تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حتّى تتّبع ملّتهم قل إنّ هدى اللّه هو الهدى ولئن اتّبعت أهواءهم بعد الّذي جاءك من العلم ما لك من اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ (120) الّذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون (121)}
قال ابن جريرٍ: يعني بقوله جلّ ثناؤه: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حتّى تتّبع ملّتهم} وليست اليهود -يا محمّد -ولا النّصارى براضيةٍ عنك أبدًا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا اللّه في دعائهم إلى ما بعثك اللّه به من الحقّ.
وقوله تعالى: {قل إنّ هدى اللّه هو الهدى} أي: قل يا محمّد: إنّ هدى اللّه الذي بعثني به هو الهدى، يعني: هو الدّين المستقيم الصّحيح الكامل الشّامل.
قال قتادة في قوله: {قل إنّ هدى اللّه هو الهدى} قال: «خصومةٌ علّمها اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، يخاصمون بها أهل الضّلالة». قال قتادة: وبلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول: «لا تزال طائفةٌ من أمّتي يقتتلون على الحقّ ظاهرين، لا يضرّهم من خالفهم، حتّى يأتي أمر اللّه». قلت: هذا الحديث مخرّج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو.
{ولئن اتّبعت أهواءهم بعد الّذي جاءك من العلم ما لك من اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ} فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ للأمّة عن اتّباع طرائق اليهود والنّصارى، بعد ما علموا من القرآن والسّنّة، عياذًا باللّه من ذلك، فإنّ الخطاب مع الرّسول، والأمر لأمّته.
وقد استدلّ كثيرٌ من الفقهاء بقوله: {حتّى تتّبع ملّتهم} حيث أفرد الملّة على أنّ الكفر كلّه ملّةٌ واحدةٌ كقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6]، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفّار، وكلٌّ منهم يرث قرينه سواءٌ كان من أهل دينه أم لا؛ لأنّهم كلّهم ملّةٌ واحدةٌ، وهذا مذهب الشّافعيّ وأبي حنيفة وأحمد في روايةٍ عنه. وقال في الرّواية الأخرى كقول مالكٍ: «إنّه لا يتوارث أهل ملّتين شتّى» كما جاء في الحديث، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1/ 402-403]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {الّذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته} قال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: «هم اليهود والنّصارى». وهو قول عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جريرٍ.
وقال: سعيدٌ عن قتادة: «هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا إبراهيم بن موسى، وعبد اللّه بن عمران الأصبهانيّ، قالا حدّثنا يحيى بن يمانٍ، حدّثنا أسامة بن زيدٍ، عن أبيه، عن عمر بن الخطّاب {يتلونه حقّ تلاوته} قال: «إذا مرّ بذكر الجنّة سأل اللّه الجنّة، وإذا مرّ بذكر النّار تعوّذ باللّه من النّار».
وقال أبو العالية: قال ابن مسعودٍ: «والذي نفسي بيده، إنّ حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقرأه كما أنزله اللّه، ولا يحرّف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوّل منه شيئًا على غير تأويله».
وكذا رواه عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعودٍ.
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية، قال: «يحلّون حلاله ويحرّمون حرامه، ولا يحرّفونه عن مواضعه».
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن ابن مسعودٍ نحو ذلك.
وقال الحسن البصريّ: «يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، يكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا ابن أبي زائدة، أخبرنا داود بن أبي هندٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {يتلونه حقّ تلاوته} قال: «يتّبعونه حقّ اتّباعه، ثمّ قرأ: {والقمر إذا تلاها} [الشّمس: 2] يقول: اتّبعها». قال: وروي عن عكرمة، وعطاءٍ، ومجاهدٍ، وأبي رزينٍ، وإبراهيم النخعي نحو ذلك.
وقال سفيان الثّوريّ: حدّثنا زبيد، عن مرّة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، في قوله: {يتلونه حقّ تلاوته} قال: «يتّبعونه حقّ اتّباعه».
قال القرطبيّ: وروى نصر بن عيسى، عن مالكٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله: {يتلونه حقّ تلاوته} قال: «يتّبعونه حقّ اتّباعه»، ثمّ قال: في إسناده غير واحدٍ من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلّا أنّ معناه صحيحٌ. وقال أبو موسى الأشعريّ: «من يتّبع القرآن يهبط به على رياض الجنّة». وعن عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه: «هم الّذين إذا مرّوا بآية رحمةٍ سألوها من اللّه، وإذا مرّوا بآية عذابٍ استعاذوا منها»، قال: وقد روي هذا المعنى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه كان إذا مرّ بآية رحمةٍ سأل، وإذا مرّ بآية عذابٍ تعوّذ.
وقوله: {أولئك يؤمنون به} خبر عن {الّذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته} أي: من أقام كتابه من أهل الكتب المنزّلة على الأنبياء المتقدّمين حقّ إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمّد، كما قال تعالى: {ولو أنّهم أقاموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} الآية [المائدة: 66]. وقال: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيءٍ حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربّكم} [المائدة: 68]، أي: إذا أقمتموها حقّ الإقامة، وآمنتم بها حقّ الإيمان، وصدّقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم ونعته وصفته والأمر باتّباعه ونصره ومؤازرته، قادكم ذلك إلى الحقّ واتّباع الخير في الدّنيا والآخرة، كما قال تعالى: {الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل} الآية [الأعراف: 157] وقال تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إنّ الّذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّدًا* ويقولون سبحان ربّنا إن كان وعد ربّنا لمفعولا} [الإسراء: 107-108] أي: إن كان ما وعدنا به من شأن محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم لواقعًا. وقال تعالى: {الّذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون* وإذا يتلى عليهم قالوا آمنّا به إنّه الحقّ من ربّنا إنّا كنّا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السّيّئة وممّا رزقناهم ينفقون} [القصص: 52 -54]. وقال تعالى: {وقل للّذين أوتوا الكتاب والأمّيّين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ واللّه بصيرٌ بالعباد} [آل عمران: 20] ولهذا قال تعالى: {ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون} كما قال تعالى: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنّار موعده} [هودٍ: 17]. وفي الصّحيح: «والّذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمّة: يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثمّ لا يؤمن بي، إلّا دخل النّار»). [تفسير ابن كثير: 1/ 403-404]
تفسير قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم وأنّي فضّلتكم على العالمين (122) واتّقوا يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا ولا يقبل منها عدلٌ ولا تنفعها شفاعةٌ ولا هم ينصرون (123)}
قد تقدّم نظير هذه الآية في صدر السّورة، وكرّرت هاهنا للتّأكيد والحثّ على اتباع الرسول النبي الأمّيّ الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمّته. يحذّرهم من كتمان هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة اللّه عليهم، من النّعم الدّنيويّة والدّينيّة، ولا يحسدوا بني عمّهم من العرب على ما رزقهم اللّه من إرسال الرّسول الخاتم منهم. ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه، والحيدة عن موافقته، صلوات اللّه وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدّين). [تفسير ابن كثير: 1/ 404-405]