التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {َقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({بل ملّة إبراهيم}: انتصب، لأن فيه ضمير فعلٍ، كأن مجازه بل اتبعوا ملة إبراهيم، أو: عليكم ملة إبراهيم.
{حنيفاً}: الحنيف في الجاهلية : من كان على دين إبراهيم، ثم سمّى من اختتن , وحج البيت حنيفاً لما تناسخت السنون، وبقي من يعبد الأوثان من العرب قالوا: نحن حنفاء على دين إبراهيم، ولم يتمسكوا منه إلا بحج البيت، والختان؛ والحنيف اليوم: المسلم.
قال ذو الرمة:
إذا خالف الظّلّ العشيّ رأيته= حنيفاً ومن قرن الضّحى يتنصّر
يعني : الحرباء). [مجاز القرآن: 1/ 57-58]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين}
قال: {بل ملّة إبراهيم} بالنصب). [معاني القرآن: 1/ 116]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة أبي عمرو {بل ملة إبراهيم} نصب؛ يكون على بل تكون ملة إبراهيم؛ أي أهل ملته على مثل {وسل القرية}، وسل العير؛ أي سل أهل القرية، واسأل أهل العير.
ويكون على: بل نتبع ملة إبراهيم.
وقراءة أخرى "بل ملة إبراهيم"، كأنه قال: ديننا، أو بل ملتنا ملة إبراهيم). [معاني القرآن لقطرب: 259]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما {بل ملة إبراهيم} فكل دين ملة، وذلك مأخوذ عندنا من الإملال؛ أي ما يملون عليهم من كتبهم؛ وكان ابن عباس يقول: {بل ملة إبراهيم} دين إبراهيم.
وأما {فليملل} بالتضعيف، فلغة مضر، وغيرهم: أمليت بالياء). [معاني القرآن لقطرب: 335]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما {حنيفا} فكان ابن عباس يقول: الحينف الحاج؛ وقالوا في الحنيف: المائل؛ وقالوا: حنفت رجله فهي حنفاء؛ ويقال: حنفك الله؛ وقد تحنفت إلى الشيء: ملت إليه؛ وتحنف: دخل في الإسلام؛ كأنه مال.
والحنيفية من كل دين يقال: الميل إلى الشيء؛ والحنيف في الجاهلية كان يقال: من اختتن وحج البيت؛ وفي الإسلام أيضًا يقال: الحنيف المسلم؛ وحسب حنيف؛ أي إسلامي.
وحكي عن ابن عباس أيضًا: {حنيفا} أي مسلمًا.
وقال مغيرة بن حبناء:
وماذا غير أنك في سبال = تمسحها وذو حسب حنيف
[معاني القرآن لقطرب: 335]
وقالوا: الحنيف هاهنا: السمح الكثير؛ وكأن هذا البيت في معنى ما حكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة"). [معاني القرآن لقطرب: 336]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الحنيف}: من كان على دين إبراهيم عليه السلام). [غريب القرآن وتفسيره: 82]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ( {الحنيف}: المستقيم, وقيل للأعرج: حنيف، نظراً له إلى السلامة). [تفسير غريب القرآن: 64]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}
المعنى: قالت اليهود: كونوا هودااً, وقالت النصارى: كونوا نصارى.
وجزم تهتدوا على الجواب للأمر، وإنما معنى الشرط قائم في الكلمة.
المعنى: إن تكونوا على هذه الملة تهتدوا، فجزم تهتدوا على الحقيقة جواب الجزاء.
وقوله عزّ وجلّ: {بل ملة إبراهيم حنيفاً}
تنصب الملة على تقدير: بل نتبع ملة إبراهيم,
ويجوز أن تنصب على معنى: بل نكون أهل ملة إبراهيم، وتحذف " الأهل " كما قال الله عزّ وجلّ: {واسأل القرية التي كنّا فيها}؛لأن القرية لا تسأل ولا تجيب.
ويجوز الرفع:{بل ملة إبراهيم حنيفاً},
والأجود والأكثر: النصب, ومجاز الرفع على معنى: قل: ملتنا وديننا ملة إبراهيم، ونصب {حنيفاً}على الحال.
المعنى: بل نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفته، ومعنى الحنيفة في اللغة: الميل, فالمعنى: أن إبراهيم حنيف إلى دين اللّه، دين الإسلام.
كما قال عزّ وجلّ: {إنّ الدّين عند اللّه الإسلام} فلم يبعث نبي إلا به.
وإن اختلفت شرائعهم، فالعقد توحيد اللّه عزّ وجلّ والإيمان برسله وإن اختلفت الشرائع، إلا أنّه لا يجوز أن تترك شريعة نبي، أو يعمل بشريعة نبي قبله تخالف شريعة نبي الأمة التي يكون فيها, وإنما أخذ الحنف من قولهم: امرأة حنفاء , ورجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما بأصابعها إلى أختها بأصابعها، قالت أم الأحنف بن قيس وكانت ترقصه، وخرج سيد بني تميم: -
والله لولا حنف في رجله= ودقة في ساقه من هزله
ما كان في فتيانكم من مثله). [معاني القرآن: 1/ 213-214]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الحَنِيف}: الذي لا يرجع عن دينه). [العمدة في غريب القرآن: 84]
تفسير قوله تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {لا نفرّق بين أحدٍ مّنهم...}
يقول: لا نؤمن ببعض الأنبياء , ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى). [معاني القرآن: 1/ 82]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما {والأسباط} فالواحد منها عند العرب: سبط، وقالوا: هذا صبط، وهذه صبط؛ فأنثوا، وقالوا أيضًا: هؤلاء سبط؛ فجعلوه جمعًا.
وقال العجاج:
كأنه سبط من الأسباط = بين حوامي هيدب سقاط
أي فرقة من الفرق، وهي فيما فسر لنا). [معاني القرآن لقطرب: 336]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قولوا آمنّا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النّبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}
{لا نفرّق بين أحد منهم}: المعنى: لا نكفر ببعض , ونؤمن ببعض). [معاني القرآن: 1/ 214]
تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فإنّما هم في شقاقٍ }: مصدر شاققته وهو المشاقّة أيضاً، وشاقّه: باينه، قال النابغة الجعديّ:
وكان إليها كالذي اصطاد بكرها ....... شقاقاً وبغضاً أو أطمّ وأهجرا
ومجازه: حارب، وعصى). [مجاز القرآن: 1/ 58-59]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {فإنما هم في شقاق} فالشقاق الشدة.
وقال بشر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم = بغاة ما بقينا في شقاق
ويروى: ما حيينا.
والأصل من قوله {ومن يشاقق الله} من المشاقة؛ من المعاندة؛ أي ما يعاند الله، ويماحله). [معاني القرآن لقطرب: 336]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({في شقاق}: في محاربة وعصيان). [غريب القرآن وتفسيره: 83]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فإنّما هم في شقاقٍ} أي: في عداوة, ومباينة). [تفسير غريب القرآن: 64]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنّما هم في شقاق فسيكفيكهم اللّه وهو السّميع العليم (137)}
فإن قال قائل: فهل للإيمان مثل هو غير الإيمان؟
قيل له: المعنى واضح بين، وتأويله: فإن أتوا بتصديق مث: ل تصديقكم , وإيمانكم بالأنبياء، ووحّدوا كتوحيدكم, فقد اهتدوا، أي: فقد صاروا مسلمين مثلكم.
{وإن تولّوا فإنّما هم في شقاق}, أي: في مشاقة , وعداوة, ومن هذا قول الناس: فلان قد شق عصا المسلمين، إنما هو قد فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إمامهم، وإنما صار في شق غير شق المسلمين.
وقوله عزّ وجلّ: {فسيكفيكهم اللّه}
هذا ضمان من اللّه عزّ وجلّ في النصر لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إنما يكفيه إياهم بإظهار ما بعثه به على كل دين سواهو, هذا كقوله: {ليظهره على الدّين كلّه}, فهذا تأويله , واللّه أعلم.
وكذا قوله:{كتب اللّه لأغلبنّ أنا ورسلي}
فإن قال قائل : فإن من المرسل من قتل.
فإن تأويل ذلك - والله أعلم - : أن اللّه غالب هو , ورسله بالحجة الواضحة، والآية البينة، ويجوز أن تكون غلبة الآخرة ؛ لأن الأمر هو على ما يستقر عليه في العاقبة.
وقد قيل: إن الله لم يأمر رسولاً بحرب , فاتبع ما أمره الله به في حربه إلا غلب, فعلى هذا التأويل : يجوز أن يكون لم يقتل رسول قط محارباً). [معاني القرآن: 1/ 214-215]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({في شقاق}: عداوة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 34]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الشِقَاقٍ}: المحاربـــة). [العمدة في غريب القرآن: 84]
تفسير قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {صبغة اللّه...}
نصب، مردودة على الملّة، وإنما قيل :{صبغة الله}؛ لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد المولود , جعلوه في ماء لهم , يجعلون ذلك تطهيراً له كالختانة, وكذلك هي في إحدى القراءتين, قل {صبغة اللّه}, وهي الختانة، اختتن إبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال: {صبغة الله}: يأمر بها محمدا صلى الله عليه وسلم , فجرت الصبغة على الختانة , لصبغهم الغلمان في الماء، ولو رفعت الصبغة والملّة كان صواباً كما تقول العرب: جدّك لاكدّك، وجدّك لا كدّك, فمن رفع أراد: هي ملّة إبراهيم، هي صبغة الله، هو جدّك, ومن نصب أضمر مثل: الذي قلت لك من الفعل).[معاني القرآن: 1/ 82-83]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({صبغة الله}: أي: دين الله، وخلقته التي خلقه عليها، وهي : فطرته، من فاطر , أي: خالق). [مجاز القرآن: 1/ 59]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({صبغة اللّه ومن أحسن من اللّه صبغةً ونحن له عابدون}
قال: {صبغة الله} بالنصب؛ لأنهم حين قالوا لهم: {كونوا هوداً}, كأنه قيل لهم: "اتّخذوا هذه الملّة" , فقالوا: "لا , {بل ملّة إبراهيم}, أي: نتّبع ملّة إبراهيم، ثم أبدل "الصّبغة" من "الملّة" , فقال: {صبغة اللّه} بالنصب, أو يكون أراد: ثم حذف "أصحاب" كما قال: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه} يريد: "برّ من آمن باللّه", والصّبغة: هي الدين). [معاني القرآن: 1/ 116-117]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {صبغة الله} والصبغة عند العرب: اللون؛ وكأنه يقول: خلق الله وتصويره؛ {ومن أحسن من الله صبغة}.
وقد قالوا في التفسير أيضًا: الخلق، وكان ابن عباس يقول: الدين، {صبغة الله} دين الله؛ وذلك أن النصارى كان إذا ولد لأحدهم ولد صبغوه؛ أي غسلوه بماء ليطهروه). [معاني القرآن لقطرب: 337]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله {صبغة الله} فنصب، وقوله {وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول} وما يشبهه في النصب، قوله {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم}، {ويومئذ يفرح المؤمنون}، ثم قال {وعد الله} فنصب، وكذلك {وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء}، وقوله {قالوا سلاما قال سلام} فنصب الأول ورفع الآخر، وقوله {سلام قولا من رب رحيم} وقوله {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}، وقوله {الذي أحسن كل شيء خلقه} و{ذرية من حملنا مع نوح} و{سبحان الله} و{معاذ الله إنه ربي}، و{انتهوا خيرا لكم}.
[معاني القرآن لقطرب: 445]
أما قوله: {صبغة الله} فقالوا: خلق الله، فكأنه قال: وهو السميع العليم خلقا وعلما، على المصدر.
ويكون: اعرفوا صبغة الله أو أبصروا.
وكذلك تكون {وصية لأزواجهم} على: يوصون وصية؛ على الأمر: ليوصوا وصية.
وأما قوله عز وجل {كتاب الله عليكم}؛ فكأنه قال: كتابا عليكم وفرضا؛ لأنه قد أمرهم في صدر الآية، وفرض عليهم؛ ويكون أيضًا على الأمر: عليكم كتاب الله، والزموا كتاب الله.
وكذلك {ويومئذ يفرح المؤمنون} ثم قال {وعد الله}؛ فكأنه قال: وعدًا؛ لأن ذلك النصر وعد من الله عز وجل؛ كأنه قال: وعدهم وعدا.
وكذلك {صنع الله} لما قال {تمر مر السحاب}؛ فكأنه قال: صنعا من الله؛ لأن مرورها صنع منه، فكأنه قال: صنع الله ذلك صنعًا.
وأما قوله {فقالوا سلاما قال سلام} فكأنه قال: أهل سلام وأصحاب سلام قوم منكرون؛ وكقوله {ولكن البر من آمن بالله} وإنما المعنى: بر من آمن بالله، كما قال ذو الخرق الطهوي:
[معاني القرآن لقطرب: 446]
حسبت بغام راحلتي عناقا = وما هي ويب غيرك بالعناق
ويب غيرك: كما تقول: ويح وويس.
يريد: حسبت بغام راحلتي صوت عناق؛ لأن البغام لا يشبه بالعناق؛ لأنه صوت.
وأما قوله عز وجل {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} فيجوز على أن يكون على: براءة منهم، كقولك: سلام لسلام؛ أي أنت مسلم مني.
قال أمية بن أبي الصلت:
سلامك ربنا في كل فجر = بريئًا ما تعنتك الذموم
كأن المعنى: براءتك وتسليمك من كل قبيح أن يضاف إليك.
وقوله {والله يدعو إلى دار السلام} من ذلك، وقوله {السلام المؤمن المهيمن}؛ وكان الحسن يقول: السلام الذي سلمت البرية من ظلمه، وهذا كله حسن.
وقالوا أيضًا: السلام للسلم، كأنه يقول: سلم قوم منكرون؛ أي صلح، وهي قراءة الأعمش.
وأما قوله {سلام قولا من رب رحيم} فعلى وجهين.
أحدهما: لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام؛ أي لهم ما يدعون، لهم سلام؛ على البدل، كقوله {لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطية} فأبدل.
ويكون على إضمار الخبر؛ كأنه قال: سلام تحيتهم، أو ما يلقون به.
وكذلك {الذي أحسن كل شيء خلقه} يكون على شيئين:
[معاني القرآن لقطرب: 447]
على البدل؛ كأنه قال: أحسن خلقه، كما قال {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} على البدل.
ويكون على المصدر؛ أي أحسنه خلقًا وصنعًا.
وكذلك {وعد الله} أي وعدًا، و{فضرب الرقاب}؛ أي ضربا للرقاب.
وأما قوله {ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح} فكأن الأحسن في المعنى أن تكون منادى: يا ذرية من حملنا؛ ويكون على إضمار الفعل، كأنه قال: أذكر وأعني.
وكذلك قوله عز وجل {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق} إذا نصب فعلى المصدر؛ أي أقول قولاً؛ كقولك: قسما وحقا.
وكذلك {سبحان الله} و{معاذ الله إنه ربي}؛ كأنه قال: أسبح الله تسبيحًا، وأعوذ به معاذًا وعياذًا.
قال الأعشى:
أقول لما جاءني فحره = سبجان من علقمة الفاخر
فلم ينون.
وقال الآخر:
سبحانه ثم سبحانًا يعد له = وقبلنا سبح الجودي والجمد
فنون؛ كأنه قال: تسبيحًا.
[معاني القرآن لقطرب: 448]
ومثله: لله علي نذرًا واجبًا؛ كأنما لما قال: لله علي، فقد قال: نذرت نذرًا واجبًا؛ وكأن معنى {سبحان الله} براءة لله، كقولك {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} كأنه قال: تنزيهًا لله عز وجل وبراءة.
وأما قوله عز وجل {معذرة إلى ربكم} فالمعنى فيمن نصب على قوله: نعتذر معذرة؛ ومن رفع فعلى إضمار الخبر والابتداء، كأنه قال: موعظتنا معذرة؛ لقوله {لم تعظون}.
وأما قوله عز وجل {ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم} فنصب {خيرا لكم}؛ لأنه لما قال: {انتهوا} فقد نهاهم عن شيء، وأمرهم أن يدخلوا في غيره؛ فكأنه قال: انتهوا خيرًا لكم، والزموا خيرًا لكم، واحفظوا خيرًا لكم.
ومثل هذه الأشياء التي ذكرناها في انتصابها، قول الراجز وهو رؤبة:
إن نزارا أصبحت نزارا = دعوة أبرار دعوا أبرارا
كأنه قال: دعوا دعوة أبرار.
وكذلك قولك: الله أكبر دعوة الحق، ودعوة الحق؛ إذا نصب، فكأنه لما قال: الله أكبر قال: ادعوا دعوة الحق؛ لأن الله أكبر هي دعوة الحق؛ والرفع على الابتداء؛ كأنه قال: دعوتي دعوة الحق.
وشبيه به ما حكي عن بعضهم أنه قال: بسم الله - عند الذبح - حلالاً طيبًا؛ لما قال: بسم الله؛ صار كأنه قال: حلت، فذكر الفعل لأن الذبيحة إنما تحل بالتسمية، فحمله على المعنى كما ذكرنا في هذه الأبيات.
ومثل ذلك قول الشاعر:
دأبت إلى أن ينبت الظل بعد ما = تقاصر حتى كاد في الآل يمصح
وجيف المطايا ثم قلت لصحبتي = ولم ينزلوا أبردتم فتروحوا
[معاني القرآن لقطرب: 449]
لأنه لما قال: دأبت فقد قال: أوجفت في السير؛ لأن الدأب سير كالإيجاف؛ فصار كأنه قال: أوجفت.
وكذلك هذا البيت:
إذا تغنى الحمام الورق هيجني = ولو تعزيت عنها أم عمار
كأنه لما قال: هيجني قال: ذكرني؛ لأن التهييج تذكير؛ وكل ما ورد عليك في القرآن فعلى مثل هذا التمثيل.
وأما ما جاء مرفوعًا فمنه:
{وقولوا حطة نغفر لكم}؛ فكأنه قال: قولوا استغفارنا حطة، وطلبنا حطة لذنوبنا؛ ولو نصب كان جائزًا على إضمار الفعل؛ كأنه قال: حط عنا ذنوبنا حطة.
ومثل ذلك {ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بالغ} فيكون رفع البلاغ على شيئين:
أحدهما: لا تستعجل لهم بلاغ فيصير لهم خبرًا عن البلاغ، وإن فرق بينهما فذلك جائز؛ وسنذكره في موضعه إن شاء الله.
والوجه الآخر: كأنه قال هي بلاغ فأضمر ورفع على الابتداء؛ وهذا كثير في كلامهم وأشعارهم.
قال الشاعر:
اعتاد قلبك من ليلى عوائده = وهاج أهواءك المكتومة الطلل
ربع قواء أذاع المعصرات به = وكل حيران سار ماؤه خضل
كأنه قال: ذلك ربع قواء.
وأما قوله عز وجل {فأولى لهم طاعة وقول معروف} فيجوز على ثلاثة أشياء:
فوجه: أن يكون على {فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم} أنى لهم طاعة وقول معروف؛ فتكون الطاعة على شيئين: على السورة؛ وعلى أن تكون بدلاً من السورة؛ كأنه قال:
[معاني القرآن لقطرب: 450]
إذا أنزلت سورة قال: إذا أنزلت طاعة لله وقول معروف فيجعله بدلاً؛ ويكون على طاعة وقول معروف فيها أي في السورة، ومثل ذلك.
وإن جعلته على الابتداء فجائز؛ كأنه قال: أمرنا وطاعتنا طاعة وقول معروف.
وكذلك {واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور} فالمعنى {واشكروا} ثم قال: {له بلدة طيبة} فهذا أغلب وأحسن؛ وقد يجوز: اشكروا له، ثم تقول: بلدتكم بلدة طيبة، وربكم رب غفور، فيبتدئ ويضمر كما ذكرنا.
وأما قوله عز وجل {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم} فرفع، والنصب حسن إلا أنه لا يجوز لمخالفة الكتاب؛ فالرفع كأنه إذا قال: {وعد الله} فقد قال: قال الله؛ لأن وعد هاهنا معناها معنى قال؛ لأن الوعد من أهله قول، إذا قلت: أفعل شيئًا، فأنت قائل واعد، فالوعد قول: فكأنه قال: قال الله: لهم مغفرة وأجر عظيم، فحمل على المعنى.
ومثل ذلك قول الشاعر:
وجدنا الصالحين لهم جزاء = وجنات وعينا سلسبيلا
فرفع جزاء كما قال {مغفرة}؛ كأنه قال وجدناهم هكذا؛ وهذا في البيت حسن؛ لأن "وجدت" قد تكون ثمل: علمت، ولا يقتصر على مفعول واحد فيها، ووعد قد يقتصر فيها على مفعول واحد، تقول: وعدت زيدًا؛ فلذلك كان الرفع في البيت سهلاً.
وعلى هذا ما ورد عليك من القرآن من هذا، وإن كنا قد أتينا على أكثره إن شاء الله). [معاني القرآن لقطرب: 451]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({صبغة الله}: دين الله وإنما قيل صبغة الله لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد لهم المولود جعلوه في ماء لهم ويقولون: هذا تطهير له كالختانة فجرت الصبغة على الختانة). [غريب القرآن وتفسيره: 83]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({صبغة اللّه}, يقال: دين اللّه, أي:ألزم دين اللّه, ويقال: الصّبغة : الختان وقد بينت اشتقاق الحرف في كتاب «تأويل المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 64]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {صبغة اللّه ومن أحسن من اللّه صبغة ونحن له عابدون}
يجوز أن تكون {صبغة} منصوبة على قوله: {بل نتبع ملة إبراهيم}, أي: بل نتبع صبغة اللّه, ويجوز أن يكون نصبها على: بل نكون أهل صبغة الله, كما قلنا في ملة إبراهيم، ويجوز أن ترفع الصبغة على إضمار هي، كأنهم قالوا: هي صبغة اللّه , أي: هي ملة إبراهيم : صبغة الله.
وقيل: إنما ذكرت الصبغة ؛ لأنّ قوماً من النصارى؟, كانوا يصبغون أولادهم في ماء لهم، ويقولون هذا تطهير كما أن الختان تطهير لكم؛ فقيل لهم: {صبغة اللّه ومن أحسن من اللّه صبغة}, أي: التطهير الذي أمر به مبالغ في النظافة.
ويجوز أن يكون - واللّه أعلم - صبغة الله, أي: خلقة اللّه جلّ وعزّ الخلق، فيكون المعنى:. أن اللّه ابتدأ الخلق على الإسلام، ويكون دليل هذا القول قول الله عزّ وجلّ: {وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى}
وجاء في الحديث: أنهم أخرجهم كالذر، ودليل هذا التأويل أيضا قوله عزّ وجلّ: {فطرت اللّه الّتي فطر النّاس عليه}, ويجوز أن يكون منه الخبر: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه )), وصبغت الثوب ؛ إنما هو غيرت لونه, وخلقته). [معاني القرآن: 1/ 215-216]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والصبغة: الدين). [ياقوتة الصراط: 178]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({صِبْغَةَ اللّهِ}: دين الله). [العمدة في غريب القرآن: 84]