: يقتل , ولا تقبل منه الدية,وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أعافي أحداً بعد أخذ الدية»). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 36]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({عُفِيَ لَهُ}: ترك ما له). [العمدة في غريب القرآن: 87]
تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولكم في القصاص حياةٌ...}: يقول: إذا علم الجاني أنه يقتصّ منه: إن قتل قتل انتهى عن القتل , فحيى, فذلك قوله: "حياة"). [معاني القرآن: 1/ 110]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولكم في القصاص حياةٌ} , يريد: أن سافك الدم إذا أقيد منه، ارتدع من يهمّ بالقتل , فلم يقتل خوفاًَ على نفسه أن يقتل, فكان في ذلك حياة). [تفسير غريب القرآن: 72]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون}
{حياة}رفع على ضربين:
1- على الابتداء،
2- وعلى لكم؛ كأنّه قال: وثبت لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب, أي: يا ذوي العقول.
ومعنى الحياة في القصاص: أن الرجل - إذا علم أنّه يقتل إن قتل - أمسك عن القتل , ففي إمساكه عن القتل حياة الذي همّ هو بقتله, وحياة له؛ لأنه من أجل القصاص , أمسك عن القتل , فسلم أن يقتل). [معاني القرآن: 1/ 249]