العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة البقرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 07:11 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي تفسير سورة البقرة [من الآية (178) إلى الآية (179) ]

تفسير سورة البقرة
[من الآية (178) إلى الآية (179) ]


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18 ربيع الثاني 1434هـ/28-02-2013م, 07:08 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي جمهرة تفاسير السلف

جمهرة تفاسير السلف

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) }
قال عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي (ت: 181هـ): (- أخبرنا مسعر، قال: حدثني معن وعون، أو أحدهما، أن رجلًا أتى عبد الله ابن مسعودٍ، فقال: اعهد إلي؟ فقال: إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك، فإنها خيرٌ يأمر به، أو شرٌّ ينهى عنه). [الزهد لابن المبارك: 2/ 18]

قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى} قال: لم يكن لمن قبلنا دية إنما كان القتل أو العفو فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم فكانوا إذا قتل من الحي الكثير عبد قالوا لا نقتل به إلا حرا وإذا قتلت منهم امرأة قالوا لا نقتل بها إلا رجلا فأنزل الله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 66]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وابن عيينة عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن عباس قال: «كان القصاص في بني إسرائيل ولم تكن الدية فقال الله تعالى: لهذه الأمة {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء} قال: فالعفو أن يقبل الدية في العمد {فاتباع بالمعروف} قال: يتبع الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 67]

قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة: {فاتباع بالمعروف} قال: «يتبع الطالب بالمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 67]

قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء} قال: «إذا قتل الرجل عمدا ثم أخذت منه الدية فقد عفي له عن القتل»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 67]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {فمن اعتدى بعد ذلك} قال: «هو القتل بعد أخذ الدية يقول من قتل بعد أن يأخذ الدية فعليه القتل لا تقبل منه الدية»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 67]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة قال: قال رسول الله: «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية»).[تفسير عبد الرزاق: 1/ 68]

قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): (قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ}:
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، قال: أخبرني مجاهدٌ، عن ابن عبّاسٍ قال: «كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو، فقال اللّه لهذه الأمّة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف}، فالعفو: أن يقبل الدّية في العمد، {ذلك تخفيفٌ من ربّكم} قال: تخفيفٌ ممّا كتب على من كان قبلكم، {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} وقال: يتّبع هذا المعروف، ويؤدّي إليه هذا بإحسان»). [سنن سعيد بن منصور: 2/ 652]
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا عبدة بن سليمان، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: ما تقرؤون في القرآن: {يا أيّها الّذين آمنوا} فإنّ موضعه في التّوراة: يا أيّها المساكين). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 318]

قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): (باب {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ} إلى قوله: {عذابٌ أليمٌ}:
{عفي} : ترك
- حدّثنا الحميديّ، حدّثنا سفيان، حدّثنا عمرٌو، قال: سمعت مجاهدًا، قال: سمعت ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، يقول: «كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدّية، فقال اللّه تعالى لهذه الأمّة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فالعفو أن يقبل الدّية في العمد، {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} يتّبع بالمعروف ويؤدّي بإحسانٍ، {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} ممّا كتب على من كان قبلكم، {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} قتل بعد قبول الدّية»
- حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الأنصاريّ، حدّثنا حميدٌ، أنّ أنسًا، حدّثهم عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «كتاب اللّه القصاص».
- حدّثني عبد اللّه بن منيرٍ، سمع عبد اللّه بن بكرٍ السّهميّ، حدّثنا حميدٌ، عن أنسٍ: «أنّ الرّبيّع عمّته كسرت ثنيّة جاريةٍ، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأبوا، إلّا القصاص فأمر رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بالقصاص، فقال أنس بن النّضر: يا رسول اللّه أتكسر ثنيّة الرّبيّع؟ لا والّذي بعثك بالحقّ لا تكسر ثنيّتها، فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «يا أنس، كتاب اللّه القصاص»، فرضي القوم فعفوا، فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبرّه»). [صحيح البخاري: 6/ 23-24]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( قوله: باب: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص})
الآية كذا لأبي ذرٍّ وساق غيره الآية إلى {أليم} قوله عمرو هو بن دينارٍ.
- قوله: «كان في بني إسرائيل القصاص» سيأتي شرحه في كتاب الدّيات.
- قوله حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الأنصاريّ حدّثنا حميدٌ أنّ أنسًا حدّثهم عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «كتاب اللّه القصاص» هكذا أورده مختصرًا وساقه في الصّلح بهذا الإسناد مطوّلًا وسيأتي في الدّيات أيضًا باختصارٍ ثمّ أورده من وجهٍ آخر عن حميدٍ وسيأتي شرحه في تفسير سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى وقوله: (كتاب اللّه القصاص) بالرّفع فيهما على أنه مبتدأ وخبر وبالنّصب فيهما على أنّ الأوّل إغراءٌ والثّاني بدلٌ ويجوز في الثّاني الرّفع على أنّه مبتدأٌ محذوف الخبر أي اتّبعوا كتاب اللّه ففيه القصاص، قال الخطّابيّ في قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتباع} إلخ ويحتاج إلى تفسيرٍ لأنّ العفو يقتضي إسقاط الطّلب فما هو الاتّباع وأجاب بأنّ العفو في الآية محمولٌ على العفو على الدّية فيتّجه حينئذٍ المطالبة بها ويدخل فيه بعض مستحقّي القصاص فإنّه يسقط وينتقل حقّ من لم يعف إلى الدّية فيطالب بحصّته). [فتح الباري: 8/ 177]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ): ( (بابٌ: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ} إلى قوله: {عذابٌ أليمٌ}. عفي: ترك.)
أي: هذا باب فيه ذكر قوله تعالى: {يا أيها الّذين آمنوا} هكذا وقع في رواية الكل غير أبي ذر، وفي روايته: باب: {يا أيها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص} الآية: قال الفراء: «نزلت هذه الآية في حيين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر في الكثرة والشرف، فكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مهر، فقتل الأوضع من الحيّين من الشريف قتلى، فأقسم الشريف ليقتلن الذّكر بالأنثى والحر بالعبد وأن يضاعفوا الجراحات، فأنزل الله تعالى هذا على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثمّ نسخ أيضا، نسخة قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النّفس بالنّفس} [المائدة: 45] إلى آخر الآية، فالأولى منسوخة لا يعمل بها ولا يحكم» ومذهب أبي حنيفة: «أن الحر يقتل بالعبد بهذه الآية»، وإليه ذهب الثّوريّ وابن أبي ليلى وداود، وهو مرويّ عن عليّ وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النّخعيّ
وقتادة والحكم، وعن عمر بن عبد العزيز والحسن البصريّ وعطاء وعكرمة، وهو مذهب الشّافعي ومالك: «أن الحر لا يقتل بالعبد والذكر لا يقتل بالأنثى» أخذا بهذه الآية، أعني قوله: {الحر بالحرّ والعبد بالعبد} وقد قلنا: إنّها منسوخة. قوله: {كتب عليكم القصاص} ذكر الواحدي: «أن معناه في اللّغة المماثلة والمساواة»، وقال ابن الحصار: «القصاص المساواة والمجازاة»، والمراد به العدل في الأحكام، وهذا حكم الله عز وجل الّذي لم يزل ولا يزال أبدا، فلا نسخ فيه ولا تبديل له، والمراد بآية المائدة تبين العدل في تكافىء الدّماء في الجملة وترك التّفاضل لاجتهاد العلماء، وعلى هذا فليس بينهما تعارض قلنا الأنسب عموم آية المائدة وفيها مقابلة مطلقة، وهذه الآية فيها مقابلة مقيّدة، فلا يحمل المطلق على المقيد، على أن مقابلة الحر بالحرّ لا ينافي مقابلة الحر بالعبد لأنّه ليس فيه إلاّ ذكر بعض ما يشمله العموم على موافقة حكمه، وذلك لا يوجب تخصيص ما بقي. قوله: {عفي ترك} أشار به إلى تفسير قوله: {فمن عفي له من أخيه شيء} أي: فمن ترك وصفح له من الواجب عليه في العمد فرضي بالدّية {فاتباع بالمعروف} أي: فعلى القتيل.
- حدّثنا الحميديّ حدثنا سفيان حدثنا عمروٌ قال سمعت مجاهداً قال: سمعت ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما يقول: «كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدّيّة فقال الله تعالى لهاذه الأمّة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فالعفو أن يقبل الدّية في العمد {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} يتّبع بالمعروف ويؤدّي بإحسانٍ {ذالك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} ممّا كتب على من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذالك فله عذابٌ أليمٌ} قتل بعد قبول الدّية».
مطابقته للآية أوضح ما يكون، والحميدي هو عبد الله بن الزبير بن عيسى ونسبته إلى أحد أجداده وهو: حميد بن زهير، وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار.
والحديث أخرجه البخاريّ أيضا في الدّيات عن قتيبة. وأخرجه النّسائيّ في التّفسير عن عبد الجبّار وفي القصاص عن الحارث بن مسكين.
قوله: {فمن عفي له من أخيه شيء} معناه: قبول الدّية في العمد، وقيل: فيمن قتل وله وليان فعفا أحدهما فللآخر أن يأخذ مقدار حصّته من الدّية. وقال الخطابيّ: «العفو في الآية يحتاج إلى تفسير، وذلك أن ظاهر العفو يوجب أن لا تبعة لأحدهما على الآخر، فما معنى الإتباع؟ والإعفاء فمعناه: أن من عفي عنه الدّم بالدّية فعلى صاحب الدّية اتّباع، أي مطالبة بالدّية وعلى القاتل أداء الدّية إليه؟». وقال الزّمخشريّ وأخوه: «هو ولي المقتول»، وقيل له: أخوه، لأنّه لابسه من قبل أنه ولي الدّم ومطالبه به أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام. وقال: إن عفا يتعدّى: بعن، لا باللّام، فما وجه قوله: (فمن عفا له؟) قلت: يتعدّى: بعن إلى الجاني وإلى الذّنب، فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال الله تعالى: {عفا الله عنك} [التّوبة: 43] وعفا الله عنها فإذا تعدى إلى الذّنب قيل: عفوت لفلان عمّا جنى، كما تقول: عفوت له ذنبه وتجاوزت له عنه، وعلى هذا ما في الآية كأنّه قيل فمن عفا له عن جنايته، فاستغنى عن ذكر الجناية. قوله: {شيء} أي: من العفو، إنّما قيل ذلك للإشعار بأن بعض العفو عن الدّم أو عفو بعض الورثة يسقط القصاص ولم يجب إلّا الدّية. قوله: {فاتباع بالمعروف} أي: فليكن اتّباع، أو: فالأمر اتّباع، وقد ذكرناه عن قريب. قوله: {ذلك}، أي: الحكم المذكور من العفو والدية، لأن أهل التّوراة كتب عليهم القصاص اليته وحرم عليهم العفو واخذ الدّية وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم القصاص والدية وخيرت هذه الأمة بين الثّلاث: القصاص والدية والعفو، وتوسعة عليهم وتيسيراً. قوله: {كما كتب على من كان قبلكم} هم أهل التّوراة والإنجيل. قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك} أي: بعد التّخفيف وتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل أو القتل بعد أخذ الدّية، وهو معنى قوله: {قتل بعد قبول الدّية} وهو على صيغة المعلوم من الماضي، وقع تفسيرا لقوله: {فمن اعتدى}. قوله: {فله عذاب أليم} نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة.
- حدّثنا الحميديّ حدثنا سفيان حدثنا عمروٌ قال: سمعت مجاهداً قال: سمعت ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما يقول: «كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدّيّة فقال الله تعالى لهذه الأمّة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فالعفو أن يقبل الدّية في العمد {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} يتّبع بالمعروف ويؤدّي بإحسانٍ {ذالك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} ممّا كتب على من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذالك فله عذابٌ أليمٌ} قتل بعد قبول الدّية».
مطابقته للآية أوضح ما يكون، والحميدي هو عبد الله بن الزبير بن عيسى ونسبته إلى أحد أجداده وهو: حميد بن زهير، وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار.
والحديث أخرجه البخاريّ أيضا في الدّيات عن قتيبة. وأخرجه النّسائيّ في التّفسير عن عبد الجبّار وفي القصاص عن الحارث بن مسكين.
قوله: {فمن عفي له من أخيه شيء} معناه: قبول الدّية في العمد، وقيل: فيمن قتل وله وليان فعفا أحدهما فللآخر أن يأخذ مقدار حصّته من الدّية. وقال الخطابيّ: العفو في الآية يحتاج إلى تفسير، وذلك أن ظاهر العفو يوجب أن لا تبعة لأحدهما على الآخر، فما معنى الإتباع؟ والإعفاء فمعناه: أن من عفي عنه الدّم بالدّية فعلى صاحب الدّية اتّباع، أي مطالبة بالدّية وعلى القاتل أداء الدّية إليه؟ وقال الزّمخشريّ وأخوه: هو ولي المقتول، وقيل له: أخوه، لأنّه لابسه من قبل أنه ولي الدّم ومطالبه به أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام. وقال: إن عفا يتعدّى: بعن، لا باللّام، فما وجه قوله: (فمن عفا له؟) قلت: يتعدّى: بعن إلى الجاني وإلى الذّنب، فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال الله تعالى: {عفا الله عنك} [التّوبة: 43] وعفا الله عنها فإذا تعدى إلى الذّنب قيل: عفوت لفلان عمّا جنى، كما تقول: عفوت له ذنبه وتجاوزت له عنه، وعلى هذا ما في الآية كأنّه قيل فمن عفا له عن جنايته، فاستغنى عن ذكر الجناية. قوله: {شيء} أي: من العفو، إنّما قيل ذلك للإشعار بأن بعض العفو عن الدّم أو عفو بعض الورثة يسقط القصاص ولم يجب إلّا الدّية. قوله: {فاتباع بالمعروف} أي: فليكن اتّباع، أو: فالأمر اتّباع، وقد ذكرناه عن قريب. قوله: {ذلك} أي: الحكم المذكور من العفو والدية، لأن أهل التّوراة كتب عليهم القصاص اليته وحرم عليهم العفو واخذ الدّية وعلى أهل الإنجيل العفو وحرم القصاص والدية وخيرت هذه الأمة بين الثّلاث: القصاص والدية والعفو، وتوسعة عليهم وتيسيراً. قوله: {كما كتب على من كان قبلكم} هم أهل التّوراة والإنجيل. قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك} أي: بعد التّخفيف وتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل أو القتل بعد أخذ الدّية، وهو معنى قوله: {قتل بعد قبول الدّية} وهو على صيغة المعلوم من الماضي، وقع تفسيرا لقوله: {فمن اعتدى}. قوله: {فله عذاب أليم} نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة.
- حدّثنا محمّد بن عبد الله الأنصاريّ حدثنا حميدٌ أنّ أنساً حدّثهم عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «كتاب الله القصاص».
مطابقته للتّرجمة ظاهرة والحديث أخرجه البخاريّ في الصّلح وفي الدّيات وهنا تارة مطولا وتارة مختصرا، وهذا من ثلاثيات البخاريّ، وهو: السّادس عشر. منها. قوله: «كتاب الله» أي: حكم الله ومكتوبه، وكتاب الله مبتدأ، أو: القصاص، خبره ويجوز النصب فيهما على أن الأول إغراء والثّاني بدل منه، ويجوز في الثّاني الرّفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي: اتبعوا كتاب الله فيه القصاص.
- حدّثني عبد الله بن منيرٍ سمع عبد الله بن بكرٍ السّهميّ حدّثنا حميدٌ عن أنسٍ: أنّ الرّبيّع عمّته كسرت ثنيّة جاريةٍ فطلبوا إليها العفو فأبوا فعرضوا الأرش فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو إلاّ القصاص فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس بن النّضر يا رسول الله أتكسر ثنيّة الرّبيّع لا والّذي بعثك بالحقّ لا تكسر ثنيّتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أنس كتاب الله القصاص» فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه».
مطابقته للتّرجمة ظاهرة. والحديث مضى في: باب الصّلح في الدّية، فإنّه أخرجه هناك عن محمّد بن عبد الله الأنصاريّ عن حميد عن أنس، وقال الحافظ المزي: لم يذكره أبو مسعود وذكره خلف، وقد مضى الكلام فيه هناك.
والربيع، بضم الرّاء مصغر الرّبيع ضد الخريف وهي بنت النّضر عمّة أنس، والجارية المرأة الشّابّة (وأنس بن النّضر) بفتح النّون وسكون الضّاد المعجمة، هو: أخو الرّبيع. قوله: (لأبره) أي: جعله باراً في قسمه وفعل ما أراده، قيل: كيف يصح القصاص في الكسر وهو غير مضبوط؟ وأجيب: بأن المراد بالكسر: القلع، أو كان كسراً مضبوطاً. قلت: في الجواب نظر، والصّواب أن يقال: أراد بالكسر الكسر الّذي يمكن فيه المماثلة، وقيل: ما امتنع عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكر الكسر. وأجيب: بأنّه أراد لاستشفاع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إليهم ولم يرد به الإنكار، أو أنه قبل أن يعرف أن كتاب الله القصاص على التّعيين، وظن التّخيير بين القصاص والدية). [عمدة القاري: 18/ 100-102]

قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ} إلى قوله: {عذابٌ أليمٌ}:

{عفى}: ترك.
{يا أيها الذين آمنوا} ولأبي ذر: باب بالتنوين {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} أي بسبب القتلى كقوله: «دخلت امرأة النار في هرة» والقصاص مأخوذ من قصّ الأثر فكأن القاتل سلك طريقًا من القتل يقص أثره فيها ويمشي على سبيله في ذلك، والقتلى جمع قتيل لفظ مؤنث تأنيث الجماعة أي فرض عليكم على التخيير إذا كان القتل عمدًا ظلمًا أن يقتل {الحر بالحر} -إلى قوله- {عذاب أليم}. وسقط لأبي ذر {الحر بالحر} وقال إلى {أليم}.

وقد روى ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية: «أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، وكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، وكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى فنزلت». واستدلّ بها المالكية والشافعية على: «أنه لا يقتل الحر بالعبد»، لكن قال البيضاوي: «لا دلالة فيها على أنه لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى كما لم يدل على عكسه فإن المفهوم إنما يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم»، وقد بيّنا ما كان الغرض وإنما منع مالك والشافعي قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره لحديث: «لا يقتل حر بعبد» رواه الدارقطني.
وقال الحنفية: «آية البقرة منسوخة بآية المائدة {النفس بالنفس} فالقصاص ثابت بين العبد والحر والذكر والأنثى، ويستدلون بقوله عليه الصلاة والسلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وبأن التفاضل غير معتبر في الأنفس بدليل أن جماعة لو قتلوا واحدًا قتلوا به». وأجيب: بأن دعوى النسخ بآية المائدة غير سائغة لأنه حكاية ما في التوراة فلا ينسخ ما في القرآن. وعن الحسن وغيره: «لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية»، وخالفهم الجمهور وهو مذهب الأئمة الأربعة فقالوا: «يقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر بالإجماع»، وحينئذ فما نقله في الكشاف عن الشافعي ومالك أنه لا يقتل الذكر بالأنثى لا عمل عليه. {عفي} أي ترك، وسقط ذلك في نسخ.
- حدّثنا الحميديّ، حدّثنا سفيان، حدّثنا عمرٌو قال: سمعت مجاهدًا، قال: سمعت ابن عبّاسٍ -رضي الله عنهما- يقول: «كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدّية. فقال اللّه تعالى لهذه الأمّة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فالعفو أن يقبل الدّية في العمد. {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} يتّبع بالمعروف ويؤدّي بإحسانٍ {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} ممّا كتب على من كان قبلكم {فمن اعتدي بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} قتل بعد قبول الدّية». [الحديث 4498 - طرفه في: 6881].
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير بن عيسى المكي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو) هو ابن دينار (قال: سمعت مجاهدًا) هو ابن جبر المفسر (قال: سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول): «كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدّية فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء}». أي شيء من العفو لأن عفا لازم وفائدته الإشعار بأن بعض العفو كالعفو التام في إسقاط القصاص، وقيل عفي بمعنى ترك وشيء مفعول به وهو ضعيف إذ لم يثبت عمّا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه وعفا يعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب. قال الله تعالى: {عفا الله عنك} [التوبة: 43] وقال: {عفا الله عنها} [المائدة: 101] فإذا عدى به إلى الذنب عدى إلى الجاني باللام كأنه قيل: فمن عفى له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليّ الدم، وذكره بلفظ الأخوة الثابتة بينهما من الجنسية والإسلام ليرق له بعطف عليه قاله القاضي في تفسيره فالعفو أن يقبل الولي الدية من المعفو عنه في القتل العمد {فاتباع بالمعروف وأداء بإحسان} يتبع بتشديد الفوقية وكسر الموحدة ولأبي ذر يتبع بفتح التحتية وسكون الفوقية وفتح الموحدة أي يطلب ولي المقتول الدّية بالمعروف من غير عنف ويؤدي المعفو عنه الدّية بإحسان من غير مطل ولا بخس.
{ذلك} الحكم المذكور من العفو والدية {تخفيف من ربكم} مما كتب على من كان قبلكم لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص فقط وحرم عليهم العفو وأخذ الدّية وأهل الإنجيل العفو، وحرم عليهم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمة المحمدية بين الثلاثة: القصاص والدّية والعفو تيسيرًا عليهم وتوسعة {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} أي قتل بفتحات بعد قبول الدية فله عذاب موجع في الآخرة أو في الدنيا بأن يقتل لا محالة. قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا أعافي رجلًا» وفي رواية «أحدًا قتل بعد أخذه الدّية» يعني لا أقبل منه الدّية بل أقتله.
- حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الأنصاريّ، حدّثنا حميدٌ أنّ أنسًا حدّثهم عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «كتاب اللّه القصاص».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله) بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك بن النضر (الأنصاري) وسقط ابن عبد الله لأبي ذر قال: (حدّثنا حميد) الطويل (أن أنسًا حدثهم عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال):
«كتاب الله القصاص» برفعهما على أن كتاب الله مبتدأ والقصاص خبره ونصبهما على أن الأول إغراء، والثاني بدل منه، ونصب الأول ورفع الثاني على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي اتبعوا كتاب الله ففيه القصاص، والمعنى حكم كتاب الله القصاص ففيه حذف مضاف وهو يشير إلى قوله تعالى: {والجروح قصاص} وقوله: {والسن بالسن} [المائدة: 45] وهو ثلاثي الإسناد مختصر هنا ساقه مطوّلًا في الصلح، وفي هذا الباب بنحوه رباعيًا فقال بالسند إليه:
- حدّثني عبد اللّه بن منيرٍ سمع عبد اللّه بن بكرٍ السّهميّ، حدّثنا حميدٌ عن أنسٍ: أنّ الرّبيّع عمّته كسرت ثنيّة جاريةٍ فطلبوا إليها العفو، فأبوا فعرضوا الأرش فأبوا فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبوا إلاّ القصاص فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالقصاص فقال أنس بن النّضر: يا رسول اللّه أتكسر ثنيّة الرّبيّع، لا والّذي بعثك بالحقّ لا تكسر ثنيّتها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يا أنس كتاب اللّه القصاص» فرضي القوم فعفوا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبرّه».
(حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن منير) بضم الميم وكسر النون وبعد التحتية الساكنة راء أبو عبد الرحمن الزاهد المروزي أنه (سمع عبد الله بن بكر) بسكون الكاف (السهمي) قال: (حدّثنا حميد) الطويل (عن أنس) -رضي الله عنه- (أن الربيع) بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد التحتية المكسورة بنت النضر (عمته) أي عمة أنس (كسرت ثنية جارية) أي امرأة شابة لا أمة إذ لا قصاص
بين الأمة والحرّة (فطلبوا) أي قوم الربيع (إليها العفو) عن الربيع (فأبوا) أي قوم الجارية (فعرضوا) يعني قوم الربيع (الأرش فأبوا) إلا القصاص (فأتوا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم) ليقضي بينهم بحكم الله (وأبوا) أي امتنعوا من أخذ الأرش والعفو (إلا القصاص فأمر رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم بالقصاص) يحتمل أن يكون المراد بالكسر القلع أو كسرًا يمكن المماثلة فيه ليتصور القصاص المأمور به، وإلاّ فلا قصاص في كسر عظم غير منضبط (فقال أنس بن النضر): بفتح النون وسكون الضاد المعجمة عم أنس بن مالك (يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها) ردًّا لحكم الشرع بل نفي لوقوعه توقعًا ورجاء من فضل الله تعالى أن يرضي خصمها ويلقي في قلبه العفو عنها (فقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم): (يا أنس كتاب الله) أي حكم كتاب الله (القصاص) وسقط قوله فقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم إلى آخره من الفرع (فرضي القوم فعفوا) عن الربيع (فقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه) أي جعله بارًّا في قسمه وفعل ما أراده). [إرشاد الساري: 7/ 20-22]

قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص}:
- أخبرنا عبد الجبّار بن العلاء بن عبد الجبّار، عن سفيان، عن عمرٍو، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كان القصاص في بني إسرائيل ولم يكن فيهم الدّية، فقال الله تبارك وتعالى لهذه الأمّة: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ} إلى قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فالعفو أن تقبل الدّية في العمد، واتّباع المعروف أن تتبع هذا بمعروفٍ وتؤدّي هذا بإحسانٍ، فخفّف عن هذه الأمّة»). [السنن الكبرى للنسائي: 10/ 22]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}:
يعني تعالى ذكره بقوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى} فرض عليكم.
فإن قال قائلٌ: أفرض على وليّ القتيل القصاص من قاتل وليّه؟
قيل: لا؛ ولكنّه مباحٌ له ذلك، والعفو، وأخذ الدّية.
فإن قال قائلٌ: وكيف قال: {كتب عليكم القصاص}؟
قيل: إنّ معنى ذلك على خلاف ما ذهبت إليه، وإنّما معناه: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحرّ بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. أي أنّ الحرّ إذا قتل الحرّ، فدم القاتل كفءٌ لدم القتيل، بالقصاص منه دون غيره من النّاس، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممّن لم يقتل فإنّه حرامٌ عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غير قاتله.
والفرض الّذي فرض اللّه علينا في القصاص هو ما وصفت من ترك المجاوزة بالقصاص قتل القاتل بقتيله إلى غيره لا أنّه وجب علينا القصاص فرضًا وجوب فرض الصّلاة والصّيام حتّى لا يكون لنا تركه، ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه لم يكن لقوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} معنًى مفهومٌ، لأنّه لا عفو بعد القصاص فيقال: فمن عفي له من أخيه شيءٌ.
وقد قيل: إنّ معنى القصاص في هذه الآية مقاصّة ديات بعض القتلى بديات بعضٍ؛ وذلك أنّ الآية عندهم نزلت في حزبين تحاربوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقتل بعضهم بعضًا، فأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن يصلح بينهم، بأن يسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين، وديات رجالهم بديات رجالهم، وديات عبيدهم بديات عبيدهم قصاصًا، فذلك عندهم معنى القصاص في هذه الآية.
فإن قال قائلٌ: فإنّه تعالى ذكره قال: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} فما لنا أن نقتصّ للحرّ إلاّ من الحرّ، ولا للأنثى إلاّ من الأنثى؟
قيل: بلى لنا أن نقتصّ للحرّ من العبد وللأنثى من الذّكر، بقول اللّه تعالى ذكره: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليّه سلطانًا} وبالنّقل المستفيض عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم.
فإن قال: فإذ كان ذلك، فما وجه تأويل هذه الآية؟
قيل: اختلف أهل التّأويل في ذلك، فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قومٍ كانوا إذا قتل الرّجل منهم عبد قوم آخرين لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله من أجل أنّه عبدٌ حتّى يقتلوا به سيّده، وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلاً منهم لم يرضوا بالقصاص بالمرأة القاتلة، حتّى يقتلوا رجلاً من رهط المرأة وعشيرتها، فأنزل اللّه هذه الآية، فأعلمهم أنّ الّذي فرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرّجل الرّجل القاتل دون غيره، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرّجال، وبالعبد العبد القاتل دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدّوا القاتل إلى غيره في القصاص.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا أبو الوليد، وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج، قالا: حدّثنا حمّادٌ، عن داود بن أبي هندٍ، عن الشّعبيّ، في قوله: {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} قال: «نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عمّيّةٍ، فقالوا: نقتل بعبدنا فلانٍ ابن فلانٍ، وبفلانة فلانٍ ابن فلانٍ فأنزل اللّه: {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}».
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} قال: «كان أهل الجاهليّة فيهم بغيٌ وطاعةٌ للشّيطان، فكان الحيّ إذا كان فيهم عزةٌ ومنعةٌ، فقتل عبد قومٍ آخرين عبدًا لهم، قالوا: لا نقتل به إلاّ حرًّا؛ تعزّزًا لفضلهم على غيرهم في أنفسهم، وإذا قتلت لهم امرأةٌ قتلتها امرأة قومٍ آخرين، قالوا: لا نقتل بها إلاّ رجلاً. فأنزل اللّه هذه الآية يخبرهم أنّ العبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثمّ أنزل اللّه تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسّنّ بالسّنّ والجروح قصاصٌ}».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى} قال: «لم يكن لمن قبلنا ديةٌ إنّما هو القتل أو العفو إلى أهله، فنزلت هذه الآية في قومٍ كانوا أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قتل من الحيّ الكثير عبدٌ، قالوا: لا نقتل به إلاّ حرًّا، وإذا قتلت منهم امرأةٌ قالوا: لا نقتل بها إلاّ رجلاً، فأنزل اللّه: {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}».
- حدّثني محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا المعتمر، قال: سمعت داود، عن عامرٍ، في هذه الآية: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} قال: «إنّما ذلك في قتال عمّيّةٍ إذا أصيب من هؤلاء عبدٌ، ومن هؤلاء عبدٌ تكافأا، وفي المرأتين كذلك، وفي الحرّين كذلك، هذا معناه إن شاء اللّه».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: «دخل في قول اللّه تعالى ذكره: {الحرّ بالحرّ} الرّجل بالمرأة، والمرأة بالرّجل». وقال عطاءٌ: «ليس بينهما فضلٌ».
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتالٌ على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقتل من كلا الفريقين جماعةٌ من الرّجال والنّساء، فأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن يصلح بينهم بأن يجعل ديات النّساء من كلّ واحدٍ من الفريقين قصاصًا بديات النّساء من الفريق الآخر، وديات الرّجال بالرّجال، وديات العبيد بالعبيد؛ فذلك معنى قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى}.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} قال: «اقتتل أهل ماءين من العرب أحدهما مسلمٌ والآخر معاهدٌ في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وقد كانوا قتلوا الأحرار، والعبيد، والنّساء على أن يؤدّي الحرّ دية الحرّ، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصّهم بعضهم من بعضٍ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويد بن نصرٍ، قال: أخبرنا عبد اللّه بن المبارك، عن سفيان، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، قال: «كان بين حيّين من الأنصار قتالٌ، كان لأحدهما على الآخر الطّول، فكأنّهم طلبوا الفضل، فجاء النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليصلح بينهم، فنزلت هذه الآية: {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} فجعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الحرّ بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى».
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا سويد بن نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشرٍ، قال: سمعت الشّعبيّ، يقول في هذه الآية: {كتب عليكم القصاص في القتلى} قال: «نزلت في قتال عمّيّةٍ قال شعبة: كأنّه في صلحٍ قال: اصطلحوا على هذا».
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي بشرٍ، قال: سمعت الشّعبيّ، يقول في هذه الآية: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} قال: «نزلت في قتال عمّيّةٍ، قتال: كان على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم».
وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من اللّه تعالى ذكره بمقاصّة دية الحرّ، ودية العبد، ودية الذّكر، ودية الأنثى في قتل العمد إن اقتصّ للقتيل من القاتل، والتّراجع بالفضل والزّيادة بين ديتي القتيل والمقتصّ منه.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} قال: حدّثنا عن عليّ بن أبي طالبٍ، أنّه كان يقول: «أيّما حرٍّ قتل عبدًا فهو قودٌ به، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحرّ قتلوه، وقاصّوهم بثمن العبد من دية الحرّ، وأدّوا إلى أولياء الحرّ بقيّة ديته. وأى عبدٌ قتل حرًّا فهو به قودٌ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وقاصّوهم بثمن العبد وأخذوا بقيّة دية الحرّ، وإن شاءوا أخذوا الدّية كلّها واستحيوا العبد. وأيّ حرٍّ قتل امرأةً فهو بها قودٌ، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدّوا نصف الدّية إلى أولياء الحرّ. وأى امرأةٌ قتلت حرًّا فهي به قودٌ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوها وأخذوا نصف الدّية، وإن شاءوا أخذوا الدّية كلّها واستحيوها وإن شاءوا عفوا».
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا هشام بن عبد الملك، قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، أنّ عليًّا، قال في رجلٍ قتل امرأته، قال: «إن شاءوا قتلوه وغرموا نصف الدّية».
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا يحيى، بن سعيدٍ، عن عوفٍ، عن الحسن، قالا: «لا يقتل الرّجل بالمرأة حتّى يعطوا نصف الدّية».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن سماكٍ، عن الشّعبيّ، قال في رجلٍ قتل امرأته عمدًا، فأتوا به عليًّا، فقال: «إن شئتم فاقتلوه، وردّوا فضل دية الرّجل على دية المرأة».
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في حال ما نزلت والقوم لا يقتلون الرّجل بالمرأة، ولكنّهم كانوا يقتلون الرّجل بالرّجل والمرأة بالمرأة حتّى سوّى اللّه بين حكم جميعهم بقوله: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} فجعل جميعهم قود بعضهم ببعضٍ.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: «{والأنثى بالأنثى} وذلك أنّهم كانوا لا يقتلون الرّجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرّجل بالرّجل، والمرأة بالمرأة، فأنزل اللّه تعالى: {النّفس بالنّفس} فجعل الأحرار في القصاص سواءً فيما بينهم في العمد رجالهم ونساؤهم في النّفس وما دون النّفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد في النّفس وما دون النّفس، رجالهم، ونساؤهم».
قال أبو جعفرٍ: «فإذ كان مختلفًا الاختلاف الّذي وصفت فيما نزلت فيه هذه الآية، فالواجب علينا استعمالها فيما دلّت عليه من الحكم بالخبر القاطع العذر».

وقد تظاهرت الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالنّقل العامّ أنّ نفس الرّجل الحرّ قودٌ قصاصًا بنفس المرأة الحرّة، فإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأمة مختلفةً في التّراجع بفضل ما بين دية الرّجل، والمرأة على ما قد بيّنّا من قول عليٍّ وغيره وكان واضحًا فساد قول من قال بالقصاص في ذلك والتّراجع بفضل ما بين الدّيتين بإجماع جميع أهل الإسلام على أنّ حرامًا على الرّجل أن يتلف من جسده عضوًا بعوضٍ يأخذه على إتلافه فدع ما جميعه، وعلى أنّ حرامًا على غيره إتلاف شيءٍ منه مثل الّذي حرّم من ذلك بعوضٍ يعطيه عليه، فالواجب أن تكون نفس الرّجل الحرّ بنفس المرأة الحرّة قودًا.
وإذا كان ذلك كذلك كان بيّنّا بذلك أنّه لم يرد بقوله تعالى ذكره: {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} أن لا يقاد العبد بالحرّ، ولا ألا تقتل الأنثى بالذّكر، ولا الذّكر بالأنثى.
وإذا كان ذلك كذلك كان بيّنًا على ما ذكرناه أنّ الآية معنيّ بها أحد المعنيين الآخرين: إمّا ما قلنا من أن لا يتعدّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني، فيؤخذ بالأنثى الذّكر، وبالعبد الحرّ. وإمّا القول الآخر وهو أن تكون الآية نزلت في قومٍ بأعيانهم خاصّةً أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن يجعل ديات قتلاهم قصاصًا بعضها من بعضٍ، كما قاله السّدّيّ ومن ذكرنا قوله.
وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم على أنّ المقاصّة في الحقوق غير واجبةٍ، وأجمعوا على أنّ اللّه لم يقض في ذلك قضاءً ثمّ نسخه، وإذا كان كذلك، وكان قوله تعالى ذكره: {كتب عليكم القصاص} ينبئ على أنّه فرضٌ كان معلومًا أنّ القول خلاف ما قاله قائل هذه المقالة، لأنّ ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه فلا خيار لهم فيه، والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيار في مقاصّتهم حقوقهم بعضها من بعضٍ، فإذا تبيّن فساد هذا الوجه الّذي ذكرنا، فالصّحيح من القول في ذلك هو ما قلنا.
فإن قال قائلٌ إذ ذكرت أنّ معنى قوله: {كتب عليكم القصاص} بمعنى: فرض عليكم القصاص: لا يعرف لقول القائل كتب معنًى إلاّ معنى خطّ ذلك فرسم خطًّا وكتابًا، فما برهانك على أنّ معنى قوله كتب فرضٌ؟
قيل: ذلك في كلام العرب موجودٌ، وفي أشعارهم مستفيضٌ، ومنه قول الشّاعر:…



كتب القتل والقتال علينا ....... وعلى المحصنات جرّ الذّيول

وقول نابغة بني جعدة:


يا بنت عمّي كتاب اللّه أخرجني ....... عنكم فهل أمنعنّ اللّه ما فعلا

وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أنّ ذلك وإن كان بمعنى فرض، فإنّه عندي مأخوذٌ من الكتاب الّذي هو رسمٌ وخطٌّ، وذلك أنّ اللّه تعالى ذكره قد كتب جميع ما فرض على عباده وجميع ما هم عاملوه في اللّوح المحفوظ، فقال تعالى ذكره في القرآن: {بل هو قرآنٌ مجيدٌ في لوحٍ محفوظٍ} وقال: {إنّه لقرآنٌ كريمٌ في كتابٍ مكنونٍ} فقد تبيّن بذلك أنّ كلّ ما فرضه علينا في اللّوح المحفوظ مكتوبٌ.
فمعنى قول إذ كان ذلك كذلك: {كتب عليكم القصاص} كتب عليكم في اللّوح المحفوظ القصاص في القتلى فرضًا أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.
وأمّا القصاص فإنّه من قول القائل: قاصصت فلانًا حقّي قبله من حقّه قبلي وقاصنى قصاصًا، ومقاصّةً، فقتل القاتل بالّذي قتله قصاصٌ به، لأنّه مفعولٌ به مثل الّذي فعل من قتله، وإن كان أحد الفعلين عدوانًا والآخر حقًّا فهما وإن اختلفا من هذا الوجه، فهما متّفقان في أنّ كلّ واحدٍ قد فعل بصاحبه مثل الّذي فعل صاحبه به، وجعل فعل وليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليّه قصاصًا، إذ كان بسبب قتيله استحقّ قتل من قتله، فكأنّ وليّه المقتول هو الّذي ولي قتل قاتله فاقتصّ منه.
وأمّا القتلى فإنّها جمع قتيلٍ، كما الصّرعى جمع صريعٍ، والجرحى جمع جريحٍ. وإنّما يجمع الفعيل على الفعلى ما، إذا كان صفةً للموصوف به بمعنى الزّمانة، والضّرر الّذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه، ومصرعه، نحو القتلى في معاركهم، والصّرعى في أماكنهم، والجرحى وما أشبه ذلك.
فتأويل الكلام إذن: فرضٌ عليكم أيّها المؤمنون القصاص في القتلى أن يقتصّ الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. ثمّ ترك ذكر أن يقتصّ اكتفاءً بدلالة قوله: {كتب عليكم القصاص} عليه من ذكره). [جامع البيان: 3/ 93-104]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ}:
اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله: فمن ترك له من القتله ظلمًا من الواجب كان لأخيه عليه من القصاص، وهو الشّيء الّذي قال اللّه: فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبله من الدّية وأداءٌ من المعفوّ عنه ذلك إليه بإحسانٍ.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أبو كريبٍ، وأحمد بن حمّادٍ الدّولابيّ، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرٍو، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فالعفو أن يقبل الدّية في العمد، واتّباعٌ بالمعروف أن يطلب هذا بمعروفٍ ويؤدّي هذا بإحسانٍ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا حجّاج بن المنهال قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة، قال: حدّثنا عمرو بن دينارٍ، عن جابر بن زيدٍ، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال في قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} فقال: «هو العمد يرضى أهله بالدّية {فاتّباعٌ بالمعروف} أمر به الطّالب {وأداءٌ إليه بإحسانٍ} من المطلوب».
- حدّثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن سفيان، قال: حدّثنا أبي، وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويد بن نصرٍ قالا جميعًا: أخبرنا ابن المبارك، عن محمّد بن مسلمٍ، عن عمرو بن دينارٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الّذي يقبل الدّية ذلك منه عفوٌّ، واتّباعٌ بالمعروف، ويؤدّي إليه الّذي عفي له من أخيه بإحسانٍ.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: «{فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} وهي الدّية أن يحسن الطّالب الطّلب {وأداءٌ إليه بإحسانٍ} وهو أن يحسن المطلوب الأداء».
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «{فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} والعفو الّذي يعفو عن الدّم، ويأخذ الدّية».
- حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} قال: «الدّية».
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن يزيد، بن إبراهيم، عن الحسن: {وأداءٌ إليه بإحسانٍ} قال: «على هذا الطّالب أن يطلب بالمعروف، وعلى هذا المطلوب أن يؤدّي بإحسانٍ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «{فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف} والعفوّ: الّذي يعفو عن الدّم، ويأخذ الدّية».
- حدّثني محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا أبو الوليد، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن داود بن أبي هندٍ، عن الشّعبيّ، في قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} قال: «هو العمد يرضى أهله بالدّية».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن داود، عن الشّعبيّ مثله.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد،
قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} يقول: «قتل عمدًا فعفي عنه، وقبلت منه الدّية، يقول: {فاتّباعٌ بالمعروف} فأمر المتّبع أن يتّبع بالمعروف، وأمر المؤدّي أن يؤدّي بإحسانٍ والعمد قودٌ إليه قصاصٌ، لا عقل فيه إلاّ أن يرضوا بالدّية، فإن رضوا بالدّية فمائة خلفةٍ، فإن قالوا: لا نرضى إلاّ بكذا وكذا؛ فذاك لهم».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} قال: «يتّبع الطّالب بالمعروف، ويؤدّي المطلوب بإحسانٍ».
- حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، في قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} يقول: «فمن قتل عمدًا فعفي عنه وأخذت منه الدّية، يقول: {فاتّباعٌ بالمعروف} أمر صاحب الدّية الّذى يأخذها أن يتّبع بالمعروف، وأمر المؤدّي أن يؤدّي بإحسانٍ».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قلت لعطاءٍ قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} قال: «ذلك إذا أخذ الدّية فهو عفوٌ».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهدٍ، قال: «إذا قبل الدّية فقد عفا عن القصاص، فذلك قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ}».
- قال ابن جريجٍ: وأخبرني الأعرج، عن مجاهدٍ، مثل ذلك، وزاد فيه: «فإذا قبل الدّية فإنّ عليه أن يتّبع بالمعروف، وعلى الّذي عفي عنه أن يؤدّي بإحسانٍ».
- حدّثنا المثنّى قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم؛ قال: حدّثنا أبو عقيلٍ؛ قال: قال الحسن: «أخذ الدّية عفوٌ حسنٌ».
- حدّثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، {وأداءٌ إليه بإحسانٍ} قال: «أنت أيّها المعفوّ عنه».
وقال آخرون معنى قوله: {فمن عفي} فمن فضل له فضلٌ وبقيت له بقيّةٌ. وقالوا: معنى قوله: {من أخيه شيءٌ} من دية أخيه شيءٌ، أو من أرش جراحته فاتّباعٌ منه القاتل أو الجارح الّذي بقي ذلك قبله بمعروفٍ وأداءٌ من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسانٍ.
وهذا قول من زعم أنّ الآية نزلت، أعنّي قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} في الّذين تحاربوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يصلح بينهم فيقاصّ ديات بعضهم من بعضٍ ويردّ بعضهم على بعضٍ بفضلٍ إن بقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أنّ قائلي هذا القول وجّهوا تأويل العفو في هذا الموضع إلى الكثرة من قول اللّه تعالى ذكره: {حتّى عفوا} فكان معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قبل أخيه القاتل شىء.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} يقول: «بقي له من دية أخيه شيءٌ أو من أرش جراحته، فليتّبع بمعروفٍ وليؤد الآخر إليه بإحسانٍ».
والواجب على تأويل القول الّذي روّينا عن عليٍّ، والحسن في قوله: {كتب عليكم القصاص} أنّه بمعنى مقاصّة دية النّفس الذّكر من دية النّفس الأنثى، والعبد من الحرّ، والتّراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما أن يكون معنى قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فمن عفي له من الواجب لأخيه عليه من قصاص دية نفس أحدهما بدية نفس الآخر إلى الرّضا بدية نفس المقتول، فاتّباعٌ من الوليّ بالمعروف، وأداءٌ من القاتل إليه ذلك بإحسانٍ.
وأولى الأقوال عندي بالصّواب في قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فمن صفح له من الواجب كان لأخيه عليه من القود عن شيءٍ من الواجب على ديةٍ يأخذها منه، فاتّباعٌ بالمعروف من العافي عن الدّم الرّاضي بالدّية من دم وليّه، وأداءٌ إليه من القاتل بإحسانٍ؛ لما قد بيّنّا من العلل فيما مضى قبل من أنّ معنى قول اللّه تعالى ذكره: {كتب عليكم القصاص} إنّما هو القصاص من النّفوس القاتلة أو الجارحة، والشّاجّة عمدًا، كذلك العفو أيضًا عن ذلك.
وأمّا معنى قوله: {فاتّباعٌ بالمعروف} فإنّه يعني: فاتّباعٌ على ما أوجبه اللّه له من الحقّ قبل قاتل وليّه من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه في أسنان الفرائض أو غير ذلك، أو يكلّفه ما لم يوجبه اللّه له عليه.
- كما حدّثني بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: بلغنا عن نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «من زاد أو ازداد بعيرًا يعني في إبل الدّيات وفرائضها فمن أمر الجاهليّة».
وأمّا إحسان الآخر في الأداء، فهو أداء ما لزمه بقتله لوليٍّ القتيل على ما ألزمه اللّه وأوجبه عليه من غير أن يبخسه حقًّا له قبله بسبب ذلك، أو يحوجه إلى اقتضاءٍ ومطالبةٍ.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} ولم يقل: فاتّباعًا بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ كما قال: {فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب}.
قيل: لو كان التّنزيل جاء بالنّصب، وكان: فاتّباعًا بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ، كان جائزًا في العربيّة صحيحًا على وجه الأمر، كما يقال: ضربًا ضربًا، وإذا لقيت فلانًا فتبجيلاً، وتعظيمًا غير أنّه جاء رفعًا وهو أفصح في كلام العرب من نصبه، وكذلك ذلك في كلّ ما كان نظيرًا له ممّا يكون فرضًا عامًا فيمن قد فعل، وفيمن لم يفعل إذا فعل، لا ندبًا وحثًّا. ورفعه على معنى: فمن عفي له من أخيه شيءٌ فالأمر فيه اتّباعٌ بالمعروف، وأداءٌ إليه بإحسانٍ، أو: فالقضاء والحكم فيه اتّباعٌ بالمعروف.
وقد قال بعض أهل العربيّة: رفع ذلك على معنى: فمن عفي له من أخيه شيءٌ فعليه اتّباعٌ بالمعروف.
وهذا مذهب، والأوّل الّذي قلناه هو وجه الكلام، وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن فإن رفعه على الوجه الّذي قلناه، وذلك مثل قوله: {ومن قتله منكم متعمّدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم} وقوله: {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ}.
وأمّا قوله: {فضرب الرّقاب} فإنّ الصّواب فيه النّصب، وهو وجه الكلام لأنّه على وجه الحثّ من اللّه تعالى ذكره عباده على القتل عند لقاء العدوّ كما يقال: إذا لقيتم العدوّ فتكبيرًا وتهليلاً، على وجه الحضّ على التّكبير لا على وجه الإيجاب والإلزام). [جامع البيان: 3/ 104-111]

قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ}:
يعني تعالى ذكره بقوله ذلك: هذا الّذي حكمت به وسننته لكم من إباحتي لكم أيّتها الأمّة العفو عن القصاص من قاتل قتيلكم على ديةٍ تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم الّتي كنت منعتها من قبلكم من الأمم السّالفة {تخفيفٌ من ربّكم} يقول: تخفيفٌ منّي لكم ممّا كنت ثقّلته على غيركم بتحريم ذلك عليهم ورحمةٌ منّي لكم.
- كما حدّثنا أبو كريبٍ، وأحمد بن حمّادٍ الدّولابيّ، قالا: حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدّية، فقال اللّه في هذه الآية: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ} إلى قوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فالعفو أن يقبل الدّية في العمد {ذلك تخفيفٌ من ربّكم} يقول: خفّف عنكم ما كان على من كان قبلكم أن يطلب هذا بمعروفٍ ويؤدّى هذا بإحسانٍ».
- حدّثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيقٍ، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا عبد اللّه بن المبارك، عن محمّد بن مسلمٍ، عن عمرو بن دينارٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كان من قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل لا تقبل منهم الدّية، فأنزل اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ} إلى آخر الآية {ذلك تخفيفٌ من ربّكم} يقول: خفّف عنكم ما كان على من قبلكم أى الدّية لم تكن تقبل، فالّذي يقبل الدّية ذلك منه عفوٌ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج بن المنهال، قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة، قال: أخبرنا عمرو بن دينارٍ، عن جابر بن زيدٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} ممّا كان على بني إسرائيل، يعني من تحريم الدّية عليهم».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كان على بني إسرائيل قصاصٌ في القتل ليس بينهم ديةٌ في نفسٍ، ولا جرحٍ، وذلك قول اللّه: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعين بالعين} الآية كلّها. وخفّف اللّه عن أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقبل منهم الدّية في النّفس وفي الجراحة، وذلك قوله تعالى: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم} بينكم».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: «{ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} وإنّما هي رحمةٌ رحم اللّه بها هذه الأمّة أطعمهم الدّية، وأحلّها لهم، ولم تحلّ لأحدٍ قبلهم. فكان أهل التّوراة إنّما هو القصاص أو العفو، وليس بينهم أرشٌ. وكان أهل الإنجيل إنّما هو عفوٌ أمروا به، فجعل اللّه لهذه الأمّة القود، والعفو والدّية إن شاءوا أحلّها لهم، ولم تكن لأمّةٍ قبلهم».
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، بمثله سواءً، غير أنّه قال: «ليس بينهما شيءٌ».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى} قال: «لم يكن لمن قبلنا ديةٌ، إنّما هو القتل أو العفو إلى أهله، فنزلت هذه الآية في قومٍ كانوا أكثر من غيرهم».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: وأخبرني عمرو بن دينارٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «إنّ بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص، وخفّف عن هذه الأمّة وتلا، عمرو بن دينارٍ: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ}».
وأمّا على قول من قال: القصاص في هذه الآية معناه: قصاص الدّيات بعضها من بعضٍ على ما قاله السّدّيّ، فإنّه ينبغي أن يكون تأويله: هذا الّذي فعلت بكم أيّها المؤمنون من قصاص ديات قتلى بعضكم بديات بعضٍ وترك إيجاب القود من الباقين منكم بقتيله الّذي قتله أو أخذه بديته، تخفيفٌ منّي عنكم ثقلٌ ما كان عليكم من حكمي عليكم بالقود، أو الدّية ورحمةٌ منّي لكم). [جامع البيان: 3/ 111-114]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ}:
يعني تعالى ذكره بقوله: {فمن اعتدى بعد ذلك} فمن تجاوز ما جعله اللّه له بعد أخذه الدّية اعتداءً وظلمًا إلى ما لم يجعل له من قتل قاتل وليّه وسفك دمه، فله بفعله ذلك وتقدّمه على ما قد حرّمته عليه عذابٌ أليمٌ.
وقد بيّنت معنى الاعتداء فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «{فمن اعتدى بعد ذلك} فقتل {فله عذابٌ أليمٌ}».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «فمن اعتدى بعد أخذ الدّية فله عذابٌ أليمٌ».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدّية فقتل فله عذابٌ أليمٌ. قال: وذكر لنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول: «لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذه الدّية».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك} قال: «هو القتل بعد أخذ الدّية، يقول: من قتل بعد أن يأخذ الدّية فعليه القتل لا تقبل منه الدّية».
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} يقول: «فمن اعتدى بعد أخذه الدّية فله عذابٌ أليمٌ».
- حدّثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدّثني أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، قال: «كان الرّجل إذا قتل قتيلاً في الجاهليّة فرّ إلى قومه، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدّية. قال: فيخرج الفارّ وقد أمن على نفسه. قال: فيقتل ثمّ يرمى إليه بالدّية، فذلك الاعتداء».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو عقيلٍ قال: «سمعت الحسن في هذه الآية: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} قال: القاتل إذا طلب فلم يقدر عليه، وأخذ من أوليائه الدّية، ثمّ أمن فأخذ فقتل، قال الحسن: ما أكل عدوانٌ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا مسلمٌ، قال: حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا هارون بن سلمان، قال: «قلت لعكرمة: من قتل بعد أخذه الدّية؟ قال إذًا يقتل، أما سمعت اللّه يقول: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ}».
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{فمن اعتدى بعد ذلك} بعد ما يأخذ الدّية فيقتل {فله عذابٌ أليمٌ}».
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: ثنى أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، {فمن اعتدى بعد ذلك} يقول: «فمن اعتدى بعد أخذه الدّية {فله عذابٌ أليمٌ}».
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} قال: «أخذ العقل، ثمّ قتل بعد أخذ العقل قاتل قتيله فله عذابٌ أليمٌ».
واختلفوا في معنى العذاب الأليم الّذي جعله اللّه لمن اعتدى بعد أخذه الدّية من قاتل وليّه، فقال بعضهم: ذلك العذاب هو القتل بمن قتله بعد أخذ الدّية منه وعفوه عن القصاص منه بدم وليّه.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم الدّورقيّ، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، في قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} قال: «يقتل، وهو العذاب الأليم، يقول: العذاب الموجع».
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثني هشيمٌ، قال: حدّثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبيرٍ، أنّه قال ذلك.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا هارون بن سلمان، عن عكرمة، {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} قال: «القتل».
وقال بعضهم: ذلك العذاب عقوبةٌ يعاقبه بها السّلطان على قدر ما يرى من عقوبته.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني القاسم بن الحسن، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ، أخبرني إسماعيل بن أميّة، عن الثبت، غير أنّه لم ينسبه، وقال: «ثقةٌ إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أوجب بقسمٍ أو غيره أن لا يعفى عن رجلٍ عفا عن الدّم وأخذ الدّية ثمّ عدا فقتل».
- قال ابن جريجٍ، وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، قال: في كتابٍ لعمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «والاعتداء الّذي ذكر اللّه أنّ الرّجل يأخذ العقل، أو يقتصّ، أو يقضي السّلطان فيما بين الجراح، ثمّ يعتدي بعضهم من بعد أن يستوعب حقّه، فمن فعل ذلك فقد اعتدى، والحكم فيه إلى السّلطان بالّذي يرى فيه من العقوبة. قال: ولو عفا عنه لم يكن لأحدٍ من طلبة الحقّ أن يعفو، أنّ هذا من الأمر الّذي أنزل اللّه فيه قوله: {فإن اختلفتم في شيءٍ فردّوه إلى اللّه وإلى الرّسول وإلى أولى الأمر منكم}».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، عن يونس، عن الحسن: «في رجلٍ قتل فأخذت منه الدّية، ثمّ إنّ وليّه قتل به القاتل»، قال الحسن: «تؤخذ منه الدّية الّتي أخذ ولا يقتل به».
وأولى التّأويلين بقوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} تأويل من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدّية، فقتل قاتل وليّه، فله عذابٌ أليمٌ في عاجل الدّنيا وهو القتل؛ لأنّ اللّه تعالى جعل لكلّ وليّ قتيلٍ قتل ظلمًا سلطانًا على قاتل وليّه، فقال تعالى ذكره: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليّه سلطانًا فلا يسرف في القتل} فإذ كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أنّ من قتل قاتل وليّه بعد عفوه عنه وأخذه منه دية قتيله أنّه بقتله إيّاه له ظالمٌ في قتله كان بيّنّا أن لا يولّي من قتله ظلمًا كذلك السّلطان عليه في القصاص، والعفو وأخذ الدّية أيّ ذلك شاء. وإذا كان ذلك كذلك كان معلومًا أنّ ذلك عذابه، لأنّ من أقيم عليه حدّه في الدّنيا كان ذلك عقوبته من ذنبه ولم يكن به متّبعًا في الآخرة، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وأمّا ما قاله ابن جريجٍ من أنّ حكم من قتل قاتل وليّه بعد عفوه عنه وأخذه دية وليّه المقتول إلى الإمام دون أولياء المقتول، فقولٌ خلافٌ لمّا دلّ عليه ظاهر كتاب اللّه وأجمع عليه علماء الأمّة. وذلك أنّ اللّه جعل لوليّ كلّ مقتولٍ ظلمًا السّلطان دون غيره من غير أن يخصّ من ذلك قتيلاً دون قتيلٍ، فسواءٌ كان ذلك قتيل وليّ من قتله أو غيره. ومن خصّ من ذلك شيئًا سئل البرهان عليه من أصلٍ أو نظيرٍ وعكس عليه القول فيه، ثمّ لن يقول في شيءٍ من ذلك قولاً إلاّ ألزم في الآخر مثله. ثمّ في إجماع الحجّة على خلافه ما قاله في ذلك مكتفٍى من الاستشهاد على فساده بغيره). [جامع البيان: 3/ 114-120]

قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ (178)}:
قوله: {يا أيها الذين آمنوا}:
قد تقدّم تفسيره). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 293]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى}:
- أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرٍو يعني ابن دينارٍ- عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدّية، فقال اللّه عزّ وجلّ لهذه الأمّة: {كتب عليكم القصاص في القتلى}».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه، حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاءٌ، عن سعيدٍ في قول اللّه: «{يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} يعني: إذا كان عمدًا».
وروي عن الحسن نحو ذلك.
- حدّثنا الحسن بن عبد اللّه الكوفيّ الواسطيّ، أنبأ النّضر بن شميلٍ، أنبأ شعبة، عن مغيرةٍ عن الشّعبيّ: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد} قال: «هذا في قتال العمّيّة شيءٌ كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 293]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {الحرّ بالحرّ}:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى، حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاءٌ، عن سعيدٍ في قول اللّه تعالى: «{يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} يعني: إذا كان عمدًا الحرّ بالحرّ، وذلك أنّ حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهليّة قبل الإسلام بقليلٍ، فكان بينهم قتلٌ وجراحاتٌ حتّى قتلوا العبيد والنّساء، فلم يأخذ بعضهم من بعضٍ حتّى أسلموا، فكان أحد الحيّين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا، حتّى يقتلوا بالعبد منّا، الحرّ منهم، والمرأة منّا، بالرّجل منهم، فنزل فيهم: {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} منهما منسوخةٌ نسختها: {
النّفس بالنّفس}».
وروي عن أبي مالكٍ نحو ذلك:
- حدّثنا أبي، ثنا نصر بن عليٍّ، أنبأ أبي، قال: قال شعبة: «قلت لأبي بشرٍ: كيف كان ذلك يعني قول اللّه: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} فقال: كان يقتل الرّجل، يعني: بالرّجل، ويترك العبد بالعبد»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 293-294]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {والعبد بالعبد}:
ذكره الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: «سألت عطاءً عن: {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد} قال: إذا كان العبد مثل العبد»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 294]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {والأنثى بالأنثى}:
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: «{والأنثى بالأنثى} وذلك أنّهم كانوا لا يقتلون الرّجل بالمرأة ولكن كانوا يقتلون الرّجل بالرّجل والمرأة بالمرأة، فأنزل اللّه تعالى: {النّفس بالنّفس والعين بالعين} فجعل الأحرار في القصاص سواءً فيما بينهم في العمد سواءً رجالهم ونساءهم، في النّفس وما دون النّفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد، في النّفس وفيما دون النّفس رجالهم ونساءهم»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 294]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فمن عفي له من أخيه شيء}:
الوجه الأول:
- أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً، ثنا سفيان، عن عمرو- يعني ابن دينارٍ- عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ
قوله: «{فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فالعفو في أن يقبل الدّية في العمد».
وروي عن جابر بن زيدٍ وأبي العالية ومجاهدٍ وعطاءٍ وسعيد بن جبيرٍ ومقاتلٍ والحسن، نحو ذلك.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّاد بن طلحة، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {
فمن عفي له من أخيه شيءٌ} يقول: «من بقي له من دية أخيه شيءٌ، أو من أرش جراحته، فليتّبع بمعروفٍ، وليؤدّ الآخر إليه بإحسانٍ».
والوجه الثّالث:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: في قوله: {فمن عفي له} يقول: «من ترك له من أخيه شيءٌ أي أخذ الدّية بعد استحقاق الدّم وذلك: العفو» ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 294-295]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فاتّباعٌ بالمعروف}:
وبه عن ابن عبّاسٍ في قوله: {فاتّباعٌ بالمعروف} يقول: «فعلى الطّالب اتّباعٌ بالمعروف إذا قبل الدّية».
وروي عن جابر بن زيدٍ والحسن وقتادة والرّبيع بن أنسٍ والسّدّيّ وعطاءٍ الخراسانيّ.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: «{فاتّباعٌ بالمعروف} يعني ليطلب وليّ المقتول في الرّفق».
وروي عن مقاتل بن حيّان، قال: «ليحسن الطّلب»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 295]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وأداءٌ إليه بإحسانٍ}:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث أنبأ بشرٌ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: «{وأداءٌ إليه بإحسانٍ} من القاتل في غير ضرورةٍ ولا معكٍ، يعني: المدافعة».
وروي عن الحسن وسعيد بن جبيرٍ وقتادة والرّبيع بن أنسٍ وعطاءٍ الخراسانيّ ومقاتل بن حيان، نحو ذلك.
- حدّثنا أبي، ثنا محمّد بن الوليد البسريّ، ثنا محمّد بن جعفرٍ غندرٌ، ثنا شعبة، عن ورقاء، عن عمرو بن دينارٍ، عن مجاهدٍ عن عبد اللّه بن عمرٍو: {وأداءٌ إليه بإحسانٍ} قال: «ذلك في الدّية»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 295-296]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم}:
- أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً ثنا سفيان بن عينية، عن عمرٍو، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدّية، فقال اللّه تبارك وتعالى لهذه الأمّة: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم} ممّا كتب على من كان قبلكم».
وروي عن عطاءٍ الخراسانيّ نحو ذلك.
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا عبد الوهّاب، عن سعيدٍ قال:
قال قتادة: «{ذلك تخفيفٌ من ربّكم} رحم اللّه هذه الأمّة وأطعمهم الدّية، ولم تحلّ لأحدٍ قبلهم. قال: فكان أهل الكتاب، إنّما بينهم قصاصٌ أو عفوٌ ليس بينهم أرشٌ وكان أهل الإنجيل، إنّما هو عفوٌ أمروا به وجعل لهذه الأمّة القصاص والعفو والأرش».
وروي عن سعيد بن جبيرٍ ومقاتل بن حيّان. والرّبيع بن أنسٍ، نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 296]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ورحمةٌ}:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {ورحمةٌ} يقول: «ورفقٌ».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، ثنا ابن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قول اللّه: «{ورحمةٌ} يعني: ولترحموا»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 296]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك}:
- حدّثنا أبي، ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حمّادٌ، أنبأ محمّد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيلٍ، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريحٍ الخزاعيّ، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من أصيب بقتلٍ أو خبلٍ، فإنّه يختار إحدى ثلاثٍ: إمّا أن يقتصّ، وإمّا أن يعفو. وإمّا أن يأخذ الدّية، فإن أراد الرّابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنّم خالدًا فيها».
- حدّثنا أبو بكرٍ محمّد بن عميرٍ الطّبريّ، جليس أبي زرعة، ثنا الحميديّ، ثنا سفيان، ثنا عمرو، بن دينارٍ، قال: سمعت مجاهدًا يقول: «سمعت ابن عبّاسٍ فمن اعتدى بعد قبول الدّية».
وروي عن مجاهدٍ وعطاءٍ وعكرمة والحسن وقتادة والسّدّيّ والرّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيّان نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 296-297]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فله عذابٌ أليمٌ}:
- حدّثنا أبو زرعة ثنا منجابٌ، أنبأ بشرٌ عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في قول اللّه: {عذابٌ أليمٌ} يقول: «نكالٌ موجعٌ فهذه عذابٌ أليمٌ منسوخةٌ نسختها إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: «{فله عذابٌ أليمٌ} يعني وجيعٌ، يقول: يعتلّ ولا يعفى عنه ولا تؤخذ منه الدّية». وروي عن الضّحّاك مثل ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 297]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ولكم في القصاص}:
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا المقدّميّ، ثنا معاذ بن هشامٍ، حدّثني أبي عن عمرو بن مالكٍ عن أبي الجوزاء: {ولكم في القصاص حياةٌ} قال: «القصاص:
القرآن»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 297]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد: «{فمن عفي له من أخيه شيء} وهو العفو عن الدم وأخذ الدية» ثم قال: {فمن اعتدى} يقول: «بعد أخذه الدية فله عذاب أليم»). [تفسير مجاهد: 95]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا أبو محمّدٍ جعفر بن محمد بن نصيرٍ الخلديّ، ثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا حجّاج بن منهالٍ، ثنا حمّاد بن سلمة، ثنا عمرو بن دينارٍ، عن جابر بن زيدٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، في قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} قال: «هو العمد برضاء أهله» هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه). [المستدرك: 2/ 300]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثنا عليّ بن عيسى، ثنا إبراهيم بن أبي طالبٍ، ثنا ابن أبي عمر، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما في قوله تعالى: {وأداءٌ إليه بإحسانٍ} قال: «يؤدّي المطلوب بإحسانٍ» هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه). [المستدرك: 2/ 300]

قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا أبو زكريّا العنبريّ، ثنا محمّد بن عبد السّلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا أبو خالدٍ الأحمر سليمان بن حيّان الجعفريّ، أنبأ حميدٌ الطّويل، عن أنس بن مالكٍ رضي اللّه عنه، «أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قضى بالقصاص» على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه). [المستدرك: 2/ 300]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (خ س) - مجاهد رحمه الله: قال: سمعت ابن عبّاس يقول: «كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدّية، فقال الله -عزّ وجلّ -لهذه الأمّة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} فالعفو: أن يقبل الرجل الدّية في العمد، {اتّباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} أن يطلب هذا بمعروفٍ، ويؤدّي هذا بإحسانٍ {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} مما كتب على من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذلك} قتل بعد قبول الدّية». أخرجه البخاري، والنسائي). [جامع الأصول: 2/ 20-21]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {فاتّباعٌ بالمعروف}:
- عن ابن عبّاسٍ قوله: {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} قال: «كانت بنو إسرائيل إذا قتل منهم القتيل عمدًا لم يحلّ لهم إلّا القود، وأحلّ الدّية لهذه الأمّة، فأمر هذا أن يتّبع بمعروفٍ، وأمر هذا أن يؤدّي بإحسانٍ، ذلك تخفيفٌ من ربّكم».
رواه الطّبرانيّ، وفيه الحسن بن عليٍّ المعمريّ، وهو ضعيفٌ وقد وثّق). [مجمع الزوائد: 6/ 316]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بأحسن ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: «إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال فحلفوا أن لا يرضوا حتى بالعبد من الحر منهم وبالمرأة من الرجل منهم فنزل فيهم {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فأنزل الله: {النفس بالنفس} [المائدة الآية 45] فجعل الأحرار في قصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وما دون النفس وجعل العبيد مستويين في العمد النفس وما دون النفس رجالهم
ونساؤهم».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن الشعبي قال: «نزلت هذه الآية في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عمية على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قال: يقتل بعبدنا فلان بن فلان وتقتل بأمتنا فلانة بنت فلانة، فأنزل الله {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}».

وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن أبي مالك قال: «كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطول فكأنهم طلبوا الفضل فجاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم فنزلت الآية: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} قال ابن عباس: «نسختها {النفس بالنفس} [المائدة الآية 45] ».
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: «لم يكن لمن كان قبلنا دية إنما هو القتل والعفو فنزلت هذه الآية في قوم أكثر من غيرهم فكانوا إذا قتل من الكثير عبد قالوا: لا نقتل به إلا حرا وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا فأنزل الله: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}».
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وأبو القاسم الزجاجي في أماليه والبيهقي في "سننه" عن قتادة في الآية قال: «كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان فكان الحي منهم إذا كان فيهم عدد فقتل لهم عبدا عبد قوم آخرين فقالوا: لن نقتل به إلا حرا تعززا وتفضلا على غيرهم في أنفسهم وإذا قتلت لهم أنثى قتلتها امرأة قالوا: لن نقتل بها إلا رجلا فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن العبد بالعبد إلى آخر الآية نهاهم عن البغي ثم أنزل سورة المائدة فقال: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة الآية 45] الآية».
وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}، قال: «نسختها {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة الآية 45] الآية). [الدر المنثور: 2/ 154-156]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أما قوله تعالى: {فمن عفي له} الآية.
أخرج عبد بن حميد، وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس {فمن عفي له} قال: «هو العمد يرضى أهله بالدية {فاتباع بالمعروف} أمر به الطالب {وأداء إليه بإحسان} قال: يؤدى المطلوب بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كان
على بني اسرائيل».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: «{فمن عفي له من أخيه شيء} بعد أخذ الدية بعد استحقاق الدم وذلك العفو {فاتباع بالمعروف} يقول: «فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية {وأداء إليه بإحسان} من القاتل في غير ضرر ولا فعلة المدافعة {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} يقول: رفق».
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه، وابن حبان والبيهقي عن ابن عباس قال: «كان في بني اسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية فقال الله لهذه الأمة {كتب عليكم القصاص في القتلى} إلى قوله: {فمن عفي له من أخيه شيء} فالعفو أن تقبل الدية في العمد {فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} يتبع الطالب بالمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كتب من كان قبلكم {فمن اعتدى بعد ذلك} قتل بعد قبول الدية {فله عذاب أليم}».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: «كانت بنو اسرائيل إذا قتل فيهم القتيل عمدا لا يحل لهم إلا القود وأحل الله الدية لهذه الأمة فأمر هذا أن يتبع بمعروف وأمر هذا أن يؤدي بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم}».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: «كان على بني اسرائيل القصاص في القتلى ليس بينهم دية في نفس ولا جرح وذلك قول الله: {وكتبنا عليه فيها أن النفس بالنفس} [المائدة الآية 45] الآية، فخفف الله عن أمة محمد فجعل عليهم الدية في النفس وفي الجراحة وهو قوله: {ذلك تخفيف من ربكم}».
وأخرج ابن جرير والزجاجي في أماليه عن قتادة في قوله: {ورحمة} قال: «هي رحمة رحم بها الله هذه الأمة أطعمهم الدية وأحلها لهم ولم تحل لأحد قبلهم فكان في أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو ليس بينهما أرش فكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به وجعل الله لهذه الأمة القتل والعفو الدية إن شاؤوا أحلها لهم ولم يكن لأمة قبلهم».
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة وأحمد، وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن شريح الخزاعي أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أصيب بقتل أو جرح فإنه يختار إحدى ثلاث، إما أن يقتص وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية فإن أراد رابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها أبدا».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه: «{فمن اعتدى بعد ذلك} بأن قتل بعد أخذه الدية {فله عذاب أليم} قال: فعليه القتل لا يقبل منه الدية». وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا أعافي رجل قتل بعد أخذ الدية».
وأخرج سمويه في فوائده عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أعافي رجل قتل بعد أخذ الدية».
وأخرج وكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير ن الحسن في قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} قال: «كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا ينضم إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية فيخرج الفار وقد أمن في نفسه فيقتله ويرمي إليه بالدية فذلك الاعتداء».
وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة في رجل قتل بعد أخذ الدية قال: «يقتل، أما سمعت الله يقول: {فله عذاب أليم} ). [الدر المنثور: 2/ 157-160]

تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب} قال: «جعل الله في القصاص حياة إذا ذكره الظالم المعتدي كف عن القتل»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 68]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون}:
يعني تعالى ذكره بقوله: {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب} ولكم يا أولي العقول فيما فرضت عليكم وأوجبت لبعضكم على بعضٍ من القصاص في النّفوس، والجراح، والشّجاج ما منع بعضكم من قتل بعضٍ ووزع بعضكم عن بعضٍ فحييتم بذلك فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياةٌ.
واختلف أهل التّأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم في ذلك نحو الّذي قلنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب} قال: «نكالٌ، تناه».
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله: {ولكم في القصاص حياةٌ} قال: «نكالٌ، تناهٍ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، عن سعيدٍ، عن قتادة: «{ولكم في القصاص حياةٌ} جعل اللّه هذا القصاص حياةً ونكالاً وعظةً لأهل السّفه والجهل من النّاس. وكم من رجلٍ قد همّ بداهيةٍ لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكنّ اللّه حجز بالقصاص بعضهم عن بعضٍ. وما أمر اللّه بأمرٍ قطّ إلاّ وهو أمر صلاحٍ في الدّنيا والآخرة ولا نهى اللّه عن أمرٍ قطّ إلاّ وهو أمر فسادٍ في الدّنيا والدّين، واللّه أعلم بالّذي يصلح خلقه».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب} قال: «قد جعل اللّه في القصاص حياةً، إذا ذكره الظّالم المتعدّي كفّ عن القتل».
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قوله: {ولكم في القصاص حياةٌ} الآية، يقول: «جعل اللّه هذا القصاص حياةً وعبرةً لكم، كم من رجلٍ قد همّ بداهيةٍ فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها، وإنّ اللّه قد حجز عباده بعضهم عن بعضٍ بالقصاص».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {ولكم في القصاص حياةٌ} قال: «نكالٌ، تناهٍ». قال ابن جريجٍ: «حياةٌ: منعةٌ».
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {ولكم في القصاص حياةٌ} قال: «حياةٌ: تقيّةٌ؛ إذا خاف هذا أن يقتل بي كفّ عنّي، لعلّه يكون عدوًّا لي يريد قتلي، فيتذكّر أن يقتل في القصاص، فيخشى أن يقتل بي، فيكفّ بالقصاص الّذي خاف أن يقتل لولا ذلك قتل هذا».
- حدّثت عن يعلى بن عبيدٍ، قال: حدّثنا إسماعيل، عن أبي صالحٍ، في قوله: {ولكم في القصاص حياةٌ} قال: «بقاءٌ».
وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في القصاص من القاتل بقاءٌ لغيره؛ لأنّه لا يقتل بالمقتول غير قاتله في حكم اللّه. وكانوا في الجاهليّة يقتلون بالأنثى الذّكور، وبالعبد الحرّ..
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، {ولكم في القصاص حياةٌ} يقول: «بقاءٌ، لا يقتل إلاّ القاتل بجنايته».
وأمّا تأويل قوله: {يا أولي الألباب} فإنّه: يا أولي العقول. والألباب جمع اللّبّ، واللّبّ العقل. وخصّ اللّه تعالى ذكره بالخطاب أهل العقول؛ لأنّهم هم الّذين يعقلون عن اللّه أمره ونهيه ويتدبّرون آياته وحججه دون غيرهم.
وتأويل قوله تعالى: {لعلّكم تتّقون} أي: تتّقون القصاص فتنتهون عن القتل.
- كما حدّثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {لعلّكم تتّقون} قال: «لعلك تتّقي أن تقتله فتقتل به»). [جامع البيان: 3/ 120-123]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون (179)}:
قوله: {ولكم في القصاص حياة}:
- حدثنا بن روّادٍ، ثنا آدم، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العلية: {
ولكم في القصاص حياةٌ} يقول: «جعل اللّه القصاص حياةً، يقول: كم من رجلٍ يريد أن يقتل فيمنعه مخافة أن يقتل».
وروي عن الحسن وسعيد بن جبيرٍ ومجاهدٍ والرّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيّان وأبي مالكٍ وقتادة نحو ذلك.
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا يعلى بن عبيدٍ، عن إسماعيل، عن أبي صالحٍ: {ولكم في القصاص حياةٌ} قال: «بقاءٌ».
وروي عن السّدّيّ والثّوريّ مثل ذلك.
- حدّثنا عبد اللّه بن سليمان بن الأشعث ثنا حم بن نوحٍ البلخيّ، ثنا أبو معاذٍ خالد بن سليمان الحدّانيّ، ثنا أبو نصر بن مشارسٍ عن الضّحّاك في قوله: «{
ولكم في القصاص حياةٌ} يعني: بالحياة الصّلاح والعدل»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 297-298]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {يا أولي الألباب}:
- حدّثنا أبو زرعة ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه ابن لهيعة حدّثني عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: «{يا أولي الألباب} يعني: من كان له لبٌّ أو عقلٌ يذكر القصاص فيحجزه خوف القصاص عن القتل».
وروي عن أبي مالكٍ والضّحّاك ومقاتل بن حيّان مثل ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 298]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لعلكم تتقون}:
الوجه الأول:
وبه عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: لعلّكم تتّقون لكي تتّقوا الدّنيا مخافة القصاص. وروي عن أبي مالكٍ ومقاتل بن حيّان نحو ذلك.
الوجه الثّاني:
قرئ على يونس بن عبد الأعلى، أنبأ وهبٌ، أخبرني اللّيث بن سعدٍ، عن ربيعة أنّه قال في قول اللّه: {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون} يقول: «لعلّكم تتّقون محارمكم وما نهيت بعضكم فيه عن بعضٍ»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 298]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: «{ولكم في القصاص حياة} يعني: نكالا تناهيا»). [تفسير مجاهد: 95]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}:
أخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة في قوله: «{ولكم في القصاص حياة} يعني نكالا وعظة إذا ذكره الظالم المعتدي كف عن القتل».
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: «جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لأولي الألباب وفيه عظة لأهل الجهل والسفه كم من رجل قد هم بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها ولكن الله حجز عباده بها بعضهم عن بعض وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر إصلاح في الدنيا والآخرة وما نهى الله عن أمر إلا وهو أمر فساد والله أعلم بالذي يصلح خلقه».

وأخرج ابن جرير عن السدي {في القصاص حياة} قال: «بقاء لا يقتل القاتل إلا بجناية».
وأخرج سفيلن بن عينية عن مجاهد في قوله: {ولكم في القصاص حياة} قال: «يناهي بعضهم عن بعض».
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} يعني من كان له لب أو عقل يذكر القصاص فيحجزه خوف القصاص عن القتل {لعلكم تتقون} لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص».
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن أبي الجوزاء، أنه قرأ {ولكم في القصاص} قال: «قصص القرآن».
وأخرج آدم والبيهقي في "سننه" عن أبي العالية: «{فمن اعتدى} قتل بعد أخذه الدية {تخفيف من ربكم ورحمة} يقول: حين أعطيتم الدية ولم تحل لأهل التوراة إنما هو قصاص أو عفو وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو وليس غيره فجعل الله لهذه الأمة القود والدية والعفو {ولكم في القصاص حياة} يقول: جعل الله القصاص حياة فكم من رجل يريد أن يقتل فيمنعه منه مخافة أن يقتل»). [الدر المنثور: 2/ 160-162]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 3 جمادى الأولى 1434هـ/14-03-2013م, 11:30 AM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي


تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى...}
فإنه نزل في حيّين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر في الكثرة والشرف، فكانوا يتزوّجون نساءهم بغير مهور، فقتل الأوضع من الحيّين من الشريف قتلى، فأقسم الشريف ليقتلنّ الذكر بالأنثى والحرّ بالعبد وأن يضاعفوا الجراحات، فأنزل الله تبارك وتعالى هذا على نبيّه، ثم نسخه قوله: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} إلى آخر الآية.
فالأولى منسوخة لا يحكم بها.
وأما قوله: {فاتّباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسانٍ} فإنه رفع. وهو بمنزلة الأمر في الظاهر؛ كما تقول: من لقي العدوّ فصبرا واحتسابا, فهذا نصب؛ ورفعه جائز, وقوله تبارك وتعالى: {فاتّباعٌ بالمعروف} , رفع ونصبه جائز. وإنما كان الرفع فيه وجه الكلام؛ لأنها عامّة فيمن فعل ويراد بها من لم يفعل, فكأنه قال: فالأمر فيها على هذا، فيرفع, وينصب الفعل إذا كان أمرا عند الشيء يقع ليس بدائم؛ مثل قولك للرجل: إذا أخذت في عملك فجدّاً جدّاً , وسيرا سيرا, نصبت؛ لأنك لم تنو به العموم , فيصير كالشيء الواجب على من أتاه وفعله؛ ومثله قوله: {ومن قتله منكم متعمّداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم} , ومثله : {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ}, ومثله في القرآن كثير، رفع كله؛ لأنها عامّة. فكأنه قال: من فعل هذا فعليه هذا.
وأمّا قوله: {فضرب الرّقاب}, فإنه حثّهم على القتل إذا لقوا العدوّ؛ ولم يكن الحثّ كالشيء الذي يجب بفعلٍ قبله؛ فلذلك نصب، وهو بمنزلة قولك: إذا لقيتم العدوّ فتهليلا وتكبيرا , وصدقا عند تلك الوقعة .
قال الفرّاء: ذلك وتلك لغة قريشٍ، وتميم تقول : ذاك وتيك الوقعة , كأنه حثّ لهم، وليس بالمفروض عليهم أن يكبّروا، وليس شيء من هذا إلا نصبه جائز على أن توقع عليه الأمر؛ فليصم ثلاثة أيّامٍ، فليمسك إمساكاً بالمعروف, أو يسرّح تسريحاً بإحسانٍ). [معاني القرآن: 1/ 109-110]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فمن عفى له من أخيه شيءٌ }:أي: ترك له). [مجاز القرآن: 1/ 66]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان ذلك تخفيفٌ مّن رّبّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ}
قال: {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان}, أي: "فعليه اتباعٌ بالمعروف أو أداءٌ إليه بإحسان" , على الذي يطلب). [معاني القرآن: 1/ 125]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({فمن عفي له من أخيه شيء}: ترك له). [غريب القرآن وتفسيره: 87]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({كتب عليكم القصاص}, قال ابن عباس:«كان القصاص في بني إسرائيل , ولم تكن فيهم الدّية, فقال اللّه عز وجل لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص}».
والكتاب يتصرّف على وجوه قد بينتها في «تأويل المشكل».
{فمن عفي له من أخيه شيءٌ}, قال: قبول الدية في العمد، والعفو عن الدم.
{فاتّباعٌ بالمعروف},أي: مطالبة بالمعروف, يري: د ليطالب آخذ الدية الجاني مطالبة لا يرهقه فيها.
{وأداءٌ إليه بإحسانٍ}, أي: ليوأد المطالب ما عليه أداء بإحسان, لا يبخسه, ولا يمطله مطل مدافع.
{ذلك تخفيفٌ من ربّكم}: عما كان على من قبلكم, يعني: القصاص, {ورحمةٌ}لكم.
{فمن اعتدى بعد ذلك},أي: قتل بعد أخذ الدية، فله عذاب أليم , قال قتادة:«يقتل, ولا تؤخذ منه الدية».
وقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم: «لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذه الدية»). [تفسير غريب القرآن: 71-72]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}
معنى {كتب عليكم}: فرض عليكم،
وقوله {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثثى} يقال : إنه كان لقوم من العرب طول على آخرين , فكانوا يتزوجون فيهم بغير مهور، ويطلبون بالدم أكثر من مقداره، فيقتلون بالعبد من عبيدهم الحر من الذين لهم عليهم طول , فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} أي: من ترك له القتل , ورضي منه بالدّية , وهو قاتل متعمد للقتل , عفي له بأن ترك له دمه، ورضي منه بالدية , قال اللّه عز وجلّ: {ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة}, وذكر أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم إلا النفس , كما قال عزّ وجلّ: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس}, أي: في التوراة -, فتفضل اللّه على هذه الأمة بالتخفيف , والدية إذا رضي بها , وفي الدم.
ومعنى {فاتّباع بالمعروف}على ضربين:
جائز أن يكون: فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف، أي: المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء بإحسان ,
وجائز أن يكون: الإتباع بالمعروف , والأداء بإحسان جميعاً على القاتل , واللّه أعلم.
وقوله غز وجلّ: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}أي: بعد أخذ الدية، ومعنى اعتدى: ظلم، فوثب فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية ,{فله عذاب أليم},أي: موجع.
ورفع {فاتّباع بالمعروف}على معنى فعليه اتباع , ولو كان في غير القرآن لجاز , فاتباعاً بالمعروف , وأداء على معنى , فليتبع أتباعاً, ويؤد أداء, ولكن الرفع أجود في العربية, وهو على ما في المصحف, وإجماع القراء ,فلا سبيل إلى غيره). [معاني القرآن: 1/ 248-249]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({كتب عليكم}, أي: فرض عليكم.
{فمن عفي له}, أي ترك، وقيل: يسر، وقيل: هي قبول الدية في العمد.
{فمن اعتدى بعد ذلك}, أي: قتل بعد أن أخذ الدية من الجاني، قال قتادة: يقتل , ولا تقبل منه الدية,وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أعافي أحداً بعد أخذ الدية»). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 36]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({عُفِيَ لَهُ}: ترك ما له). [العمدة في غريب القرآن: 87]

تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولكم في القصاص حياةٌ...}: يقول: إذا علم الجاني أنه يقتصّ منه: إن قتل قتل انتهى عن القتل , فحيى, فذلك قوله: "حياة"). [معاني القرآن: 1/ 110]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({ولكم في القصاص حياةٌ} , يريد: أن سافك الدم إذا أقيد منه، ارتدع من يهمّ بالقتل , فلم يقتل خوفاًَ على نفسه أن يقتل, فكان في ذلك حياة). [تفسير غريب القرآن: 72]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون}
{حياة}رفع على ضربين:
1-
على الابتداء،
2- وعلى لكم؛ كأنّه قال: وثبت لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب, أي: يا ذوي العقول.
ومعنى الحياة في القصاص: أن الرجل - إذا علم أنّه يقتل إن قتل - أمسك عن القتل , ففي إمساكه عن القتل حياة الذي همّ هو بقتله, وحياة له؛ لأنه من أجل القصاص , أمسك عن القتل , فسلم أن يقتل). [معاني القرآن: 1/ 249]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 1 جمادى الآخرة 1434هـ/11-04-2013م, 10:01 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]


تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) }
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (قال: وفي قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قال: كان الناس من سائر الأمم يقتلون الواحد بالواحد، فجعل الله تعالى لنا نحن العفو، أن يعفو عمن قتل). [مجالس ثعلب: 573]


تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
[لا يوجد]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 29 جمادى الأولى 1435هـ/30-03-2014م, 06:08 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 29 جمادى الأولى 1435هـ/30-03-2014م, 06:08 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 29 جمادى الأولى 1435هـ/30-03-2014م, 06:08 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 29 جمادى الأولى 1435هـ/30-03-2014م, 06:09 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ (178) ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون (179) كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقًّا على المتّقين (180)}
كتب معناه فرض وأثبت، والكتب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيرا، وقيل إن كتب في مثل هذا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء، وصورة فرض القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه وترك التعدي على غيره كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود، وليس القصاص بلزام إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح، والقصاص مأخوذ من قص الأثر فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة وهو مما يدخل على الناس كرها فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى.
واختلف في سبب هذه الآية، فقال الشعبي: «إن العرب كان أهل العزة منهم والمنعة إذا قتل منهم عبد قتلوا به حرا، وإذا قتلت امرأة قتلوا بها ذكرا، فنزلت الآية في ذلك ليعلم الله تعالى بالسوية ويذهب أمر الجاهلية»، وحكي أن قوما من العرب تقاتلوا قتال عمية ثم قال بعضهم: نقتل بعبيدنا أحرارا، فنزلت الآية،
وقيل: نزلت بسبب قتال وقع بين قبيلتين من الأنصار، وقيل: من غيرهم فقتل هؤلاء من هؤلاء رجالا وعبيدا ونساء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم ويقاصهم بعضهم ببعض بالديات على استواء الأحرار بالأحرار والنساء بالنساء والعبيد بالعبيد، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا يدخل صنف على صنف ثم نسخت بآية المائدة أن النفس بالنفس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هكذا روي، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو عبيد وعن غيره أن هذه الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة، وأن قوله هنا الحرّ بالحرّ يعم الرجال والنساء، وقاله مجاهد.
وقال مالك رحمه الله: «أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد بها الجنس الذكر والأنثى فيه سواء، وأعيد ذكر الأنثى تأكيدا وتهمما بإذهاب أمر الجاهلية»، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية منه وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة، وإذا قتلت المرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلوا وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن علي رضي الله عنه وعن الحسن، وقد أنكر ذلك عنهما أيضا، وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات، قال مالك والشافعي: «وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس»، وقال أبو حنيفة: «لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس»، وقال النخعي وقتادة وسعيد بن المسيب والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف: «يقتل الحر بالعبد»، وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء: «لا يقتل الحر بالعبد»، ودليلهم إجماع الأمة على أن العبد لا يقاوم الحر فيما دون النفس، فالنفس مقيسة على ذلك، وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد، وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، وإذا قتل الرجل ابنه فإن قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ فإنه يقتل به قولا واحدا في مذهب مالك، وإن قتله على حد ما يرمي أو يضرب فيقتله ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل وتغلظ الدية.
وقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فيه أربع تأويلات:
أحدها أن من يراد بها القاتل وعفي يتضمن عافيا هو ولي الدم والأخ هو المقتول، ويصح أن يكون هو الولي على هذا التأويل، وهي أخوة الإسلام، وشيءٌ هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وجماعة من العلماء، والعفو في هذا القول على بابه والضميران راجعان على من في كل تأويل.
والتأويل الثاني وهو قول مالك: ان من يراد بها الولي، وعفي بمعنى يسر لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، وشيءٌ هي الدية، والأخوة على هذا أخوة الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي يسر له من قبل أخيه المقتول وبسببه، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام، وعلى هذا التأويل قال مالك رحمه الله: «إن الولي إذا جنح إلى العفو على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه فمرة تيسر ومرة لا تيسر»، وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه، وقد روي أيضا هذا القول عن مالك ورجحه كثير من أصحابه.
والتأويل الثالث أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفا، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون عفي بمعنى فضل من قولهم عفا الشيء إذا كثر أي أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر.
والتأويل الرابع هو على قول علي رضي الله عنه والحسن بن أبي الحسن في الفضل بين دية المرأة والرجل والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، وعفي في هذا الموضع أيضا بمعنى أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت، وشيءٌ في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله، وجاز ذلك وعفي لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر شيءٌ تقدير المصدر، كأن الكلام: عفي له من أخيه عفو، وشيءٌ اسم عام لهذا وغيره، أو من حيث تقدر عفي بمعنى ترك فتعمل عملها، والأول أجود، وله نظائر في كتاب الله، منها قوله تعالى: {ولا تضرّونه شيئاً} [هود: 57]، قال الأخفش: «التقدير لا تضرونه ضرا»، ومن ذلك قول أبي خراش:
فعاديت شيئا والدّريس كأنّما ....... يزعزعه ورد من الموم مردم
وقوله تعالى: {فاتّباعٌ} رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى: {فإمساكٌ بمعروفٍ} [البقرة: 229]، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا كقوله تعالى: {فضرب الرّقاب} [محمد: 4]، وهذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي، وقرأ ابن أبي عبلة «فاتباعا» بالنصب.
وقوله تعالى: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم} إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم إنما هو القصاص فقط، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه: فقال فريق من العلماء منهم مالك: «هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة»، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: «عذابه أن يقتل البتة ولا يمكن الحاكم الولي من العفو»، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نقسم أن لا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل»، وقال الحسن: «عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة»، وقال عمر بن عبد العزيز:«أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى»). [المحرر الوجيز: 1/ 422-427]


تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياةٌ} نحوه قول العرب في مثل: القتل أوقى للقتل، ويروى: أبقى، بباء وقاف، ويروى أنفى بنون وفاء، والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا، وهذا الترتيب مما سبق لهما في الأزل، وأيضا فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعية إلى موت العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة، وخص أولي الألباب بالذكر تنبيها عليهم، لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي، وغيرهم تبع لهم، وتتّقون معناه القتل فتسلمون من القصاص ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك فإن الله تعالى يثيب على الطاعة بالطاعة، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي {ولكم في القصص} أي في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص وحكمه، ويحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص، أي إنه قص أثر القاتل قصصا فقتل كما قتل). [المحرر الوجيز: 1/ 427-428]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 29 جمادى الأولى 1435هـ/30-03-2014م, 06:09 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 29 جمادى الأولى 1435هـ/30-03-2014م, 06:09 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ (178) ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون (179)}
يقول تعالى: {كتب عليكم} العدل في القصاص -أيّها المؤمنون -حرّكم بحرّكم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم وغيّروا حكم اللّه فيهم، وسبب ذلك قريظة و بنو النّضير، كانت بنو النّضير قد غزت قريظة في الجاهليّة وقهروهم، فكان إذا قتل النّضريّ القرظيّ لا يقتل به، بل يفادى بمائة وسقٍ من التّمر، وإذا قتل القرظيّ النّضريّ قتل به، وإن فادوه فدوه بمائتي وسقٍ من التّمر ضعف دية القرظيّ، فأمر اللّه بالعدل في القصاص، ولا يتّبع سبيل المفسدين المحرّفين، المخالفين لأحكام اللّه فيهم، كفرًا وبغيًا، فقال تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}.
وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمّد بن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكير حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول الله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} يعني: إذا كان عمدا، الحرّ بالحرّ. وذلك أنّ حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهليّة قبل الإسلام بقليلٍ، فكان بينهم قتلٌ وجراحاتٌ، حتّى قتلوا العبيد والنّساء، فلم يأخذ بعضهم من بعضٍ حتّى أسلموا، فكان أحد الحيّين يتطاول على الآخر في العدّة والأموال، فحلفوا ألّا يرضوا حتّى يقتل بالعبد منّا الحرّ منهم، وبالمرأة منّا الرّجل منهم، فنزلت فيهم.
{الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} منها منسوخةٌ، نسختها {النّفس بالنّفس} [المائدة: 45].
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ في قوله: {والأنثى بالأنثى} وذلك أنّهم لا يقتلون الرّجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرّجل بالرّجل، والمرأة بالمرأة فأنزل اللّه: النّفس بالنّفس والعين بالعين، فجعل الأحرار في القصاص سواءً فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النّفس، وفيما دون النّفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالكٍ أنّها منسوخةٌ بقوله: {النّفس بالنّفس}.
مسألةٌ: مذهب أبي حنيفة أنّ الحرّ يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثّوريّ وابن أبي ليلى وداود، وهو مرويٌّ عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وسعيد بن المسيّب، وإبراهيم النّخعيّ، وقتادة، والحكم، وقال البخاريّ، وعليّ بن المدينيّ وإبراهيم النّخعيّ والثّوريّ في روايةٍ عنه: «ويقتل السّيّد بعبده»؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة: «من قتل عبده قتلناه، ومن جذعه جذعناه، ومن خصاه خصيناه» وخالفهم الجمهور وقالوا: «لا يقتل الحرّ بالعبد؛ لأنّ العبد سلعةٌ لو قتل خطأً لم تجب فيه ديةٌ، وإنّما تجب فيه قيمته، وأنّه لا يقاد بطرفه ففي النّفس بطريق أولى»، وذهب الجمهور إلى أنّ المسلم لا يقتل بالكافر، كما ثبت في البخاريّ عن عليٍّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ» ولا يصحّ حديثٌ ولا تأويلٌ يخالف هذا، وأمّا أبو حنيفة فذهب إلى أنّه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألةٌ: قال الحسن وعطاءٌ: «لا يقتل الرّجل بالمرأة لهذه الآية»، وخالفهم الجمهور لآية المائدة؛ ولقوله عليه السّلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقال اللّيث: «إذا قتل الرّجل امرأته لا يقتل بها خاصّةً».
مسألةٌ: ومذهب الأئمّة الأربعة والجمهور أنّ الجماعة يقتلون بالواحد؛ قال عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه في غلامٍ قتله سبعةٌ فقتلهم، وقال: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم»، ولا يعرف له في زمانه مخالفٌ من الصّحابة، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام أحمد روايةٌ: «أنّ الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنّفس إلّا نفسٌ واحدةٌ». وحكاه ابن المنذر عن معاذٍ وابن الزّبير، وعبد الملك بن مروان والزّهريّ ومحمّد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابتٍ؛ ثمّ قال ابن المنذر: «وهذا أصحّ، ولا حجّة لمن أباح قتل الجماعة». وقد ثبت عن ابن الزّبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصّحابة فسبيله النّظر.
وقوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} قال مجاهدٌ عن ابن عبّاسٍ: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} «فالعفو: أن يقبل الدّية في العمد»، وكذا روي عن أبي العالية، وأبي الشّعثاء، ومجاهدٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وعطاءٍ، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيّان.
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} يقول: «فمن ترك له من أخيه شيءٌ يعني: بعد أخذ الدّية بعد استحقاق الدّم، وذلك العفو» {فاتّباعٌ بالمعروف} يقول: «فعلى الطّالب اتّباعٌ بالمعروف إذا قبل الدّية» {وأداءٌ إليه بإحسانٍ} يعني: من القاتل من غير ضررٍ ولا معك، يعني: المدافعة.
وروى الحاكم من حديث سفيان، عن عمرٍو، عن مجاهدٍ، عن ابن عباس: ويؤدي المطلوب بإحسانٍ. وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو الشّعثاء جابر بن زيد، والحسن، وقتادة، وعطاءٌ الخراسانيّ، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان.
مسألةٌ: قال مالكٌ -رحمه اللّه -في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور، وأبو حنيفة وأصحابه والشّافعيّ في أحد قوليه: ليس لوليّ الدّم أن يعفو على الدّية إلّا برضا القاتل، وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل، وذهب طائفةٌ من السّلف إلى أنّه ليس للنّساء عفوٌ، منهم الحسن، وقتادة، والزّهريّ، وابن شبرمة، واللّيث، والأوزاعيّ، وخالفهم الباقون.
وقوله: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} يقول تعالى: إنّما شرع لكم أخذ الدّية في العمد تخفيفًا من اللّه عليكم ورحمةً بكم، ممّا كان محتومًا على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال سعيد بن منصورٍ:
حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، أخبرني مجاهدٌ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كتب على بني إسرائيل القصّاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو»، فقال اللّه لهذه الأمّة {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فالعفو أن يقبل الدّية في العمد، {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} ممّا كتب على من كان قبلكم، فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ.
وقد رواه غير واحدٍ عن عمرو بن دينارٍ وأخرجه ابن حبّان في صحيحه، عن عمرو بن دينارٍ، به. وقد رواه البخاريّ والنّسائيّ عن ابن عبّاسٍ ؛ ورواه جماعةٌ عن مجاهدٍ عن ابن عبّاسٍ، بنحوه.
وقال قتادة: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم} «رحم اللّه هذه الأمّة وأطعمهم الدّية، ولم تحلّ لأحدٍ قبلهم، فكان أهل التّوراة إنّما هو القصاص وعفوٌ ليس بينهم أرشٌ وكان أهل الإنجيل إنّما هو عفوٌ أمروا به، وجعل لهذه الأمّة القصاص والعفو والأرش».
وهكذا روي عن سعيد بن جبيرٍ، ومقاتل بن حيّان، والرّبيع بن أنسٍ، نحو هذا.
وقوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدّية أو قبولها، فله عذابٌ من اللّه أليمٌ موجعٌ شديدٌ.
وكذا روي عن ابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان: أنّه هو الذي يقتل بعد أخذ الدّية، كما قال محمّد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيلٍ، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريحٍ الخزاعيّ: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من أصيب بقتلٍ أو خبل فإنّه يختار إحدى ثلاثٍ: إمّا أن يقتصّ، وإمّا أن يعفو، وإمّا أن يأخذ الدّية؛ فإن أراد الرّابعة فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنّم خالدًا فيها» رواه أحمد.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «لا أعافي رجلًا قتل بعد أخذ الدّية» -يعني: لا أقبل منه الدّية -بل أقتله). [تفسير ابن كثير: 1/ 489-492]

تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ولكم في القصاص حياةٌ} يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم -وهو قتل القاتل -حكمةٌ عظيمةٌ لكم، وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنّه إذا علم القاتل أنّه يقتل انكفّ عن صنيعه، فكان في ذلك حياة النّفوس. وفي الكتب المتقدّمة: القتل أنفى للقتل. فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.
{ولكم في القصاص حياةٌ} قال أبو العالية: «جعل اللّه القصاص حياةً، فكم من رجلٍ يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يقتل».
وكذا روي عن مجاهدٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبي مالكٍ، والحسن، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، ومقاتل بن حيّان، {يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون} يقول: «يا أولي العقول والأفهام والنّهى، لعلّكم تنزجرون فتتركون محارم اللّه ومآثمه»، والتّقوى: اسمٌ جامعٌ لفعل الطّاعات وترك المنكرات). [تفسير ابن كثير: 1/ 492]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:35 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة