تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ومن أظلم ممّن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدّنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ (114)}
اختلف المفسّرون في المراد من الّذين منعوا مساجد اللّه وسعوا في خرابها على قولين:
أحدهما: ما رواه العوفيّ في تفسيره، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ومن أظلم ممّن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه} قال: «هم النّصارى». وقال مجاهدٌ: «هم النّصّارى، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون النّاس أن يصلّوا فيه».
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: «{وسعى في خرابها} هو بختنصّر وأصحابه، خرّب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النّصارى».
وقال سعيدٌ، عن قتادة: قال: «أولئك أعداء اللّه النّصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصّر البابليّ المجوسيّ على تخريب بيت المقدس».
وقال السّدّيّ: «كانوا ظاهروا بختنصّر على خراب بيت المقدس حتّى خرّبه، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وإنّما أعانه الرّوم على خرابه من أجل أنّ بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريّا». وروي نحوه عن الحسن البصريّ.
القول الثّاني: ما رواه ابن جريرٍ: حدّثني يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {ومن أظلم ممّن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها} قال: «هؤلاء المشركون الّذين حالوا بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكّة حتّى نحر هديه بذي طوى وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحدٌ يصد عن هذا البيت، وقد كان الرّجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصدّه. فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدرٍ وفينا باقٍ». وفي قوله: {وسعى في خرابها} قال: «إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحجّ والعمرة».
وقال ابن أبي حاتمٍ: ذكر عن سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ قريشًا منعوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الصّلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل اللّه: {ومن أظلم ممّن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه}».
ثمّ اختار ابن جريرٍ القول الأوّل، واحتجّ بأنّ قريشًا لم تسع في خراب الكعبة. وأمّا الرّوم فسعوا في تخريب بيت المقدس.
قلت: الذي يظهر -واللّه أعلم-القول الثّاني، كما قاله ابن زيدٍ، وروي عن ابن عبّاسٍ؛ لأنّ النّصارى إذا منعت اليهود الصّلاة في البيت المقدّس، كأنّ دينهم أقوم من دين اليهود، وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر اللّه من اليهود مقبولًا إذ ذاك؛ لأنّهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. وأيضًا فإنّه تعالى لمّا وجّه الذّمّ في حقّ اليهود والنّصارى، شرع في ذمّ المشركين الّذين أخرجوا الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه من مكّة، ومنعوهم من الصّلاة في المسجد الحرام، وأمّا اعتماده على أنّ قريشًا لم تسع في خراب الكعبة، فأيّ خرابٍ أعظم ممّا فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى: {وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} [الأنفال:34]، وقال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النّار هم خالدون* إنّما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة ولم يخش إلا اللّه فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التّوبة:17، 18]، وقال تعالى: {هم الّذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفًا أن يبلغ محلّه ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرّةٌ بغير علمٍ ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيّلوا لعذّبنا الّذين كفروا منهم عذابًا أليمًا} [الفتح: 25]، فقال تعالى: {إنّما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة ولم يخش إلا اللّه} [التّوبة: 18]، فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا عنها، فأيّ خرابٍ لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنّما عمارتها بذكر اللّه فيها وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك.
وقوله تعالى: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} هذا خبرٌ معناه الطّلب، أي لا تمكّنوا هؤلاء -إذا قدرتم عليهم-من دخولها إلّا تحت الهدنة والجزية. ولهذا لمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكّة أمر من العام القابل في سنة تسعٍ أن ينادى برحاب منًى: «ألّا لا يحجّن بعد العام مشركٌ، ولا يطوفنّ بالبيت عريان، ومن كان له أجلٌ فأجله إلى مدّته». وهذا كان تصديقًا وعملًا بقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} الآية [التّوبة: 28]، وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد اللّه إلّا خائفين على حال التّهيّب، وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلًا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى: ما كان الحقّ والواجب إلّا ذلك، لولا ظلم الكفرة وغيرهم.
وقيل: إنّ هذا بشارةٌ من اللّه للمسلمين أنّه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنّه يذلّ المشركين لهم حتّى لا يدخل المسجد الحرام أحدٌ منهم إلّا خائفًا، يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم. وقد أنجز اللّه هذا الوعد كما تقدّم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن تجلى اليهود والنّصارى منها، وللّه الحمد والمنّة. وما ذاك إلّا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة المباركة التي بعث اللّه فيها رسوله إلى النّاس كافّةً بشيرًا ونذيرًا صلوات اللّه وسلامه عليه. وهذا هو الخزي لهم في الدّنيا؛ لأنّ الجزاء من جنس العمل. فكما صدّوا المؤمنين عن المسجد الحرام، صدوا عنه، وكما أجلوهم من مكّة أجلوا منها {ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ} على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، والدّعاء إلى غير اللّه عنده والطّواف به عريًا، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها اللّه ورسوله.
وأمّا من فسّر بيت المقدس، فقال كعب الأحبار: إنّ النّصارى لمّا ظهروا على بيت المقدس خرّبوه فلمّا بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم أنزل عليه: {ومن أظلم ممّن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين} الآية، فليس في الأرض نصرانيٌّ يدخل بيت المقدس إلّا خائفًا.
وقال السّدّيّ: «فليس في الأرض روميٌّ يدخله اليوم إلّا وهو خائفٌ أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها». وقال قتادة: «لا يدخلون المساجد إلّا مسارقةً».
قلت: وهذا لا ينفي أن يكون داخلًا في معنى عموم الآية فإن النصارى ما ظلموا بيت المقدس، بامتهان الصّخرة التي كانت يصلّي إليها اليهود، عوقبوا شرعًا وقدرا بالذّلّة فيه، إلّا في أحيانٍ من الدّهر امتحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لمّا عصوا اللّه فيه أيضًا أعظم من عصيان النّصارى كانت عقوبتهم أعظم واللّه أعلم.
وفسّر هؤلاء الخزي من الدّنيا، بخروج المهديّ عند السّدّيّ، وعكرمة، ووائل بن داود. وفسّره قتادة بأداء الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
والصّحيح أنّ الخزي في الدّنيا أعمّ من ذلك كلّه، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد: حدّثنا الهيثم بن خارجة، حدّثنا محمّد بن أيّوب بن ميسرة بن حلبس سمعت أبي يحدّث، عن بسر بن أرطاة، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدعو: «اللّهمّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلّها، وأجرنا من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة». وهذا حديثٌ حسنٌ، وليس في شيءٍ من الكتب السّتّة، وليس لصحابيّه وهو بسر بن أرطاة -ويقال: ابن أبي أرطاة-حديثٌ سواه، وسوى حديث «لا تقطع الأيدي في الغزو» ). [تفسير ابن كثير: 1/ 387-390]
تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): ({وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه إنّ اللّه واسعٌ عليمٌ (115)}
وهذا -واللّه أعلم-فيه تسليةٌ للرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه الّذين أخرجوا من مكّة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم، وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه. فلمّا قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستّة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، ثمّ صرفه اللّه إلى الكعبة بعد، ولهذا يقول تعالى: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}
قال أبو عبيدٍ القاسم بن سلّامٍ، في كتاب النّاسخ والمنسوخ: أخبرنا حجّاج بن محمّدٍ، أخبرنا ابن جريجٍ وعثمان بن عطاءٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «أوّل ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا -واللّه أعلم-شأن القبلة: قال تعالى: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} فاستقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصلّى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثمّ صرفه إلى بيته العتيق ونسخها، فقال: {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره}».
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: «كان أول ما نسخ من القرآن القبلة. وذلك أنّ رسول صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا هاجر إلى المدينة -وكان أهلها اليهود-أمره اللّه أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود فاستقبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بضعة عشر شهرًا، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحبّ قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السّماء، فأنزل اللّه: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلةً ترضاها} إلى قوله: {فولّوا وجوهكم شطره} فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل اللّه: {قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ} وقال: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}».
وقال عكرمة عن ابن عبّاسٍ: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} قال: «قبلة اللّه أينما توجّهت شرقًا أو غربًا». وقال مجاهدٌ: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} قال: «قبلة اللّه حيثما كنتم فلكم قبلةٌ تستقبلونها: الكعبة».
وقال ابن أبي حاتمٍ بعد روايته الأثر المتقدّم، عن ابن عبّاسٍ، في نسخ القبلة، عن عطاءٍ، عنه: وروي عن أبي العالية، والحسن، وعطاءٍ الخراسانيّ، وعكرمة، وقتادة، والسّدّيّ، وزيد بن أسلم، نحو ذلك.
وقال ابن جريرٍ: وقال آخرون: بل أنزل اللّه هذه الآية قبل أن يفرض التّوجّه إلى الكعبة، وإنّما أنزلها تعالى ليعلم نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه أنّ لهم التّوجّه بوجوههم للصلاة، حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب؛ لأنّهم لا يوجّهون وجوههم وجهًا من ذلك وناحيةً إلّا كان جلّ ثناؤه في ذلك الوجه وتلك النّاحية؛ لأنّ له تعالى المشارق والمغارب، وأنّه لا يخلو منه مكانٌ، كما قال تعالى: {ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} [المجادلة: 7] قالوا: ثمّ نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجّه إلى المسجد الحرام.
هكذا قال، وفي قوله: "وإنّه تعالى لا يخلو منه مكانٌ": إن أراد علمه تعالى فصحيحٌ؛ فإنّ علمه تعالى محيطٌ بجميع المعلومات، وأمّا ذاته تعالى فلا تكون محصورةً في شيءٍ من خلقه، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
قال ابن جريرٍ: وقال آخرون: «بل نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذنًا من اللّه أن يصلّي التّطوّع حيث توجّه من شرقٍ أو غربٍ، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة وشدّة الخوف».
حدّثنا أبو كريب، حدّثنا ابن إدريس، حدّثنا عبد الملك -هو ابن أبي سليمان-عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عمر: «أنّه كان يصلّي حيث توجّهت به راحلته. ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأوّل هذه الآية: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}»
ورواه مسلمٌ والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن أبي حاتمٍ وابن مردويه، من طرقٍ، عن عبد الملك بن أبي سليمان، به. وأصله في الصّحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة، من غير ذكر الآية.
وفي صحيح البخاريّ من حديث نافعٍ، عن ابن عمر: «أنّه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها. ثمّ قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قيامًا على أقدامهم، وركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها». قال نافعٌ: «ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلّا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم».
مسألةٌ: ولم يفرّق الشّافعيّ في المشهور عنه، بين سفر المسافة وسفر العدوى، فالجميع عنه يجوز التّطوّع فيه على الرّاحلة، وهو قول أبي حنيفة خلافًا لمالكٍ وجماعته، واختار أبو يوسف وأبو سعيدٍ الإصطخريّ، التّطوّع على الدّابّة في المصر، وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه، واختاره أبو جعفرٍ الطّبريّ، حتّى للماشي أيضًا.
قال ابن جريرٍ: وقال آخرون: «بل نزلت هذه الآية في قومٍ عمّيت عليهم القبلة، فلم يعرفوا شطرها، فصلّوا على أنحاء مختلفةٍ، فقال اللّه لي المشارق والمغارب فأين ولّيتم وجوهكم فهنالك وجهي، وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أنّ صلاتكم ماضيةٌ».
حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، حدّثنا أبو الرّبيع السّمّان، عن عاصم بن عبيد اللّه، عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال: «كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ليلةٍ سوداء مظلمةٍ، فنزلنا منزلًا فجعل الرّجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدًا يصلّي فيه. فلمّا أن أصبحنا إذا نحن قد صلّينا على غير القبلة. فقلنا: يا رسول اللّه، لقد صلّينا ليلتنا هذه لغير القبلة؟ فأنزل اللّه تعالى: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه إنّ اللّه واسعٌ عليمٌ} الآية». ثمّ رواه عن سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن أبي الرّبيع السّمّان، بنحوه. ورواه التّرمذيّ، عن محمود بن غيلان، عن وكيع. وابن ماجه، عن يحيى بن حكيمٍ، عن أبي داود، عن أبي الرّبيع السّمّان. ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، عن سعيد بن سليمان، عن أبي الرّبيع السّمّان -واسمه أشعث بن سعيدٍ البصريّ-وهو ضعيف الحديث. وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ. ليس إسناده بذاك، ولا نعرفه إلّا من حديث أشعث السّمّان، وأشعث يضعّف في الحديث. قلت: وشيخه عاصمٌ أيضًا ضعيفٌ. قال البخاريّ: منكر الحديث. وقال ابن معينٍ: ضعيفٌ لا يحتجّ به. وقال ابن حبّان: متروكٌ، واللّه أعلم. وقد روي من طرقٍ أخرى، عن جابرٍ.
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية: حدّثنا إسماعيل بن عليّ بن إسماعيل، حدّثنا الحسن بن عليّ بن شبيبٍ، حدّثني أحمد بن عبيد اللّه بن الحسن، قال: وجدت في كتاب أبي: حدّثنا عبد الملك العرزميّ، عن عطاءٍ، عن جابرٍ، قال: «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سريّة كنت فيها، فأصابتنا ظلمةٌ فلم نعرف القبلة، فقالت طائفةٌ منّا: قد عرفنا القبلة، هي هاهنا قبل السّماك. فصلّوا وخطّوا خطوطًا، فلمّا أصبحوا وطلعت الشّمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة. فلمّا قفلنا من سفرنا سألنا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فسكت، وأنزل اللّه تعالى: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}». ثمّ رواه من حديث محمّد بن عبيد اللّه العرزمي، عن عطاءٍ، عن جابرٍ، به.
وقال الدّارقطنيّ: قرئ على عبد اللّه بن عبد العزيز -وأنا أسمع-حدّثكم داود بن عمرٍو، حدّثنا محمّد بن يزيد الواسطيّ، عن محمّد بن سالمٍ، عن عطاءٍ، عن جابرٍ، قال: «كنا مع رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في مسيرٍ فأصابنا غيمٌ، فتحيّرنا فاختلفنا في القبلة، فصلّى كلٌّ منّا على حدة، وجعل أحدنا يخطّ بين يديه لنعلم أمكنتنا، فذكرنا ذلك للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: «قد أجزّأت صلاتكم».
ثمّ قال الدّارقطنيّ: كذا قال: عن محمّد بن سالمٍ، وقال غيره: عن محمّد بن عبد اللّه العرزميّ، عن عطاءٍ، وهما ضعيفان.
ثمّ رواه ابن مردويه أيضًا من حديث الكلبيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث سريّة فأخذتهم ضبابةٌ، فلم يهتدوا إلى القبلة، فصلّوا لغير القبلة. ثمّ استبان لهم بعد طلوع الشّمس أنّهم صلوا لغير القبلة. فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثوه، فأنزل اللّه عزّ وجلّ، هذه الآية: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}» وهذه الأسانيد فيها ضعفٌ، ولعلّه يشدّ بعضها بعضًا. وأمّا إعادة الصّلاة لمن تبيّن له خطؤه ففيها قولان للعلماء، وهذه دلائل على عدم القضاء، واللّه أعلم.
قال ابن جريرٍ: وقال آخرون: «بل نزلت هذه الآية في سبب النّجاشيّ، كما حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا هشام بن معاذٍ حدّثني أبي، عن قتادة: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إن أخًا لكم قد مات فصلّوا عليه». قالوا: نصلّي على رجلٍ ليس بمسلمٍ؟ قال: فنزلت: {وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين للّه} [آل عمران: 199] قال قتادة: فقالوا: فإنّه كان لا يصلّي إلى القبلة. فأنزل اللّه: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}». وهذا غريبٌ واللّه أعلم.
وقد قيل: «إنّه كان يصلّي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه النّاسخ إلى الكعبة»، كما حكاه القرطبيّ عن قتادة، وذكر القرطبيّ أنّه لمّا مات صلّى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصّلاة على الغائب، قال:«وهذا خاصٌّ عند أصحابنا من ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنّه عليه السّلام، شاهده حين صلّى عليه طويت له الأرض. الثّاني: أنّه لمّا لم يكن عنده من يصلّي عليه صلّى عليه»، واختاره ابن العربيّ، قال القرطبيّ: «ويبعد أن يكون ملكٌ مسلمٌ ليس عنده أحدٌ من قومه على دينه»، وقد أجاب ابن العربيّ عن هذا لعلّهم لم يكن عندهم شرعيّة الصّلاة على الميّت. وهذا جوابٌ جيّدٌ. الثّالث: «أنّه عليه الصّلاة والسّلام إنّما صلّى عليه ليكون ذلك كالتّأليف لبقيّة الملوك، واللّه أعلم».
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشرٍ، عن محمّد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشّام وأهل العراق».
وله مناسبةٌ هاهنا، وقد أخرجه التّرمذيّ وابن ماجه من حديث أبي معشرٍ، واسمه نجيح بن عبد الرّحمن السّندي المدنيّ، به «ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ».
وقال التّرمذيّ: وقد روي من غير وجهٍ عن أبي هريرة. وتكلّم بعض أهل العلم في أبي معشرٍ من قبل حفظه، ثمّ قال التّرمذيّ: حدّثني الحسن بن أبي بكرٍ المروزيّ، حدّثنا المعلى بن منصورٍ، حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ المخزوميّ، عن عثمان بن محمّدٍ الأخنسيّ، عن سعيدٍ المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ». ثمّ قال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وحكى عن البخاريّ أنّه قال: هذا أقوى من حديث أبي معشرٍ وأصحّ.
قال التّرمذيّ: وقد روي عن غير واحدٍ من الصّحابة: «ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ» -منهم عمر بن الخطّاب، وعليٌّ، وابن عبّاسٍ.
وقال ابن عمر: «إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلةٌ، إذا استقبلت القبلة».
ثمّ قال ابن مردويه: حدّثنا عليّ بن أحمد بن عبد الرّحمن، حدّثنا يعقوب بن يونس مولى بني هاشمٍ، حدّثنا شعيب بن أيّوب، حدّثنا ابن نميرٍ، عن عبيد اللّه بن عمر، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم، قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ».
وقد رواه الدّارقطنيّ والبيهقيّ وقال المشهور: عن ابن عمر، عن عمر، قوله.
قال ابن جريرٍ: «ويحتمل: فأينما تولّوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم»، كما حدّثنا القاسم، حدّثنا الحسين، حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريج: قال مجاهدٌ: «لمّا نزلت: {ادعوني أستجب لكم} [غافرٍ: 60] قالوا: إلى أين؟ فنزلت: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}».
قال ابن جريرٍ: «ويعني قوله: {إنّ اللّه واسعٌ عليمٌ} يسع خلقه كلّهم بالكفاية، والإفضال والجود».
وأمّا قوله: {عليمٌ} فإنّه يعني: عليمٌ بأعمالهم، ما يغيب عنه منها شيءٌ، ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليمٌ). [تفسير ابن كثير: 1/ 390-396]
تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وقالوا اتّخذ اللّه ولدًا سبحانه بل له ما في السّماوات والأرض كلٌّ له قانتون (116) بديع السّماوات والأرض وإذا قضى أمرًا فإنّما يقول له كن فيكون (117)}
اشتملت هذه الآية الكريمة، والتي تليها على الرّدّ على النّصارى - عليهم لعائن اللّه-وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب، ممّن جعل الملائكة بنات اللّه، فأكذب اللّه جميعهم في دعواهم وقولهم: إنّ للّه ولدًا. فقال تعالى: {سبحانه} أي: تعالى وتقدّس وتنزّه عن ذلك علوًّا كبيرًا {بل له ما في السّماوات والأرض} أي: ليس الأمر كما افتروا، وإنّما له ملك السّماوات والأرض، وهو المتصرّف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم، ومقدّرهم ومسخّرهم، ومسيّرهم ومصرّفهم، كما يشاء، والجميع عبيدٌ له وملكٌ له، فكيف يكون له ولدٌ منهم، والولد إنّما يكون متولّدًا من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظيرٌ، ولا مشاركٌ في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولدٌ! كما قال تعالى: {بديع السّماوات والأرض أنّى يكون له ولدٌ ولم تكن له صاحبةٌ وخلق كلّ شيءٍ وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ} [الأنعام: 101] وقال تعالى: {وقالوا اتّخذ الرّحمن ولدًا* لقد جئتم شيئًا إدًّا* تكاد السّماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدًّا* أن دعوا للرّحمن ولدًا* وما ينبغي للرّحمن أن يتّخذ ولدًا* إن كلّ من في السّماوات والأرض إلا آتي الرّحمن عبدًا* لقد أحصاهم وعدّهم عدًّا* وكلّهم آتيه يوم القيامة فردًا} [مريم: 88 -95] وقال تعالى: {قل هو اللّه أحدٌ* اللّه الصّمد* لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفوًا أحدٌ} [سورة الإخلاص].
فقرّر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنّه السّيّد العظيم، الذي لا نظير له ولا شبيه له، وأنّ جميع الأشياء غيره مخلوقةٌ له مربوبةٌ، فكيف يكون له منها ولدٌ! ولهذا قال البخاريّ في تفسير هذه الآية من البقرة: أخبرنا أبو اليمان، أخبرنا شعيبٌ، عن عبد اللّه بن أبي حسين، حدّثنا نافع بن جبيرٍ -هو ابن مطعمٍ-عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «قال اللّه تعالى: [كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إيّاي فيزعم أنّي لا أقدر أن أعيده كما كان، وأمّا شتمه إيّاي فقوله: لي ولدٌ. فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا]». انفرد به البخاريّ من هذا الوجه.
وقال ابن مردويه: حدّثنا أحمد بن كاملٍ، حدّثنا محمّد بن إسماعيل التّرمذيّ، حدّثنا إسحاق بن محمّدٍ الفروي، حدّثنا مالكٌ، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يقول اللّه عزّ وجلّ: [كذّبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذّبني، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني، أمّا تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إيّاي فقوله: اتّخذ اللّه ولدًا. وأنا اللّه الأحد الصّمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحدٌ]».
وفي الصّحيحين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «لا أحد أصبر على أذًى سمعه من اللّه؛ إنّهم يجعلون له ولدًا، وهو يرزقهم ويعافيهم».
وقوله: {كلٌّ له قانتون} قال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أسباطٌ، عن مطرّفٍ، عن عطيّة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «{قانتين} مصلّين».
وقال عكرمة وأبو مالكٍ: «{كلٌّ له قانتون} مقرّون له بالعبوديّة». وقال سعيد بن جبيرٍ: {كلٌّ له قانتون} يقول: «الإخلاص». وقال الرّبيع بن أنسٍ: «يقول كلٌّ له قائمٌ يوم القيامة». وقال السّدّيّ: {كلٌّ له قانتون} يقول: «له مطيعون يوم القيامة». وقال خصيف، عن مجاهدٍ: {كلٌّ له قانتون} قال: «مطيعون، كن إنسانًا فكان»، وقال: «كن حمارًا فكان». وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: «{كلٌّ له قانتون} مطيعون»، يقول: «طاعة الكافر في سجود ظلّه وهو كارهٌ».
وهذا القول عن مجاهدٍ -وهو اختيار ابن جريرٍ-يجمع الأقوال كلّها، وهو أنّ القنوت: هو الطّاعة والاستكانة إلى اللّه، وذلك شرعيٌّ وقدري، كما قال تعالى: {وللّه يسجد من في السّماوات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدوّ والآصال} [الرّعد: 15].
وقد ورد حديثٌ فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به، كما قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، حدّثنا ابن وهبٍ، أخبرني عمرو بن الحارث: أنّ درّاجًا أبا السّمح حدّثه، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «كلّ حرفٍ من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطّاعة». وكذا رواه الإمام أحمد، عن حسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن درّاج بإسناده، مثله. ولكنّ هذا الإسناد ضعيفٌ لا يعتمد عليه. ورفع هذا الحديث منكرٌ، وقد يكون من كلام الصّحابيّ أو من دوّنه، واللّه أعلم. وكثيرًا ما يأتي بهذا الإسناد تفاسير فيها نكارة، فلا يغترّ بها، فإنّ السّند ضعيفٌ، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1/ 396-398]
تفسير قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {بديع السّماوات والأرض} أي: خالقهما على غير مثالٍ سبق، قال مجاهدٌ والسّدّيّ: «وهو مقتضى اللّغة، ومنه يقال للشّيء المحدث: بدعةٌ». كما جاء في الصّحيح لمسلمٍ: «فإنّ كلّ محدثةٍ بدعةٌ وكلّ بدعةٍ ضلالةٌ». والبدعة على قسمين: تارةً تكون بدعةً شرعيّةً، كقوله: فإنّ كلّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلّ بدعةٍ ضلالةٌ. وتارةً تكون بدعةً لغويّةً، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه عن جمعه إيّاهم على صلاة التّراويح واستمرارهم: «نعمت البدعة هذه».
وقال ابن جريرٍ: «و{بديع السّماوات والأرض}: مبدعهما. وإنّما هو مفعل فصرف إلى فعيل، كما صرف المؤلم إلى الأليم، والمسمع إلى السّميع. ومعنى المبدع: المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحدٌ».
قال: «ولذلك سمّي المبتدع في الدّين مبتدعًا؛ لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره، وكذلك كلّ محدثٍ فعلًا أو قولًا لم يتقدّمه فيه متقدّمٌ، فإنّ العرب تسمّيه مبتدعًا. ومن ذلك قول أعشى ثعلبة، في مدح هوذة بن عليٍّ الحنفي:
يرعى إلى قول سادات الرّجال إذا ....... أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا
أي: يحدث ما شاء.
قال ابن جريرٍ: «فمعنى الكلام: فسبحان اللّه أنّى يكون للّه ولدٌ، وهو مالكٌ ما في السّماوات والأرض، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانيّة، وتقرّ له بالطّاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصلٍ ولا مثالٍ احتذاها عليه. وهذا إعلامٌ من اللّه عباده أنّ ممّن يشهد له بذلك المسيح، الذي أضافوا إلى اللّه بنوّته، وإخبارٌ منه لهم أنّ الذي ابتدع السّماوات والأرض من غير أصلٍ وعلى غير مثالٍ، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والدٍ بقدرته». وهذا من ابن جريرٍ، رحمه اللّه، كلامٌ جيّدٌ وعبارةٌ صحيحةٌ.
وقوله تعالى: {وإذا قضى أمرًا فإنّما يقول له كن فيكون} يبيّن بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنّه إذا قدّر أمرًا وأراد كونه، فإنّما يقول له: كن. أي: مرّةً واحدةً، فيكون، أي: فيوجد على وفق ما أراد، كما قال تعالى: {إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] وقال تعالى: {إنّما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النّحل: 40] وقال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمحٍ بالبصر}[القمر: 50]، وقال الشّاعر:
إذا ما أراد اللّه أمرًا فإنّما ....... يقول له كن قولةً فيكون
ونبّه تعالى بذلك أيضًا على أنّ خلق عيسى بكلمة: كن، فكان كما أمره اللّه، قال اللّه تعالى: {إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] ). [تفسير ابن كثير: 1/ 398-399]
تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وقال الّذين لا يعلمون لولا يكلّمنا اللّه أو تأتينا آيةٌ كذلك قال الّذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بيّنّا الآيات لقومٍ يوقنون (118)}
قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «قال رافع بن حريملة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يا محمّد، إن كنت رسولًا من اللّه كما تقول، فقل للّه فليكلمنا حتّى نسمع كلامه. فأنزل اللّه في ذلك من قوله: {وقال الّذين لا يعلمون لولا يكلّمنا اللّه أو تأتينا آيةٌ}».
وقال مجاهدٌ في قوله: {وقال الّذين لا يعلمون لولا يكلّمنا اللّه أو تأتينا آيةٌ} قال: «النّصارى تقوله». وهو اختيار ابن جريرٍ، قال: «لأنّ السّياق فيهم». وفي ذلك نظرٌ.
وحكى القرطبيّ «{لولا يكلّمنا اللّه} أي: لو يخاطبنا بنبوّتك يا محمّد» ، قلت: وظاهر السّياق أعمّ، واللّه أعلم.
وقال أبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، والسّدّيّ في تفسير هذه الآية: «هذا قول كفّار العرب {كذلك قال الّذين من قبلهم مّثل قولهم} قالوا: هم اليهود والنّصارى». ويؤيّد هذا القول، وأنّ القائلين ذلك هم مشركو العرب، قوله تعالى: {وإذا جاءتهم آيةٌ قالوا لن نؤمن حتّى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه اللّه أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الّذين أجرموا صغارٌ عند اللّه وعذابٌ شديدٌ بما كانوا يمكرون} [الأنعام: 123].
وقوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتّى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا* أو تكون لك جنّةٌ من نخيلٍ وعنبٍ فتفجّر الأنهار خلالها تفجيرًا* أو تسقط السّماء كما زعمت علينا كسفًا أو تأتي باللّه والملائكة قبيلا* أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ أو ترقى في السّماء ولن نؤمن لرقيّك حتّى تنزل علينا كتابًا نقرؤه قل سبحان ربّي هل كنت إلا بشرًا رسولا} [الإسراء: 90-93]، وقوله تعالى: {وقال الّذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوًّا كبيرًا} [الفرقان: 21]، وقوله: {بل يريد كلّ امرئٍ منهم أن يؤتى صحفًا منشّرةً} [المدّثّر: 52] إلى غير ذلك من الآيات الدّالّة على كفر مشركي العرب وعتوّهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، إنّما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم، كما قال تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السّماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا اللّه جهرةً} [النّساء: 153] وقال تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً} [البقرة: 55].
وقوله: {تشابهت قلوبهم} أي: أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدّمهم في الكفر والعناد والعتوّ، كما قال تعالى: {كذلك ما أتى الّذين من قبلهم من رسولٍ إلا قالوا ساحرٌ أو مجنونٌ* أتواصوا به بل هم قومٌ طاغون} [الذّاريات: 52-53].
وقوله: {قد بيّنّا الآيات لقومٍ يوقنون} أي: قد وضّحنا الدّلالات على صدق الرّسل بما لا يحتاج معها إلى سؤالٍ آخر وزيادةٍ أخرى، لمن أيقن وصدّق واتّبع الرّسل، وفهم ما جاؤوا به عن اللّه تبارك وتعالى. وأمّا من ختم اللّه على قلبه وجعل على بصره غشاوةً فأولئك الّذين قال اللّه تعالى فيهم: {إنّ الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك لا يؤمنون* ولو جاءتهم كلّ آيةٍ حتّى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96- 97] ). [تفسير ابن كثير: 1/ 399-400]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( قوله تعالى: {إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم (119)}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد الرّحمن بن صالحٍ، حدّثنا عبد الرّحمن بن محمّد بن عبيد اللّه الفزاريّ عن شيبان النّحويّ، أخبرني قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «أنزلت عليّ: {إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرًا ونذيرًا} قال: «بشيرًا بالجنّة، ونذيرًا من النّار».
وقوله: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} قراءة أكثرهم ولا تسأل بضمّ التّاء على الخبر. وفي قراءة أبيّ بن كعبٍ: "وما تسأل" وفي قراءة ابن مسعودٍ: "ولن تسأل عن أصحاب الجحيم" نقلهما ابن جريرٍ، أي: لا نسألك عن كفر من كفر بك، {فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرّعد:40] وكقوله تعالى: {فذكّر إنّما أنت مذكّرٌ* لست عليهم بمصيطرٍ} الآية [الغاشية: 21-22] وكقوله تعالى: {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّارٍ فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد} [ق: 45] وأشباه ذلك من الآيات.
وقرأ آخرون "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" بفتح التّاء على النّهي، أي: لا تسأل عن حالهم، كما قال عبد الرّزّاق: أخبرنا الثّوريّ، عن موسى بن عبيدة، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ليت شعري ما فعل أبواي، ليت شعري ما فعل أبواي، ليت شعري ما فعل أبواي؟». فنزلت: {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} فما ذكرهما حتّى توفّاه اللّه، عزّ وجلّ.
ورواه ابن جريرٍ، عن أبي كريب، عن وكيع، عن موسى بن عبيدة، وقد تكلّموا فيه عن محمّد بن كعبٍ بمثله وقد حكاه القرطبيّ عن ابن عبّاسٍ ومحمّد بن كعبٍ قال القرطبيّ: وهذا كما يقال لا تسأل عن فلانٍ؛ أي: قد بلغ فوق ما تحسب، وقد ذكرنا في التّذكرة أنّ اللّه أحيا له أبويه حتّى آمنا، وأجبنا عن قوله: (إنّ أبي وأباك في النّار). (قلت): والحديث المرويّ في حياة أبويه عليه السّلام ليس في شيءٍ من الكتب السّتّة ولا غيرها، وإسناده ضعيفٌ واللّه أعلم.
ثمّ قال ابن جريرٍ وحدّثني القاسم، حدّثنا الحسين، حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريج، أخبرني داود بن أبي عاصمٍ: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال ذات يومٍ: «أين أبواي؟». فنزلت: {إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}. وهذا مرسلٌ كالذي قبله. وقد ردّ ابن جريرٍ هذا القول المرويّ عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ وغيره في ذلك، لاستحالة الشّكّ من الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم في أمر أبويه. واختار القراءة الأولى. وهذا الذي سلكه هاهنا فيه نظرٌ، لاحتمال أنّ هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما، فلمّا علم ذلك تبرّأ منهما، وأخبر عنهما أنّهما من أهل النّار كما ثبت ذلك في الصّحيح ولهذا أشباهٌ كثيرةٌ ونظائر، ولا يلزم ما ذكر ابن جريرٍ. واللّه أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا موسى بن داود، حدّثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن عليٍّ، عن عطاء بن يسارٍ، قال: «لقيت عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في التّوراة. فقال: أجل، واللّه إنّه لموصوفٌ في التّوراة بصفته في القرآن: يا أيّها النّبيّ إنّا أرسلناك شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا، وحرزًا للأمّيّين، وأنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكّل، لا فظٍّ ولا غليظٌ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسّيّئة السّيّئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه حتّى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلّا اللّه. فيفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا». انفرد بإخراجه البخاريّ، فرواه في البيوع عن محمّد بن سنانٍ، عن فليح، به. وقال: تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلالٍ. وقال سعيدٌ: عن هلالٍ، عن عطاءٍ، عن عبد اللّه بن سلامٍ. ورواه في التّفسير عن عبد اللّه، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلالٍ، عن عطاءٍ، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، به. فذكر نحوه، فعبد اللّه هذا هو ابن صالحٍ، كما صرّح به في كتاب الأدب. وزعم أبو مسعودٍ الدّمشقيّ أنّه عبد اللّه بن رجاءٍ.
وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من البقرة، عن أحمد بن الحسن بن أيّوب، عن محمّد بن أحمد بن البراء، عن المعافى بن سليمان، عن فليحٍ، به. وزاد: قال عطاءٌ: «ثمّ لقيت كعب الأحبار، فسألته فما اختلفا في حرفٍ، إلّا أنّ كعبًا قال بلغته: أعينًا عمومى، وآذانًا صمومى، وقلوبًا غلوفًا» ). [تفسير ابن كثير: 1/ 400-402]