العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة البقرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 05:38 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي تفسير سورة البقرة [من الآية (106) إلى الآية (110) ]

تفسير سورة البقرة
[من الآية (106) إلى الآية (110) ]


{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17 ربيع الثاني 1434هـ/27-02-2013م, 09:07 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي جمهرة تفاسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (باب الناسخ: وهذا كتاب الناسخ والمنسوخ
وأخبرني القاسم بن عبد اللّه بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخاطب عن زيد بن أسلم أنّه قال: «قال اللّه: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها}؛ وقال الله: {وإذا بدلنا آيةً}، {والله أعلم بما ينزل}، وقال: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}»؛فقال زيدٌ: «فأوّل ما نسخ من القرآن نسخت القبلة؛ كان محمّدٌ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يستقبل صخرة بيت المقدس، وهي قبلة اليهود، سبعة عشر شهرًا ليؤمنوا به، ويتبعونه وينصرونه من الأمّيّين من العرب؛ فقال اللّه: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه إن الله واسعٌ عليمٌ}؛ ثمّ قال: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام}».). [الجامع في علوم القرآن: 3 / 64 -65]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة والكلبي في قوله: {ما ننسخ من آية أو ننسها} قال: «كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه ما شاء وينسخ ما شاء».). [تفسير عبد الرزاق: 1 / 55]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (قال معمر وقال قتادة: «وأما قوله: {نأت بخير منها أو مثلها} يقول آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي».). [تفسير عبد الرزاق: 1 / 55]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا هشيم قال أخبرني يعلى بن عطاء قال حدثني القاسم بن قائف الثقفي قال: «سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: {ما ننسخ من آية أو تنساها}»، قال: «فقلت إن سعيد بن المسيب يقرؤها أو ننسها»، قال: فقال سعد: «إن القرآن لم ينزل على ابن المسيب ولا على آل المسيب قال الله: {سنقرئك فلا تنسى} قال: {واذكر ربك إذا نسيت}».). [تفسير عبد الرزاق: 1 / 55]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا يعلى بن عطاءٍ، عن القاسم بن ربيعة بن قانف الثّقفي، قال: «سمعت سعد بن أبي وقّاصٍ يقرأ: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننساها}»، فقلت له: «إنّ سعيد بن المسيّب يقرأ: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسيها}»، فقال: «إنّ القرآن لم ينزّل على المسيّب، ولا على آل المسيّب، قال اللّه تعالى: {سنقرئك فلا تنسى}، {واذكر ربّك إذا نسيت}».
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا مروان بن معاوية، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاءٍ، في قوله عزّ وجلّ: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسيها}، قال: «أو نؤخّرها».). [سنن سعيد بن منصور: 2 / 597 - 601]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): (باب قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها}
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا يحيى، حدّثنا سفيان، عن حبيبٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال عمر رضي اللّه عنه: « أقرؤنا أبيٌّ، وأقضانا عليٌّ، وإنّا لندع من قول أبيٍّ، وذاك أنّ أبيًّا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال اللّه تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها}».). [صحيح البخاري: 6 / 19]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله: باب قوله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها})
كذا لأبي ذرٍّ ننسها بضمّ أوّله وكسر السّين بغير همزٍ ولغيره ننسأها والأوّل قراءة الأكثر واختارها أبو عبيدة وعليه أكثر المفسّرين والثّانية قراءة بن كثيرٍ وأبي عمرٍو وطائفةٍ وسأذكر توجيههما وفيها قراءاتٌ أخرى في الشّواذّ
- قوله: (حدّثنا يحيى) هو القطّان و(سفيان) هو الثّوريّ، قوله: (عن حبيب) هو بن أبي ثابتٍ وورد منسوبًا في رواية صدقة بن الفضل عن يحيى القطّان في فضائل القرآن وفي رواية الإسماعيليّ من طريق بن خلّادٍ عن يحيى بن سعيدٍ عن سفيان حدّثنا حبيبٌ، قوله: (قال عمر: أقرؤنا أبيٌّ وأقضانا عليٌّ) كذا أخرجه موقوفًا وقد أخرجه التّرمذيّ وغيره من طريق أبي قلابة عن أنسٍ مرفوعًا في ذكر أبيٍّ وفيه ذكر جماعةٍ وأوّله أرحم أمّتي بأمّتي أبو بكرٍ وفيه وأقرؤهم لكتاب اللّه أبيّ بن كعبٍ الحديث وصحّحه لكن قال غيره إنّ الصّواب إرساله وأمّا قوله: (وأقضانا عليٌّ) فورد في حديثٍ مرفوعٍ أيضًا عن أنسٍ رفعه: «أقضى أمّتي عليّ بن أبي طالبٍ» أخرجه البغويّ وعن عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن قتادة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مرسلًا: «أرحم أمّتي بأمّتي أبو بكرٍ وأقضاهم عليٌّ» الحديث وروّيناه موصولًا في فوائد أبي بكرٍ محمّد بن العبّاس بن نجيحٍ من حديث أبي سعيدٍ الخدريّ مثله وروى البزّار من حديث بن مسعودٍ قال: «كنّا نتحدّث أنّ أقضى أهل المدينة عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه». قوله: (وإنّا لندع من قول أبيٍّ) في رواية صدقة من لحن أبيٍّ؛ واللّحن: اللّغة وفي رواية بن خلّادٍ وإنّا لنترك كثيرًا من قراءة أبيٍّ، قوله: (سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) في رواية صدقة أخذته من فيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا أتركه لشيءٍ لأنّه بسماعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحصل له العلم القطعيّ به فإذا أخبره غيره عنه بخلافه لم ينتهض معارضًا له حتّى يتّصل إلى درجة العلم القطعيّ وقد لا يحصل ذلك غالبًا.
تنبيهٌ هذا الإسناد فيه ثلاثةٌ من الصّحابة في نسق بن عبّاسٍ عن عمر عن أبيّ بن كعبٍ.
قوله: (وقد قال اللّه تعالى إلخ) هو مقول عمر محتجًّا به على أبيّ بن كعبٍ ومشيرًا إلى أنّه ربّما قرأ ما نسخت تلاوته لكونه لم يبلغه النّسخ واحتجّ عمر لجواز وقوع ذلك بهذه الآية وقد أخرج بن أبي حاتمٍ من وجهٍ آخر عن سعيد بن جبيرٍ عن بن عبّاسٍ قال: خطبنا عمر فقال: «إنّ اللّه يقول: (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسأها) أي نؤخّرها». وهذا يرجّح رواية من قرأ بفتح أوّله وبالهمز وأمّا قراءة من قرأ بضم أوّله فمن النّسيان وكذلك كان سعيد بن المسيّب يقرؤها فأنكر عليه سعد بن أبي وقّاصٍ أخرجه النّسائيّ وصحّحه الحاكم وكانت قراءة سعدٍ أو تنساها بفتح المثنّاة خطابًا للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم واستدلّ بقوله تعالى سنقرئك فلا تنسى وروى بن أبي حاتم من طريق عكرمة عن بن عبّاسٍ قال ربّما نزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الوحي باللّيل ونسيه بالنّهار فنزلت واستدلّ بالآية المذكورة على وقوع النّسخ خلافًا لمن شذّ فمنعه وتعقّب بأنّها قضيّةٌ شرطيّةٌ لا تستلزم الوقوع وأجيب بأنّ السّياق وسبب النّزول كان في ذلك لأنّها نزلت جوابًا لمن أنكر ذلك). [فتح الباري: 8 / 167 - 168]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ): ( (باب قوله تعالى: {ننسخ من آيةٍ أو ننساها}
أي: هذا باب قوله تعالى: {ما ننسخ} وقرئ: ما تنسخ، بتاء الخاب، (وما ننسخ)، بضم النّون الأولى وسكون الثّانية وكسر السّين، والنسخ في الآية إزالتها بإبدال أخرى مكانها. قوله: (أو ننساها) بفتح النّون الأولى من النسي وهو التّأخير لا إلى بدل، وقرئ ننسها، بضم النّون الأولى وكسر السّين: من الإنساء، وهو أن يذهب بحفظها من القلوب، وقرئ: وننسها، بضم النّون الأولى وفتح الثّانية وكسر السّين المشدّدة، وقرئ: وتنسها، بفتح التّاء للخطاب وسكون النّون، وقرئ: وتنسها، بضم التّاء على صيغة المجهول، وكانت اليهود طعنوا في النّسخ فقالوا: أفلا ترون إلى محمّد؟ يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا؟ فنزلت {ما ننسخ} الخ.
- حدّثنا عمرو بن عليّ حدّثنا يحيى حدثنا سفيان عن حبيبٍ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ قال: قال عمر رضي الله عنه: «أقرأنا أبيٌّ وأقضانا عليٌّ وإنّا لندع من قول أبيّ وذاك أنّ أبيًّا يقول لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننساها}».
مطابقته للآية ظاهرة. و(عمرو)، بفتح العين: ابن عليّ بن بحر أبو حفص البصريّ الصّيرفي وهو شيخ مسلم أيضا و(يحيى) هو ابن سعيد القطّان، و(سفيان) هو الثّوريّ، و(حبيب)، هو ابن أبي ثابت واسمه قيس بن دينار الكوفي.
وهذا حديث موقوف وأخرجه التّرمذيّ وغيره من طريق أبي قلابة عن أنس مرفوعا. وفيه ذكر جماعة، وأوله: «أرحم أمتي أبو بكر»، وفيه: «وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب». الحديث، وصححه التّرمذيّ وقال غيره: والصّواب إرساله.
قوله: (وأقضانا عليّ)، أي: أعلمنا بالقضاء عليّ بن أبي طالب، وقد روي هذا أيضا مرفوعا عن أنس ولفظه: «أقضى أمتي عليّ بن أبي طالب»، رواه البغويّ قوله: (وإنّا لندع من قول أبي)، أي: لنترك، وفي رواية صدقة: من لحن أبي، أي: من لغته، وفي رواية ابن خلاد وإنّا لنترك كثيرا من قراءة أبي، وذلك إشارة إلى قول عمرو: إنّا لندع. قوله: (أن أبيا يقول)، أي: أن أبيا يقول: (لا أدع شيئا) أي: لا أترك شيئا (سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان لا يقول أبي بنسخ شيء من القرآن، فرد عمر رضي الله عنه ذلك بقوله: وقد قال الله تعالى: {ما ننسخ من آية} فإنّه يدل على ثبوت النّسخ في البعض، وهذه الجملة، وإن كانت شرطيّة، إلاّ أنّها لا تدل على وقوع الشّرط، فالسياق هنا يدل عليه لأنّها نزلت بعد وقوعه وإنكارهم عليه، ويمنع عدم دلالتها في مثل هذا لأنّها ليست شرطيّة محضة). [عمدة القاري: 18 / 90 -91]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسأها}
(باب قوله) تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسأها}) بفتح نون ننسخ الأولى وسينها مضارع نسخ وضم ابن عامر النون وكسر السين مضارع أنسخ، ولأبي ذر {ننسها} بضم النون الأولى وسكون الثانية من غير همز وهي قراءة نافع وابن عامر والكوفيين من الترك والأولى من التأخير، وزاد أبو ذر {نأت بخير منها} وما مفعول مقدم لننسخ وهي شرطية جازمة له، والتقدير: أي شيء ننسخ، وقيل: شرطية جازمة لننسخ واقعة موقع المصدر، ومن آية هو المفعول به والتقدير: أي نسخ ننسخ آية ورد بأنه يلزم من هذا خلوّ جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط وهو لا يجوز ومن آية للتبعيض فهي متعلقة بمحذوف لأنها صفة لاسم الشرط، والنسخ: لغة الإزالة أو النقل من غير إزالة، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بتلاوتها أو الحكم المستفاد منها أو بهما جميعًا فمثال: نسخ قراءتها وإبقاء حكمها نحو: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما، والحكم فقط نحو: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184] والحكم والتلاوة نحو: عشر رضعات يحرمن. روى مسلم عن عائشة كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخت بخمس ويكون بلا بدل كالصدقة أمام نجواه عليه الصلاة والسلام ببدل مماثل كالقبلة، وأخف كعدّة الوفاة، وأثقل كنسخ التخيير بين صوم رمضان والفدية قال الله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية}.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا يحيى، حدّثنا سفيان عن حبيبٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: قال عمر -رضي الله عنه-: «أقرؤنا أبيٌّ، وأقضانا عليٌّ، وإنّا لندع من قول أبيٍّ وذاك أنّ أبيًّا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد قال اللّه تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسأها}». [الحديث 4481 - طرفه في: 5005].
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عمرو بن علي) بفتح العين وسكون الميم البصري الصيرفي قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن حبيب) هو ابن أبي ثابت واسمه قيس بن دينار الكوفي (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس) أنه (قال: قال عمر -رضي الله عنه-: أقرؤنا) أي لكتاب الله تعالى (أبيّ) هو ابن كعب (وأقضانا) أي أعلمنا بالقضاء (علي) هو ابن أبي طالب (وإنّا لندع) أي نترك (من قول أبي وذاك) بألف من غير لام (أن أبيًّا يقول لا أدع شيئًا سمعته) ولأبي ذر سمعت (من رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم) كان لا يقول بنسخ تلاوة شيء من القرآن لكونه لم يبلغه النسخ فردّ عليه عمر بقوله: (وقد قال الله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننأسها}) فإنه يدل على ثبوت النسخ في البعض ولأبي ذر: أو ننسها بضم أوّله وكسر ثالثه.
وهذا الحديث موقوف، وأخرجه الترمذي عن أنس مرفوعًا، وعند البغوي مرفوعًا أيضًا: أقضى أمتي علي بن أبي طالب). [إرشاد الساري: 7 / 12 - 13]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها}
- أخبرنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا يحيى، حدّثنا سفيان، عن حبيبٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال عمر: «أقرؤنا أبيٌّ، وأقضانا عليٌّ، وإنّا لندع من قول أبيٍّ، وذلك أنّه يقول: " لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال الله عزّ وجلّ: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسأها نأت بخيرٍ منها أو مثلها}».
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا النّضر، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن عطاءٍ، عن القاسم بن ربيعة، قال: قلت لسعد بن مالكٍ: «إنّ سعيد بن المسيّب يقرأ ما ننسخ من آيةٍ أو تنسها» قال: «إنّ القرآن لم يقرأه الله على المسيّب ولا على ابنه، وإنّه إنّما: ننسخ من آيةٍ أو ننساها يا محمّد قال: {واذكر ربّك إذا نسيت} [الكهف: 24]».). [السنن الكبرى للنسائي: 10 / 14]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ما ننسخ من آيةٍ} ما ننقل من حكم آيةٍ إلى غيره، فنبدّله ونغيّره. وذلك أن يحوّل الحلال حرامًا والحرام حلالاً، والمباح محظورًا والمحظور مباحًا، ولا يكون ذلك إلاّ في الأمر والنّهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأمّا الأخبار فلا يكون منها ناسخٌ ولا منسوخٌ.
وأصل النّسخ من نسخ أصل الكتاب وهو نقله من نسخةٍ إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنّما هو تحويله ونقل عباده عنه إلى غيره. فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية فسواءٌ - إذا نسخ حكمها فغيّر وبدّل فرضها ونقل العباد عن اللاّزم كان لهم بها - أأقرّ خطّها فترك، أو محي أثرها، فعفي ونسي، إذ هي حينئذٍ في كلتا حالتيها منسوخةٌ.
والحكم الحادث المبدل به الحكم الأوّل والمنقول إليه فرض العباد هو النّاسخ، يقال منه: نسخ اللّه حكم آية كذا وكذا ينسخه نسخًا، والنّسخة الاسم.
وبمثل الّذي قلنا في ذلك كان الحسن البصريّ يقول.
- حدّثنا سوّار بن عبد اللّه العنبريّ، قال: حدّثنا خالد بن الحارث، قال: حدّثنا عوفٌ، عن الحسن، أنّه قال: في قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها} قال: «أقرئ قرآنًا ثمّ نسيه فلا يكن شيئًا، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه».
اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله: {ما ننسخ}.
فقال بعضهم بما حدّثني به، موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن عمّارٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{ما ننسخ من آيةٍ} أمّا نسخها فقبضها».
وقال آخرون بما حدّثني به المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: قوله: {ما ننسخ من آيةٍ} يقول: «ما نبدّل من آيةٍ».
وقال آخرون بما حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن أصحاب عبد اللّه بن مسعودٍ، أنّهم قالوا: «{ما ننسخ من آيةٍ} نثبت خطّها ونبدّل حكمها».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «{ما ننسخ من آيةٍ} نثبت خطّها، ونبدّل حكمها، حدّثت به عن أصحاب ابن مسعودٍ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثني بكر بن شرود، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن أصحاب ابن مسعودٍ: «{ما ننسخ من آيةٍ} نثبت خطّها».). [جامع البيان: 2 / 388 - 390]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أو ننسها}.
اختلفت القراءة في قوله ذلك، فقرأها قرّاء أهل المدينة والكوفة: {أو ننسها} ولقراءة من قرأها كذلك وجهان من التّأويل.
أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمّد من آيةٍ فنغيّر حكمها أو ننسكها. وقد ذكر أنّها في مصحف عبد اللّه: ما ننسك من آيةٍ أو ننسخها نجيء بمثلها فذلك تأويل النّسيان. وبهذا التّأويل قال جماعةٌ من أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها} «كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الآية أو أكثر من ذلك ثمّ تنسى وترفع».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: في قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} قال: «كان اللّه تعالى ذكره ينسي نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما شاء وينسخ ما شاء».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان عبيد بن عميرٍ يقول: «{ننسها} نرفعها من عندكم».
- حدّثنا سوّار بن عبد اللّه، قال: حدّثنا خالد بن الحارث، قال: حدّثنا عوفٌ، عن الحسن، أنّه قال: في قوله: {أو ننسها} قال: «إنّ نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم أقرئ قرآنًا، ثمّ نسيه».
وكذلك كان سعد بن أبي وقّاصٍ يتأوّل الآية إلاّ أنّه كان يقرؤها: {أو تنسها} بمعنى الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، كأنّه عنى أو تنسها أنت يا محمّد.
ذكر الأخبار عن بذلك:
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا يعلى بن عطاءٍ، عن القاسم، قال: «سمعت سعد بن أبي وقّاصٍ، يقول: (ما ننسخ من آيةٍ أو تنسها)». قال: «قلت له: فإنّ سعيد بن المسيّب يقرؤها: أو تنسها». قال: «فقال سعدٌ: إنّ القرآن لم ينزل على المسيّب ولا على آل المسيّب، قال اللّه: {سنقرئك فلا تنسى} {واذكر ربّك إذا نسيت}».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا هشيمٌ، قال: حدّثنا يعلى بن عطاءٍ، قال: حدّثنا القاسم بن ربيعة بن قانفٍ الثّقفيّ، قال: سمعت ابن أبي وقّاصٍ، يذكر نحوه.
- حدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا ابن مهدى، وحدثنى المثنى، قال: حدّثنا آدم العسقلانيّ قالا جميعًا، عن شعبة، عن يعلى بن عطاءٍ، قال: سمعت القاسم بن ربيعة الثّقفيّ، يقول: «قلت لسعد بن أبي وقّاصٍ: إنّي سمعت ابن المسيّب، يقرأ: ما ننسخ من آيةٍ أو تنسها». فقال سعدٌ: «إنّ اللّه لم ينزل القرآن على المسيّب ولا على ابنه، إنّما هي: (ما ننسخ من آيةٍ أو تنسها) يا محمّد. ثمّ قرأ: {سنقرئك فلا تنسى} {واذكر ربّك إذا نسيت}».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: في قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} «يقول: ننسها: نرفعها؛ وكان اللّه تبارك وتعالى أنزل أمورًا من القرآن ثمّ رفعها».
والوجه الآخر منهما: أن يكون بمعنى التّرك، من قول اللّه جلّ ثناؤه: {نسوا اللّه فنسيهم} يعني به تركوا اللّه فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذٍ على هذا التّأويل: ما ننسخ من آيةٍ فنغيّر حكمها أو نتركها ولا نغير حكمها ولا نبدّل فرضها نأت بخيرٍ من الّتي نسخناها أو مثلها.
وعلى هذا التّأويل تأوّل ذلك جماعةٌ من أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: في قوله: {أو ننسها} يقول: «أو نتركها لا نبدّلها».
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: قوله: {أو ننسها} «نتركها لا ننسخها».
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن الضّحّاك: في قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} قال: «النّاسخ والمنسوخ».
- قال: وكان عبد الرّحمن بن زيدٍ يقول في ذلك ما حدّثني به، يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: في قوله: {ننسها} «نمحها».
وقرأ ذلك آخرون: (أو ننسأها) بفتح النّون وهمزةٍ بعد السّين بمعنى نؤخّرها، من قولك: نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأً ونساءً إذا أخّرته، وهو من قولهم: بعته بنساءٍ، يعني بتأخيرٍ. ومن ذلك قول طرفة بن العبد:

لعمرك إنّ الموت ما أنسأ الفتى ....... لكالطّول المرخى وثنياه باليد

يعني بقوله أنسأ: أخّر.
وممّن قرأ ذلك كذلك جماعةٌ من الصّحابة والتّابعين، وقرأه جماعةٌ من قرّاء المكيّين والبصريّين، وتأوّله كذلك جماعٌ من أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أبو كريبٍ، ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا عبد الملك، عن عطاءٍ: في قوله: (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسأها) قال: «نؤخّرها».
- حدّثنا محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، قال: سمعت ابن أبي نجيحٍ: يقول في قول اللّه: (أو ننسأها) قال: «نرجئها».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «(أو ننسأها) نرجئها ونؤخّرها».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا فضيلٌ، عن عطيّة: (أو ننسأها) قال: «نؤخّرها فلا ننسخها».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني عبد اللّه بن كثيرٍ، عن عبيدٍ الأزديّ، عن عبيد بن عميرٍ: «(أو ننسأها) إرجاؤها وتأخيرها».
- هكذا حدّثنا القاسم، عن عبد اللّه بن كثيرٍ، عن عبيدٍ الأزديّ وإنّما هو عن عليٍّ الأزديّ.
حدّثني أحمد بن يوسف، قال: حدّثنا القاسم بن سلاّمٍ، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عبد اللّه بن كثيرٍ، عن عليٍّ الأزديّ، عن عبيد بن عميرٍ، أنّه قرأها: (أو ننسأها).
قال: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدّل من آيةٍ أنزلناها إليك يا محمّد، فنبطل حكمها ونثبت خطّها، أو نؤخّرها فنرجئها ونقرّها فلا نغيّرها ولا نبطل حكمها؛ نأت بخيرٍ منها أو مثلها.
وقد قرأ بعضهم ذلك: (ما ننسخ من آيةٍ أو تنسها) وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ {أو ننسها} إلاّ أنّ معنى: {أو ننسأها}: أو ننسكها يا محمد نحن. من: أنساه الله ينسيه ومعنى من قرأ {أو تنسأها} أو تنسها أنت يا محمّد.
وقد قرأ بعضهم: (ما ننسخ من آيةٍ) بضمّ النّون وكسر السّين، بمعنى: ما ننسخك يا محمّد نحن من آيةٍ، من أنسختك فأنا أنسخك.
قال: وذلك خطأٌ من القراءة عندنا لخروجه عمّا جاءت به الحجّة من القراءة بالنّقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ تنسها (أو تنسها) لشذوذها وخروجها عن القراءة الّتي جاءت بها الحجّة من قرّاء الأمّة.
وأولى القراءات في قوله: {أو ننسها} بالصّواب من قرأ: {أو ننسها} بمعنى نتركها؛ لأنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبر نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه مهما بدّل حكمًا أو غيره أو لم يبدّله ولم يغيّره، فهو آتيه بخيرٍ منه أو بمثله. فالّذي هو أولى بالآية إذ كان ذلك معناها، أن يكون إذ قدم الخبر عمّا هو صانعٌ إذا هو غيّر وبدّل حكم آيةٍ أن يعقّب ذلك بالخبر عمّا هو صانعٌ، إذا هو لم يبدّل ذلك ولم يغيّر. فالخبر الّذي يجب أن يكون عقيب قوله: {ما ننسخ من آيةٍ} قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام النّاس. مع أنّ ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الّذي وصفت، فهو يشتمل على معنى الإنساء الّذي هو بمعنى التّرك، ومعنى النّسء الّذي هو بمعنى الترك ومعنى النّسء الّذي هو بمعنى التّأخير، إذ كان كلّ متروكٍ فمؤخّرٌ على حال ما هو متروكٌ.
وقد أنكر قومٌ قراءة من قرأ: أو تنسها إذا عني به النّسيان، وقالوا: غير جائزٍ أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نسي من القرآن شيئًا ممّا ننسخ إلاّ أن يكون نسي منه شيئًا ثمّ ذكره. قالوا: وبعد، فإنّه لو نسي منه شيئًا لم يكن الّذين قرءوه وحفظوه من أصحابه بجائزٍ على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول اللّه جلّ ثناؤه: {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك} ما ينبئ عن أنّ اللّه تعالى ذكره لم ينس نبيّه شيئًا آتاه من العلم.
قال أبو جعفرٍ: وهذا قولٌ يشهد على بطوله وفساده الأخبار المتظاهرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه بنحو الّذي.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: حدّثنا أنس بن مالكٍ: «أنّ أولئك السّبعين من الأنصار الّذين قتلوا ببئر معونة قرأنا بهم وفيهم كتابًا: بلّغوا عنّا قومنا أنّا لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضانا ثمّ إنّ ذلك رفع».
فالّذي ذكر عن أبي موسى الأشعريّ أنّهم كانوا يقرءون: «لو أنّ لابن آدم واديين من مالٍ لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التّراب، ويتوب اللّه على من تاب ثمّ رفع».
وما أشبه ذلك من الأخبار الّتي يطول بإحصائها الكتاب.
وغير مستحيلٍ في فطرة ذي عقلٍ صحيحٍ ولا بحجّةٍ خبرٍ أن ينسي اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذا كان ذلك غير مستحيلٍ من أحد هذين الوجهين، فغير جائزٍ لقائلٍ أن يقول ذلك غير جائزٍ.
وأمّا قوله: {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك} فإنّه جلّ ثناؤه لم يخبر أنّه لا يذهب بشيءٍ منه، وإنّما أخبر أنّه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد للّه؛ بل إنّما ذهب منه بما لا حاجة بهم إليه منه،
وذلك أنّ ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه، وقد قال اللّه تعالى ذكره: {سنقرئك فلا تنسى إلاّ ما شاء اللّه} فأخبر أنّه ينسي نبيّه منه ما شاء، فالّذي ذهب منه الّذي استثناه اللّه.
فأمّا نحن فإنّما اخترنا ما اخترنا من التّأويل طلب اتّساق الكلام على نظامٍ في المعنى، لا إنكارٌ أن يكون اللّه تعالى ذكره قد كان أنسى نبيّه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله). [جامع البيان: 2 / 390 - 399]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {نأت بخيرٍ منها أو مثلها}.
اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله: {نأت بخيرٍ منها أو مثلها}.
فقال بعضهم بما حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {نأت بخيرٍ منها أو مثلها} «يقول: خيرٌ لكم في المنفعة وأرفق بكم».
وقال آخرون بما حدّثني به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: في قوله: {نأت بخيرٍ منها أو مثلها} «يقول: آيةٌ فيها تخفيفٌ، فيها رخصةٌ، فيها أمرٌ، فيها نهيٌ».
وقال آخرون: نأت بخيرٍ من الّتي نسخناها، أو بخيرٍ من الّتي تركناها فلم ننسخها.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {نأت بخيرٍ منها} يقول: «نأت بخيرٍ من الّتي نسخناها أو مثلها أو مثل الّتي تركناها».
فالهاء والألف اللّتان في قوله: {منها} عائدتان على هذه المقالة على الآية في قوله: {ما ننسخ من آيةٍ} والهاء والألف اللّتان في قوله: {أو مثلها} عائدتان على الهاء والألف اللّتين في قوله: {أو ننسها}.
وقال آخرون بما حدّثني به المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: كان عبيد بن عميرٍ يقول: «{ننسها} نرفعها من عندكم، نأتى بمثلها أو خيرٍ منها».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: «{أو ننسها} نرفعها نأت بخيرٍ منها أو بمثلها».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا بكر بن شوذبٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، عن أصحاب ابن مسعودٍ، مثله.
والصّواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدّل من حكم آيةٍ فنغيّره أو نترك تبديله فنقرّه بحاله، نأت بخيرٍ منها لكم من حكم الآية الّتي نسخنا فغيّرنا حكمها، إمّا في العاجل لخفّته عليكم، من أجل أنّه وضع فرضٍ كان عليكم فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالّذي كان على المؤمنين من فرض قيام اللّيل، ثمّ نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان خيرًا لهم في عاجلهم لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم؛ وإمّا في الآجل لعظم ثوابه من أجل مشقّة حمله وثقل عبئه على الأبدان، كالّذي كان عليهم من صيام أيّامٍ معدوداتٍ في السّنة، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهرٍ كاملٍ في كلّ حولٍ، فكان فرض صوم شهرٍ كاملٍ كلّ سنةٍ أثقل على الأبدان من صيام أيّامٍ معدوداتٍ. غير أنّ ذلك وإن كان كذلك، فالثّواب عليه أجزل والأجر عليه أكثر، لفضل مشقّته على مكلّفيه من صوم أيّامٍ معدوداتٍ، بذلك وإن كان على الأبدان أشقّ فهو خيرٌ من الأوّل في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره الّذي لم يكن مثله لصوم الأيّام المعدودات. فذلك معنى قوله: {نأت بخيرٍ منها} لأنّه إمّا بخيرٍ منها في العاجل لخفّته على من كلّفه، أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره. أو يكون مثلها في المشقّة على البدن واستواء الأجر والثّواب عليه، نظير نسخ اللّه تعالى ذكره فرض الصّلاة شطر بيت المقدس إلى فرضها شطر المسجد الحرام. فالتّوجّه شطر بيت المقدس، وإن خالف التّوجّه شطر المسجد الحرام، فكلفة مؤنة التّوجّه شطر أيّهما توجّه شطره المتوجه واحدةٌ؛ لأنّ الّذي على المتوجّه شطر البيت المقدس من مؤنة توجّهه شطره، نظير الّذي على بدنه من مؤنة توجّهه شطر الكعبة سواءٌ. فذلك هو معنى المثل الّذي قال جلّ ثناؤه: {أو مثلها}.
وإنّما عنى جلّ ثناؤه بقوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} ما ننسخ من حكم آيةٍ أو ننسه. غير أنّ المخاطبين بالآية لمّا كان مفهومًا عندهم معناها اكتفي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها. وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا، كقوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل} بمعنى حبّ العجل ونحو ذلك.
فتأويل الآية إذًا: ما نغيّر من حكم آيةٍ فنبدّله أو نتركه فلا نبدّله، نأت بخيرٍ لكم منه أيّها المؤمنون حكمًا منها، أو مثل حكمها في الخفّة والثّقل والأجر والثّواب.
فإن قال قائلٌ: فإنّا قد علمنا أنّ العجل لا يشرب القلوب وأنّه لا يلتبس على من سمع قوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل} أنّ معناه: وأشربوا في قلوبهم حبّ العجل، فما الّذي يدلّ على أنّ قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها} لذلك نظيرٌ؟
قيل: الّذي دلّ على أنّ ذلك كذلك قوله: {نأت بخيرٍ منها أو مثلها} وغير جائزٍ أن يكون من القرآن شيء خيرٌ من شيءٍ؛ لأنّ جميعه كلام اللّه، ولا يجوز في صفات اللّه تعالى ذكره أن يقال بعضها أفضل من بعضٍ أو بعضها خيرٌ من بعضٍ). [جامع البيان: 2 / 399 - 403]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (106)}
قوله: {ما ننسخ من آية}
[الوجه الأول]
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح ثنا عبد الوهّاب بن عطاءٍ عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ: «ما ننسخ من آيةٍ أي نمحو من آيةٍ».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ ثنا أبو عبد الرّحمن الحارثيّ عن قرّة بن خالدٍ عن الضّحّاك، قال:«ما ننسخ: ما ننسك».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 199]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {من آيةٍ}
[الوجه الأول]
- حدّثنا الحجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قوله: «ما ننسخ من آيةٍ نثبّت خطّها ونبدّل حكمها». حدّثنيه عن أصحاب عبد اللّه بن مسعودٍ. وروي عن أبي العالية، ومحمّد بن كعبٍ القرظيّ نحو ذلك.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح ثنا حجّاجٌ عن ابن جريجٍ عن عطاءٍ:«{ما ننسخ من آية} أما ما نسخ فيما ترك من القرآن». قال أبو محمّدٍ: يعني ترك لم ينزّل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلم.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبو زرعة ثنا عمرو بن حمّاد بن طلحة ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: «{ما ننسخ من آيةٍ}. نسخها: قبضها».- قال أبو محمّدٍ: يعني قبضها. رفعها مثل: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتّة، وقوله- لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى إليهما ثالثًا). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 199 - 200]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {أو ننسها}
اختلف في تفسيرها على أوجه:
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي ثنا ابن نفيلٍ محمّد بن الزّبير الحرّانيّ عن الحجّاج الجزريّ عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ قال: «كان ممّا ينزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم- الوحي باللّيل وينساه بالنّهار، فأنزل اللّه: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها}».
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح ثنا شبابة وعبد الوهّاب بن عطاءٍ والسّياق لشبابة أنبأ شعبة عن يعلى بن عطاءٍ قال: سمعت القاسم بن ربيعة- يعني- ابن عبد اللّه بن ربيعة بن قانفٍ قال: قلت لسعد بن مالكٍ: «سمعت سعيد بن المسيّب يقول: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخير منها}». فقال سعدٌ: «إنّ اللّه لم ينزل القرآن على سعيدٍ ولا على أبيه فقرأ سعدٌ ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها».
- وفي حديث عبد الوهّاب: «أو تنساها أي أنت يا محمّد ثمّ قرأ: {سنقرئك فلا تنسى}».
وفي حديث شبابة زيادةٌ: «ثمّ قرأ واذكر ربك إذا نسيت». وروى محمّد بن كعبٍ، وقتادة، وعكرمة نحو قول سعيد.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي ثنا ابن نفيلٍ ثنا هشيمٌ عن جويبرٍ عن الضّحّاك في قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} قال: «النّاسخ من المنسوخ».
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح ثنا عبد الوهّاب بن عطاءٍ عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ: (أو ننساها) قال: «نثبت خطّها، ونبدّل حكمها». وروي عن أصحاب ابن مسعودٍ نحو ذلك.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا عبيد اللّه بن إسماعيل البغداديّ ثنا خلفٌ ثنا الخفّاف عن إسماعيل البغداديّ ثنا خلفٌ ثنا الخفّاف عن إسماعيل بن مسلمٍ عن حبيب بن أبي ثابتٍ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ، قال: خطبنا عمر، فقال: «يقول اللّه: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} أي نؤخّرها».
وروي عن أبي العالية: «نؤخّرها عندنا».
وعن عطاء: «نؤخرها».
الوجه الرّابع:
- حدّثنا عصام بن روّادٍ العسقلانيّ ثنا آدم عن ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن عبيد بن عميرٍ في قول اللّه: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} «يقول: أو نتركها نرفعها من عندكم فنأت بمثلها، أو بخيرٍ منها ومثلها». وروي عن الرّبيع بن أنسٍ والسّدّيّ نحو ذلك.
والوجه الخامس:
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} «يقول: ما نبدّل من آيةٍ أو نتركها لا نبدّلها».
- حدّثنا أبو زرعة ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: «أو ننساها فنتركها لا ننسخها».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 200 - 201]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {نأت بخيرٍ منها أو مثلها}
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ حدّثني معاوية بن صالح عن علي ابن عبّاسٍ قوله: «{نأت بخيرٍ منها أو مثلها} يقول خيرٌ لكم في المنفعة وأرفق بكم».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم عن أبي جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع عن أبي العالية: «{ما ننسخ من آيةٍ} أي فلا يعمل بها، {أو ننسها} أي نرجيها عندنا نأت بها أو بغيرها».
- حدّثنا أبو زرعة ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباط عن السّدّيّ: «{نأت بخيرٍ منها أو مثلها} يقول: نأت بخير من التي نسخناها، أو مثل الّذي تركناه».
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع أنبأ عبد الرّزّاق أنبأ معمرٌ عن قتادة قوله: «{نأت بخيرٍ منها أو مثلها} فيقول: آيةٌ فيها تخفيفٌ، فيها رخصةٌ، فيها أمرٌ، فيها نهيٌ».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 201 - 202]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق قوله: «{على كلّ شيءٍ قديرٌ} أي لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 202]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن عبيد بن عمير الليثي في قوله: {ما ننسخ من آية أو ننسها} «يقول أو نتركها نرفعها من عندكم فنأتي بمثلها أو بخير منها».). [تفسير مجاهد: 84]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن أصحاب ابن مسعود في قوله: {ما ننسخ من آية} «أي نثبت خطها ونبدل حكمها أي نرجئها عندنا نأت بها أو بغيرها».). [تفسير مجاهد: 85]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ}
- «عن عمر قال: قرأ رجلان من الأنصار سورةً أقرأهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكانا يقرآن بها، فقاما يقرآن ذات ليلةٍ يصلّيان فلم يقدرا منها على حرفٍ، فأصبحا غاديين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرا ذلك له، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّها ممّا نسخ - أو نسّي - فالهوا عنها».
فكان الزّهريّ يقرؤها: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها}. بضمّ النّون خفيفةً.
رواه الطّبرانيّ، وفيه سليمان بن أرقم، وهو متروكٌ). [مجمع الزوائد: 6 / 315]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير}.
- أخرج ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى، وابن عدي، وابن عساكر عن ابن عباس قال: «كان مما ينزل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار فأنزل الله {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}».
- وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يقرآن بها فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنها مما نسخ أو نسي فالهوا عنه». فكان الزهري يقرؤها {ما ننسخ من آية أو ننسها} بضم النون خفيفة.
- وأخرج البخاري والنسائي، وابن الأنباري في المصاحف والحاكم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال عمر:«أقرؤنا أبي وأقضانا علي وإنا لندع شيئا من قراءة أبي وذلك أن أبيا يقول: لا ادع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله (ما ننسخ من آية أو ننساها)».
- وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأبو داود في ناسخه، وابن في المصاحف والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه عن سعد بن أبي وقاص أنه قرأ (ما ننسخ من آية أو ننساها) فقيل له: إن سعيد بن المسيب يقرأ {ننسها} قال سعد:«إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا آل المسيب قال الله {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى الآية 6]، {واذكر ربك إذا نسيت} [الكهف الآية 24]».
- وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن ابي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: «(ما ننسخ من آية أو ننساها) يقول: ما نبدا من آية أو نتركها لا نبدلها {نأت بخير منها أو مثلها} يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم».
- وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: خطبنا عمر فقال: «يقول الله تعالى (ماننسخ من آية أو ننساها) أي نؤخرها».
- وأخرج ابن الأنباري عن مجاهد أنه قرأ (أو ننساها)
- وأخرج أبو داود في ناسخه عن مجاهد قال: «في قراءة أبي ((ماننسخ من آية أو ننسك))».
- وأخرج آدم بن إياس ولأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد عن أصحاب ابن مسعود في قوله {ما ننسخ من آية} قال: «نثبت خطها ونبدل حكمها». (أو ننساها) قال: «نؤخرها عندنا».
- وأخرج آدم، وابن جرير والبيهقي عن عبيد بن عمير الليثي في قوله: «{ما ننسخ من آية أو ننسها} يقول: أو نتركها نرفعها من عندهم».
- وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن الضحاك قال: «في قراءة ابن مسعود ((ما ننسك من آية أو ننسخها))».
- وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه، وابن جرير عن قتادة قال: «كانت الآية تنسخ الآية وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة وما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه فقال الله يقص على نبيه {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} يقول: فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي».
- وأخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس قال: «{ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}». ثم قال: «{وإذا بدلنا آية مكان آية} [النحل الآية 101]». وقال: «{يمحو الله ما يشاء ويثبت} [الرعد الآية 39]».
- وأخرج أبو داود، وابن جرير عن أبي العالية قال: «يقولون (ماننسخ من آية أو ننساها) كان الله أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها، فقال {نأت بخير منها أو مثلها}».
- وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله {أو ننسها} قال: «إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرى ء قرآنا ثم أنسيه فلم يكن شيئا ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه».
- وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف وأبو ذر الهروي في فضائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: أن رجلا كانت معه سورة فقام من الليل فقام بها فلم يقدر عليها وقام آخر بها فلم يقدر عليها وقام آخر بها فلم يقدر عليها فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا عنده فأخبروه فقال: «إنها نسخت البارحة».
- وأخرج أبو داود في ناسخه والبيهقي في الدلائل من وجه آخر عن أبي أمامة: أن رهطا من الأنصار من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخبروه أن رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها فلم يقدر منها على شيء إلا بسم الله الرحمن الرحيم ووقع ذلك لناس من أصحابه فأصبحوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السورة فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا ثم قال: «نسخت البارحة». فنسخت من صدورهم ومن كل شيء كانت فيه.
- وأخرج ابن سعد وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود في ناسخه، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حبان والبيهقي في الدلائل عن أنس قال: «أنزل الله في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنا قرأناه حتى نسخ بعد أن بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا».
- وأخرج مسلم، وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن أبي موسى الأشعري قال: «كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لأبتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب، وكنا نقرأ سورة نشبهها
بإحدى المسبحات أولها سبح لله ما في السموات فأنسيناها غير أني حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة».
- وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن الضريس عن أبي موسى الأشعري قال: «نزلت سورة شديدة نحو براءة في الشدة ثم رفعت وحفظت منها: إن الله سيؤيد الدين بأقوام لا خلاق لهم».
- وأخرج ابن الضريس: «ليؤيدن الله هذا الدين برجال ما لهم في الآخرة من خلاق ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب إلا من تاب فيتوب الله عليه والله غفور رحيم».
- وأخرج أبو عبيد وأحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي واقد الليثي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه أتيناه فعلمنا ما أوحي إليه قال: فجئته ذات يوم فقال: «إن الله يقول: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو أن لابن آدم واديا لأحب أن يكون إليه الثاني ولو كان له الثاني لأحب أن يكون إليهما ثالثهما ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب».
- وأخرج أبو داود وأحمد وأبو يعلى والطبراني عن زيد بن أرقم قال: «كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لأبتغى الثالث ولا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب».
- وأخرج أبو عبيد وأحمد، عن جابر بن عبد الله قال: «كنا نقرأ: لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب إليه مثله ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب».
- وأخرج أبو عبيد والبخاري ومسلم عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب أن له إليه مثله ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب»، قال ابن عباس: فلا أدري أمن القرآن هو أم لا.
- وأخرج البزار، وابن الضريس عن بريدة سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة: «لو أن لابن آدم واديا من ذهب لأبتغى إليه ثانيا ولو أعطي ثانيا لأبتغى ثالثا لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب».
- وأخرج ابن الأنباري عن أبي ذر قال: «في قراءة أبي بن كعب: ابن آدم لو أعطي واديا من مال لأبتغى ثانيا ولألتمس ثالثا ولو أعطي واديين من مال لألتمس ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب».
- وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: «كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم وإن كفر بكم أن ترغيوا عن آبائكم».
- وأخرج عبد الرزاق وأحمد، وابن حبان عن عمر بن الخطاب قال: «إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل معه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فرجم ورجمنا بعده». ثم قال: «قد كنا نقرأ: ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم».
- وأخرج الطيالسي وأبو عبيد والطبراني عن عمر بن الخطاب قال: «كنا نقرأ فيما نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم». ثم قال لزيد بن ثابت: «أكذلك يا زيد». قال: «نعم».
- وأخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق عدي بن عدي بن عمير بن قزوة عن أبيه عن جده عمير بن قزوة، أن عمر بن الخطاب قال لأبي: «أوليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله: إن انتفاءكم من آبائكم كفر بكم». فقال: «بلى»، ثم قال: «أوليس كنا نقرأ: الولد للفراش وللعاهر الحجر، فيما فقدنا من كتاب الله».فقال أبي: «بلى».
- وأخرج أبو عبيد، وابن الضريس، وابن الأنباري عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: «ألم تجد فيما أنزل علينا: إن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة، فإنا لا نجدها». قال: «أسقطت من القرآن».
- وأخرج أبو عبيد، وابن الضريس، وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عمر قال: «لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله ما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل: قد أخذت ما ظهر منه».
- وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن الأنباري والبيهقي في الدلائل عن عبيدة السلماني قال: «القراءة التي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه هذه القراءة التي يقرؤها الناس التي جمع عثمان الناس عليها».
- وأخرج ابن الأنباري، وابن اشتة في المصاحف عن ابن سيرين قال: «كان جبريل يعارض النّبيّ صلى الله عليه وسلم كل سنة في شهر رمضان فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين فيرون أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة».
- وأخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان قال: قال لنا ابن عباس: «أي القراءتين تعدون أول». قلنا: «قراءة عبد الله وقراءتنا هي الأخيرة»، فقال: «رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان وأنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين فشهد منه عبد الله ما نسخ وما بدل».
- وأخرج ابن الأنباري عن مجاهد قال: قال لنا ابن عباس: «أي القراءتين تعدون أول». قلنا: «قراءة عبد الله وقراءتنا هي الأخيرة»، فقال: «رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان وأنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين فقراءة عبد الله آخرهن».
- وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود قال: «كان جبريل يعارض النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل سنة مرة وأنه عارضه بالقرآن في آخر سنة مرتين فأخذته من النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك العام».
- وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود قال: «لو أعلم أحدا أحدث بالعرضة الأخيرة مني لرحلت إليه».
- وأخرج الحاكم وصححه عن سمرة قال: «عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عرضات فيقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة».
- وأخرج أبو جعفر النحاس في ناسخه عن أبي البختري قال: دخل علي بن أبي طالب المسجد فإذا رجل يخوف فقال: «ما هذا؟» فقالوا: رجل يذكر الناس، فقال: «ليس برجل يذكر الناس ولكنه يقول أنا فلان بن فلان فاعرفوني»، فأرسل إليه فقال: «أتعرف الناسخ من المنسوخ». فقال: لا، قال: «فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه».
- وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ والمنسوخ والبيهقي في "سننه" عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: مر علي بن أبي طالب برجل يقص فقال: «أعرفت الناسخ والمنسوخ؟» قال: لا، قال: «هلكت وأهلكت».
- وأخرج النحاس والطبراني عن الضحاك بن مزاحم قال: مر ابن عباس بقاص يقص فركله برجله وقال: «أتدري الناسخ والمنسوخ؟» قال: لا، قال: «هلكت وأهلكت».
- وأخرج الدارمي في مسنده والنحاس عن حذيفة قال: «إنما يفتي الناس أحد ثلاثة رجل يعلم ناسخ القرآن من منسوخه وذلك عمر ورجل قاض لا يجد من القضاء بدا ورجل أحمق متكلف فلست بالرجلين الماضيين فأكره أن أكون الثالث».). [الدر المنثور: 1 / 542 - 553]

تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} ألم تعلم يا محمّد أنّي قادرٌ على تعويضك ممّا نسخت من أحكامي وغيّرته من فرائضي الّتي كنت افترضتها عليك ما أشاء ممّا هو خيرٌ لك ولعبادي المؤمنين معك وأنفع لك ولهم، إمّا عاجلاً في الدّنيا وإمّا آجلاً في الآخرة. أو بأن أبدّل لك ولهم مكانه مثله في النّفع لهم عاجلاً في الدّنيا وآجلاً في الآخرة وشبيهه في الخفّة عليك وعليهم. فأعلم يا محمّد أنّي على ذلك وعلى كلّ شيءٍ قديرٌ.
ومعنى قوله: {قديرٌ} في هذا الموضع: قوي، يقال منه: قد قدرت على كذا وكذا. إذا قويت عليه أقدر عليه وأقدر عليه قدرةً وقدرانًا ومقدرةً. وبنو مرّة من غطفان تقول خاصه: قدرت عليه بكسر الدّال.
فأمّا من التّقدير من قول القائل: قدرت الشّيء فإنّه يقال منه: قدرته أقدره قدرًا وقدرًا). [جامع البيان: 2 / 403]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّموات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ}.
قال أبو جعفرٍ: إن قال لنا قائلٌ: أو لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ وأنّه له ملك السّموات والأرض حتّى قيل له ذلك؟
قيل: بلى، فقد كان بعضهم يقول: إنّما ذلك من اللّه جلّ ثناؤه خبرٌ عن أنّ محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم قد علم ذلك؛ ولكنّه أخرج الكلام مخرج التّقرير كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضًا، فيقول أحدهما لصاحبه: ألم أكرمك؟ ألم أفضّل عليك؟ بمعنى إخباره أنّه قد أكرمه وأفضّل عليه، يريد أليس قد أكرمتك؟ أليس قد أفضّلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك.
قال: وهذا قول لا وجه له عندنا؛ وذلك أنّ قوله جلّ ثناؤه {ألم تعلم} إنّما معناه: أما علمت. وهو حرف جحدٍ أدخل عليه حرف استفهامٍ، وحروف الاستفهام إنّما تدخل في الكلام إمّا بمعنى الاستثبات، وإمّا بمعنى النّفي. فأمّا بمعنى الإثبات فذلك غير معروفٍ في كلام العرب، ولا سيّما إذا دخلت على حروف الجحد؛ ولكن ذلك عندي وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّما هو معنى به أصحابه الّذين قال لهم اللّه جلّ ثناؤه: {لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا}. والّذي يدلّ على أنّ ذلك كذلك قوله جلّ ثناؤه: {وما لكم من دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ} فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم، وقد ابتدأ أوّلها بخطاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله: {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّموات والأرض}
لأنّ المراد بذلك الّذين وصفت أمرهم من أصحابه، وذلك من كلام العرب مستفيضٌ بينهم فصيحٌ، أن يخرج المتكلّم منهم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض النّاس وهو قاصدٌ به غيره، وعلى وجه الخطاب لواحدٍ وهو يقصد به جماعةً غيره، أو جماعةً المخاطب به أحدهم؛ وعلى وجه الخطاب للجماعة والمقصود به أحدهم، من ذلك قول اللّه جلّ ثناؤه: {يا أيّها النّبيّ اتّق اللّه ولا تطع الكافرين والمنافقين} ثمّ قال: {واتّبع ما يوحى إليك من ربّك إنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا} فرجع إلى خطاب الجماعة، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. ونظير ذلك قول الكميت بن زيدٍ في مدح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:

إلى السّراج المنير أحمد لا ....... يعدلني رغبةٌ ولا رهب.
عنه إلى غيره ولو رفع النّــــــــــ.......اس إليّ العيون وارتقبوا.
وقيل أفرطت بل قصدت ولو....... عنّفني القائلون أو ثلبوا.
لجّ بتفضيلك اللّسان ولو.......أكثر فيك الضّجاج واللّجب.
أنت المصفّى المحض المهذّب في....... النّسبة إن نصّ قومك النّسب.

فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو قاصدٌ بذلك أهل بيته.
فكّنى عن وصفهم ومدحهم بذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وعن بني أميّة بالقائلين المعنّفين؛ لأنّه معلومٌ أنّه لا أحدٌ يوصف من المسلمين بتعنيف مادح النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وتفضيله، ولا بإكثار الضّجاج واللّجب في إطناب القيل بفضله. وكما قال جميل بن معمرٍ:

ألا إنّ جيراني العشيّة رائحٌ.......دعتهم دواعٍ من هوًى ومنادح

فقال: ألا إنّ جيراني العشيّة فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه، ثمّ قال: رائحٌ لأنّ قصده في ابتدائه ما ابتدأ من كلامه الخبر عن واحدٍ منهم دون جماعتهم. وكما قال جميلٌ أيضًا في كلمته الأخرى:

خليليّ فيما عشتما هل رأيتما.......قتيلاً بكى من حبّ قاتله قبلي

وهو يريد قاتلته؛ لأنّه إنّما يصف امرأةً فكنّى بوصف الرّجل عنها وهو يعنيها. فكذلك قوله: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّموات والأرض} وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّه مقصودٌ به قصد أصحابه؛ وذلك بيّنٌ بدلالة قوله: {وما لكم من دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} الآيات الثّلاث بعدها على أنّ ذلك كذلك.
أمّا قوله: {له ملك السّموات والأرض} ولم يقل ملك السّماوات، فإنّه عنى بذلك ملك السّلطان والمملكة دون الملك، والعرب إذا أرادت الخبر عن المملكة الّتي هي مملكة سلطانٍ، قالت: ملك اللّه الخلق ملكًا، وإذا أرادت الخبر عن الملك قالت: ملك فلانٌ هذا الشّيء فهو يملكه ملكًا وملكه وملكًا.
فتأويل الآية إذًا: ألم تعلم يا محمّد أنّ لي ملك السّموات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عمّا أشاء، وأنسخ وأبدّل وأغيّر من أحكامي الّتي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقرّ منها ما أشاء؟
وهذا الخبر وإن كان من اللّه عزّ وجلّ خطابًا لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم على وجه الخبر عن عظمته، فإنّه منه جلّ ثناؤه تكذيبٌ لليهود الّذين أنكروا نسخ أحكام التّوراة وجحدوا نبوّة عيسى ومحمد صلّى اللّه عليهما، لمجيئهما بما جاء به من عند اللّه بتغيير ما غيّر اللّه من أحكام التّوراة. فأخبرهم اللّه أنّ له ملك السّموات والأرض وسلطانهما، وأنّ الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السّمع له والطّاعة لأمره ونهيه، وإنّ له أمرهم بما شاء ونهيهم عمّا شاء، ونسخ ما شاء وإقرار ما شاء، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين معه: انقادوا لأمري، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ من أحكامي ولا حدودي وفرائضي، ولا يهدينّكم خلاف مخالفٍ لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي، فإنّه لا قيّم بأمركم سواي، ولا ناصر لكم غيري، وأنا المنفرد بولايتكم والدّفاع عنكم، والمتوحّد بنصرتكم بعزّي وسلطاني وقوّتي على من ناوأكم وحادّكم ونصب حرب العداوة بينه وبينكم، حتّى أعلّي حجّتكم، وأجعلها عليهم لكم.
والوليّ فعيلٌ، من قول القائل: وليت أمر فلانٍ: إذا صرت قيّمًا به فأنا إليه وهو وليّه وقيّمه؛ ومن ذلك قيل: فلانٌ وليّ عهد المسلمين، يعني به: القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين.
وأمّا النّصير فإنّه فعيلٌ من قولك: نصرتك أنصرك فأنا ناصرك ونصيرك؛ وهو المؤيّد والمقوّي.
وأمّا معنى قوله: {من دون اللّه} فإنّه سوى اللّه وبعد اللّه. ومنه قول أميّة بن أبي الصّلت:

يا نفس مالك دون اللّه من واقي ....... وما على حدثان الدّهر من باقي

يريد: مالك سوى اللّه وبعد اللّه من يقيك المكاره.
فمعنى الكلام إذًا: وليس لكم أيّها المؤمنون بعد اللّه من قيّمٍ بأمركم ولا نصيرٍ فيؤيّدكم ويقوّيكم فيعينكم على أعدائكم). [جامع البيان: 2 / 403 - 409]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ (107) أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل (108)}
قوله: {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم مّن دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ}
- حدّثنا عليّ بن أبي دلامة البغداديّ ثنا عبد الوهّاب بن عطاءٍ عن سعيدٍ عن قتادة عن صفوان بن محرزٍ عن حكيم بن حزامٍ قال: بينا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- بين أصحابه إذ قال لهم: «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا: ما نسمع من شيءٍ. فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم-: «إنّي لأسمع أطيط السّماء. وما تلام أن تئطّ، وما فيها موضع شبرٍ إلا وعليه ملكٌ ساجدٌ أو قائمٌ».
- حدّثنا أحمد بن عصامٍ الأنصاريّ ثنا موصلٌ ثنا سفيان ثنا يزيد بن أبي زيادٍ عن عبد اللّه بن الحارث. قال: قال كعبٌ: «ما من موضع خرمة إبرةٍ من الأرض إلا وملكٌ موكّلٌ بها يرفع علم ذلك إلى اللّه، وإنّ ملائكة السّماء لأكثر من عدد التّراب، وإنّ حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مخّه مسيرة مائة عامٍ».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 202]

تفسير قوله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل}.
اختلف أهل التّأويل في السّبب الّذي من أجله أنزلت هذه الآية.
فقال بعضهم بما حدّثنا به أبو كريبٍ، قال: حدّثني يونس بن بكيرٍ، وحدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، قالا: حدّثنا ابن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، قال: حدّثني سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة عن ابن عبّاسٍ: «قال رافع بن حريملة ووهب بن زيدٍ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ائتنا بكتابٍ تنزّله علينا من السّماء نقرؤه وفجّر لنا أنهارًا نتّبعك ونصدّقك. فأنزل اللّه في ذلك من قولهم: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} الآية».
وقال آخرون بما حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: «قوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} وكان موسى يسأل فقيل له: {أرنا اللّه جهرةً}».
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{أم تريدون أن تسألوا، رسولكم كما سئل موسى من قبل} أن يريهم اللّه جهرةً، فسألت العرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتيهم باللّه فيرونه جهرةً».
وقال آخرون بما حدّثني به، محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: في قول اللّه: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} أن يريهم اللّه جهرةً. فسألت قريشٌ محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم أن يجعل لهم الصّفا ذهبًا، قال: «نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل». فأبوا ورجعوا.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ قال: سألت قريشٌ محمّدًا أن يجعل لهم الصّفا ذهبًا، فقال: «نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم». فأبوا ورجعوا، فأنزل اللّه {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} أن يريهم اللّه جهرةً.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
وقال آخرون بما حدّثني به المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، عن أبي العالية، قال: قال رجلٌ: يا رسول اللّه لو كانت كفّاراتنا كفّارات بني إسرائيل. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «اللّهمّ لا نبغيها، اللّهمّ لا نبغيها، ما أعطاكم اللّه خيرٌ ممّا أعطى بني إسرائيل». فقال النّبيّ: «كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبةً على بابه وكفّارتها، فإن كفّرها كانت له خزيًا في الدّنيا، وإن لم يكفّرها كانت له خزيًا في الآخرة، وقد أعطاكم اللّه خيرًا ممّا أعطى بني إسرائيل، قال: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا}». قال: «وقال: الصّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفّاراتٌ لما بينهنّ وقال: من همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنةٌ، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على اللّه إلاّ هالكٌ». فأنزل اللّه: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل}.
واختلف أهل العربيّة في معنى: {أم} الّتي في قوله: {أم تريدون}.
فقال بعض البصريّين: هي بمعنى الاستفهام، وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟
وقال آخر منهم: هي بمعنى استفهامٍ مستقبلٍ منقطعٍ من الكلام، كأنّك تميل بها إلى أوّله كقول العرب: إنّها لإبلٌ يا قوم أم شاء، ولقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي.
قال: وليس قوله: {أم تريدون} على الشّكّ؛ ولكنّه قاله ليقبّح له صنيعهم. واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل:

كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ....... غلس الظّلام من الرّباب خيالا.

وقال بعض نحويّي الكوفيّين: إن شئت جعلت قوله: {أم تريدون} استفهامًا مبتدأ على كلامٍ قد سبقه، كما قال جلّ ثناؤه: {الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين أم يقولون افتراه} فجاءت أم وليس قبلها استفهامٌ. فكان ذلك عنده دليلاً على أنّه استفهامٌ مبتدأٌ على كلامٍ سبقه.
وقال قائلٌ هذه المقالة: أم في المعنى تكون ردًّا على الاستفهام على جهتين، إحداهما: أن تفرق معنى أي، والأخرى أن يستفهم بها، ويكون على جهة النّسق، والّذي ينوى به الابتداء؛ إلاّ أنّه ابتداءٌ متّصلٌ بكلامٍ، فلو ابتدأت كلامًا ليس قبله كلامٌ ثمّ استفهمت لم يكن إلاّ بالألف أو بـ هل.
قال: وإن شئت قلت في قوله: {أم تريدون} قبله استفهامٌ، فردّ عليه وهو في قوله: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}.
والصّواب من القول في ذلك عندي على ما جاءت به الآثار الّتي ذكرناها عن أهل التّأويل أنّه استفهامٌ مبتدأٌ بمعنى: أتريدون أيّها القوم أن تسألوا رسولكم؟
وإنّما جاز أن يستفهم القوم بـ أم وإن كانت أم أحد شروطها أن تكون نسقًا في الاستفهام لتقدّم ما تقدّمها من الكلام؛ لأنّها تكون استفهامًا مبتدأً إذا تقدّمها سابقٌ من الكلام، ولم يسمع من العرب استفهامٌ بها ولم يتقدّمها كلامٌ، ونظيره قوله جلّ ثناؤه: {الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين أم يقولون افتراه} وقد تكون أم بمعنى بل إذا سبقها استفهامٌ لا يصلح فيه أي، فيقولون: هل لك قبلنا حقّ، أم أنت رجلٌ معروفٌ بالظّلم؟ يراد به: بل أنت رجل معروف بالظلم وقال الشّاعر:

فواللّه ما أدري أسلمى تغوّلت ....... أم النوم أم كلٌّ إليّ حبيب

يعني: بل كلٌّ إليّ حبيبٌ.
وقد كان بعضهم يقول منكرًا قول من زعم أنّ أم في قوله: {أم تريدون} استفهامٌ مستقبلٌ منقطعٌ من الكلام يميل بها إلى أوّله أنّ الأوّل خبرٌ والثّاني استفهامٌ، والاستفهام لا يكون في الخبر، والخبر لا يكون في الاستفهام؛ ولكن أدركه الشّكّ بزعمه بعد مضيّ الخبر، فاستفهم.
فإذا كان بعنى أم ما وصفنا، فتأويل الكلام: أتريدون أيّها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قومٌ موسى موسى من قبلكم، فتكفروا إن منعتموه في بمسألتكم ما لا يجوز في حكمة اللّه إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا، إن كان ممّا يجوز في حكمته عطاؤكموه فأعطاكموه ثمّ كفرتم من بعد ذلك، كما هلك من كان قبلكم من الأمم الّتي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إيّاهم، فلمّا أعطيت كفرت، فعوجلت بالعقوبات لكفرها بعد إعطاء اللّه إيّاها سؤلها). [جامع البيان: 2 / 409 - 414]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ومن يتبدّل} ومن يستبدل الكفر؛ ويعني بالكفر: الجحود باللّه وبآياته، {بالإيمان} يعني بالتّصديق باللّه وبآياته والإقرار به.
وقد قيل: عني بالكفر في هذا الموضع الشّدّة وبالإيمان الرّخاء.
ولا أعرف الشّدّة في معاني الكفر، ولا الرّخاء في معنى الإيمان، إلاّ أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله الكفر بمعنى الشّدّة في هذا الموضع وبتأويله الإيمان في معنى الرّخاء ما أعدّ اللّه للكفّار في الآخرة من الشّدائد، وما أعدّ اللّه لأهل الإيمان فيها من النّعم، فيكون ذلك وجهًا وإن كان بعيدًا من المفهوم بظاهر الخطاب.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: «{ومن يتبدّل الكفر بالإيمان} يقول: يتبدّل الشّدّة بالرّخاء».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني حجّاجٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية بمثله.
وفي قوله: {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل} دليلٌ واضحٌ على صحة ما قلنا من أنّ هذه الآيات من قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا} خطابٌ من اللّه جلّ ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعتابٌ منه لهم على أمرٍ سلف منهم ممّا سرّ به اليهود وكرهه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لهم، فكرهه اللّه لهم. فعاتبهم على ذلك، وأعلمهم أنّ اليهود أهل غشٍّ لهم وحسدٍ وبغيٍ، وأنّهم يتمنّون لهم المكاره ويبغونهم الغوائل، ونهاهم أن ينتصحوهم، وأخبرهم أنّ من ارتدّ منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه بالله ورسوله كفرًا فقد أخطأ قصد السّبيل). [جامع البيان: 2 / 414 - 415]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فقد ضلّ سواء السّبيل}
أمّا قوله: {فقد ضلّ} فإنّه يعني به ذهب وجار. وأصل الضّلال عن الشّيء: الذّهاب عنه والجور.
ثمّ يستعمل في الشّيء الهالك والشّيء الّذي لا يؤبه له كقولهم للرّجل الخامل الّذي لا ذكر له ولا نباهة: ضلّ بن ضلٍّ، وقلّ بن قلٍّ كقول الأخطل في الشّيء الهالك:

كنت القذى في موج أكدر مزبدٍ ....... قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا

يعني: هلك فذهب.
والّذي عنى اللّه تعالى ذكره بقوله: {فقد ضلّ سواء السّبيل} فقد ذهب عن سواء السّبيل وحاد عنه.
وأمّا تأويل قوله: {سواء السّبيل} فإنّه يعني بالسّواء: القصد والمنهج، وأصل السّواء: الوسط؛ ذكر عن عيسى بن عمر النّحويّ أنّه قال: ما زلت أكتب حتّى انقطع سوائي، يعني وسطي. وقال حسّان بن ثابتٍ:

يا ويح أنصار النّبيّ ونسله ....... بعد المغيّب في سواء الملحد

يعني بالسّواء الوسط. والعرب تقول: في سواء الليل، يعني في مستوى الليل. وسواء الأرض مستواها عندهم.
وأمّا السّبيل فإنّها الطّريق المسبول، صرف من مسبولٍ إلى سبيلٍ.
فتأويل الكلام إذًا: ومن يستبدل بالإيمان باللّه وبرسوله الكفر فيرتدّ عن دينه، فقد حاد عن منهج الطّريق ووسطه الواضح المسبول.
وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطّريق، والمعنيّ به الخبر عنه أنّه ترك دين اللّه الّذي ارتضاه لعباده وجعله لهم طريقًا يسلكونه إلى رضاه، وسبيلاً يركبونها إلى محبّته والفوز بجنّاته. فجعل جلّ ثناؤه الطّريق الّذي إذا ركب محجّته السّائر فيه ولزم وسطه المجتاز فيه، نجا وبلغ حاجته وأدرك طلبته لدينه الّذي دعا إليه عباده مثلاً لإدراكهم بلزومه واتّباعه إدراك طلباتهم في آخرتهم، كالّذي يدرك اللاّزم محجّة السّبيل بلزومه إيّاها طلبته من النّجاة منها، والوصول إلى الموضع الّذي أمّه وقصده. وجعل مثل الجائر عن دينه والحائد عن اتّباع ما دعا إليه من عباده في خيبته ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده وذهابه عمّا أمّل من ثواب عمله وبعده به من ربّه، مثل الجائر عن منهج الطّريق وقصد السّبيل، الّذي لا يزداد وغولاً في الوجه الّذي سلكه إلاّ ازداد من موضع حاجته بعدًا، وعن المكان الّذي أمّه وأراده نأيًا.
وهذه السّبيل الّتي أخبر اللّه عنها أنّ من يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواءها، هو الصّراط المستقيم الّذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله: {اهدنا الصّراط المستقيم صراط الّذين أنعمت عليهم}). [جامع البيان: 2 / 415 - 417]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل}
[الوجه الأول]
- حدثنا محمد بن نحيى أنبأ أبو غسّان ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق: حدّثني مولى آل زيد- يعني محمّد- بن أبي محمّدٍ عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ قال: «قال رافع بن حريملة ووهب بن زيدٍ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم- يا محمّد ائتنا بكتابٍ تنزّله علينا من السماء نقرأه، وفجّر لنا أنهارًا نتّبعك ونصدّقك فأنزل اللّه في ذلك من قولهم: {أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل}».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح ثنا شبابة بن سوّارٍ عن ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ: أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل أن يريهم اللّه جهرةً. قال: سألت قريشٌ محمّدًا أن يجعل لهم الصّفا ذهبًا، قال: «نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل». فأبوا ورجعوا.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبي ثنا أحمد بن عبد الرّحمن ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه عن الرّبيع عن أبي العالية في قوله: {أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} قال: قال رجلٌ: يا رسول اللّه لو كانت كفّارتنا ككفّارات بني إسرائيل؟
فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم-: «اللّهمّ لا نبغيها ثلاثًا، ما أعطاكم اللّه خيرٌ ممّا أعطى بني إسرائيل. كانت بنوا إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبةً على بابه، وكفّارتها. فإن كفّرها كانت له خزيًا في الدّنيا، وإن لم يكفّرها كانت له خزيًا في الآخرة. فما أعطاكم اللّه خير مما أعطى بني إسرائيل. قال: {من يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا}». وقال- صلّى اللّه عليه وسلّم-: «الصّلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفّاراتٌ لما بينهنّ»، وقال: «من همّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت واحدةً، ومن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنةً واحدةً، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها. ولا يهلك على اللّه إلا هالكٌ». فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل}.
الوجه الرّابع:
- حدّثنا أبو زرعة ثنا عمرو بن حمّاد بن طلحة ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: «أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل أن يريهم اللّه جهرةً. فسألت العرب محمّدًا أن يأتيهم باللّه فيرونه جهرًا». وروي عن قتادة نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 202 - 203]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ}
- حدّثنا أبي ثنا أحمد بن عبد الرّحمن ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه عن الربيع أبي العالية: «{ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل} يقول:من يتبدّل الشّدّة بالرّخاء فقد ضلّ سواء السّبيل».
- حدّثنا محمّد بن عبّادٍ ثنا عبد الرّحمن الدّشتكيّ أنبأ أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع بن أنسٍ في قوله ولم يذكر أبا العالية). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 204]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فقد ضلّ سواء السّبيل}
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ فيما كتب إليّ ثنا أحمد بن الفضل ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: {فقد ضلّ سواء السّبيل} قال: «عن عدل السّبيل».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 204]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {أم تريدون أن تسألوا
رسولكم كما سئل موسى من قبل} قال: سألوا موسى أن يريهم الله جهرة وسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم وهو لكم كمائدة بني إسرائيل» فأبوا ورجعوا). [تفسير مجاهد: 85 - 86]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {أم تريدون أن تسألوا كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل * ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير * وأقيموا الصلوة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير.}
- أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه أو فجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك فأنزل الله في ذلك {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} إلى قوله: {سواء السبيل} وكان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد اليهود حسدا للعرب إذ خصهم الله برسوله وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا فأنزل الله فيهما {ود كثير من أهل الكتاب}».
- وأخرج ابن جرير، وابن ابي حاتم عن أبي العالية قال: قال رجل يا رسول الله لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أعطيتم خير كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة وقد أعطاكم الله خيرا من ذلك قال: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه} [النساء الآية 110] الآية والصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن»، فأنزل الله {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} الآية.
- وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن السدي قال: «سألت العرب محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة فنزلت هذه الآية».
- وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: سألت قريش محمد صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال: «نعم وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم» فأبوا ورجعوا، فأنزل الله {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} أن يريهم الله جهرة.
- وأخرج ابن جرير عن ابي العالية في قوله: «{ومن يتبدل الكفر بالإيمان} يقول: يتبدل الشدة بالرخاء».
- وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {فقد ضل سواء السبيل} قال: «عدل عن السبيل».
- وأخرج أبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن كعب بن مالك قال: «كان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم ففيهم أنزل الله {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} [آل عمران الآية 186] الآية، وفيهم أنزل الله {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا} الآية».). [الدر المنثور: 1 / 553 - 556]

تفسير قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن الزهري في قوله: {ود كثير من أهل الكتاب} قال: «هو كعب بن الأشرف».). [تفسير عبد الرزاق: 1 / 55]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة في قوله: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} قال: «نسختها قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}».). [تفسير عبد الرزاق: 1 / 55]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا}.
قال أبو جعفرٍ: وقد صرّح هذا القول من قول اللّه جلّ ثناؤه، بأنّ خطابه بجميع هذه الآيات من قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا} وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، إنّما هو خطابٌ منه للمؤمنين من أصحابه، وعتابٌ منه لهم، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشّرك وقبول آرائهم في شيءٍ من أمور دينهم، ودليلٌ على أنّهم كانوا استعملوا، أو من استعمل منهم في خطابه ومسأله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الجفاء، وما لم يكن له استعماله معه، تأسّيًا باليهود في ذلك أو ببعضهم. فقال لهم ربّهم ناهيًا لهم عن استعمال ذلك: لا تقولوا لنبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم كما تقول اليهود: راعنا تأسّيًا منكم بهم، ولكن قولوا: انظرنا واسمعوا فإنّ أذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كفرٌ بي وجحودٌ لحقّي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره، ولمن كفر بي عذابٌ أليمٌ؛ فإنّ اليهود والمشركين ما يودّون أن ينزّل عليكم من خيرٍ من ربّكم، ولكنّ كثيرًا منهم ودّوا أنّهم يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا حسدًا من عند أنفسهم لكم ولنبيّكم محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، من بعد ما تبيّن لهم الحقّ في أمر محمّدٍ وأنّه نبيٌّ إليهم وإلى خلقي كافّةً.
وقد قيل إنّ اللّه جلّ ثناؤه عنى بقوله: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب} كعب بن الأشرف.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الزّهريّ: في قوله: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب} «هو كعب بن الأشرف».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا أبو سفيان المعمريّ، عن معمرٍ، عن الزّهريّ، وقتادة: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب} قال: «كعب بن الأشرف».
وقال بعضهم بما حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، وحدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا يونس بن بكيرٍ، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، قال: حدّثني سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشدّ يهود للعرب حسدًا، إذ خصّهم اللّه برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وكانا جاهدين في ردّ النّاس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل اللّه فيهما: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم} الآية».
وليس لقول القائل عنى بقوله: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب} كعب بن الأشرف معنًى مفهومٌ؛ لأنّ كعب بن الأشرف واحدٌ، وقد أخبر اللّه جلّ ثناؤه أنّ كثيرًا منهم يودّون لو يردّون المؤمنين كفّارًا بعد إيمانهم. والواحد لا يقال له كثيرٌ بمعنى الكثرة في العدد، إلاّ أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة الّتي وصف اللّه بها من وصفه بها في هذه الآية الكثرة في العزّ ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته، كما يقال: فلانٌ في النّاس كثيرٌ، يراد به كثرة المنزلة والقدر. فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ، لأنّ اللّه جلّ ثناؤه قد وصفّهم بصفة الجماعة، فقال: {لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا حسدًا} فذلك دليلٌ على أنّه عنى به الكثرة في العدد. أو يكون ظنّ أنّه من الكلام الّذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة، والمقصود بالخبر عنه الواحد، نظير ما قلنا آنفًا في بيت جميلٍ؛ فيكون ذلك أيضًا خطأً، وذلك أنّ الكلام إذا كان بذلك المعنى فلا بدّ من دلالةٍ فيه تدلّ على أنّ ذلك معناه، ولا دلالة تدلّ في قوله: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب} أنّ المراد به واحدٌ دون جماعةٍ كثيرةٍ، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك وإحالة دليل ظاهرها إلى غير الغالب في الاستعمال). [جامع البيان: 2 / 418 - 420]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {حسدًا من عند أنفسهم}.
ويعني جلّ ثناؤه بقوله: {حسدًا من عند أنفسهم} أنّ كثيرًا من أهل الكتاب يودّون للمؤمنين ما أخبر اللّه جلّ ثناؤه عنهم أنّهم يودّونه لهم من الرّدّة عن إيمانهم إلى الكفر حسدًا منهم وبغيًا عليهم.
فالحسد إذًا منصوبٌ على غير النّعت للكفّار، ولكن على وجه المصدر الّذي يأتي خارجًا من معنى الكلام الّذي يخالف لفظه لفظ المصدر، كقول القائل لغيره: تمنّيت لك ما تمنّيت من السّوء حسدًا منّي لك. فيكون الحسد مصدرًا من معنى قوله: تمنّيت لك ما تمنّيت من السّوء؛ لأنّ في قوله تمنّيت لك ذلك، معنى حسدتك على ذلك. فعلى هذا نصب الحسد، لأنّ في قوله: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا} معني: حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم اللّه من التّوفيق، ووهب لكم من الرّشاد لدينه والإيمان به وبرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وخصّكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلاً منكم رءوفًا بكم رحيمًا، ولم يجعله منهم، فتكونوا لهم تبعًا. فكان قوله: {حسدًا} مصدرًا من ذلك المعنى.
وأمّا قوله: {من عند أنفسهم} فإنّه يعني بذلك: من قبل أنفسهم، كما يقول القائل: لي عندك كذا وكذا، بمعنى: لي قبلك.
- وكما حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع قوله: {من عند أنفسهم}: «من قبل أنفسهم».
وإنّما أخبر اللّه جلّ ثناؤه عنهم المؤمنين أنّهم ودّوا ذلك للمؤمنين من عند أنفسهم إعلامًا منه لهم بأنّهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم، وأنّهم يأتون ما يأتون من ذلك على علمٍ منهم بنهي اللّه إيّاهم عنه). [جامع البيان: 2 / 420 - 421]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {من بعد ما تبيّن لهم الحقّ}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} أي من بعد ما تبيّن لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب الّذين يودّون أنّهم يردّونكم كفّارًا من بعد إيمانكم الحقّ في أمر محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وما جاء به من عند ربّه والملّة الّتي دعا إليها فأضاء لهم أنّ ذلك الحقّ الّذي لا يمترون فيه.
- كما حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: «{من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} من بعد ما تبيّن لهم أنّ محمّدًا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، والإسلام دين اللّه».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: «{من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} يقول: تبيّن لهم أنّ محمّدًا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل».
- حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، مثله؛ وزاد فيه: «فكفروا به حسدًا وبغيًا، إذ كان من غيرهم».
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} فإن: الحقّ: هو محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم؛ فتبيّن لهم أنّه هو الرّسول».
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: «{من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} قال: قد تبيّن لهم أنّه رسول اللّه.
فدلّ بقوله ذلك أنّ كفر الّذين قصّ قصّتهم في هذه الآية باللّه وبرسوله عنادٌ، وعلى علمٍ منهم ومعرفةٍ، بأنّهم على اللّه مفترون».
- كما حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «{من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} يقول اللّه تعالى ذكره: من بعد ما أضاء لهم الحقّ لم يجهلوا منه شيئًا، ولكنّ الحسد حملهم على الجحد. فعيّرهم اللّه ولامهم ووبّخهم أشدّ الملامة».). [جامع البيان: 2 / 422 - 423]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {فاعفوا} فتجاوزوا عمّا كان منهم من إساءةٍ وخطأٍ في رأيٍ أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدّكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم وعمّا سلف منهم من قيلهم لنبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم: {واسمع غير مسمعٍ وراعنا ليًّا بألسنتهم وطعنًا في الدّين} واصفحوا عمّا كان منهم من جهلٍ في ذلك {حتّى يأتي اللّه بأمره}، فيحدث لكم من أمره فيهم ما يشاء، ويقضي فيهم بما يريد. فقضى فيهم بعد ذلك تعالى ذكره، وأتى بأمره، فقال لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين به: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون}.
فنسخ اللّه جلّ ثناؤه العفو عنهم والصّفح بفرض قتالهم على المؤمنين حتّى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدةً، أو يؤدّوا الجزية عن يدٍ صغارًا.
- كما حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «قوله: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} ونسخ ذلك قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: «{فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره} فأتى اللّه بأمره فقال: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر}». فقرأ حتّى بلغ: «{وهم صاغرون} أي صغارًا ونقمةً لهم؛ فنسخت هذه الآية ما كان قبلها: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره}».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: في قوله: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره} قال: «اعفوا عن أهل الكتاب حتّى يحدث اللّه أمرًا. فأحدث اللّه بعد فقال: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} إلى: {وهم صاغرون}».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أنّا معمرٌ، عن قتادة: في قوله: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره} قال: «نسختها: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}».
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره} قال: «هذا منسوخٌ، نسخه {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} إلى قوله: {وهم صاغرون}».). [جامع البيان: 2 / 423 - 425]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}.
قال أبو جعفرٍ: قد دلّلنا فيما مضى على معنى القدير وأنّه القويّ. فمعنى الآية ههنا: أنّ اللّه على كلّ ما يشاء ويريد بالّذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم قديرٌ، إن شاء الانتقام منهم بعنادهم ربّهم وإن شاء هدايتهم لما هداكم له من الإيمان، لا يتعذّر عليه شيءٌ أراده ولا يمتنع عليه أمرٌ شاء قضاءه؛ لأنّ له الخلق والأمر). [جامع البيان: 2 / 425]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (109)}
قوله: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفارا}
[الوجه الأول]
- حدثنا محمد بن نحيى، أنبأ أبو غسّان ثنا سلمة قال: قال ابن إسحاق:حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ مولى آل زيدٍ عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ قال: «فكان حييّ بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب من أشدّ يهود للعرب حسدًا إذ خصّهم اللّه برسوله. وكانا جاهدين في ردّ النّاس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل اللّه تعالى فيهما: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ}».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع أنبأ معمرٌ عن الزّهريّ في قوله: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب} قال: «هو كعب بن الأشرف».
- حدّثنا أبي ثنا أبو اليمان، أنبأ شعيب بن أبي حمزة عن الزّهريّ أخبرني عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ عن أبيه:« أنّ كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- وفيهم أنزل اللّه: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا حسدًا} إلى قوله: {فاعفوا واصفحوا}».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 204 - 205]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {كفّارًا حسدًا}
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا محمّد بن العلاء- أبو كريبٍ أنبأ عثمان بن سعيدٍ عن بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: «أنّ رسولا أمّيًّا يخبرهم بما في أيديهم من الرّسل والكتب والآيات، ثمّ يصدّق بذلك عليه مثل تصديقهم أو أشدّ من تصديقهم، ولكنّهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا. وكذلك قال اللّه: {كفّارًا حسدًا من عند أنفسهم}».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 205]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {من عند أنفسهم}
- حدّثنا أبي ثنا أحمد بن عبد الرّحمن ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه عن الرّبيع بن أنسٍ: «{من عند أنفسهم} من قبل أنفسهم».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 205]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {من بعد ما تبيّن لهم الحقّ}
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا محمّد بن العلاء ثنا عثمان بن سعيدٍ ثنا بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: «من بعد ما تبيّن لهم يقول: من بعد ما أضاء لهم الحقّ، لم يجهلوا منه شيئًا، ولكنّ الحسد حملهم على الجحود، فعيّرهم اللّه ووبّخهم ولامهم أشدّ الملامة وشرع لنبيّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- والمؤمنين ما هم عليه من التّصديق والإيمان والإقرار بما أنزل اللّه عليهم، وما أنزل اللّه من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 205]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {الحقّ}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم عن أبي جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع عن أبي العالية في قوله: «{من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} من بعد ما تبيّن لهم أنّ محمّدًا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل فكفروا به حسدًا وبغيًا إذ كان من غيرهم». وروي عن قتادة، والرّبيع بن أنسٍ والسّدّيّ نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 205]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي ثنا أبو اليمان أنبأ شعيب عن الزّهريّ أخبرني عروة بن الزّبير أنّ أسامة بن زيدٍ أخبره قال: «كان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب كما أمرهم اللّه ويصبرون على الأذى قال اللّه: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره إنّ اللّه على كل شيء قدير} وكان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- يتأوّل في العفو ما أمره اللّه به حتّى أذن اللّه فيهم بقتلٍ. فقتل اللّه به من قتل من صناديد قريشٍ».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ حدّثني معاوية عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ في قوله: «{فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره} نسخ ذلك كلّه. قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} إلى قوله: {وهم صاغرون} فنسخ هذا عفوًا عن المشركين.».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم بن أبي جعفرٍ عن الرّبيع عن أبي العالية في قوله: «{فاعفوا واصفحوا} يقول: اعفوا عن أهل الكتاب، واصفحوا عنهم حتّى يحدث اللّه أمرًا، فأحدث اللّه بعد ذلك في سورة براءة، {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه} إلى قوله: {وهم صاغرون} ».وروي عن قتادة، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 206]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (- وأخرج البخاري ومسلم، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الدلائل عن أسامه بن زيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا}[آل عمران الآيه 186] وقال: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بقتل فقتل الله به من قتل من صناديد قريش».
- وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن الزهري وقتادة في قوله: {ود كثير من أهل الكتاب} قالا: «كعب بن الأشرف».
- وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله: {حسدا من عند أنفسهم} قال: «من قبل أنفسهم {من بعد ما تبين لهم الحق} يقول: يتبين لهم أن محمدا رسول الله».
- وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {من بعد ما تبين لهم الحق} قال: «من بعد ما تبين لهم أن محمد رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل نعته وأمره ونبوته ومن بعد ما تبين لهم أن الإسلام دين الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم». {فاعفوا واصفحوا} قال: «أمر الله نبيه أن يعفو عنهم ويصفح حتى يأتي الله بأمره فأنزل الله في براءة وأمره فقال: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} [التوبة الآية 29] الآية، فنسختها هذه الآية وأمره الله فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يقروا بالجزية».
- وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {فاعفوا واصفحوا}، وقوله: {وأعرض عن المشركين} [الأنعام الآية 106] ونحو هذا في العفو عن المشركين قال: «نسخ ذلك كله بقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} [التوبة الآية 29] وقوله {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة الآية 5].».
- وأخرج ابن جرير والنحاس في تاريخه عن السدي في قوله: {فاعفوا واصفحوا} قال: «هي منسوخه نسختها {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبه الآيه 29]». ). [الدر المنثور: 1 / 556 - 558]

تفسير قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ}
قال أبو جعفرٍ: قد دلّلنا فيما مضى قبل على معنى إقامة الصّلاة وأنّها أداؤها بحدودها وفروضها، وعلى تأويل الصّلاة وما أصلها، وعلى معنى إيتاء الزّكاة وأنّه إعطاؤها بطيب نفسٍ على ما فرضت ووجبت، وعلى معنى الزّكاة واختلاف المختلفين فيها، والشّواهد الدّالّة على صحّة القول الّذي اخترنا في ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وأمّا قوله: {وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه} فإنّه يعني جلّ ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عملٍ صالحٍ في أيّام حياتكم فتقدّموه قبل وفاتكم ذخرًا لأنفسكم في معادكم، تجدوا ثوابه عند ربّكم يوم القيامة، فيجازيكم به.
والخير: هو العمل الّذي يرضاه اللّه.
وإنّما قال: {تجدوه} والمعنى: تجدوا ثوابه.
- كما حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: «قوله: {تجدوه} يعني: تجدوا ثوابه عند اللّه».
قال أبو جعفرٍ: لاستغناء سامع ذلك بدليلٍ ظاهرٍ على معنى المراد منه، كما قال عمر بن لجأٍ:

وسبّحت المدينة لا تلمها ....... رأت قمرًا بسوقهم نهارا

وإنّما أراد: وسبّح أهل المدينة.
وإنّما أمرهم جلّ ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به من إقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم، ليطّهّروا بذلك من الخطأ الّذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود، وركون من كان ركن منهم إليهم، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله: {راعنا} إذ كانت إقامة الصّلوات كفّارةً للذّنوب، وإيتاء الزّكاة تطهيرًا للنّفوس والأبدان من أدناس الآثام، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان اللّه). [جامع البيان: 2 / 425 - 427]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ}
وهذا خبرٌ من اللّه جلّ ثناؤه للّذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنّهم مهما فعلوا من خيرٍ أو شرٍّ سرًّا وعلانيةً، فهو به بصيرٌ لا يخفى عليه منه شيءٌ، فيجزيهم بالإحسان جزاءه وبالإساءة مثلها.
وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإنّ فيه وعدًا ووعيدًا، وأمرًا وزجرًا؛ وذلك أنّه أعلم القوم أنّه بصيرٌ بجميع أعمالهم ليجدّوا في طاعته، إذ كان ذلك مذخورًا لهم عنده حتّى يثيبهم عليه، كما قال: {وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه} وليحذروا معصيته، إذ كان مطّلعًا على راكبها بعد تقدّمه إليه فيها بالوعيد عليها. وما أوعد عليه ربّنا جلّ ثناؤه فمنهيٌّ عنه، وما وعد عليه فمأمورٌ به.
وأمّا قوله: {بصيرٌ} فإنّه مبصرٌ صرف إلى بصيرٍ، كما صرف مبدعٌ إلى بديعٍ، ومؤلمٌ إلى أليمٍ). [جامع البيان: 2 / 427]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ (110)}
قوله: {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة}
قد تقدّم تفسيره). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 206]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ}
- حدّثنا أبو زرعة ثنا نحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ عن ابن لهيعة عن عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ: «{ما تقدّموا} يعني ما عملوا من الأعمال من الخير في الدنيا».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 206]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {تجدوه عند اللّه}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم عن أبي جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع بن أنسٍ عن أبي العالية في قوله: «{تجدوه عند اللّه} فيقول: تجدوا ثوابه عند اللّه». وروي عن الرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك.
- حدّثنا أبو زرعة ثنا ابن بكيرٍ عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيبٍ عن أبي الخير عن عقبة بن عامرٍ قال: «رأيت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- وهو يقترى هذه الآية: سميعٌ بصيرٌ يقول بكلّ شيءٍ بصيرٌ».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 207]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (- وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وما تقدموا لأنفسكم من خير} «يعني من الأعمال من الخير في الدنيا».
- وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {تجدوه عند الله} قال: «تجدوا ثوابه».). [الدر المنثور: 1 / 558]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 09:28 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها...} (
أو ننسئها) , (أو نُنْسِهَا), عامة القرّاء يجعلونه من النسيان، وفي قراءة عبد الله: (ما ننسك من آيةٍ أو ننسخها نجئ بمثلها أو خيرٍ منها),
وفي قراءة سالم مولى أبي حذيفة: (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسكها)، فهذا يقوّي النّسيان, والنّسخ: أن يعمل بالآية, ثم تنزل الأخرى, فيعمل بها, وتترك الأولى.
والنّسيان ها هنا على وجهين:
أحدهما: على الترك؛ نتركها فلا ننسخها، كما قال الله جل ذكره: {نسوا اللّه فنسيهم} يريد: تركوه فتركهم.
والوجه الآخر: من النّسيان الذي ينسى، كما قال الله: {واذكر ربّك إذا نسيت}, وكان بعضهم يقرأ: (أو ننسأها) يهمز، يريد: نؤخرها من النّسيئة؛ وكلٌّ حسن ...
- وحدثني قيس, عن هشام بن عروة بإسناد يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا ً يقرأ, فقال: «يرحم الله هذا، هذا أذكرني آياتٍ قد كنت أنسيتهنّ». ). [معاني القرآن: 1/64-65]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ما ننسخ من آية} أي: ننسخها بأية أخرى، {أو ننسها} من النّسيان: نذهب بها, ومن همزها جعلها من "نؤخرها" من التأخير، ومن قال: تنسُوها, كان مجازها تمضيها، وقال جرير:


... ....... ولا أنسأتكم غضبي

ونسأت الناقة: سقتها، وقال طرفة:


وعنسٍ كألواح الإران نسأتُها....... على لاحبٍ كأنه ظهر برجد

يعني أنه يسوقها, ويمضيها.
{نأت بخيرٍ منها} أي: نأتيك منها بخير). [مجاز القرآن: 1 / 49-50]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ مّنها أو مثلها ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
قال: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ مّنها أو مثلها}, وقال بعضهم: (ننسأها) أي: نؤخّرها، وهو مثل {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر}؛ لأنّه تأخير, و{النسيئة} و{النسيء} أصله واحدٌ من "أنسأت" إلاّ أنّك تقول: "أنسأت الشيء" أي: أخّرته, ومصدره: النسيء,
و"أنسأتك الدين" أي: جعلتك تؤخّره, كأنه قال: "أنسأتك" , فـ"نسأت",
و"النسيء" أنّهم كانوا يدخلون الشهر في الشهر, وقال بعضهم: (أو نَنْسَها) كل ذلك صواب, وجزمه بالمجازاة, و النسيء في الشهر: التأخير.
{أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل}
قال: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل}, ومن خفف قال: (سيل),
فإن قيل: كيف جعلتها بين بين وهي تكون بين الياء الساكنة وبين الهمزة، والياء الساكنة لا تكون بعد ضمة، والسين مضمومة؟
قلت: أمّا في "فُعِلَ", فقد تكون الياء الساكنة بعد الضمة؛ لأنهم قد قالوا "قيل" و"بيع", وقد تكون الياء في بعض "فُعِلَ" واواً خالصة لانضمام ما قبلها, وهي معه في حرف واحد كما تقول: "لم توطؤ الدابّة", وكما تقول: "قد رؤس فلان"). [معاني القرآن: 1 / 110]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة سعيد بن المسيب والأعرج {أو ننسها} من النسيان، من أنسيت. أنسيت.
قراءة أبي عمرو {ننساها} بالهمز نؤخرها؛ وسنذكرها في اللغات إن شاء الله.
سعد بن أبي وقاص "ما ننسخ من ءاية أو تنسها"، يريد النبي صلى الله عليه وسلم، أو تنسها يا محمد.
وقراءة قتادة "أو تنسها" من أنسيتها، لم يذكر فاعلاً). [معاني القرآن لقطرب: 256]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {أو ننسأها} فمن قرأها بالهمز - وهي قراءة أبي عمرو - عمرو - أي نؤخرها؛ وقالوا: نسأت الناقة أنسؤها أي زجرتها، ونسأتها: أخرت ظمأها، وأنسأته وأنسأته الدين من ذلك: أخرته؛ والمنسأة: العصا، وهو قوله {تأكل منسأته}؛ وبعضهم يقول: هي المنسأة، فيفتح الميم.
قال النابغة:
ولا رعيت حراما من أخي ثقة = ولا نسأت علنداة على جدد
وقال الآخر:
إذا دببت على المنساة من كبر = فقد تباعد عنك اللهو والغزل
فترك الهمز.
[معاني القرآن لقطرب: 329]
وقالوا أيضًا: نسأت اللبن نسئًا؛ إذا صببت على حليب ماء؛ ونسأت الغنم نسئًا: سمنت، وانتسأت عنك انتساء أي: تباعدت عنك.
وأما قوله عز وجل {على كل شيء قدير} فقالوا في الفعل: قدر يقدر ويقدر؛ وبعض كلب يقول: قدر عليه، وهي لغة لبعض ربيعة؛ وقالوا أيضًا: قدر عليه يقدر ويقدر قدرًا ومقدرة ومقدرة ومقدرة وقدرانًا.
ومثلها أحرف تقولها، قل أهل الحجاز: حسب يحسب، ويئس ييأس وييئس، ويبس ييبس، ونعم ينعم وينعم؛ والجيدة الفتح في هذا كله، يحسب وييأس.
وأنشد بعضهم بيت امرئ القيس:
ألا انعم صباحًا أيها الطل البالي = وهل ينعما من كان في العصر الخالي
وقال الآخر:
واعوج عودك من لحو ومن قدم = لا ينعم الغصن حتى ينعم الورق
وقال الآخر:
وكوم تنعم الأضياف عينا وتضحي في مباركها ثقالا
وقالوا أيضًا في مثل ذلك في حضر: حضر القاضي فلان، يحضر ويحضر حضرا، ونظر إليه ينظر؛ وقال بعض قيس: عرضت له الغول، تعرض وتعرض؛ وقالت هذيل: فضل عنده مال، يفضل ويفضل بالضم؛ وقريش تقول: فضل يفضل بضم الضاد، وبعض تميم يقول: سالتم فيجمع بين الساكنين.
قال الشاعر:
[معاني القرآن لقطرب: 330]
تعالوا فسالوا يعلم الناس = أينا لصاحبه في أول الدهر تابع). [معاني القرآن لقطرب: 331]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {ما ننسخ من آية أو ننسها} فهذا جزم على الجزاء، ومثله {مهما تأتنا به من آية}، و{فأينما تولوا فثم وجه الله}.
وحروف الجزاء في القرآن وجميع الكلام: إن، ومن، وما، وأنى، وأين، ومتى، وأيان، وحيثما، بإدخال "ما" مع حيث؛ وقد جازوا بحيث بغير "ما"، وهي بما أكثر؛ وكذلك: إذاما، وإذما، ومهما، من حروف الجزاء؛ وقالوا أيضًا: مهمن وهي عندنا "ما ما" مكررة، فكرهوا اتفاق اللفظين، فأبدلوا من الألف الأولى هاء كقولهم: هنرت النار، وهرحت الدابة، وهرقت الماء، يريدك أنرت النار، وأرحت، وأرقت الماء.
وأما "كم" فالجزاء بها جائز في القياس؛ وكذلك "كيف" ولم نسمعه منهم؛ وذلك أن تقول: كم تأخذ آخذ؛ لأنها حروف استفهام.
[معاني القرآن لقطرب: 434]
وأما أصل الجزاء والحرف الذي لا يفارقه الجزاء فهو "إن" وحدها؛ وهو قوله {وإن تشكروا يرضه لكم} {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم}؛ وقال بعضهم: إن تأتني أعطك؛ وهي شاذة.
وإنما أسكنوا في الجزاء؛ لأنهم احتاجوا إلى أن يثنوا الفعل مرتين؛ إذا قالوا: إن تأتني أعطك؛ لأنه لم يستغن بالأول؛ فلما كرر الفعل مرتين وكان الفعل أثقل من الاسم؛ أذهبت حركته وأسكن؛ فإذا قال: سوف تفعل، وقد تفعل وشبه ذلك، لم يكرره مرتين؛ وإن يكرر فيها مرتين ولا تكون بعدها [...] حروف الجزاء مشبهة بإن؛ لأنها ترجع إليها، وذلك قوله تعالى {أينما تكونوا يدرككم الموت}، وأنى تأتني آتك، {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات} و{أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فقد أبهم: ما ومن وأينما ومتى، كما أبهم "إن"؛ حيث قال: إن تأتني آتك؛ صارت مثل: متى ما تأتني آتك، في الإبهام؛ وإذا كان الكلام استفهامًا أو أمرًا أو نهيًا أو تمنيًا، كان في الجواب الجزاء.
وذلك في الاستفهام: متى تذهب أعطك، وأين تكون آتك؛ يرتفع الأول إذا أردت الاستفهام؛ كقوله:
متى أنام لا يؤرقني الكرى = ليلا ولا أسمع أجراس المطي
فرفع الأول على الاستفهام وجازى بالآخر.
وأما الأمر والنهي: فقوله عز وجل {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من} فالجزم على الجزاء كقولك: لا تذهب أحسن إليك؛ والرفع فيه على الصفة للولي؛ كأنه قال: وليا وارثا لي.
[معاني القرآن لقطرب: 435]
وأما التمني: فقوله: ألا شراب أشربه يا هذا؛ ألا دابة أركبها؛ وإن شئت قلت: أركبها وأشربه، كأنه قال: مما أركب ومما أشرب؛ ويذهب الجزاء؛ ومثل ذلك قول الله عز وجل {فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى} فيجوز على: لا تخاف فيه دركا ولا تخشى، فتجعله صفة للطريق، على مثل ما ذكرنا، ويجوز على الابتداء؛ كأنه قال: أنت لا تخاف دركا على كل حال، وهذا الرفع جائز في جواب الجزاء كله على الابتداء.
قال أبو ذؤيب:
فقيل تحمل فوق طوقك إنها = مطبعة من يأتها لا يضيرها
وقال زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسألة = يقول لا غائب مالي ولا حرم
وقال الآخر في الأمر:
فقال رائدهم أرسوا نعالجها = فكل حتف امرئ يمضي بمقدار
وقال الآخر:
كونوا كمن ءاسى أخاه بنفسه = نعيش جميعا أو نموت كلانا
فرفع مثل {لا تخاف دركا ولا تخشى}.
وكذلك الرفع في: من يأتني أعطيه، ومتى تلقني أكرمك؛ ترفع الثاني فتبتدئه ولا تصيره جوابًا للجزاء.
ومثله:
[معاني القرآن لقطرب: 436]
يا أقرع بن حابس يا أقرع = إنك إن يصرع أخوك تصرع
فرفع؛ كأنه قال: إنك تصرع إن يصرع أخوك
وقال زهير فرفع الثاني:
وإن أتاه خليل يوم مسألة = يقول لا غائب مالي ولا حرم
وقال الآخر:
إن تحيي يحيون حياة رغدا
وأما قوله عز وجل {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} و{قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة} فالمعنى: قل للمؤمنين أقيموا الصلاة، وقل للمؤمنين غضوا؛ فحمل على لفظ الجزءا، كما قالوا: كذب عليك الحج؛ فاللفظ لفظ خبر، وهو أمر؛ كأنه قال: عليك الحج، نصب.
وكذلك قول بعض العرب: لا يغفر الله له، وهو على الدعاء، وصيروه في لفظ الخبر، فشبهوه به فرفعوه على الشبه به، ومثله {لا تخاف دركا ولا تخشى} ومثله {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا} نثبك عليها ونشكرك لجزم؛ لأنه يصير جزاء وشرطًا؛ وإن رفعت الفعلين جميعًا في: من وما وأي خاصة تصيرها بمنزلة الذي فحسن؛ تقول: من يكرمني أكرمه، وما تأخذ آخذ؛ تريد: الذي يكرمني أكرمه، والذي تأخذ آخذ.
[وزاد محمد بن صالح في روايته]:
وأما قوله عز وجل {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} فرفع هذا، فلهذه اللام التي اعتمد عليها في أول كلامه، دخلت على إن وقد.
[معاني القرآن لقطرب: 437]
قال الأعشى:
لئن منيت بنا عن غب معركة = لا تلقنا بدماء القوم ننتفل
فجزم، وذلك لا بأس به، إلا أنه لا يقرأ به، لمخالفة الكتاب.
قال أبو علي: وجواب الجزاء بخمسة أحرف في بإن تفعل أفعل، والياء في يفعل، والنون في نفعل، والفاء في قول الله عز وجل {ومن عاد فينتقم الله منه}، وقوله {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} يرتفع ما بعدها بانقطاعه عما قبلها؛ وكذلك قوله عز وجل {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}.
وأما قوله عز وجل "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" فمن نصب - وهي قراءة ابن عباس رحمه الله - على الجواب بالفاء؛ لأن الجزاء ليس بواجب، فقرب من النفي والاستفهام؛ لأنك إذا قلت: إن تأتني أعطك، فهذا فعل لم يقع، والجزم فيه على العطف على أوله؛ والرفع أيضًا حسن على الابتداء.
فهذه جملة من الجزاء أتينا بها على جميع ما في القرآن). [معاني القرآن لقطرب: 438]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({ما ننسخ من آية أو ننساها}: نؤخرها، ومنه: البيع بنسيئة أي: بتأخير، ومنه: نسأ الله في أجلك.
ومن قال: (نَنْسَها) فمعنى نتركها من النسيان ومنه {نسوا الله فنسيهم}).[غريب القرآن وتفسيره: 79]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} أراد: أو ننسكها, من النسيان.
ومن قرأها: (أو ننسأها) بالهمز؛ أراد: نؤخّرها فلا ننسخها إلى مدة، ومنه: النّسيئة في البيع، إنما هو: البيع بالتّأخير.
ومنه: النّسيء في الشهور، إنما هو: تأخير تحريم «المحرّم».
{نأت بخيرٍ منها} أي: بأفضل منها, ومعنى فضلها: سهولتها وخفتها). [تفسير غريب القرآن: 60-61]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير (106)}
في {ننسها} غير وجه قد قرئ به: (أو نُنْسِهَا)، و(نَنْسَهَا)، و(نَنْسَؤُها).
فأما النسخ في اللغة؛ فإبطال شيء, وإقامة آخر مقامه، العرب تقول: نسخت الشمس الظل، والمعنى: أذهبت الظل, وحلّت محلّه،
وقال أهل اللغة في معنى {أو ننسها} قولين:-
1- قال بعضهم: (أو ننسها) من النسيان، وقالوا: دليلنا على ذلك قوله عزّ وجلّ: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء اللّه}, فقد أعلم اللّه أنه يشاء أن ينسى، وهذا القول عندي ليس بجائز؛ لأن اللّه عزّ وجل قد أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك} أنّه لا يشاء أن يذهب بالذي أوحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله {فلا تنسى * إلا ما شاء اللّه} قولان يبطلان هذا القول الذي حكينا عن بعض أهل اللغة:-
أحدهما: {فلا تنسى} أي: لست تترك إلا ما شاء اللّه أن تترك،
ويجوز أن يكون: إلا ما شاء الله مما يلحق بالبشرية، ثم تذكر بعد، ليس أنه على طريق السلب للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أوتيه من الحكمة.
2- وقيل في {أو ننسها} قول آخر, وهو خطأ أيضاً, قالوا: أو نتركها, وهذا يقال فيه: نسيت إذا تركت، ولا يقال: أنسيت أي: تركت، وإنما معنى {أو ننسها}: أو نتركها, أي: نأمر بتركها،
فإن قال قائل: ما معنى تركها غير النسخ؟ وما الفرق بين الترك والنسخ؟
فالجواب في ذلك: أن النسخ يأتي في الكتاب في نسخ الآية بآية , فتبطل الثانية العمل بالأولى.
ومعنى الترك: أن تأتي الآية بضرب من العمل , فيؤمر المسلمون بترك ذلك بغير آية تأتي ناسخة للتي قبلها، نحو: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن}, ثم أمر المسلمون بعد ذلك بترك المحنة, فهذا معنى الترك، ومعنى النسخ قد بيّنّاه, فهذا هو الحق.
ومن قرأ (أو ننسؤها) أراد: نؤخرها, والنّسء في اللغة التأخير، يقال: نسأ اللّه في أجله, وأنسأ اللّه أجله, أي: أخر أجله.
وقوله: {نأت بخير منها}المعنى: بخير منها لكم ، {أو مثلها}، فأما ما يؤتى فيه بخير من المنسوخ , فتمام الصيام الذي نسخ الإباحة في الإفطار لمن استطاع الصيام, ودليل ذلك قوله: {ولتكملوا العدّة}, فهذا هو خير لنا كما قال اللّه عزّ وجلّ.
وأمّا قوله {أو مثلها} أي: نأتي بآية ثوابها كثواب التي قبلها، والفائدة في ذلك أن يكون الناسخ أسهل في المأخذ من المنسوخ، والإيمان به أسوغ, والناس إليه أسرع نحو القبلة التي كانت على جهة, ثم أمر اللّه النبي صلى الله عليه وسلم بجعل البيت قبلة المسلمين وعدل بها عن القصد لبيت المقدس، فهذا وإن كان السجود إلى سائر النواحي متساوياً في العمل والثواب، فالذي أمر الله به في ذلك الوقت كان الأصلح، والأدعى للعرب, وغيرهم إلى الإسلام). [معاني القرآن: 1 / 190-191]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): (و{ننسها} أي: ننسكها يا محمد، من النسيان.
ومن قرأ (ننسأها) فهو من التأخير، أي: نؤخرها ولا ننسخها إلى مدة، ومنه النسأة في البيع أي: التأخير، والنسيء في الشهور: تأخيرها عن وقتها). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 32]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( (نَنْسَأَهَا): نؤخرها. (نَنْسَاهَا): نتركها). [العمدة في غريب القرآن: 81]

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليّ ولا نصير}
لفظ {ألم} ههنا لفظ استفهام, ومعناه: التوقيف، وجزم {ألم} ههنا كجزم "لم"؛ لأن حرف الاستفهام لا يغير العامل عن عمله،
ومعنى الملك في اللغة: تمام القدرة واستحكامها, فما كان مما يقال فيه ملك سمي: الملك، وما نالته القدرة مما يقال فيه مالك, فهو ملك، تقول: ملكت الشيء أملكه ملكا.
وكقوله تعالى {على ملك سليمان} أي: في سلطانه وقدرته.
وأصل هذا من قولهم: ملكت العجين أملكه إذا بالغت في عجنه، ومن هذا قيل في التزويج شهدنا "إملاك" فلان، أي: شهدنا عقد أمر نكاحه, وتشديده.
ومعنى الآية: إن اللّه يملك السّماوات والأرض, ومن فيهن, فهو أعلم بوجه الصلاح فيما يتعبدهم به، من ناسخ , ومنسوخ, ومتروك, وغيره.
وقوله عزّ وجلّ: {وما لكم من دون اللّه من وليّ ولا نصير}
هذا خطاب للمسلمين يخبرون فيه أن من خالفهم فهو عليهم، وأن اللّه جلّ وعزّ ناصرهم، والفائدة فيه: أنه بنصره إياهم, يغلبون من سواهم). [معاني القرآن: 1 / 191]

تفسير قوله تعالى:{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم...}
{أم} في المعنى تكون ردّا على الاستفهام على جهتين؛
إحداهما: أن تفرّق معنى "أيّ",
والأخرى: أن يستفهم بها, فتكون على جهة النسق، والذي ينوى بها الابتداء إلاّ أنه ابتداء متّصلٌ بكلام, فلو ابتدأت كلاماً ليس قبله كلامٌ، ثم استفهمت لم يكن إلاّ بالألف أو بهل؛ ومن ذلك قول الله: {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين * أم يقولون افتراه}، فجاءت "أم" وليس قبلها استفهام، فهذا دليل على أنها استفهامٌ مبتدأ على كلامٍ قد سبقه,
وأمّا قوله: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم} فإن شئت جعلته على مثل هذا، وإن شئت قلت: قبله استفهام, فردّ عليه؛ وهو قول الله: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير},
وكذلك قوله: {ما لنا لا نرى رجالاً كنّا نعدّهم مّن الأشرار * اتّخذناهم سخريًّا أم زاغت عنهم الأبصار} فإن شئت جعلته استفهاماً مبتدأ قد سبقه كلامٌ، وإن شئت جعلته مردوداً على قوله: {مالنا لا نرى رجالاً}, وقد قرأ بعض القرّاء: {أتّخذناهم سخرياً} يستفهم في {أتّخذناهم سخرياً} بقطع الألف لينسّق عليه "أم" ؛ لأن أكثر ما تجيء مع الألف؛ وكلٌّ صواب,
ومثله: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}, ثم قال: {أم أنا خيرٌ من هذا} والتفسير فيهما واحد, وربّما جعلت العرب "أم" إذا سبقها استفهام لا تصلح "أي" فيه على جهة "بل"؛ فيقولون: هل لك قبلنا حق أم أنت رجلٌ معروفٌ بالظّلم, يريدون: بل أنت رجلٌ معروف بالظّلم؛ وقال الشاعر:

فواللّه ما أدري أسلمى تغوّلت ....... أم النّوم أم كلٌّ إليّ حبيبٌ

معناه: بل كلّ إليّ حبيب.

وكذلك تفعل العرب في "أو" فيجعلونها نسقاً مفرّقة لمعنى ما صلحت فيه "أحدٌ"، و"إحدى" كقولك: اضرب أحدهما زيداً أو عمراً, فإذا وقعت في كلام لا يراد به أحدٌ , وإن صلحت جعلوها على جهة بل؛ كقولك في الكلام: اذهب إلى فلانٍ , أو دع ذلك, فلا تبرح اليوم, فقد دلّك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأوّل , وجعل "أو" في معنى "بل"؛ ومنه قول الله: {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون}, وأنشدني بعض العرب:

بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى ....... وصورتها أو أنت في العين أملح

يريد: بل أنت). [معاني القرآن: 1 / 71-72]

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فقد ضلّ سواء السّبيل...} و "سواء" في هذا الموضع قصد، وقد تكون "سواء" في مذهب غير؛ كقولك للرجل: أتيت سواءك). [معاني القرآن: 1 / 73]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({سواء السّبيل} أي: وسطه،
قال عيسى بن عمر: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي: أي: وسطي،
وقال حسّان بن ثابت يرثى عثمان بن عفّان:

يا ويح أنصار النبي ونسله....... بعد المغيّب في سواء الملحد

). [مجاز القرآن: 1 / 50]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة العامة {كما سئل} بالهمز - وهي الأصل - من سألت؛ وهي أحسن.
[معاني القرآن لقطرب: 256]
قراءة الحسن "كما سيل" بغير همزة؛ وسنخبر عن الهمز إن شاء الله؛ إلا أن سلت تسال لغة عليها قراءة الحسن.
قال حسان:
سالت هذيل رسول الله فاحشة = ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
فلم يهمز). [معاني القرآن لقطرب: 257]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {فقد ضل سواء السبيل} فالسواء: الوسط، وكقوله {في سواء الجحيم} أي في وسطها
قال الشاعر وهو كعب بن زهير:
ومشجع أما سواء قذاله = فيدا وغير ساره المعزاء
يريد: سائره.
وقال حسان بن ثابت:
............... = حتى أغي بفي سواء الملحد
أي وسطه). [معاني القرآن لقطرب: 331]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {كما سئل موسى من قبل} فقد ذكرناه في القراءة ما فيه.
ونخبر عن جملة من الهمز نأتي على ما في القرآن إن شاء الله.
الهمزة على ثلاثة أوجه: على التحقيق، والتخفيف، والبدل.
فالتحقيق الغالب على اللغة والقرآن، وذلك قول الله عز وجل {ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم} وكقوله {فلما أنبأهم بأسمائهم} و{كما بدأكم تعودون} وثمل: قرأ وخبأ، وثمل {يخرج الخبء}
[معاني القرآن لقطرب: 438]
و{لكم فيها دفء} و{فأرسله معي ردءا يصدقني} و{إن قتلهم كان خطئا كبيرا}.
وأما التخفيف في الهمزة، وإنما خففت من بين حروف المعجم؛ لأنها كالتهوع من صاحبها، تخرج من صدره كالسعلة، إذا قال: أكرم أو أحسن؛ فثقلت عليهم فخففوها وأبدلوها.
فإذا كانت الهمزة مفتوحة وما قبلها مفتوح صارت بين بين؛ بين الهمزة المخففة والألف الساكنة؛ لأنها تذهب نبرتها، ويبقى تحركها، فتكون بين الألف وبين الهمزة؛ لأن الهمزة فيها نبرتها، والألف الساكنة لا تتحرك، فقربت من الهمزة لتحركها ومن الألف لذهاب نبرتها التي تكون مع الهمزة المخففة؛ وذلك قول الله عز وجل في التخفيف "فقراه عليهم"، بغير نبرة متحركة، و"كما بداكم تعودون"، و"فلما أنباهم بأسمائهم"، وقرا وخبا ورفا.
فإذا كانت الهمزة مضمومة وما قبلها مفتوح، صارت الهمزة في لفظ الواو إذا خففت؛ للضمة فيها؛ وذلك قول الله عز وجل {يبدوا الخلق}، {يتفيوا ظلاله} كالواو المتحركة لا نبرة فيها.
وكذلك إذا كانت مكسورة وما قبلها مفتوح، صارت ياء؛ للكسرة فيها؛ وذلك مثل: لم يبري الرجل، وريمت الناقة ولدها؛ يريد: رئمت، وبرا الرجل.
فإذا كانت مفتوحة وما قبلها مضموم، فهي كالواو أيضًا؛ وذلك قولك: جون، وسور جمع سؤرة.
[معاني القرآن لقطرب: 439]
وإن كانت مكسورًا ما قبلها صارت كالياء، وذلك مثل {وإذا قرئ القرآن} مفتوحة غير مهموزة، وبين القوم مير؛ تريد: مئر من العداوة.
وإذا كانت مضمومة وما قبلها مكسور، مثل: هو ينبيك عنه، على مثال: يقضئك؛ صارت ياء للكسرة قبلها؛ وكذلك: "يبدي الله الخلق ثم يعيده" وهو يقريك السلام، بغير همز؛ وعلى هذا القول إذا انضم ما قبلها وانكسرت هي أن تكون واوًا؛ تتبع ما قبلها من الضمة؛ وذلك مثل: "كما سيل موسى"، كالواو المنكسرة وقد ريم الفصيل، ولم يبري الرجل من مرضه، ولم توضو الجارية؛ من وضؤت؛ أي حسنت؛ وكذلك القياس إذا انكسر ما قبله وانضم هو؛ وذلك مثل: سيل؛ ولو كانت كلامًا لصارت ياء للكسرة؛ تجتذب الياء إليها؛ ولم تجتذب الفتحة الهمزة المضمومة ولا المكسورة فتصير ألفًا لأن الألف بعيدة من الضمة والكسرة؛ لأن حركتها الفتح.
وإذا كانت الهمزة ما قبلها ساكن، ولم يكن ما قبلها واوًا ولا ياء ولا ألفًا، فأردت التخفيف حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها؛ ليدل على حذفها؛ وذلك قول الله عز وجل {لكم فيها دفء ومنافع} يقول: دف؛ و{يخرج الخبء في السماوات} يقول: الخب في السماوات؛ و{إن قتلهم كان خطئا كبيرا}، يقول: خطا؛ و{ردءًا يصدقني} يقول: {ردا} وهي قراءة الأعرج بغير همز، وقراءة شيبة ونافع.
وكذلك قوله: يسئل عنه ومسئلة واسئل؛ إذا خففت قلت: سل؛ وإنما صارت "سل" بغير همز حيث حذفت الهمزة فتحركت السين فحذفت الألف لتحرك السين؛ لأن الألف جاءت ليسكن بها ما بعدها؛ كما تقول: ابن وبني، واسم وسمي؛ فحذفوا حيث تحركت الباء والسين؛ وذلك قوله {سل بني إسرائيل} هي في الأصل: اسئل؛ لأنها من سألت، وكذلك {والملك على أرجائها} الأصل: المألك، وقد فسرنا ذلك في صدر الكتاب.
[معاني القرآن لقطرب: 440]
ومن ذلك قوله عز وجل {وهم ينهون عنه وينأون عنه} إذا خففت قلت: وينون عنه؛ وكذلك قوله عز وجل {أفلم ييأس الذين آمنوا} تقول إذا خففت: أفلم ييس الذين آمنوا؛ تلقي حركة الهمزة على ما قبلها؛ وكذلك قوله عز وجل {فإليه تجأرون}: تجرون؛ مثل: تسلون، والأكثر الهمزة والأصل.
فإذا كان قبل الهمزة الألف أو الياء أو الواو الزوائد كانت الياء مكسورًا ما قبلها فأردت التخفيف، فليس إلا أن تدغم الهمزة في الياء؛ وكذلك الواو المضموم ما قبلها، وتخفف في الألف لا تدغم في شيء قبلها من حروف المعجم.
وذلك في الياء كقول الله عز وجل {وأحاطت به خطيئته} تقول: خطيته، فتدغم ولا تهمز، و{النبي أولى بالمؤمنين} تقول: {النبي أولى} فتدغم، وكذلك {أولئك هم خير البرية} تقول: {البرية}، و{إني برئ مما تعلمون} تقول: "بري مما"؛ فتدغم ولا تهمز؛ كرهوا أن يحركوها وهي حروف مد ولين، فيذهب اللين؛ وإنما هي كالألف في فعال، كقول الله عز وجل {براءة من الله ورسوله} إذا خففت قلت: براة من الله؛ ولم تدغم لما ذكرنا.
وأما الواو فقولك: هذا كتاب مقروء، وشيء مشنوء، ومخبوء، تدغم إذا خففت، ولا تحذف الهمزة كما ذكرنا.
وإذا كانت الياء والواو من نفس الكلمة كقول الله عز وجل {حتى تفيء إلى أمر الله} و{لتنوء بالعصبة أولي القوة} و{إني أريد أن تبوء بإثمي} و{ليسوءوا وجوهكم} ومثل ذلك؛ فإن يونس أجاز الإدغام في مثله، قال: هو يجي، في يجيء؛ وأجاز: هذا مسو، ومفي؛ يريد: هذا مسوء، ومفيء؛ من سؤت وفئت.
وقد قال بعضهم: هو يجيك فحذف الهمزة وأسكن الياء؛ وأريد أن أجيك؛ فعلى هذا إذا أردت التخفيف قلت: حتى تفي إلى أمر الله؛ فأدغمت؛ وإن شئت - على قولهم يجيك -: حتى تفي إلى أمر الله.
[معاني القرآن لقطرب: 441]
والقول الثالث حسن في القياس؛ يعني: يجيك ويسوك؛ تلقي الحركة عليه، تقول: "لتنو بالعصبة"، و"حتى تفي إلى أمر الله" بغير همزة، و"أن تبو بإثمي وإثمك"، قالوا: قد جيء به، فحذفوا الهمزة؛ على هذا: "سيت وجوه الذين كفروا" يريد: {سيئت}، وقد قالوها في كلامهم، وكذلك "سيء بهم" يريد: {سيء بهم}.
وقال يونس أيضًا: رأيت شيا، فرمى بالهمزة وحرك الياء بحركة الهمزة؛ وقال أيضًا: رأيت شيا؛ فأدغم كما ذكرنا في يجي، وكذلك "إن هذا لشيء عجيب" و"شيء عجيب" كل لا بأس به، والأصل الهمز، وهو الذي نستحسن في القراءة.
وقالوا: سوة لك؛ فأدغموا، وضو يا هذا، وقد قالوا: سوة له؛ فحذفوا والقوا الحركة على ما قبلها؛ وكذلك "هيئة" في القياس كسوءة، وكذلك قوله: {فبدت لهما سواتهما} على هذه اللغة {سواتهما}؛ هذا كله جوازه في تخفيف الهمز على اللغة.
وإذا كانت الهمة ساكنة وما قبلها مفتوح، صارت كالألف؛ وإن كان مضمومًا صارت كالواو؛ وإن كان مكسورًا صارت كالياء؛ وذلك قوله عز وجل {يطاف عليهم بكأس من معين}، ورأس، و{فيه بأس شديد} كقولك: كاس وباس وراس؛ وكذلك {فإذا قرأت القرآن} {قرات}، و{إن نسينا أو أخطانا} وكذلك {يا نساء النبي من يأت منكن} من أتيت، {حتى يأذن لي أبي} من أذنت، وتقول في هذا كله: {فإذا قرات} و{إن نسينا أو أخطانا}.
وأما المضموم فهو قولك: {إن كنتم للرويا تعبرون} والرؤية، و{يؤتها أجرها مرتين} من: آتيت؛ أي أعطيت، و{إن ذلكم كان يؤذي النبي}
[معاني القرآن لقطرب: 442]
من آذى، و{إن كنتم تؤمنون} من: آمن؛ فيجوز في هذا ترك الهمزة تقول: {نوتها} و{الرويا}.
وأما المكسورة فقوله {أحسن أثاثا ورئيا} {فأكله الذئب} كذلك {وبئر معطلة} و{اعملوا ما شئتم} و{ما جئتم به آالسحر} تقول: بير وذيب وريا وشيتم.
وأما التقاء الهمزتين فقد قلنا في ذلك في صدر الكتاب، مثل: {جاء أشراطها} {جاء أحدهمه الموت} وشبه ذلك، قلنا في تخفيفه وحذفه.
وقد حذفوا أيضًا - لثقل الهمزة - ما لا يحذف في القياس، مما تحرك ما قبله، على مثل قراءة عيسى بن عمر {أريتم} بحذف الهمزة، وما قبلها متحرك.
ومثله قول الراجز:
أريت إن جئت به أملودا = مرجلا ويلبس البرودا
وقال بعض بكر بن وائل:
من را مثل سعدان بن ليلى = إذا ما النسع طال عن المطيه
ومن را مثل سعدان بن ليلى = إذا شبت شآمية عريه
وقالوا ذلك في الكلام: را زيد عمرا، بغير همز؛ وقد ري الهلال، بحذف الهمزة.
وأما قوله {فانظر ماذا ترى}، و{إني أرى في المنام}، و{سيرى الله عملكم}؛ فهذا الحذف حسن هاهنا؛ لأنه ألقى الحركة على الساكن؛ والأصل: يرى وترأى، إلا أن الحذف كثر في كلامهم في هذه الأحرف؛ لكثرة استعمالهم لترى وأرى ونرى؛ وقد جاءوا به على الأصل.
قال الأعلم بن جرادة:
[معاني القرآن لقطرب: 443]
ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر = ومن تيمل الدهر يرأ ويسمع
وقال سراقة البارقي:
أري عيني ما لم ترأياه = كلانا عالم بالترهات
وأما البدل:
فإن قريشًا وكنانة وأسدًا وكثيرًا من العرب يدعون الهمز؛ وحكي لنا بشار الناقط: قريت، وأخطيت، على البدلن وقالوا ايضًا: خببت الشيء، وتوضيت؛ يريد: خبأت وتوضأت، وداب يداب؛ يريد: يدأب، ولام يلوم من اللؤم؛ يريد: لؤم يلؤم.
وحى يونس أيضًا: اتكيت، وتوضيت، وأخطيت، يخطي مثل: يقضي غير مهموز، وهذا على قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع، والمستهزون، و{الخاطون} والمتكون؛ والمتكون؛ وقد ذكرناها في القراءة، جعلوها من: استهزيت، واتكيت.
قال حسان:
سالت هذيل رسول الله فاحشة = ضلت هذيل بما سالت ولم تصب.
فترك الهمز، وأبدل.
وقال حسان أيضًا:
ولو سئلت بدر بحسن بلائنا = فأنبت بما فينا إذا حمدت بدر.
فقال: أنبت؛ فترك الهمز وأبدل.
[معاني القرآن لقطرب: 444]
وقال الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال عشية = فارعى فزار فلا هناك المرتع
فقال: هناك؛ وهي من: هنأني الشيء.
وقال حسان بن ثابت:
جعلتم فخركم فيه لعبد = لألأم من يطا عفر التراب
فقال: يطا؛ وهي من وطئت، أطأ يا فتى.
وقال أمية:
تدافع درة في كل فج = كذلكم تداب ولا تقيم
فلم يهمز، وأسكن الألف.
وقال حسان بن ثابت:
فدابت سراها ليلة ثم عرست = بيثرب والأعراب باد وحاضر). [معاني القرآن لقطرب: 445]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({سواء السبيل}: وسطه وقصده، ومثله {في سواء الجحيم}).[غريب القرآن وتفسيره: 79]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: ({فقد ضلّ سواء السّبيل} أي: ضلّ عن وسط الطريق، وقصده). [تفسير غريب القرآن: 61]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل (108)}
أجود القراءة بتحقيق الهمزة، ويجوز جعلها بين بين، يكون بين الهمزة والياء فيلفظ بها (سُيل), وهذا إنما تحكمه المشافهة؛ لأن الكتاب فيه غير فاصل بين المتحقق والمليّن, وما جعل ياء خالصة، ويجوز (كما سِيلَ موسى من قبل), من قولك: سِلْت أَسَال، في معنى: سُئِلت أُسْأَل, وهي لغة للعرب حجاها جميع النحويين، ولكن القراءة على الوجهين اللذين شرحناهما قبل هذا الوجه من تحقيق الهمزة, وتليينها.
ومعنى {أم} ههنا, وفي كل مكان لا تقع فيه عطفاً على ألف الاستفهام إلا أنها لا تكون مبتدأة, أنها تؤذن بمعنى بل,
ومعنى ألف الاستفهام، المعنى "بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل",
فمعنى الآية: أنهم نهوا أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ما لا خير لهم في السؤال عنه , وما يكفّرهم، وإنما خوطبوا بهذا بعد وضوح البراهين لهم , وإقامتها على مخالفتهم , وقد شرحنا ذلك في قوله: {فتمنّوا الموت}, وما أشبه ذلك مما تقدم شرحه, فأعلم المسلمون أن السؤال بعد قيام البراهين كفر، كما قال عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}, وقوله: {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل} أي: من يسأل عما لا يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الحق , فقد ضل سواء السبيل, أي: قصد السبيل).
[معاني القرآن: 1 / 192-193]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( "السَوَاء": الوسط, {السَّبِيلِ}: الطريق). [العمدة في غريب القرآن: 82]

تفسير قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كفّاراً...} ها هنا انقطع الكلام، ثم قال: {حسداً} كالمفسّر لم ينصب على أنه نعتٌ للكفار، إنما هو كقولك للرجل: هو يريد بك الشر حسداً وبغياً). [معاني القرآن: 1 / 73]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {مّن عند أنفسهم...} من قبل أنفسهم لم يؤمروا به في كتبهم). [معاني القرآن: 1 / 73]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({فاعفوا واصفحوا} عن المشركين، وهذا قبل أن يؤمر بالهجرة والقتال؛ فكل أمر نهى عنه عن مجاهدة الكفار فهو قبل أن يؤمر بالقتال، وهو مكي). [مجاز القرآن: 1 / 50]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره إنّ اللّه على كلّ شيء قدير}
يعني به: علماء اليهود.
وقوله: {حسداً من عند أنفسهم} موصول بـ{ود الذين كفروا}، لا بقوله {حسداً}؛ لأن حسد الإنسان لا يكون من عند نفسه،
ولكن المعنى: مودتهم بكفركم من عند أنفسهم، لا أنهم عندهم الحق الكفر، ولا أن كتابهم أمرهم بما هم عليه من الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، الدليل على ذلك قوله: {من بعد ما تبيّن لهم الحق}.
وقوله عزّ وجلّ: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره} هذا في وقت لم يكن المسلمون أمروا فيه بحرب المشركين، وإنما كانوا يدعون بالحجج البينة وغاية الرفق حتى بين الله أنهم إنما يعاندون بعد وضوح الحق عندهم , فأمر المسلمون بعد ذلك بالحرب.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه على كلّ شيء قدير} أي: قدير على أن يدعو إلى دينه بما أحب مما هو عنده الأحكم والأبلغ,
ويقال: أَقدر على الشيء, قَدْراً, وقَدَرًا, وقُدْرة، وقُدْرَانا، ومَقْدِرَة , ومقدُرة , ومقدَرة.
هذه سبعة أوجه, مروية كلها، وأضعفها مقدِرة بالكسر). [معاني القرآن: 1 / 193-194]

تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وآتوا الزّكاة} أي: أعطوا). [مجاز القرآن: 1 / 51]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({آتوا الزكاة} أي: أعطوا).[غريب القرآن وتفسيره: 79]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ)
: ({آتُوا}: أعطوا). [العمدة في غريب القرآن: 82]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 1 جمادى الآخرة 1434هـ/11-04-2013م, 09:24 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) }
قال أبو عليًّ إسماعيلُ بنُ القاسمِ القَالِي (ت: 356هـ) : (قال أبو إسماعيل بن القاسم البغدادي: قرأ أبو عمرو بن العلاء: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسأها}.

على معنى أو نؤخرها.
والعرب تقول: نسأ اللّه في أجلك، وأنسأ اللّه أجلك، أي أخر أجلك.
وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه النّساء في الأجل، والسعة في الرزق، فليصل رحمه». والنساء: التأخير، يقال: بعته بنساء وبنسيئة، أي بتأخير، وأنسأته البيع.
وقال اللّه عز وجل: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} [التوبة: 37] ، والمعنى فيه على ما.
حدّثني أبو بكر بن الأنباري، رحمه الله: أنهم كانوا إذا صدروا عن منى قام رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة، فقال: أنا الذي لا أعاب، ولا يرد لي قضاء، فيقولون له: أنسئنا شهرًا، أي أخر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفرٍ، وذلك أنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا تمكنهم الإغارة فيها، لأن معاشهم كان من الإغارة، فيحل لهم المحرم ويحرم عليهم صفرا، فإذا كان في السنة المقبلة حرم عليهم المحرم وأحل لهم صفرا، فقال اللّه عز وجل: {إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر} [التوبة: 37] ، وقال الشاعر:

ألسنـا الناسئيـن علـى مـعـد .......شهور الحل نجعلها حراما

وقال الآخر:

وكـنــا الناسـئـيـن عــلــى مــعــد .......شهورهم الحرام إلى الحليل

وقال الآخر:

نسئوا الشهور بها وكانوا أهلها .......مـن قبلكـم والـعـز لــم يتـحـول

). [الأمالي: 1 / 4]

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) }
[لا يوجد]

تفسير قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) }
[لا يوجد]

تفسير قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) }
[لا يوجد]

تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }
[لا يوجد]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري



تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} الآية، النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر، والثاني الإزالة، فأما الأول فلا مدخل له في هذه الآية، وورد في كتاب الله تعالى في قوله تعالى: {إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون} [الجاثية: 29]، وأما الثاني الذي هو الإزالة فهو الذي في هذه الآية، وهو منقسم في اللغة على ضربين: أحدهما يثبت الناسخ بعد المنسوخ كقولهم نسخت الشمس الظل، والآخر لا يثبت كقولهم «نسخت الريح الأثر»، وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين، والناسخ حقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا إذ به يقع النسخ، وحد الناسخ عند حذاق أهل السنة: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت، بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.
والنسخ جائز على الله تعالى عقلا لأنه ليس يلزم عنه محال ولا تغيير صفة من صفاته تعالى، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت، ولا النسخ لطروّ علم، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ويعلم نسخه بالثاني. والبداء لا يجوز على الله تعالى لأنه لا يكون إلا لطروّ علم أو لتغير إرادة، وذلك محال في جهة الله تعالى، وجعلت اليهود النسخ والبداء واحدا، ولذلك لم يجوزوه فضلّوا.
والمنسوخ عند أئمتنا: الحكم الثابت نفسه، لا ما ذهبت إليه المعتزلة، من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل، والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله تعالى حسن، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا ترتبط بالإرادة، وعلى أن الحسن والقبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة نفسية.
والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط، ولو ثبت قطعا تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا. والنسخ لا يجوز في الإخبار، وإنما هو مختص بالأوامر والنواهي، وردّ بعض المعترضين الأمر خبرا بأن قال: أليس معناه: «واجب عليكم أن تفعلوا كذا» ؟ فهذا خبر، والجواب أن يقال: إن في ضمن المعنى إلا أن أنسخه عنكم وأرفعه، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار كذلك تضمن هذا الاستثناء.
وصور النسخ تختلف، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين، وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، وقد ينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة كالقبلة، وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى، والنسخ التام أن تنسخ التلاوة والحكم وذلك كثير، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر»، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم، وقد ينسخ الحكم دون التلاوة كصدقة النجوى، وكقوله تعالى: {وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم فآتوا الّذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} [الممتحنة: 11]، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر.
وينسخ القرآن بالقرآن، والسنة بالسنة، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي، وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد، وهذا كله متفق عليه، وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث»، وهو ظاهر مسائل مالك رحمه الله، وأبى ذلك الشافعي رحمه الله، والحجة عليه من قوله إسقاطه الجلد في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة. فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حذاق الأئمة على أن السنة تنسخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة فإن الصلاة إلى الشام لم تكن قط في كتاب الله، وفي قوله تعالى: {فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار} [الممتحنة: 10]، فإن رجوعهن إنما كان يصلح النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلفوا هل وقع شرعا، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء في التحول إلى القبلة، وأبى ذلك قوم، ولا يصح نسخ نص بقياس إذ من شروط القياس أن لا يخالف نصا، وهذا كله في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته واستقرار الشرع فأجمعت الأمة أنه لا نسخ. ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصا فنعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن.
وقال بعض المتكلمين: «النسخ الثابت متقرر في جهة كل أحد علم الناسخ أو لم يعلمه»، والذي عليه الحذاق أنه من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول، فإذا بلغه الناسخ طرأ عليه حكم النسخ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في كتاب الله تعالى في قصة الذبيح.
وقرأ جمهور الناس «ما ننسخ» بفتح النون، من نسخ، وقرأت طائفة «ننسخ»، بضم النون من «أنسخ»، وبها قرأ ابن عامر وحده من السبعة، قال أبو علي الفارسي: ليست لغة لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي لتعدية لأن المعنى يجيء ما نكتب من آية أي ما ننزل فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا، وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخا، كما تقول: أحمدت الرجل وأبخلته بمعنى وجدته محمودا أو بخيلا، قال أبو علي: وليس نجده منسوخا إلا بأن ننسخه فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وقد خرج قرأة هذه القراءة المعنى على وجهين: أحدهما أن يكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في منها ومثلها عائدين على الضمير في ننسأها، والمعنى الآخر أن يكون ننسخ من النسخ بمعنى الإزالة ويكون التقدير ما ننسخك أي نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخها الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخا، وما شرطية وهي مفعولة ب ننسخ، وننسخ جزم بالشرط.
واختلف القراء في قراءة قوله: {ننسها}، فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم وابن عامر وجمهور من الناس «ننسها» بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وترك الهمزة، وهذه من أنسى المنقول من نسي، وقرأت ذلك فرقة كما تقدم إلا أنها همزت بعد السين، فهذه بمعنى التأخير، تقول العرب أنسأت الدين وغيره أنسؤه إنساء إذا أخرته، وقرأت طائفة «أو ننسها» بفتح النون الأولى وسكون الثانية وفتح السين، وهذه بمعنى الترك، ذكرها مكي ولم ينسبها، وذكرها أبو عبيد البكري في كتاب اللآلي عن سعد بن أبي وقاص، وأراه وهم، وقرأ سعد بن أبي وقاص «أو تنسها» على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ونون بعدها ساكنة وفتح السين، هكذا قال أبو الفتح وأبو عمرو الداني، فقيل لسعد إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال: «إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب»، وتلا {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6]، {واذكر ربّك إذا نسيت} [الكهف: 24]، وقرأ سعيد بن المسيب فيما ذكر عنه أيضا «أو تنسها» بضم التاء أولا وفتح السين وسكون النون بينهما، وهذه من النسيان، وقرأ الضحاك بن مزاحم وأبو رجاء «ننسّها» بضم النون الأولى وفتح الثانية وسين مكسورة مشددة، وهذه أيضا من النسيان.
وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعبيد ابن عمير وابن كثير وأبو عمرو «ننسأها» بنون مفتوحة وأخرى بعدها ساكنة وسين مفتوحة وألف بعدها مهموزة، وهذه من التأخير، تقول العرب: نسأت الإبل عن الحوض أنسؤها نسأ أي أخرتها، وكذلك يقال: أنسأ الإبل إذا زاد في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك بمعنى أخرها عن الورد، وقرأت فرقة مثل هذه القراءة إلا أنها بتاء مفتوحة أولا على مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وإسناد الفعل إليه، وقرأ أبو حيوة مثل ذلك إلا أنه ضم التاء أولا، وقرأ أبي بن كعب «أو ننسك» بضم النون الأولى وسكون الثانية وسين مكسورة وكاف مخاطبة، وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة «أو ننسكها» مثل قراءة أبيّ إلا أنه زاد ضمير الآية.
وقرأ الأعمش «ما ننسك من آية أو ننسخها نجيء بمثلها»، وهكذا ثبتت في مصحف عبد الله بن مسعود.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه القراءات لا تخلو كل واحدة منها أن تكون من النسء أو الإنساء بمعنى التأخير، أو تكون من النسيان.
والنسيان في كلام العرب يجيء في الأغلب ضد الذكر، وقد يجيء بمعنى الترك، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات، فما كان منها يترتب في لفظة النسيان الذي هو ضد الذكر.
فمعنى الآية: ما ننسخ من آية أو نقدر نسيانك لها فتنساها حتى ترتفع جملة وتذهب فإنا نأتي بما هو خير منها لكم أو مثله في المنفعة.
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى الترك فإن الآية معه تترتب فيها أربعة معان:
أحدها: ما ننسخ على وجوه النسخ أو نترك غير منزل عليك فإنا لا بد أن ننزل رفقا بكم خيرا من ذلك أو مثله حتى لا ينقص الدين عن حد كماله.
والمعنى الثاني أو نترك تلاوته وإن رفعنا حكمه فيجيء النسخ على هذا رفع التلاوة والحكم.
والمعنى الثالث أو نترك حكمه وإن رفعنا تلاوته فالنسخ أيضا على هذا رفع التلاوة والحكم.
والمعنى الرابع أو نتركها غير منسوخة الحكم ولا التلاوة، فالنسخ على هذا المعنى هو على جميع وجوهه، ويجيء الضميران في منها أو مثلها عائدين على المنسوخة فقط، وكان الكلام إن نسخنا أو أبقينا فإنا نأتي بخير من المنسوخة أو مثلها.
وما كان من هذه القراءات يحمل على معنى التأخير فإن الآية معه تترتب فيها المعاني الأربعة التي في الترك، أولها ما ننسخ أو نؤخر إنزاله، والثاني ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر حكمه وإن أبقينا تلاوته، والثالث ما ننسخ النسخ الأكمل أو نؤخر تلاوته وإن أبقينا حكمه، والرابع ما ننسخ أو نؤخره مثبتا لا ننسخه، ويعود الضميران كما ذكرنا في الترك، وبعض هذه المعاني أقوى من بعض، لكن ذكرنا جميعها لأنها تحتمل، وقد قال «جميعها» العلماء إما نصا وإما إشارة فكملناها.
وقال الزجاج: إن القراءة «أو ننسها» بضم النون وسكون الثانية وكسر السين لا يتوجه فيها معنى الترك لأنه لا يقال أنسأ بمعنى ترك، وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه لأنه بمعنى نجعلك تتركها، وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر، وقال: إن هذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا نسي قرآنا، وقال أبو علي وغيره: ذلك جائز وقد وقع ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بتنسئة، واحتج الزجاج بقوله تعالى: {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك} [الإسراء: 86]، أي لم نفعل، قال أبو علي معناه لم نذهب بالجميع.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: على معنى إزالة النعمة كما توعد، وقد حكى الطبري القول عن أقدم من الزجاج، ورد عليه، والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله تعالى أن ينساه ولم يرد أن يثبت قرآنا جائز.
فأما النسيان الذي هو آفة في البشر فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية، فلما فرغ من الصلاة قال: «أفي القوم أبيّ؟» قال: «نعم يا رسول الله»، قال: «فلم لم تذكرني؟» قال: «حسبت أنها رفعت»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لم ترفع ولكني نسيتها».
ولفظة خير في الآية صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية، وقال قوم «خير» في الآية مصدر و «من» لابتداء الغاية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويقلق هذا القول لقوله تعالى: {أو مثلها} إلا أن يعطف المثل على الضمير في منها دون إعادة حرف الجر، وذلك معترض.
وقوله تعالى: {ألم تعلم أنّ} ظاهره الاستفهام ومعناه التقرير، والتقرير محتاج إلى معادل كالاستفهام المحض، فالمعادل هنا على قول جماعة {أم تريدون} [البقرة: 18]، وقال قوم أم هنا منقطعة، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره أم علمتم، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي.
ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء ويفعل في أحكامه ما يشاء، هو قدير على ذلك وعلى كل شيء، وهذا لإنكار اليهود النسخ.
وقوله تعالى: {على كلّ شيءٍ} لفظ عموم معناه الخصوص، إذ لم تدخل فيه الصفات القديمة بدلالة العقل ولا المحالات لأنها ليست بأشياء، والشيء في كلام العرب الموجود، وقديرٌ اسم فاعل على المبالغة من «قدر» بفتح العين «يقدر» بكسرها. ومن العرب من يقول قدر بكسر العين يقدر بفتحها). [المحرر الوجيز: 1 / 308-317]

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ (107) أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل (108) ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (109)}
الملك السلطان ونفوذ الأمر والإرادة، وجمع الضمير في لكم دال على أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أمته، و «الولي» فعيل من ولي إذا جاور ولحق، فالناصر والمعين والقائم بالأمر والحافظ كلهم مجاور بوجه ما، و «النصير» فعيل من النصر، وهو أشد مبالغة من ناصر). [المحرر الوجيز: 1 / 317]

تفسير قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {أم تريدون} قالت فرقة: أم رد على الاستفهام الأول، فهي معادلته.
وقالت فرقة: أم استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون، وهذا موجود في كلام العرب.
وقالت فرقة: أم هنا بمعنى بل وألف الاستفهام، قال مكي وغيره: وهذا يضعف لأن «أم» لا تقع بمعنى بل إلا إذا اعترض المتكلم شك فيما يورده.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس كما قال مكي رحمه الله، لأن «بل» قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه، وإنما يلزم ما قال على أحد معنيي «بل» وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى، ونعم ما قال سيبويه: بل هي لترك كلام وأخذ في غيره.
وقال أبو العالية: إن هذه الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل». وتلا:{ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً} [النساء: 110].
فتجيء إضافة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة على هذا حسب الأمر في نفسه وحسب إقرارهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى الله عليه وسلم تفجير عيون وغير ذلك، وقيل: إن كفار قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله جهرة، وقيل: سألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلا، وقال مجاهد: سألوه أن يرد الصفا ذهبا، فقال لهم: «خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل»، فأبوا ونكصوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فتجيء على هذه الأقوال إضافة الرسول إليهم حسب الأمر في نفسه، لا على إقرارهم، وكما سئل موسى عليه السلام هو أن يرى الله جهرة. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وغيره «سيل» بكسر السين وياء وهي لغة، يقال: سلت أسال، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس ثم كسر السين من أجل الياء، وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين، وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل، وقال أبو العالية: «الكفر هنا الشدة، والإيمان الرخاء».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، إلا أن يريدهما مستعارتين، أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والتنعيم، وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به، وضلّ أخطأ الطريق، و «السواء» من كل شيء الوسط والمعظم، ومنه قوله تعالى:{في سواء الجحيم} [الصافات: 55].
وقال عيسى بن عمر: كتبت حتى انقطع سوائي، وقال حسان بن ثابت في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكر ابن إسحاق وغيره :


يا ويح أنصار النبيّ ورهطه ....... بعد المغيّب في سواء الملحد



وقال أبو عبيد: هو في عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو عندي وهم منه، والسّبيل عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله لعباده، لما كانت كالسبب إلى نيل رحمته كانت كالسبيل إليها). [المحرر الوجيز: 1 / 317 - 319]

تفسير قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب}، كثيرٌ مرتفع ب ودّ، وهو نعت لنكرة، وحذف الموصوف النكرة قلق، ولكن جاز هنا لأنها صفة متمكنة ترفع الإشكال بمنزلة فريق، قال الزهري عنى بــــــ كثيرٌ واحد، وهو كعب بن الأشرف، وهذا تحامل، وقوله تعالى: {يردّونكم} يرد عليه، وقال ابن عباس: المراد ابنا أخطب، حيي وأبو ياسر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي الضمن الاتباع، فتجيء العبارة متمكنة، والكتاب هنا التوراة، ولو هنا بمنزلة «إن» لا تحتاج إلى جواب، وقيل: يتقدر جوابها في ودّ، التقدير لو يردونكم لودوا ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فــــــــ «ود» دالة على الجواب، لأن من شرطه أن يكون متأخرا عن لو، وكفّاراً مفعول ثان، ويحتمل أن يكون حالا، وحسداً مفعول له، وقيل: هو مصدر في موضع الحال.
واختلف في تعلق قوله: {من عند أنفسهم} فقيل: يتعلق بــــ ودّ لأنه بمعنى ودوا، وقيل: يتعلق بقوله حسداً فالوقف على قوله كفّاراً، والمعنى على هذين القولين: أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب ولا أمروا به فهو من تلقائهم، ولفظة الحسد تعطي هذا، فجاء من عند أنفسهم تأكيدا وإلزاما، كما قال تعالى: {يقولون بأفواههم} [آل عمران: 167]، {ويكتبون الكتاب بأيديهم} [البقرة: 79]، {ولا طائرٍ يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]، وقيل: يتعلق بقوله: {يردّونكم}، فالمعنى أنهم ودوا الرد بزيادة أن يكون من تلقائهم أي بإغوائهم وتزيينهم.
واختلف في سبب هذه الآية، فقيل: إن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر أتيا بيت المدارس، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم، فثبتا عليه ونزلت الآية، وقيل: إنما هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود في {راعنا} [البقرة: 104] وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل خير، ويودون أن يردوا المؤمنين كفارا.
والحقّ: المراد به في هذه الآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة ما المسلمون عليه، وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عنادا، واختلف أهل السنة في جواز ذلك، والصحيح عندي جوازه غفلا وبعده وقوعا، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب في ثاني حال من العناد، والعفو: ترك العقوبة وهو من «عفت الآثار»، والصفح: الإعراض عن المذنب كأنه يولي صفحة العنق.
وقال ابن عباس هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون} [التوبة: 29] إلى قوله: {صاغرون} [التوبة: 29]، وقيل: بقوله:{اقتلوا المشركين}، وقال قوم: ليس هذا حد المنسوخ، لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على من يجعل الأمر المنتظر أوامر الشرع أو قتل قريظة وإجلاء النضير، وأمر من يجعله آجال بني آدم فيترتب النسخ في هذه الآية بعينها، لأنه لا يختلف أن آيات الموادعة المطلقة قد نسخت كلها، والنسخ هو مجيء الأمر في هذه المقيدة، وقيل: مجيء الأمر هو فرض القتال، وقيل: قتل قريظة وإجلاء النضير، وقال أبو عبيدة في هذه الآية: إنها منسوخة بالقتال، لأن كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة، وقوله تعالى: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} مقتضاه في هذا الموضوع وعد للمؤمنين). [المحرر الوجيز: 1 / 319 - 321]

تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ (110) وقالوا لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربّه ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (112) وقالت اليهود ليست النّصارى على شيءٍ وقالت النّصارى ليست اليهود على شيءٍ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الّذين لا يعلمون مثل قولهم فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113)}
قالت فرقة من الفقهاء: إن قوله تعالى: {وأقيموا الصّلاة} عموم، وقالت فرقة: هو من مجمل القرآن، والمرجح أن ذلك عموم من وجه ومجمل من وجه، فعموم من حيث الصلاة الدعاء، فحمله على مقتضاه ممكن، وخصصه الشرع بهيئات وأفعال وأقوال، ومجمل من حيث الأوقات، وعدد الركعات والسجدات لا يفهم من اللفظ، بل السامع فيه مفتقر إلى التفسير، وهذا كله في أقيموا الصّلاة، وأما الزكاة فمجملة لا غير.
قال الطبري: إنما أمر الله هنا بالصلاة والزكاة لتحط ما تقدم من ميلهم إلى أقوال اليهود {راعنا} [البقرة: 104]، لأن ذلك نهي عن نوعه، ثم أمر المؤمنين بما يحطه، والخير المقدم منقض لأنه فعل، فمعنى تجدوه تجدوا ثوابه وجزاءه، وذلك بمنزلة وجوده.
وقوله تعالى: {إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ} خبر في اللفظ معناه الوعد والوعيد). [المحرر الوجيز: 1 / 322]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:59 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (106) ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ (107)}
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ما ننسخ من آيةٍ} ما نبدّل من آيةٍ.
وقال ابن جريج، عن مجاهدٍ: {ما ننسخ من آيةٍ} أي: ما نمح من آيةٍ.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: {ما ننسخ من آيةٍ} قال: نثبت خطّها ونبدّل حكمها. حدّث به عن أصحاب عبد اللّه بن مسعودٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن أبي العالية، ومحمّد بن كعبٍ القرظيّ، نحو ذلك.
وقال الضّحّاك: {ما ننسخ من آيةٍ} ما ننسك. وقال عطاءٌ: أمّا {ما ننسخ} فما نترك من القرآن. وقال ابن أبي حاتمٍ: يعني: ترك فلم ينزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال السّدّيّ: {ما ننسخ من آيةٍ} نسخها: قبضها. وقال ابن أبي حاتمٍ: يعني: قبضها: رفعها، مثل قوله: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة. وقوله: "لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى لهما ثالثًا".
وقال ابن جريرٍ: {ما ننسخ من آيةٍ} ما ينقل من حكم آيةٍ إلى غيره فنبدّله ونغيّره، وذلك أن يحوّل الحلال حرامًا والحرام حلالًا والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلّا في الأمر والنّهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة. فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخٌ ولا منسوخٌ. وأصل النّسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخةٍ أخرى إلى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره، إنّما هو تحويله ونقل عبادة إلى غيرها. وسواءٌ نسخ حكمها أو خطّها، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخةٌ. وأمّا علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حدّ النّسخ، والأمر في ذلك قريبٌ؛ لأنّ معنى النّسخ الشّرعيّ معلومٌ عند العلماء ولخّص بعضهم أنّه رفع الحكم بدليلٍ شرعيٍّ متأخّرٍ. فاندرج في ذلك نسخ الأخفّ بالأثقل، وعكسه، والنّسخ لا إلى بدلٍ. وأمّا تفاصيل أحكام النّسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطٌ في فنّ أصول الفقه.
وقال الطّبرانيّ: حدّثنا أبو شبيلٍ عبيد اللّه بن عبد الرّحمن بن واقدٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا العبّاس بن الفضل، عن سليمان بن أرقم، عن الزّهريّ، عن سالمٍ، عن أبيه، قال: قرأ رجلان سورةً أقرأهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلةٍ يصلّيان، فلم يقدرا منها على حرفٍ فأصبحا غاديين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرا ذلك له، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّها ممّا نسخ وأنسي، فالهوا عنها". فكان الزّهريّ يقرؤها: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} بضمّ النّون خفيفةً. سليمان بن أرقم ضعيفٌ.
[وقد روى أبو بكر بن الأنباريّ، عن أبيه، عن نصر بن داود، عن أبي عبيدٍ، عن عبد اللّه بن صالحٍ، عن اللّيث، عن يونس وعبيدٍ وعقيلٍ، عن ابن شهابٍ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيفٍ مثله مرفوعًا، ذكره القرطبيّ].
وقوله تعالى: {أو ننسها} فقرئ على وجهين: "ننسأها وننسها". فأمّا من قرأها: "ننسأها" -بفتح النّون والهمزة بعد السّين-فمعناه: نؤخّرها. قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسئها} يقول: ما نبدّل من آيةٍ، أو نتركها لا نبدّلها.
وقال مجاهدٌ عن أصحاب ابن مسعودٍ: {أو ننسئها} نثبت خطّها ونبدّل حكمها. وقال عبيد بن عميرٍ، ومجاهدٌ، وعطاءٌ: {أو ننسئها} نؤخّرها ونرجئها. وقال عطيّة العوفيّ: {أو ننسئها} نؤخّرها فلا ننسخها. وقال السّدّيّ مثله أيضًا، وكذا [قال] الرّبيع بن أنسٍ. وقال الضّحّاك: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسئها} يعني: النّاسخ من المنسوخ. وقال أبو العالية: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسئها} أي: نؤخّرها عندنا.
وقال ابن حاتمٍ: حدّثنا عبيد اللّه بن إسماعيل البغداديّ، حدّثنا خلفٌ، حدّثنا الخفّاف، عن إسماعيل -يعني ابن مسلمٍ-عن حبيب بن أبي ثابتٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: خطبنا عمر، رضي اللّه عنه، فقال: يقول اللّه عزّ وجلّ: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} أي: نؤخّرها.
وأمّا على قراءة: {أو ننسها} فقال عبد الرّزّاق، عن قتادة في قوله: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} قال: كان اللّه تعالى ينسي نبيّه ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا سواد بن عبد اللّه، حدّثنا خالد بن الحارث، حدّثنا عوفٌ، عن الحسن أنّه قال في قوله: {أو ننسها} قال: إنّ نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم أقرئ قرآنًا ثمّ نسيه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن نفيل، حدّثنا محمّد بن الزّبير الحرّانيّ، عن الحجّاج -يعني الجزريّ -عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: كان ممّا ينزل على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الوحي باللّيل وينساه بالنّهار، فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها}
قال أبو حاتمٍ: قال لي أبو جعفر بن نفيلٍ: ليس هو الحجّاج بن أرطاة، هو شيخٌ لنا جزري.
وقال عبيد بن عميرٍ: {أو ننسها} نرفعها من عندكم.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا هشيم، عن يعلى بن عطاءٍ، عن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقّاصٍ يقرأ: " ما ننسخ من آيةٍ أو تنسها" قال: قلت له: فإنّ سعيد بن المسيّب يقرأ: "أو تنسأها". قال: فقال سعدٌ: إنّ القرآن لم ينزل على المسيّب ولا على آل المسيّب، قال اللّه، جلّ ثناؤه: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6] {واذكر ربّك إذا نسيت} [الكهف: 24]..
وكذا رواه عبد الرّزّاق، عن هشيمٍ وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتمٍ الرّازيّ، عن آدم، عن شعبة، عن يعلى بن عطاءٍ، به. وقال: على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه.
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن محمّد بن كعبٍ، وقتادة وعكرمة، نحو قول سعيدٍ.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى، حدّثنا سفيان الثّوريّ، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال عمر: عليٌّ أقضانا، وأبيٌّ أقرؤنا، وإنّا لندع بعض ما يقول أبيّ، وأبيٌّ يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول، فلن أدعه لشيءٍ. واللّه يقول: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسئها نأت بخيرٍ منها أو مثلها}.
قال البخاريّ: حدّثنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا يحيى، حدّثنا سفيان، عن حبيبٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال عمر: أقرؤنا أبيٌّ، وأقضانا عليٌّ، وإنّا لندع من قول أبيّ، وذلك أن أبيًّا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. وقد قال اللّه: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها}
وقوله: {نأت بخيرٍ منها أو مثلها} أي: في الحكم بالنّسبة إلى مصلحة المكلّفين، كما قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {نأت بخيرٍ منها} يقول: خيرٌ لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال أبو العالية: {ما ننسخ من آيةٍ} فلا نعمل بها، {أو ننسئها} أي: نرجئها عندنا، نأت بها أو نظيرها.
وقال السّدّيّ: {نأت بخيرٍ منها أو مثلها} يقول: نأت بخيرٍ من الذي نسخناه، أو مثل الذي تركناه.
وقال قتادة: {نأت بخيرٍ منها أو مثلها} يقول: آيةٌ فيها تخفيفٌ، فيها رخصةٌ، فيها أمرٌ، فيها نهيٌ). [تفسير ابن كثير: 1/ 375-378]

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :
(وقوله: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ} يرشد تعالى بهذا إلى أنّه المتصرّف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر وهو المتصرّف، فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء، ويصحّ من يشاء، ويمرض من يشاء، ويوفّق من يشاء، ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحلّ ما يشاء، ويحرّم ما يشاء، ويبيح ما يشاء، ويحظر ما يشاء، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقّب لحكمه. ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون. ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنّسخ، فيأمر بالشّيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثمّ ينهى عنه لما يعلمه تعالى.. فالطّاعة كلّ الطّاعة في امتثال أمره واتّباع رسله في تصديق ما أخبروا. وامتثال ما أمروا. وترك ما عنه زجروا. وفي هذا المقام ردٌّ عظيمٌ وبيانٌ بليغٌ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم -لعنهم اللّه -في دعوى استحالة النّسخ إمّا عقلًا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا، ً وإمّا نقلًا كما تخرّصه آخرون منهم افتراءً وإفكًا.
قال الإمام أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه: فتأويل الآية: ألم تعلم يا محمّد أنّ لي ملك السّماوات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عمّا أشاء، وأنسخ وأبدّل وأغيّر من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقرّ فيهما ما أشاء.
ثمّ قال: وهذا الخبر وإن كان من اللّه تعالى خطابًا لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على وجه الخبر عن عظمته، فإنّه منه تكذيبٌ لليهود الّذين أنكروا نسخ أحكام التّوراة، وجحدوا نبوّة عيسى ومحمّدٍ، عليهما الصّلاة والسّلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند اللّه بتغيّر ما غيّر اللّه من حكم التّوراة. فأخبرهم اللّه أنّ له ملك السّماوات والأرض وسلطانهما، وأنّ الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السّمع والطّاعة لأمره ونهيه، وأنّ له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عمّا يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه.
[وأمر إبراهيم، عليه السّلام، بذبح ولده، ثمّ نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بنى إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثمّ رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل].
قلت: الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النّسخ، إنّما هو الكفر والعناد، فإنّه ليس في العقل ما يدلّ على امتناع النّسخ في أحكام اللّه تعالى؛ لأنّه يحكم ما يشاء كما أنّه يفعل ما يريد، مع أنّه قد وقع ذلك في كتبه المتقدّمة وشرائعه الماضية، كما أحلّ لآدم تزويج بناته من بنيه، ثمّ حرّم ذلك، وكما أباح لنوحٍ بعد خروجه من السّفينة أكل جميع الحيوانات، ثمّ نسخ حلّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه، وقد حرّم ذلك في شريعة التّوراة وما بعدها. وأشياء كثيرةٌ يطول ذكرها، وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه. وما يجاب به عن هذه الأدلّة بأجوبةٍ لفظيّةٍ، فلا تصرف الدّلالة في المعنى، إذ هو المقصود، وكما في كتبهم مشهورًا من البشارة بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم والأمر باتّباعه، فإنّه يفيد وجوب متابعته، عليه والسلام، وأنّه لا يقبل عملٌ إلّا على شريعته. وسواءٌ قيل إنّ الشّرائع المتقدّمة مغيّاة إلى بعثته، عليه السّلام، فلا يسمّى ذلك نسخًا كقوله: {ثمّ أتمّوا الصّيام إلى اللّيل} [البقرة: 187]، وقيل: إنّها مطلقةٌ، وإنّ شريعة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم نسختها، فعلى كلّ تقديرٍ فوجوب اتّباعه معيّنٌ لأنّه جاء بكتابٍ هو آخر الكتب عهدًا باللّه تبارك وتعالى.
ففي هذا المقام بيّن تعالى جواز النّسخ، ردًّا على اليهود، عليهم لعائن اللّه، حيث قال تعالى: {ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ* ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض وما لكم من دون اللّه من وليٍّ ولا نصيرٍ} الآية، فكما أنّ له الملك بلا منازعٍ، فكذلك له الحكم بما يشاء، {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] وقرئ في سورة آل عمران، التي نزل صدرها خطابًا مع أهل الكتاب، وقوع النسخ عند اليهود في وقوله تعالى: {كلّ الطّعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه} الآية [آل عمران: 93] كما سيأتي تفسيرها، والمسلمون كلّهم متّفقون على جواز النّسخ في أحكام اللّه تعالى، لما له في ذلك من الحكم البالغة، وكلّهم قال بوقوعه. وقال أبو مسلمٍ الأصبهانيّ المفسّر: لم يقع شيءٌ من ذلك في القرآن، وقوله هذا ضعيفٌ مردودٌ مرذولٌ. وقد تعسّف في الأجوبة عمّا وقع من النّسخ، فمن ذلك قضيّة العدّة بأربعة أشهرٍ وعشرًا بعد الحول لم يجب على ذلك بكلامٍ مقبولٍ، وقضيّة تحويل القبلة إلى الكعبة، عن بيت المقدس لم يجب بشيءٍ، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرةٍ من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصّدقة قبل مناجاة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم وغير ذلك، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1/ 378-380]

تفسير قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل (108)}
نهى اللّه تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} [المائدة: 101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبيّن لكم، ولا تسألوا عن الشّيء قبل كونه؛ فلعلّه أن يحرّم من أجل تلك المسألة. ولهذا جاء في الصّحيح: "إنّ أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيءٍ لم يحرّم، فحرّم من أجل مسألته". ولمّا سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الرّجل يجد مع امرأته رجلًا فإن تكلّم تكلّم بأمرٍ عظيمٍ، وإن سكت سكت على مثل ذلك؛ فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المسائل وعابها. ثمّ أنزل اللّه حكم الملاعنة. ولهذا ثبت في الصّحيحين من حديث المغيرة بن شعبة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال وفي صحيح مسلمٍ: "ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه". وهذا إنّما قاله بعد ما أخبرهم أنّ اللّه كتب عليهم الحجّ. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثًا. ثمّ قال، عليه السّلام: "لا ولو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم". ثمّ قال: "ذروني ما تركتكم" الحديث. وهكذا قال أنس بن مالكٍ: نهينا أن نسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن شيءٍ، فكان يعجبنا أن يأتي الرّجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصليّ في مسنده: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنانٍ، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازبٍ، قال: إن كان ليأتي عليّ السّنة أريد أن أسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن شيءٍ فأتهيّب منه، وإن كنّا لنتمنّى الأعراب.
وقال البزّار: حدّثنا محمّد بن المثنّى، حدّثنا ابن فضيلٍ، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ، قال: ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، ما سألوه إلا عن ثنتي عشرة مسألةً، كلّها في القرآن: {يسألونك عن الخمر والميسر} [البقرة:219]، و{يسألونك عن الشّهر الحرام} [البقرة: 217]، و{ويسألونك عن اليتامى} [البقرة: 220] يعني: هذا وأشباهه.
وقوله تعالى: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} أي: بل تريدون. أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاريٌّ، وهو يعمّ المؤمنين والكافرين، فإنّه، عليه السّلام، رسول اللّه إلى الجميع، كما قال تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السّماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا اللّه جهرةً فأخذتهم الصّاعقة بظلمهم} [النّساء: 153].
قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد [بن جبيرٍ] عن ابن عبّاسٍ، قال: قال رافع بن حريملة -أو وهب بن زيدٍ-: يا محمّد، ائتنا بكتابٍ تنزله علينا من السّماء نقرؤه، وفجّر لنا أنهارًا نتبعك ونصدّقك. فأنزل اللّه من قولهم: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل}
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية في قوله تعالى: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السّبيل} قال: قال رجلٌ: يا رسول اللّه، لو كانت كفّاراتنا كفّارات بني إسرائيل! فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "اللّهمّ لا نبغيها -ثلاثًا-ما أعطاكم اللّه خير ممّا أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبةً على بابه وكفّارتها، فإن كفّرها كانت له خزيًا في الدّنيا، وإن لم يكفّرها كانت له خزيًا في الآخرة. فما أعطاكم اللّه خيرٌ ممّا أعطى بني إسرائيل". قال: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} [النّساء: 110]، وقال: "الصّلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفّاراتٌ لمّا بينهنّ". وقال: "من همّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيّئةً واحدةً، ومن هم بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنةً واحدةً، وإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على اللّه إلّا هالكٌ". فأنزل اللّه: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل}
وقال مجاهدٌ: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} أن يريهم اللّه جهرةً، قال: سألت قريشٌ محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم أن يجعل لهم الصّفا ذهبًا. قال: "نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم"، فأبوا ورجعوا.
وعن السّدّيّ وقتادة نحو هذا، واللّه أعلم.
والمراد أنّ اللّه ذمّ من سأل الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم عن شيء، على وجه التعنّت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى، عليه السّلام، تعنّتًا وتكذيبًا وعنادًا، قال اللّه تعالى: {ومن يتبدّل الكفر بالإيمان} أي: من يشتر الكفر بالإيمان {فقد ضلّ سواء السّبيل} أي: فقد خرج عن الطّريق المستقيم إلى الجهل والضّلال وهكذا حال الّذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتّباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها، على وجه التّعنّت والكفر، كما قال تعالى: {ألم تر إلى الّذين بدّلوا نعمة اللّه كفرًا وأحلّوا قومهم دار البوار* جهنّم يصلونها وبئس القرار} [إبراهيم: 28، 29].
وقال أبو العالية: يتبدّل الشّدّة بالرّخاء). [تفسير ابن كثير: 1/ 380-382]

تفسير قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (109) وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ (110)}
يحذّر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طرائق الكفّار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظّاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيّهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصّفح والعفو والاحتمال، حتّى يأتي أمر اللّه من النّصر والفتح. ويأمرهم بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة. ويحثّهم على ذلك ويرغّبهم فيه، كما قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشدّ يهود للعرب حسدًا، إذ خصهم اللّه برسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وكانا جاهدين في ردّ النّاس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل اللّه فيهما: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم} الآية.
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر عن الزّهريّ، في قوله تعالى: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب} قال: هو كعب بن الأشرف.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو اليمان، حدّثنا شعيبٌ، عن الزّهريّ، أخبرني عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه: أنّ كعب بن الأشرف اليهوديّ كان شاعرًا، وكان يهجو النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. وفيه أنزل اللّه: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم} إلى قوله: {فاعفوا واصفحوا}
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: أنّ رسولًا أمّيًّا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرّسل والآيات، ثمّ يصدّق بذلك كلّه مثل تصديقهم، ولكنّهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا؛ ولذلك قال اللّه تعالى: {كفّارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} يقول: من بعد ما أضاء لهم الحقّ لم يجهلوا منه شيئًا، ولكنّ الحسد حملهم على الجحود، فعيرّهم ووبّخهم ولامهم أشدّ الملامة، وشرع لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين ما هم عليه من التّصديق والإيمان والإقرار بما أنزل عليهم وما أنزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.
وقال الرّبيع بن أنسٍ: {من عند أنفسهم} من قبل أنفسهم. وقال أبو العالية: {من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} من بعد ما تبيّن [لهم] أنّ محمّدًا رسول اللّه يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل، فكفروا به حسدًا وبغيًا؛ إذ كان من غيرهم. وكذا قال قتادة والرّبيع والسّدّيّ.
وقوله: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره} مثل قوله تعالى: {ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الّذين أشركوا أذًى كثيرًا وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186].
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره} نسخ ذلك قوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} إلى قوله: {وهم صاغرون} [التّوبة: 29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين. وكذا قال أبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، والسّدّيّ: إنّها منسوخةٌ بآية السّيف، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله: {حتّى يأتي اللّه بأمره}
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو اليمان أخبرنا شعيبٌ، عن الزّهريّ، أخبرني عروة بن الزّبير: أنّ أسامة بن زيدٍ أخبره، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم اللّه، ويصبرون على الأذى، قال اللّه: {فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتأوّل من العفو ما أمره اللّه به، حتّى أذن اللّه فيهم بقتلٍ، فقتل اللّه به من قتل من صناديد قريشٍ.
وهذا إسناده صحيحٌ، ولم أره في شيءٍ من الكتب السّتّة [ولكن له أصلٌ في الصّحيحين عن أسامة بن زيدٍ رضي اللّه عنهما]). [تفسير ابن كثير: 1/ 382-383]

تفسير قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه} يحثّ تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة، من إقام الصّلاة وإيتاء الزكاة، حتّى يمكّن لهم اللّه النّصر في الحياة الدّنيا ويوم يقوم الأشهاد {يوم لا ينفع الظّالمين معذرتهم ولهم اللّعنة ولهم سوء الدّار} [غافر: 52]؛ ولهذا قال تعالى: {إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ} يعني: أنّه تعالى لا يغفل عن عمل عاملٍ، ولا يضيع لديه، سواءٌ كان خيرًا أو شرًّا، فإنّه سيجازي كلّ عاملٍ بعمله.
وقال أبو جعفر بن جريرٍ في قوله تعالى: {إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ} وهذا الخبر من اللّه للّذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنّهم مهما فعلوا من خيرٍ أو شرٍّ، سرًّا أو علانيةً، فهو به بصيرٌ لا يخفى عليه منه شيءٌ، فيجزيهم بالإحسان خيرًا، وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإنّ فيه وعدًا ووعيدًا وأمرًا وزجرًا. وذلك أنّه أعلم القوم أنّه بصيرٌ بجميع أعمالهم ليجدّوا في طاعته إذ كان ذلك مدّخرًا لهم عنده، حتّى يثيبهم عليه، كما قال: {وما تقدّموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند اللّه} وليحذروا معصيته.
قال: وأمّا قوله: {بصيرٌ} فإنّه مبصرٌ صرف إلى "بصيرٍ" كما صرف مبدعٌ إلى "بديعٍ"، ومؤلمٌ إلى "أليمٍ"، واللّه أعلم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا ابن بكير، حدّثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامرٍ، قال: رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يفسّر في هذه الآية {سميعٌ بصيرٌ} يقول: بكلّ شيءٍ بصيرٌ). [تفسير ابن كثير: 1/ 383-384]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:38 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة