التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({نبذ فريقٌ} أي: بعض؛ "نبذه": تركه،
وقال أبو الأسود الدّؤليّ: قال أبو عبيدة: أخذ من الدألان، واختار الدّؤلى:
نظرت إلى عنوانه فنبذته ....... كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكا
). [مجاز القرآن: 1/ 48]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولمّا جاءهم رسول من عند اللّه مصدّق لما معهم نبذ فريق من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون} يعني به: النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي جاء به مصدّق التوراة والإنجيل،
{ولمّا} يقع بها الشيء لوقوع غيره {مصدّق} رفع صفة لرسول؛ لأنهما نكرتان.
ولو نصب كان جائزاً؛ لأن {رسول} قد وصف بقوله {من عند اللّه}, فلذلك صار النصب يحسن،
وموضع "ما" في {مصدّق لما معهم} جر بلام الإضافة، و "مع" صلة لها، والناصب لـ"مع" الاستقرار, المعنى: لما استقر معهم.
وقوله عزّ وجلّ: {نبذ فريق من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم}
{الّذين أوتوا الكتاب} يعني به: اليهود، و"الكتاب" هنا: التوراة, و{كتاب اللّه وراء ظهورهم} فيه قولان:
جائز أن يكون: القرآن,
وجائز أن يكون: التوراة؛ لأن الذين كفروا بالنبي قد نبذوا التوراة.
وقوله عزّ وجلّ: {كأنّهم لا يعلمون} أعلم أنهم علماء بكتابهم، وأنهم رفضوه على علم به، وعداوة للنبي صلّى اللّه عليه وسلم, وأعلم أنّهم نبذوا كتاب اللّه). [معاني القرآن: 1/ 182]
تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان...}
كما تقول (في ملك سليمان)، تصلح "في" و"على" في مثل هذا الموضع؛ تقول: أتيته في عهد سليمان, وعلى عهده سواء). [معاني القرآن: 1/ 63]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وما أنزل على الملكين...}
- يقرءون "الملكين" من الملائكة, وكان ابن عباس يقول: "الملكين" من الملوك). [معاني القرآن: 1/ 64]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به...}
أما السّحر فمن عمل الشياطين، فيتعلمون من الملكين كلاماً إذا قيل أخّذ به الرجل عن امرأته, ثم قال: ومن قول الملكين إذا تعلّم منهما ذلك: لا تكفر,
{إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر، فيتعلّمون} ليست بجواب لقوله: {وما يعلّمان}, إنما هي مردودة على قوله: {يعلّمون النّاس السّحر}, {فيتعلّمون ما يضرهم ولا ينفعهم}؛ فهذا وجه, ويكون {فيتعلّمون} متصلة بقوله: {إنّما نحن فتنةٌ} فيأبون, فيتعلّمون ما يضرّهم، وكأنه أجود الوجهين في العربية, والله أعلم). [معاني القرآن: 1/ 64]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولقد علموا لمن اشتراه...}
{من} في موضع رفع وهي جزاء؛ لأن العرب إذا أحدثت على الجزاء هذه اللام, صيّروا فعله على جهة "فعل", ولا يكادون يجعلونه على "يفعل" كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم؛ ألا ترى أنهم يقولون: سل عمّا شئت، وتقول: لا آتيك ما عشت، ولا يقولون ما تعش؛ لأن "ما" في تأويل جزاءٍ وقد وقع ما قبلها عليها، فصرفوا الفعل إلى "فعل"؛ لأن الجزم لا يستبين في "فعل"، فصيّروا حدوث اللام -وإن كانت لا تعرّب شيئا- كالذي يعرّب، ثم صيّروا جواب الجزاء بما تلقى به اليمين -يريد تستقبل به- إمّا بلامٍ، وإما بـ"لا" وإما بـ"إنّ" وإمّا بـ"ما" فتقول في "ما": لئن أتيتني ما ذلك لك بضائع،
وفي "إنّ": لئن أتيتني إنّ ذلك لمشكور لك -قال الفراء: لا يكتب "لئن" إلا بالياء ليفرق بينها وبين "لأن"-،
وفي "لا": "لئن أخرجوا لا يخرجون معهم",
وفي اللام: {ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار},
وإنما صيّروا جواب الجزاء كجواب اليمين؛ لأن اللام التي دخلت في قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه}, وفي قوله: {لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ}, وفي قوله: {لئن أخرجوا} إنما هي لام اليمين؛ كان موضعها في آخر الكلام، فلمّا صارت في أوله صارت كاليمين، فلقيت بما يلقى به اليمين، وإن أظهرت الفعل بعدها على "يفعل" جاز ذلك, وجزمته؛ فقلت: لئن تقم لا يقم إليك، وقال الشاعر:
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ....... ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع
وأنشدني بعض بني عقيل:
لئن كان ما حدّثته اليوم صادقاً ....... أصم في نهار القيظ للشّمس باديا
وأركب حماراً بين سرجٍ وفروةٍ ....... وأعر من الخاتام صغرى شماليا
فألقى جواب اليمين من الفعل، وكان الوجه في الكلام أن يقول: لئن كان كذا لآتينك، وتوهم إلغاء اللام، كما قال الآخر:
فلا يدعني قومي صريحاً لحرّةٍ ....... لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر
فاللام في "لئن" ملغاة، ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة "إن"، ألا ترى أن الشاعر قد قال:
فلئن قومٌ أصابوا غرّةً ....... وأصبنا من زمانٍ رققا
للقد كانوا لدى أزماننا ....... لصنيعين لبأسٍ وتقى
فأدخل على "لقد" لاماً أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام في "لقد" حتى صارت كأنها منها, وأنشدني بعض بنى أسد:
لددتهم النّصيحة كلّ لدٍّ ....... فمجّوا النّصح ثم ثنوا فقاءوا
فلا واللّه لا يلفى لما بي ....... ولا للما بهم أبداً دواء
ومثله قول الشاعر:
كما ما امرؤٌ في معشرٍ غير رهطه ....... ضعيف الكلام شخصه متضائل
قال: "كما" ثم زاد معها "ما" أخرى لكثرة "كما" في الكلام فصارت كأنها منها. وقال الأعشى:
لئن منيت بنا عن غبّ معركةٍ ....... لا تلفنا من دماء القوم ننتفل
فجزم "لا تلفنا" , والوجه الرفع، كما قال الله: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم}, ولكنه لمّا جاء بعد حرفٍ ينوي به الجزم صيّر جزما جوابا للمجزوم, وهو في معنى رفع, وأنشدني القاسم بن معنٍ, عن العرب:
حلفت له إن تدلج اللّيل لا يزل ....... أمامك بيتٌ من بيوتي سائر
والمعنى: حلفت له لا يزال أمامك بيتٌ، فلما جاء بعد المجزوم صيّر جواباً للجزم, ومثله في العربية: آتيك كي إن تحدثني بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد المجزوم جزم). [معاني القرآن: 1/ 65-69]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({في الآخرة من خلاقٍ}: من نصيب خير). [مجاز القرآن: 1/ 48]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} أي: تَتَبَّع, و{تتلُو}: تحكى وتكلم به، كما تقول: يتلو كتاب الله, أي: يقرؤه). [مجاز القرآن: 1/ 48]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ولبئس ما شروا به} أي: باعوا به أنفسهم، وقال ابن مفرّغ الحميريّ:
وشريت برداً ليتني ....... من بعد بردٍ كنت هامه
أي: بعته). [مجاز القرآن: 1/ 48]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرّين به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}
قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} معطوفان على {الملكين}، أو بدل منهما، ولكنهما أعجميان فلا ينصرفان, وموضعهما جر, و{بابل} لم ينصرف لتأنيثه، وذلك أن اسم كل مؤنث على حرفين أو ثلاثة أحرف أوسطها ساكن, فهو ينصرف، وما كان سوى ذلك من المؤنث فهو لا ينصرف ما دام اسماً للمؤنث.
وقال: {حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما}, فليس قوله: {فيتعلّمون} جواباً لقوله: {فلا تكفر}، إنما هو مبتدأ ثم عطف عليه فقال: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم}, وقال: {يفرّقون به بين المرء وزوجه}؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما زوج، فالمرأة زوج, والرجل زوج, قال: {وخلق منها زوجها}, وقال: {من كلٍّ زوجين اثنين}, وقد يقال أيضاً "هما زوجٌ" للاثنين، كما تقول: "هما سواءٌ", و"هما سيّان", و"الزوج" أيضاً: النمط يطرح على الهودج, قال الشاعر:
من كلّ محفوفٍ يظلّ غصيّة ....... زوجٌ عليه كلّةٌ وقرامها
وقد قالوا: "الزوجة", قال الشاعر:
زوجة أشمط مرهوبٍ بوادره ....... قد صار في رأسه التخويص والنزع
وقال: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ}, فهذه لام الابتداء تدخل بعد العلم, وما أشبهه, ويبتدأ بعدها، تقول: "لقد علمت لزيدٌ خيرٌ منك" , قال: {لّمن تبعك منهم لأملأنّ جهنّم}, وقال: {ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا}.
وقال: {ولقد علموا لمن اشتراه}, ثم قال: {لو كانوا يعلمون} يعني: بالأولين الشياطين؛ لأنهم قد علموا {ولّو كانوا يعلمون} يعني: الإنس, وكان في قوله: {لمثوبةٌ} دليل على "أثيبوا", فاستغني به عن الجواب). [معاني القرآن: 1/ 108-109]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (أبو جعفر وشيبة ونافع {ولكن الشياطين كفروا} يثقل.
الأعمش {ولكن الشياطين} يخفف.
الحسن {وما أنزل على الملكين} بفتح اللام.
قراءة أخرى سمعناها "الملكين" الواحد ملك، بكسر اللام). [معاني القرآن لقطرب: 255]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله {على ملك سليمان} فكان ابن عباس يقول: في ملك سليمان.
قال أبو علي: وسمعنا العرب من تميم تقول: دعاني على منزلة لا أحبها؛ أي إلى منزلة لا أحبها؛ قال وسمعناهم يقولون: كان هذا على حياة فلان؛ أي في حياته، وجئت إلى الليل؛ أي عند الليل. قال أبو علي: وهذا كثير سنذكره إن شاء الله فيما نستقبل في موضعه.
[معاني القرآن لقطرب: 327]
وقوله عز وجل {بين المرء وزوجه} فبعض العرب يقول: هذا امرؤ سوء مضاف، ورأيت امرأة سوء، ومررت بامرئ سوء، فيتبع الراء الهمزة؛ وقيس تفتح الراء في كل وجه فيقولون: هذا امرأ سوء، ومررت بامرإ سوء؛ فإذا دخلت الألف واللام فبعض العرب يقول: هذا المرء فينصب الميم في كل وجه؛ وبعضهم يقول: هذا المرء، ورأيت المرأ فاعلم، ومررت بالمرء فاعلم، فيتبع؛ وبعضهم يضم الميم في كل وجه فيقول: هذا مرء ومررت بمرء، ورأيت مرءًا.
وقال الراجز:
دع ذا ولكن رب مرء دقراز = مقصر يجهل حق الجار
ففتح.
فإذا دخلت هاء التأنيث قلت: هذه امرأة والامرأة: على امرئ، وهذه المرأة؛ يدخلها على مرء يا هذا، وهذه المرة، فيمن ترك الهمز، مثل: الكمة والحمة؛ وقد قالوا: هذه المراة فأبدلوا من الهمزة الألف؛ وكان أبو عمرو يقرأ "امرأت عمران"، ساكنة الألف مهموزة، وهذا شاذ قليل غير مستحسن). [معاني القرآن لقطرب: 328]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {فلا تكفر فيتعلمون} فرفع وهو نهي، لم يجعله جوابًا للجزاء، وكذلك {أن يقول له كن فيكون} فرفع، وهو كقولك: ايتني فأعطيك، في أنه أمر مثله.
وقوله {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} و{لا يقضى عليهم فيموتوا} فنصب.
وقوله {لا تقتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب} فنصب بالفاء، وسنخبر عن علة الانتصاب.
وقوله {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا} فنصب أو جزم، وسنخبر عنها إن شاء الله.
القول في الجواب بالفاء أنه يكون مع خمسة أشياء:
[معاني القرآن لقطرب: 424]
مع الأمر، والنهي، والاستفهام، والنفي، والتمني.
فالنهي {لا تقتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب} ولا تأتني فأضربك.
والأمر: ايتني فأحسن إليك؛ وقوله {كن فيكون} فيمن نصب.
والاستفهام قوله {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه} وقوله أيضًا {لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن} {وأكون}، وسنخبر عن جزم {وأكن} مع انتصاب {فأصدق} آخر الباب إن شاء الله.
وأما النفي فقول الله عز وجل {لا يقضى عليهم فيموتوا} وما تأتيني فتقول جميلا.
وأما التمني فكقولك: ألا دابة فأركبها، ألا شراب فأشربه.
وهذا كله منصوب بإضمار "أن"؛ كأنه قال: لا تفتروا فأن يسحتكم؛ ولا يقضي عليهم فأن يموتوا؛ لما كان آخره ليس مردودًا على أوله في المعنى أضمروا "أن"؛ ليكون اسما يرد على معنى اسم مثله؛ لأنه أراد: ايتني أو أعطني، فكأنه قال: لتكن منك عطية أو إتيان فأن أعطيك؛ أي فالعطية مني.
الا ترى أنه إذا قال: ايتني فهو خير لك؛ أنه قد جعل "هو" الإتيان الذي أضمره، فالمعنى: فالإتيان خير لك؛ ولا يجوز أن تكون الفاء هي الناصبة نفسها؛ لأنها حرف عطف، فجاز كالواو، ولو كانت هي الناصبة على ما يقول قوم، لكانت مثل: أن وكي، اللتين تنصبان الفعل، فجاز أن تدخل عليها حروف العطف، كما تدخل على أن وكي وشبههما، فتقول: وأن أعطيك، وكي أعطيك؛ فكان يجوز - لو كانت الفاء هي العاملة - أن تقول: وفأضربك، فتدخل الواو، أو: وثم فأضربك؛ وهذا فاسد، يدل على أن الفاء هاهنا حرف عطف، وليست بعاملة شيئًا.
وإن رفعت هذا كله - الذي نصبناه - على الابتداء؛ فلا بأس به؛ وذلك {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه} أي فهو يضاعفه تبتدئه؛ وعلى هذا {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} عطفه بالفاء على {يؤذن} كأنه قال: ولا يعتذرون؛ ولو رفعه على الابتداء كان ضعيفًا، ليس بالسهل في المعنى لو قال: لا يؤذن لهم فهم يعتذرون؛ لأنهم
[معاني القرآن لقطرب: 425]
لم يؤذن لهم فيكون منهم الاعتذار؛ وليس هذا مثل {فيضاعفه}؛ لأنه فهو يضاعفه، فلهذا حسن.
وكذلك قوله {كن فيكون} إذا رفع، وإنما تبتدئه، كأنه قال: إنما أمرنا ذلك فيكون يا هذا؛ أي فهو يكون؛ والنصب على الفاء لا بأس به، وإنما كثر الرفع، لأن المعنى فيه هذا الابتداء الذي وصفته.
وأما قوله {فلا تكفر فيتعلمون منهما} فليس بحسن فيه النصب؛ لأن المعنى: فهم يتعلمون على كل حال؛ ولم يجعل كفرهم سببًا لتعليمهم، ولكنه انقطع على كل حال؛ وإنما يكون نصبًا إذا كان الأول سببًا للفعل الآخر، نحو قولك: ايتني فأعطيك، والعطية سببها الإتيان، وبه وجبت.
وقال الفرزدق فيما نصب من النفي:
وما قام منا قائم في ندينا = فينطق، إلا بالتي هي أعرف
وقال كثير في الاستفهام:
ألم تسأل فيخبرك الرسوم = على فرناج والطلل القديم
وأما الرفع الذي أجزناه فقوله:
ألم تسأل الربع لاقواء فينطق = وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
فرفع، كأنه قال: فهو ينطق؛ وهذا مثل من قرأ {فيضاعفه}؛ والنصب أحسن في كل ما ذكرنا من الخمسة.
[معاني القرآن لقطرب: 426]
فإن كنت مخبرًا فالرفع؛ وذلك: كان زيد يأتيني فأحسن إليه، وكنت أمر به فيكرمني؛ لأن معنى الكلامين معنى واحد، فرجع الآخر إلى الأول فعطف عليه؛ وقد جاء بعض هذا منصوبًا، وهو مرغوب عنه؛ سمعنا العرب تقول: آتي الخصاف فيخصف نعلي؛ وهذا شاذ قليل؛ ومثله في الواجب قول الشاعر:
ثمت لا تجزونني عند ذاكم = ولكن سيجزيني المليك فيعقبا
نصب.
وأنشد بعضهم للأعشى:
لقد كان في حول ثواء ثويته = تقضي لبانات ويسأم سائم
نصب.
وأما قوله عز وجل {ودوا لو تدهن فيدهنون} فرفع، كأنه قال فهم يدهنون ولو نصب كان وجهًا: تدهن فيدهنوا، ولكنها على خلاف الكتاب؛ وإنما جاز لأن أوله تمني، ألا ترى أنك تقول: وددت لو فعل فأحسن إليه، وليته قام فأعطيه.
وقال الله عز وجل {لو أن لي كرة فأكون من المحسنين}، قال: وأنشدنا يونس بن حبيب:
اذهبي قولي لهذا = لو تلبثت قليلاً
يغفل الحي ومن = حولي ولا تعص فتيلا
فجاء بلو.
وأما قوله عز وجل {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} فرفع وأوله استفهام؛ فإنما المعنى فيه: أنه نبه في قوله {ألم تر}؛ أي انظر واعلم؛ ثم أخبر عن قصة المطر وما يصنع فقال: ومن قصته فتصبح الأرض مخضرة.
وشبيه به بيت النابغة:
[معاني القرآن لقطرب: 427]
فلا زال قبر بين تبنا وجاسم = عليه من السومي جود ووابل
فينبت حوذانا وعوفا منورا = سأتبعه من خير ما قال قائل
كأنه قال: فهو ينبت حوذانا، ابتدأه وجعله قصة على حيالها؛ والنصب جائز؛ لأن أوله "لا" التي ينفي بها.
[قال أبو الحسن: يبنا بالياء بفلسطين، وتبنا بالتاء عند جاسم من دمشق].
وأما قوله عز وجل {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} فإنما انتصاب هذا على معنى واحد؛ وهو إضمار "أن" فيه ولا يكون منصوبًا بـ"أن" هذه التي في لفظك؛ لأنه لو قال: ما كان لبشر أن يكلمه الله أو أن يرسل وفأن يوحي انتقض المعنى، ولكن المعنى: إلا وحيًا أو يرسل رسولا فأن يوحي بإذنه؛ فيرد "أن" وأن يرسل على الوحي، لأنه اسم مثله، كأنه قال: إلا وحيا أو إرسالاً؛ فبهذا يصح المعنى.
وأما قوله عز وجل {فأصدق وأكن} فمن قرأ بها {وأكون} هي القياس والأحسن، وكره قوم مخالفة الكتاب في ذلك؛ فمن قال: {وأكن} فإنما رده على موضع {فأصدق} وكأنه لم يذكر الفاء؛ لأنه إذا لم يذكرها جزم على الجزاء فقال: أصدق؛ لأن أوله استفهام؛ فقال: أصدق وأكن؛ فهذا وجه جزمه.
[معاني القرآن لقطرب: 428]
وقال الشاعر:
أيا صرفت فإنني لك كاشح = وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
جزم الآخر.
وقال الشاعر:
معاوى إننا بشر فأسجح = فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فرد الحديد - بنصبه إياه - على ليس، وترك العطف على الباء، ولم يجرر؛ كأنه لم يذكر الباء، كما قلنا في الفاء من الآية.
قال آخر:
دعني فأذهب جانبا = وحدي وأكفك جانبي
فجزم "وأكفك" على موضع "فأذهب" على مثل جزم الآية.
وقال الآخر أنشدناه بعضهم:
فلولا صدقت القوم يوم لقيتهم = فتطعن فيهم أو يكن لك ذاكرا.
فجزم "أو يكن لك" على موضع "فتطعن".
وقال أيضًا:
إذا أنفد الباكي عليك فإنني = سيبكيك مني دمع عين ممانح
ويبكيك أطراف الأسنة والقنا = إذا زعزعت والشيظمون الشرامح
ثم زعم يونس بعد ذلك: أنه سمعه رفعًا؛ والجزم فيه مثل: {فأصدق وأكن}.
وقال الأحوص أيضًا مثله:
[معاني القرآن لقطرب: 429]
فأبلوني بليتكم لعلي = أصالحكم وأستدرج نويا
فجزم مثل جزم الآية.
وأما قوله عز وجل {واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا} فيجوز أن يكون على الفاء منصوبًا؛ لأن أوله أمر؛ ويجوز على الدعاء عليهم: "فلا آمنوا"، فيكون في موضع جزم؛ لأن الجزم والنصب في فعل الاثنين والجميع سواء، ومن هذا الدعاء قوله:
فلا ذقت مما تأكل الطير طيبا = ولا ترو إلا من شراب مرنق
والمعنى: ولا رويت؛ دعا عليه.
وزعم يونس أن معنى هذا البيت:
إذا نحن فارقنا يزيد ورهطه = فلا يبق مال تقتنيه ولا أهل
يريد: فلا بقي مال ولا أهل.
وكذلك الواو و"أو" تنصب بما فيهما أيضًا، كقول الله عز وجل {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم} فانتصابه على: ليقطع طرفًا أو ليتوب عليهم.
وكذلك {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} فيمن نصب؛ ومن رفع فعلى العطف على {نرد} وعلى الابتداء.
وكذلك قوله {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} إذا نصب، فكأنه: وأن يعلم الصابرين؛ ومن قرأه: "ويعلم الصابرين" فجزم على العطف.
وقوله {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فكل هذا على إضمار "أن"؛ وإن صيرت {تكتموا} جزمًا على النهي - كأنه قال: ولا تكتموا - فحسن.
وكذلك في الكلام: لا تأكل السمك وتشرب اللبن؛ فالمعنى: لا تجمع بينهما إذا نصب، ولم يرد: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن؛ فيكون ناهيًا له عنهما جميعًا؛ وهذا معنى الجزم.
[معاني القرآن لقطرب: 430]
ومما جاء من هذا منتصبًا بأن مضمرةً، قول امرئ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما = نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا
كأنه قال: إلا أن نموت أو أن نعذر.
ومثله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله = عار عليك إذا فعلت عظيم
المعنى: لا تجمع بين هذين الفعلين.
ومثله:
ولولا رجال من رزام أعزة = وآل سبيع أو أسوءك علقما
مثل: {أو يتوب عليهم} .
كأنه قال: ولولا مساءتك.
وأما العطف على أوله في قوله {وتكتمون الحق}، يريد: ولا تكتموا الحق؛ فبيت امرئ القيس:
فقلت له صوب ولا تجهدنه = فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
فجزم "فيذرك" على النهي.
ومثله:
ولا تشتم المولى وتبلغ أذاته = فإنك إن تفعل تسفه وتجهل
يريد: ولا تبلغ أذاته.
فهذه حال الفاء وأخواته.
وأما قوله عز وجل {ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} فإنه ابتدأ؛ كأنه قال: أو هم يسلمون، على مثل قول الأعشى:
[معاني القرآن لقطرب: 431]
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا = أو تنزلون فإنا معشر نزل
كأنه قال: أو أنتم تنزلون؛ ولو نصب على ما ذكرنا بإضمار "أن" فقال: أو تسلموا، أو تنزلوا لأصاب؛ إلا أنها في الآية مخالفة للكتاب، فلا يقرأ بها.
وأما قوله عز وجل {ولقد علموا لمن اشتراه ما له} فهذه لام التوكيد على: علموا للذي اشتراه؛ وكذلك {لمن تبعك منهم لأملأن جهنم} فاللام الثانية كـ "لام" اليمين، كقولك: لمن أتاك والله لأضربنه؛ وكذلك {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى} هي الخبر لأن {أقرب} من صلة "من"، وهذا كقولك: لزيد لبئس الرجل، وحكي عن بعضهم: لتذهبن، بكسر اللام، وذلك شاذ قليل.
وقال الشاعر مثل ذلك:
إذا هو آلى حلفة قلت مثلها = لتغني عني ذا إنائك أجمعا
يريد: لتغنين.
وكذلك قوله {لأقسم بيوم القيامة} فيمن قرأها مقصورة؛ فهذا قولهم سمعناه منهم: لأريد ذلك، يريد: أريد ذاك؛ ولأحلف بالله، يريد: أحلف بالله، مثل {لأقسم} يريد: أقسم؛ فكأنها للتأكيد.
وقال الشاعر مثل ذلك:
لعمري لئن ضاقت علي بلادكم = ليعلم ربي أن بيتي واسع
كأنه قال: ليعلمن ربي.
وكذلك اللام التي في قوله {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} {وإن نظنك لمن الكاذبين}، و{إن كادت لتبدي به}؛ ومثله في الكلام: إن كان زيد لظريفًا، وإن كنت لعاقلاً؛ فالمعنىك أنه عاقل؛ وإنما توجب فتدخل اللام؛ لئلا
[معاني القرآن لقطرب: 432]
تلتبس "إن" هذه الموجبة بـ"إن" التي للنفي في معنى "ما"؛ لأن هذه التي في معنى "ما" لا تدخلها اللام؛ لأنها للنفي، واللام موجبة؛ ففرقوا بينهما بإلزام اللام لها؛ وهذه التي في معنى "ما" قول الله عز وجل {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء}، {وإن أدري لعله فتنة لكم}؛ أي ما ندري لعله فتنة، وما نقول إلا اعتراك.
وأما لام الإضافة فمكسورة في الاسم المظهر في قولك {لله ما في السماوات} ولزيد مال؛ فإذا أضمرت الاسم انفتحت فقلت: لك، وله؛ أو ناديت فقلت: يال بكر، يال تميم؛ وذلك لأن أصلها الفتح، فلما أضمروا أو نادوا ردوها إلى أصلها.
وإذا أظهروا الاسم كسروها؛ لئلا تلتبس بالمفتوحة التي تكون للتأكيد؛ لأن المؤكدة قد تقع في المظهر، كقول الله عز وجل {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} و{إن الله لغفور رحيم}، ولزيد خير من عمرو، فإذا أضمروا قالوا: لك وله، ولم تدخل لام التوكيد هاهنا؛ لأن الكاف والهاء موضعهما جر أو نصب، لا يكونان في موضع رفع.
وكذلك إذا قال: يال تميم، فتحتها؛ لأن لام التأكيد قد أمنها هاهنا؛ لأنها لا تقع في النداء، وإنما تقع في الخبر إذا قال: لزيد أفضل من عمرو؛ فلما أمنوا الالتباس ردوها إلى أصلها.
وأما اللام التي في معنى كي في الفعل، كقول الله عز وجل {ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين}؛ كأنه قال: لأن تكون من المؤمنين وكذلك {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} و{ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه} .
وقد حكي عن رجل من بلعنبر: ما كنت لأضربك، ففتح اللام، وذلك شاذ رديء.
وكذلك لام الأمر مكسورة كقول الله عز وجل {وليعفوا وليصفحوا}، {فليمدد بسبب إلى السماء} وقد أنشد بعضهم.
وأدناها وما فيها دني = ليرقد ثم يرقد أن يضارا
ففتح أيضًا لام الأمر؛ وهذا شاذ.
[معاني القرآن لقطرب: 433]
فهذه حال اللامات في القرآن.
وفتح لام الأمر لغة سليم وعكل وضبة؛ وكذلك لام الأمر تقول: ليذهب، ليقل). [معاني القرآن لقطرب: 434]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({من خلاق}: من نصيب خير.
{شروا به أنفسهم}: باعوا به أنفسهم). [غريب القرآن وتفسيره: 77-78]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} أي: ما ترويه الشياطين على ملك سليمان, والتلاوة والرواية شيء واحد, وكانت الشياطين دفنت سحراً تحت كرسيّه، وقالت للناس بعد وفاته: إنما هلك بالسحر, يقول: فاليهود تتبع السحر, وتعمل به.
{إنّما نحن فتنةٌ} أي: اختبار وابتلاء, و"الخلاق": الحظّ من الخير ومنه قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «ليؤيّدن اللّه هذا الدين بقوم لا خلاق لهم» أي: لا حظّ لهم في الخير.
{شروا به أنفسهم} أي: باعوها, يقال: شريت الشيء, وأنت تريد اشتريته وبعته, وهو حرف من حروف الأضداد). [تفسير غريب القرآن: 59-60]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}: ما كانت تتلوه، والذي كانت الشياطين تلته في ملك سليمان كتاب من السحر, فلبهت اليهود وكذبهم, ادعوا أن هذا السحر أخذوه عن سليمان, وأنه اسم الله الأعظم، يتكسّبون بذلك، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أنهم رفضوا كتابه, واتبعوا السحر،
ومعنى {على ملك سليمان}: على عهد ملك سليمان عليهم, فبرأ اللّه عزّ وجلّ سليمان من السحر، وأظهر محمداً صلى الله عليه وسلم على كذبهم.
وقال: {وما كفر سليمان} لأن اللّه جعل الإتيان من سليمان بالسحر كفراً, فبرّأه منه، وأعلم أن الشياطين كفروا, فقال: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}، فمن شدد {لكنّ} نصب الشياطين، ومن خفف رفع فقال: (وَلَكِنِ الشياطينُ كفروا), وقد قرئ بهما جميعاً.
وقوله عزّ وجلّ: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين} وقد قرئ (على المِلَكَيْنِ)، و{المَلَكَيْنِ} أثبت في الرواية والتفسير جميعاً,
المعنى: يعلمون الناس السحر, ويعلمون ما أنزل على الملكين، فموضع {ما} نصب، نسق على {السحر}،
وجائز أن يكون: واتبعوا ما تَتْلُو الشياطين, واتبعوا ما أنزل على الملكين، فتكون (ما) الثانية عطفاً على الأولى.
وقوله: {وما يعلّمان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر} فيه غير قول:
أحدها -وهو أثبتها-: أن الملكين كانا يعلمان الناس السحر, و"علمت"، و"أعلمت" جميعاً في اللغة بمعنى واحد, كانا يعلمان نبأ السحر, ويأمران باجتنابه, وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلاً لو سأل: ما الزنا وما القذف؟ لوجب أن يوقف, ويعلّم أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس, وأمرهما باجتنابه بعد الإعلام يدل على ما وصفنا، فهذا مستقيم بين، ولا يكون على هذا التأويل: تعلم السحر كفراً, إنما يكون العمل به كفرا، كما أن من عرف الزنا لم يأثم بأنه عرفه، وإنما يأثم بالعمل به.
وفيه قول آخر جائز: أن يكون اللّه عزّ وجلّ امتحن بالملكين الناس في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر، فيكون بتعلّمه كافراً, وبترك تعلمه مؤمناً؛ لأن السحر قد كان كثر, وكان في كل أمة، والدليل على ذلك: أن فرعون فزع في أمر موسى صلى الله عليه وسلم إلى السحر, فقال: {ائتوني بكل ساحر عليم}, وهذا ممكن أن يمتحن اللّه به كما امتحن بالنهر في قوله: {إنّ اللّه مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنه منّي إلّا من اغترف غرفة بيده}.
وقد قيل: إن السحر ما أنزل على الملكين، ولا أمرا به, ولا أتى به سليمان عليه السلام, فقال قوم: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين}, فيكون "ما" جحدا، ويكون "هاروت" و"ماروت" من صفة الشياطين، على تأويل هؤلاء، كان التأويل عندهم -على مذهب هؤلاء-: كان الشياطين هاروت وماروت، ويكون معنى قولهما -على مذهب هؤلاء-: {إنّما نحن فتنة فلا تكفر} كقول الغاوي والخليع: أنا في ضلال فلا ترد ما أنا فيه.
فهذه ثلاثة أوجه، والوجهان الأولان أشبه بالتأويل, وأشبه بالحق عند كثير من أهل اللغة، والقول الثالث له وجه، إلا أن الحديث وما جاء في قصّة الملكين أشبه وأولى أن يؤخذ به.
وإنما نذكر -مع الإعراب- المعنى والتفسير؛ لأن كتاب اللّه ينبغي أن يتبين؛ ألا ترى أن اللّه يقول: {أفلا يتدبّرون القرآن}, فحضضنا على التدبر والنظر، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب اللغة، أو ما يوافق نقلة أهل العلم، واللّه أعلم بحقيقة تفسير هذه الآية, إن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها، وتكلم جماعة منهم, وإنما تكلمنا على مذاهبهم.
وقال بعض أهل اللغة: إن الذي أنزل على الملكين كلام ليس بسحر إلا إنّه يفرق به بين المرء وزوجه, فهو من باب السحر في التحريم, وهذا يحتاج من الشرح إلى مثل ما يحتاج إليه السحر.
وقوله عزّ وجلّ: {فيتعلّمون منهما} ليس {يتعلّمون} بجواب لقوله {فلا تكفر}, وقد قال أصحاب النحو في هذا قولين:
قال بعضهم: إن قوله {يتعلمون} عطف على قوله: {يعلّمون}, وهذا خطأ، لأن قوله {منهما} دليل ههنا على أن التعلم من الملكين خاصة,
وقيل: {فيتعلّمون} عطف على ما يوجبه معنى الكلام، المعنى: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} فلا تتعلم, ولا تعمل بالسحر، فيأبون, فيتعلمون، وهذا قول حسن.
والأجود في هذا: أن يكون عطفاً على {يعلمان}, {فيتعلمون}, واستغنى عن ذكر {يعلمان} بما في الكلام من الدليل عليه.
وقوله عزّ وجلّ: {وما هم بضارّين به من أحد إلّا بإذن الله}؛ "الإذن" هنا لا يكون الأمر من الله عزّ وجلّ، {إنّ اللّه لا يأمر بالفحشاء}, ولكن المعنى: إلا بعلم الله.
وقوله عزّ وجلّ: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم} المعنى: أنّه يضرهم في الآخرة, وإن تعجلوا به في الدنيا نفعاً.
وقوله عزّ وجلّ: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}؛ "الخلاق": النصيب الوافر من الخير، ويعني بذلك: الذين يعلمون السحر؛ لأنهم كانوا من علماء اليهود.
وقوله عزّ وجلّ: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فيه قولان:
قالوا: {لو كانوا يعلمون} يعني به: الذين يعلمون السحر, والذين علموا أن العالم به لا خلاق له: هم المعلمون.
قال أبو إسحاق: والأجود عندي أن يكون {لو كانوا يعلمون} راجعاً إلى هؤلاء الذين قد علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة, أي: لمن علّم السحر, ولكن قيل: {لو كانوا يعلمون} وأي: لو كان علمهم ينفعهم, لسمّوا عالمين، ولكنّ علمهم نبذوه وراء ظهورهم، فقيل لهم: {لو كانوا يعلمون} أي: ليس يوفون العلم حقه؛ لأنّ العالم إذا ترك العمل بعلمه , قيل له: لست بعالم, ودخول اللام في لقد على جهة القسم والتوكيد.
وقال النحويون في {لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} قولين:
جعل بعضهم "من" بمعنى الشرط، وجعل الجواب: {ما له في الآخرة من خلاق}، وهذا ليس بموضع شرط ولا جزاء، ولكن المعنى: ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق, كما تقول: واللّه لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل.
فأمّا دخول اللام في الجزاء في غير هذا الموضع, وفيمن جعل هذا موضع شرط وجزاء مثل قوله: {ولئن جئتهم بآية ليقولنّ الّذين كفروا}, ونحو {ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آية ما تبعوا قبلتك}, فاللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة؛ لأنك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك في قولك: والله لئن جئتني لأكرمنك، فزعم بعض النحويين أن اللام لما دخلت في أول الكلام أشبهت القسم, فأجيبت بجوابه, وهذا خطأ؛ لأن جواب القسم ليس يشبه القسم، ولكن اللام الأولى دخلت إعلاماً أنّ الجملة بكمالها معقودة للقسم؛ لأن الجزاء وإن كان للقسم عليه , فقد صار للشرط فيه حظ، فلذلك دخلت اللام). [معاني القرآن: 1/ 182-187]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والفتنة: الاختبار، والفتنة: المنحة، والفتنة: المال، والفتنة: الأولاد، والفتنة -أيضًا-: الكفر، والفتنة: اختلاف الناس بالآراء، والفتنة: المحبة، والفتنة: الإحراق بالنار، والفتنة: إدخال الذهب أو الفضة إلى النار لينقيا من الخبث، والفتنة: المنع، والفتنة: الصد، يقال: فتنه عن كذا، أي: صده عنه). [ياقوتة الصراط: 177-178]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({واتبعوا ما تتلو الشياطين} أي: ما تروي، يعني: اليهود, والتلاوة: الرواية، والذين رووا أنهم قالوا بالسحر؛ لأن الشياطين دفنت تحت كرسي سليمان سحراً, فلما مات؛ قالت الشياطين: بهذا هلك، فاتبعته اليهود, وعملت به.
{إنما نحن فتنة} أي: ابتلاء واختبار , و"الخلاق": الحظ من الخير). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 32]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مَا تَتْلُو}: ما تروى, {فِتْنَةٌ}: اختبار, {مِنْ خَلاَقٍ}: نصيب). [العمدة في غريب القرآن: 80-81]
تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لمثوبةٌ}: من الثواب). [مجاز القرآن: 1/ 49]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ مّن عند اللّه خيرٌ لّو كانوا يعلمون}
قال: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ مّن عند اللّه خيرٌ}, فليس لقوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا} جواب في اللفظ, ولكنه في المعنى يريد: لأثيبوا, فقوله: {لمثوبةٌ} يدل على "لأثيبوا", فاستغني به عن الجواب, وقوله: {لمثوبةٌ} هذه اللام للابتداء كما فسرت لك). [معاني القرآن: 1/ 109]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة ابن عباس رحمه الله "لمثوبة".
الحسن وأبو عمرو {لمثوبة} يسكنان الواو.
وقراءة أخرى "لمثوبة".
[معاني القرآن لقطرب: 255]
وقالوا في لغة أيضًا: لمثوبة بضم الواو، وهي من الثواب مفعلة، من أثاب يثيب). [معاني القرآن لقطرب: 256]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {لمثوبة} فقالوا: أثوبه الله مثوبة، فأظهروا الواو من أثابه؛ وقال الله عز وجل {فأثابكم غما بغم} فجعل الغم ثوابًا، نحو {هل ثوب الكفار} و{فبشرهم بعذاب أليم} ). [معاني القرآن لقطرب: 328]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({لمثوبة}: من الثواب). [غريب القرآن وتفسيره: 78]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({المثوبة}: الثواب, والثواب والأجر: هما الجزاء على العمل). [تفسير غريب القرآن: 60]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبة من عند اللّه خير لو كانوا يعلمون}
"مثوبة" في موضع جواب "لو" لأنها تنبئ عن قولك: "لأثيبوا", ومعنى الكلام: أن ثواب اللّه خير لهم من كسبهم بالكفر والسحر.
وقوله عزّ وجلّ: {لو كانوا يعلمون} أي: لو كانوا يعملون بعلمهم، ويعلمون حقيقة ما فيه الفضل). [معاني القرآن: 1/ 187]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("الَمَثُوبَةٌ": الثواب). [العمدة في غريب القرآن: 81]