تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولقد آتينا موسى الكتاب وقفّينا من بعده بالرّسل وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيّدناه بروح القدس أفكلّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقًا كذّبتم وفريقًا تقتلون (87)}
ينعت -تبارك وتعالى- بني إسرائيل بالعتوّ والعناد والمخالفة، والاستكبار على الأنبياء، وأنّهم إنّما يتّبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنّه آتى موسى الكتاب -وهو التّوراة- فحرّفوها وبدّلوها، وخالفوا أوامرها وأوّلوها. وأرسل الرّسل والنّبيّين من بعده الّذين يحكمون بشريعته، كما قال تعالى: {إنّا أنزلنا التّوراة فيها هدًى ونورٌ يحكم بها النّبيّون الّذين أسلموا للّذين هادوا والرّبّانيّون والأحبار بما استحفظوا من كتاب اللّه وكانوا عليه شهداء} الآية [المائدة: 44]، ولهذا قال: {وقفّينا من بعده بالرّسل}.
- قال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ: «أتبعنا».
- وقال غيره: «أردفنا».
والكلّ قريبٌ، كما قال تعالى: {ثمّ أرسلنا رسلنا تترا} [المؤمنون: 44]،
حتّى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، فجاء بمخالفة التّوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه اللّه من البيّنات، وهي: المعجزات. قال ابن عبّاسٍ:«من إحياء الموتى، وخلقه من الطّين كهيئة الطّير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن اللّه، وإبرائه الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس -وهو جبريل عليه السّلام - ما يدلّهم على صدقه فيما جاءهم به. فاشتدّ تكذيب بني إسرائيل له وحسدهم وعنادهم لمخالفة التّوراة في البعض، كما قال تعالى إخبارًا عن عيسى: {ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم وجئتكم بآيةٍ من ربّكم} الآية [آل عمران: 50]. فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليهم السّلام أسوأ المعاملة، ففريقًا يكذّبونه. وفريقًا يقتلونه، وما ذاك إلّا لأنّهم كانوا يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التّوراة التي قد تصرّفوا في مخالفتها، فلهذا كان يشقّ ذلك عليهم، فيكذّبونهم، وربّما قتلوا بعضهم؛ ولهذا قال تعالى: {أفكلّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقًا كذّبتم وفريقًا تقتلون}».
والدّليل على أنّ روح القدس هو جبريل، كما نصّ عليه ابن مسعودٍ في تفسير هذه الآية، وتابعه على ذلك [ابن عبّاسٍ و] محمّد بن كعبٍ القرظيّ، وإسماعيل بن أبي خالدٍ، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ، وعطيّة العوفيّ، وقتادة مع قوله تعالى: {نزل به الرّوح الأمين* على قلبك لتكون من المنذرين* [بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ]} [الشّعراء: 193-195] ما قال البخاريّ: وقال ابن أبي الزّناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وضع لحسّان بن ثابتٍ منبرًا في المسجد، فكان ينافح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «اللّهمّ أيّد حسّان بروح القدس كما نافح عن نبيّك». وهذا من البخاريّ تعليقٌ.
- وقد رواه أبو داود في سننه، عن لوين، والتّرمذيّ، عن عليّ بن حجرٍ، وإسماعيل بن موسى الفزاريّ، ثلاثتهم عن عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، عن أبيه وهشام بن عروة، كلاهما عن عروة، عن عائشة به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ، وهو حديث أبي الزّناد.
- وفي الصّحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن الزّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة: أنّ عمر مرّ بحسّان، وهو ينشد الشّعر في المسجد فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد فيه، وفيه من هو خيرٌ منك. ثمّ التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك اللّه أسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:«أجب عنّي، اللّهمّ أيّده بروح القدس»؟ فقال: اللّهمّ نعم.
- وفي بعض الرّوايات: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لحسّان:«اهجهم -أو: هاجهم- وجبريل معك».
- [وفي شعر حسّان قوله:
وجبريلٌ رسول اللّه ينادي ....... وروح القدس ليس به خفاء]
- وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني عبد اللّه بن عبد الرّحمن بن أبي حسينٍ المكّيّ، عن شهر بن حوشبٍ الأشعريّ: أنّ نفرًا من اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: أخبرنا عن الرّوح. فقال:«أنشدكم باللّه وبأيّامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنّه جبريل؟ وهو الذي يأتيني؟»، قالوا: نعم.
- [وفي صحيح ابن حبّان أظنّه عن ابن مسعودٍ أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ روح القدس نفخ في روعي: إنّ نفسًا لن تموت حتّى تستكمل رزقها وأجلها فاتّقوا اللّه وأجملوا في الطّلب»].
أقوالٌ أخر:
- قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا منجاب بن الحارث، حدّثنا بشرٌ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {بروح القدس} قال: «هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى». وقال ابن جريرٍ: حدثت عن المنجاب، فذكره. قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن سعيد بن جبيرٍ نحو ذلك. [ونقله القرطبيّ عن عبيد بن عميرٍ -أيضًا- قال: «وهو الاسم الأعظم»].
- وقال ابن أبي نجيح:«الرّوح هو حفظةٌ على الملائكة».
- وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ: «القدس هو الرّبّ تبارك وتعالى». وهو قول كعبٍ.
- وقال السّدّيّ:«القدس: البركة».
- وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: «القدس: الطّهر».
- [وحكى القرطبيّ عن مجاهدٍ والحسن البصريّ أنّهما قالا: «القدس: هو اللّه تعالى، وروحه: جبريل»، فعلى هذا يكون القول الأوّل].
- وقال ابن جريرٍ: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قوله تعالى: {وأيّدناه بروح القدس} قال:«أيّد اللّه عيسى بالإنجيل روحًا كما جعل القرآن روحًا، كلاهما روحٌ من اللّه، كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشّورى: 52] ».
ثمّ قال ابن جريرٍ: وأولى التّأويلات في ذلك بالصّواب قول من قال: الرّوح في هذا الموضع جبريل، لأنّ اللّه -عزّ وجلّ- أخبر أنّه أيّد عيسى به، كما أخبر في قوله: {إذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك بروح القدس تكلّم النّاس في المهد وكهلا وإذ علّمتك الكتاب والحكمة والتّوراة والإنجيل} الآية [المائدة: 110]. فذكر أنّه أيّده به، فلو كان الرّوح الذي أيّده به هو الإنجيل، لكان قوله: {إذ أيّدتك بروح القدس}، {وإذ علّمتك الكتاب والحكمة والتّوراة والإنجيل} تكرير قولٍ لا معنى له، واللّه أعزّ أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به.
قلت: ومن الدّليل على أنّه جبريل ما تقدّم في أوّل السّياق؛ وللّه الحمد.
- وقال الزّمخشريّ: {بروح القدس} بالرّوح المقدّسة، كما يقول: حاتم الجود ورجل صدقٍ، ووصفها بالقدس كما قال: {وروحٌ منه} فوصفه بالاختصاص والتّقريب تكرمةٌ،
- وقيل: لأنّه لم تضمّه الأصلاب والأرحام الطّوامث،
- وقيل: بجبريل،
- وقيل: بالإنجيل، كما قال في القرآن: {روحًا من أمرنا} [الشّورى: 52] .
- وقيل: باسم اللّه الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره،
وتضمّن كلامه قولًا آخر وهو: أنّ المراد روح عيسى نفسه المقدّسة المطهّرة.
- وقال الزّمخشريّ في قوله: {ففريقًا كذّبتم وفريقًا تقتلون} إنّما لم يقل: وفريقًا قتلتم؛ لأنّه أراد بذلك وصفهم في المستقبل -أيضًا-لأنّهم حاولوا قتل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالسّمّ والسّحر، وقد قال -عليه السّلام- في مرض موته: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري»، وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره). [تفسير ابن كثير: 1/ 321-323]
تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقالوا قلوبنا غلفٌ بل لعنهم اللّه بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88)}
- قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس: «{وقالوا قلوبنا غلفٌ} أي: في أكنّةٍ».
- وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: «{وقالوا قلوبنا غلفٌ} أي: لا تفقه».
- وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: {وقالوا قلوبنا غلفٌ} [قال:]«هي القلوب المطبوع عليها».
- وقال مجاهدٌ: «{وقالوا قلوبنا غلفٌ} عليها غشاوةٌ».
- وقال عكرمة: «عليها طابعٌ».
- وقال أبو العالية: «أي: لا تفقه».
- وقال السّدّيّ: «يقولون: عليها غلافٌ، وهو الغطاء».
- وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: «{وقالوا قلوبنا غلفٌ} هو كقوله: {وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه} [فصّلت: 5]».
- وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قوله: {غلفٌ} قال: «يقول: قلبي في غلافٍ فلا يخلص إليه ما تقول»، قرأ: {وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه}.
وهذا هو الذي رجّحه ابن جريرٍ، واستشهد ممّا روي من حديث عمرو بن مرّة الجمليّ، عن أبي البختريّ، عن حذيفة، قال:«القلوب أربعةٌ». فذكر منها: «وقلبٌ أغلف مغضوب عليه، وذاك قلب الكافر».
- وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عبد الرّحمن العرزمي، أنبأنا أبي، عن جدّي، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {قلوبنا غلفٌ} قال:«لم تختن».
هذا القول يرجع معناه إلى ما تقدّم من عدم طهارة قلوبهم، وأنّها بعيدةٌ من الخير.
قولٌ آخر:
- قال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وقالوا قلوبنا غلفٌ} قال: «قالوا: قلوبنا مملوءةٌ علمًا لا تحتاج إلى علم محمّدٍ، ولا غيره».
- وقال عطيّة العوفيّ: «{وقالوا قلوبنا غلفٌ} أي: أوعيةٌ للعلم».
وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار فيما حكاه ابن جريرٍ: "وقالوا قلوبنا غلف" بضمّ اللّام، أي: جمع غلافٍ، أي: أوعيةٌ، بمعنى أنّهم ادّعوا أنّ قلوبهم مملوءةٌ بعلمٍ لا يحتاجون معه إلى علمٍ آخر. كما كانوا يمنّون بعلم التّوراة. ولهذا قال تعالى: {بل لّعنهم اللّه بكفرهم فقليلا مّا يؤمنون} أي: ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونةٌ مطبوعٌ عليها، كما قال في سورة النّساء: {وقولهم قلوبنا غلفٌ بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} [النّساء: 155].
وقد اختلفوا في معنى قوله: {فقليلا مّا يؤمنون} وقوله: {فلا يؤمنون إلا قليلا}،
- فقال بعضهم: فقليلٌ من يؤمن منهم [واختاره فخر الدّين الرّازيّ وحكاه عن قتادة والأصمّ وأبي مسلمٍ الأصبهاني].
- وقيل: فقليلٌ إيمانهم. بمعنى أنّهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثّواب والعقاب، ولكنّه إيمانٌ لا ينفعهم، لأنّه مغمورٌ بما كفروا به من الذي جاءهم به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- وقال بعضهم: إنّهم كانوا غير مؤمنين بشيءٍ، وإنّما قال: {فقليلا ما يؤمنون} وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلّما رأيت مثل هذا قطّ. تريد: ما رأيت مثل هذا قطّ. [وقال الكسائيّ: تقول العرب: من زنى بأرضٍ قلّما تنبت، أي: لا تنبت شيئًا]. حكاه ابن جريرٍ، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 1/ 324-325]