تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {سيقول السّفهاء من النّاس ما ولاّهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ (142) وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيداً وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرةً إلاّ على الّذين هدى اللّه وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إنّ اللّه بالنّاس لرؤفٌ رحيمٌ (143)}
أعلم الله تعالى في هذه الآية أنهم سيقولون في شأن تحول المؤمنين من الشام إلى الكعبة: ما ولّاهم؟ والسّفهاء هم الخفاف الأحكام والعقول، والسفه الخفة والهلهلة، ثوب سفيه أي غير متقن النسج، ومنه قول ذي الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ....... أعاليها مرّ الرياح النواسم
أي استخفتها، وخص بقوله من النّاس، لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات، والمراد ب السّفهاء هنا جميع من قال ما ولّاهم، وقالها فرق.
واختلف في تعيينهم، فقال ابن عباس: «قالها الأحبار منهم»، وذلك أنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد ما ولاك عن قبلتنا؟ ارجع إليها ونؤمن بك، يريدون فتنته، وقال السدي: «قالها بعض اليهود والمنافقون استهزاء»، وذلك أنهم قالوا: اشتاق الرجل إلى وطنه، وقالت طائفة: قالها كفار قريش، لأنهم قالوا: ما ولاه عن قبلته؟ ما رجع إلينا إلا لعلمه أنّا على الحق وسيرجع إلى ديننا كله، وولّاهم معناه صرفهم، والقبلة فعلة هيئة المقابل للشيء، فهي كالقعدة والإزرة، وجعل المستقبل موضع الماضي في قوله سيقول دلالة على استدامة ذلك، وأنهم يستمرون على ذلك القول، ونص ابن عباس وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم.
وقوله تعالى: {قل للّه المشرق والمغرب}إقامة حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، ويهدي من يشاء، إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم، والصراط: الطريق.
واختلف العلماء هل كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى في القرآن أو بوحي غير متلو؟، فذكر ابن فورك عن ابن عباس قال: «أول ما نسخ من القرآن القبلة»، وقال الجمهور: بل كان أمر قبلة بيت المقدس بوحي غير متلو، وقال الربيع: «خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في النواحي فاختار بيت المقدس، ليستألف بها أهل الكتاب»، ومن قال كان بوحي غير متلو قال: كان ذلك ليختبر الله تعالى من آمن من العرب، لأنهم كانوا يألفون الكعبة وينافرون بيت المقدس وغيره.
واختلف كم صلى إلى بيت المقدس، ففي البخاري: ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وروي عن أنس بن مالك: تسعة أو عشرة أشهر، وروي عن غيره: ثلاثة عشر شهرا، وحكى مكي عن إبراهيم بن إسحاق أنه قال: أول أمر الصلاة أنها فرضت بمكة ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره، ثم كان الإسراء ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة، ففرضت الخمس، وأمّ فيها جبريل عليه السلام، وكانت أول صلاة الظهر، وتوجه بالنبي صلى الله عليهما وسلم إلى بيت المقدس، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ربيع الأول، وتمادى إلى بيت المقدس إلى رجب من سنة اثنتين، وقيل إلى جمادى، وقيل إلى نصف شعبان»). [المحرر الوجيز: 1/ 365-366]
تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً}، الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله يهدي من يشاء، أي كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته كذلك جعلناكم أمة وأمّةً مفعول ثان، ووسطاً نعت، والأمة القرون من الناس، ووسطاً معناه عدولا، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرت به عبارة المفسرين، والوسط الخيار والأعلى من الشيء، كما تقول وسط القوم، وواسطة القلادة أنفس حجر فيها، والأمير وسط الجيش، وكقوله تعالى: {قال أوسطهم}[القلم: 28]، والوسط بإسكان السين ظرف مبني على الفتح، وقد جاء متمكنا في بعض الروايات في بيت الفرزدق:
فجاءت بملجوم كأن جبينه ....... صلاءة ورس وسطها قد تفلقا
برفع الطاء والضمير عائد على الصلاءة، وروي بفتح الطاء والضمير عائد على الجائية، فإذا قلت حفرت وسط الدار أو وسط الدار فالمعنى مختلف.
قال بعض العلماء: أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تغل في الدين كما فعلت اليهود، ولا افترت كالنصارى، فهي متوسطة، فهي أعلاها وخيرها من هذه الجهة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الأمور أوساطها» أي خيارها، وقد يكون العلو والخير في الشيء لما بأنه أنفس جنسه، وأما أن يكون بين الإفراط والتقصير فهو خيار من هذه الجهة وشهداء جمع شاهد في هذا الموضع.
واختلف المفسرون في المراد ب النّاس في هذا الموضع، فقالت فرقة: هم جميع الجنس، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ، وذلك أن نوحا تناكره أمته في التبليغ، فتقول له أمة محمد نحن نشهد لك، فيشهدون، فيقول الله لهم: كيف شهدتم على ما لم تحضروا؟، فيقولون: أي ربنا جاءنا رسولك ونزل إلينا كتابك فنحن نشهد بما عهدت إلينا وأعلمتنا به، فيقول الله تعالى: صدقتم، وروي في هذا المعنى حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه أن أمته تشهد لكل نبي ناكره قومه، وقال مجاهد: «معنى الآية تشهدون لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ الناس في مدته من اليهود والنصارى والمجوس».
وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرت به جنازة فأثني عليها بالخير، فقال: «وجبت» ، ثم مر بأخرى، فأثني عليها بشرّ، فقال: «وجبت»، يعني الجنة والنار، فسئل عن ذلك، فقال: «أنتم شهداء الله في الأرض»، وروي في بعض الطرق أنه قرأ {لتكونوا شهداء على النّاس}.
{ويكون الرّسول عليكم شهيداً} قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة، وقيل: عليكم بمعنى لكم أي يشهد لكم بالإيمان، وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ إليكم.
وقوله تعالى: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها} الآية، قال قتادة والسدي وعطاء وغيرهم: «القبلة هنا بيت المقدس». والمعنى لم نجعلها حين أمرناك بها أولا إلا فتنة لنعلم من يتبعك من العرب الذين إنما يألفون مسجد مكة، أو من اليهود على ما قال الضحاك من أن الأحبار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء، فإن صليت إليه اتبعناك، فأمره الله بالصلاة إليه امتحانا لهم فلم يؤمنوا، وقال بعض من ذكر: القبلة بيت المقدس، والمعنى: وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها وتحويلها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقال ابن عباس: «القبلة في الآية الكعبة»، وكنت بمعنى أنت كقوله تعالى: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس} [آل عمران: 110] بمعنى أنتم، أي وما جعلناها وصرفناك إليها إلا فتنة، وروي في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حول إلى الكعبة أكثر في ذلك اليهود والمنافقون وارتاب بعض المؤمنين حتى نزلت الآية، وقال ابن جريج: «بلغني أن ناسا ممن كان أسلم رجعوا عن الإسلام»، ومعنى قوله تعالى: {لنعلم} أي ليعلم رسولي والمؤمنون به، وجاء الإسناد بنون العظمة إذ هم حزبه وخالصته، وهذا شائع في كلام العرب كما تقول: فتح عمر العراق وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك جنده وأتباعه، فهذا وجه التجوز إذا ورد علم الله تعالى بلفظ استقبال لأنه قديم لم يزل، ووجه آخر: وهو أن الله تعالى قد علم في الأزل من يتبع الرسول واستمر العلم حتى وقع حدوثهم واستمر في حين الاتباع والانقلاب ويستمر بعد ذلك، والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم، فأراد بقوله لنعلم ذكر علمه وقت مواقعتهم الطاعة والمعصية، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب، فليس معنى لنعلم لنبتدىء العلم وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا، وحكى ابن فورك أن معنى لنعلم لنثيب، فالمعنى لنعلمهم في حال استحقوا فيها الثواب، وعلق العلم بأفعالهم لتقوى الحجة ويقع التثبت فيما علمه لا مدافعة لهم فيه، وحكى ابن فورك أيضا أن معنى لنعلم لنميز، وذكره الطبري عن ابن عباس، وحكى الطبري أيضا أن معنى لنعلم لنرى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا كله متقارب»، والقاعدة نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن، وقرأ الزهري ليعلم على ما لم يسم فاعله.
و{ينقلب على عقبيه} عبارة عن المرتد الراجع عما كان فيه من إيمان أو شغل أو غير ذلك، والرجوع على العقب أسوأ حالات الراجع في مشيه عن وجهته، فلذلك شبه المرتد في الدين به، وظاهر التشبيه أنه بالمتقهقر، وهي مشية الحيوان الفازع من شيء قد قرب منه، ويحتمل أن يكون هذا التشبيه بالذي رد ظهره ومشى أدراجه فإنه عند انقلابه إنما ينقلب على عقبيه.
وقوله تعالى: {وإن كانت لكبيرةً} الآية، الضمير في كانت راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس، أو إلى التحويلة إلى الكعبة حسب ما ذكرناه من الاختلاف في القبلة، وقال ابن زيد: «هو راجع إلى الصلاة التي صليت إلى بيت المقدس»، وشهد الله تعالى في هذه الآية للمتبعين بالهداية، و {كبيرة} هنا معناه شاقة صعبة تكبر في الصدور، وإن هي المخففة من الثقيلة، ولذلك لزمتها اللام لتزيل اللبس الذي بينها وبين النافية، وإذا ظهر التثقيل في إن فلربما لزمت اللام وربما لم تلزم، وقال الفراء: إن بمعنى ما واللام بمنزلة إلا.
ولما حولت القبلة كان من قول اليهود: يا محمد إن كانت الأولى حقا فأنت الآن على باطل، وإن كانت هذه حقا فكنت في الأولى على ضلال. فوجست نفوس بعض المؤمنين وأشفقوا على من مات قبل التحويل على صلاتهم السالفة، فنزلت وما كان اللّه ليضيع إيمانكم، وخاطب الحاضرين والمراد من حضر ومن مات، لأن الحاضر يغلب، كما تقول العرب: ألم نقتلكم في موطن كذا؟، ومن خوطب لم يقتل ولكنه غلب لحضوره، وقرأ الضحاك ليضيع بفتح الضاد وشد الياء، وقال ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي والربيع وغيرهم: «الإيمان هنا الصلاة». وسمى الصلاة إيمانا لما كانت صادرة عن الإيمان والتصديق في وقت بيت المقدس وفي وقت التحويل، ولما كان الإيمان قطبا عليه تدور الأعمال وكان ثابتا في حال التوجه هنا وهنا ذكره، إذ هو الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي، ولئلا تندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس فذكر المعنى الذي هو ملاك الأمر، وأيضا فسميت إيمانا إذ هي من شعب الإيمان، والرأفة أعلى منازل الرحمة، وقرأ قوم لرؤفٌ على وزن فعل، ومنه قول الوليد بن عقبة:
وشرّ الطالبين فلا تكنه ....... بقاتل عمّه الرّؤوف الرحيم
تقول العرب: رؤف ورؤوف ورئف كحذر ورأف وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع لرووف بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى ساكنة كانت أو متحركة). [المحرر الوجيز: 1/ 366-373]
تفسير قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره وإنّ الّذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144) ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آيةٍ ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابعٍ قبلتهم وما بعضهم بتابعٍ قبلة بعضٍ ولئن اتّبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنّك إذاً لمن الظّالمين (145)}
المقصد تقلب البصر، وذكر الوجه لأنه أعم وأشرف، وهو المستعمل في طلب الرغائب، تقول: بذلت وجهي في كذا، وفعلت لوجه فلان، ومنه قول الشاعر: رجعت بما أبغي ووجهي بمائه وأيضا فالوجه يتقلب بتقلب البصر، وقال قتادة والسدي وغيرهما: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة»، وقيل كان يقلب ليؤذن له في الدعاء، ومعنى التقلب نحو السماء أن السماء جهة قد تعود العالم منها الرحمة كالمطر والأنوار والوحي فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم، وترضاها معناه تحبها وتقر بها عينك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الكعبة والتحول عن بيت المقدس لوجوه ثلاثة رويت، فقال مجاهد: «لقول اليهود ما علم محمد دينه حتى اتبعنا»، وقال ابن عباس: «وليصيب قبلة إبراهيم عليه السلام»، وقال الربيع والسدي: «وليستألف العرب لمحبتها في الكعبة»، وقال عبد الله بن عمر: «إنما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته حيال ميزاب الكعبة»، وقال ابن عباس وغيره: «بل وجه إلى البيت كله».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والميزاب هو قبلة المدينة والشام»، وهنالك قبلة أهل الأندلس بلا ريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق، وقوله تعالى:{فولّ وجهك شطر المسجد} الآية، أمر بالتحول ونسخ لقبلة الشام، وقيل: نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة، وقيل: إنما نزلت هذه الآية في غير صلاة وكانت أول صلاة إلى الكعبة العصر، وشطر نصب على الظرف ويشبه المفعول به لوقوع الفعل عليه ومعناه نحو وتلقاء، قال ابن أحمر:
تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة ....... قد كارب العقد من إيفادها الحقبا
وقال غيره:
أقول لأمّ زنباع أقيمي ....... صدور العيس شطر بني تميم
وقال لقيط:
وقد أظلّكم من شطر ثغركم ....... هول له ظلم تغشاكم قطعا
وقال غيره [خفاف بن عمير]:
ألا من مبلغ عمرا رسولا ....... وما تغني الرّسالة شطر عمرو
{وحيث ما كنتم فولّوا} أمر للأمة ناسخ، وقال داود بن أبي هند: «إن في حرف ابن مسعود: فول وجهك تلقاء المسجد الحرام»، وقال محمد بن طلحة: «إن فيه: فولوا وجوهكم قبله»، وقرأ ابن أبي عبلة: «فولوا وجوهكم تلقاءه»، والّذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، وقال السدي: «المراد اليهود».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والأول أظهر»، والمعنى أن اليهود والنصارى يعلمون أن الكعبة هي قبلة إبراهيم إمام الأمم، وأن استقبالها هو الحق الواجب على الجميع اتباعا لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه في كتبهم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «عما تعملون» بتاء على المخاطبة، فإما على إرادة أهل الكتاب أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ولا يغفل عنها، وضمنه الوعيد، وقرأ الباقون بالياء من تحت). [المحرر الوجيز: 1/ 373-376]