تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} الآية، الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطاب: التقرير على أمر فيه بعد، إذ قد سلفت لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء، وهؤلاء على ذلك السنن،
والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب،
- وقال مجاهد والسدي: «عني بالفريق هنا الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم»،
- وقيل: المراد كل من حرف في التوراة شيئا حكما أو غيره كفعلهم في آية الرجم ونحوها،
- وقال ابن إسحاق والربيع: «عني السبعون الذين سمعوا مع موسى صلى الله عليه وسلم ثم بدلوا بعد ذلك».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا القول ضعف، ومن قال إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم، وقرأ الأعمش: «كلم الله»، وتحريف الشيء إحالته من حال إلى حال،
- وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باق،
- وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم وأن ذلك ممكن في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه). [المحرر الوجيز: 1/ 259-260]
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلا بعضهم إلى بعضٍ قالوا أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجّوكم به عند ربّكم أفلا تعقلون (76) أولا يعلمون أنّ اللّه يعلم ما يسرّون وما يعلنون (77) ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ وإن هم إلاّ يظنّون (78)}
المعنى: وهم أيضا إذا لقوا يفعلون هذا، فكيف يطمع في إيمانهم؟
ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنفا مقطوعا من معنى الطمع، فيه كشف سرائرهم.
وورد في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن»، فقال كعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما: اذهبوا وتحسسوا أخبار من آمن بمحمد وقولوا لهم آمنا واكفروا إذا رجعتم، فنزلت هذه الآية فيهم،
- وقال ابن عباس: «نزلت في منافقين من اليهود»، وروي عنه أيضا: «أنها نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين: نحن نؤمن أنه نبي ولكن ليس إلينا، وإنما هو إليكم خاصة، فلما خلوا قال بعضهم: لم تقرون بنبوته وقد كنا قبل نستفتح به؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه»،
وأصل خلا «خلو» تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا،
- وقال أبو العالية وقتادة: «إن بعض اليهود تكلم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم كفرة الأحبار: أتحدثون بما فتح اللّه عليكم أي: عرفكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم فيحتجون عليكم إذ تقرون به ولا تؤمنون به؟»،
- وقال السدي: «إن بعض اليهود حكى لبعض المسلمين ما عذب به أسلافهم، فقال بعض الأحبار: أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم من العذاب، فيحتجون عليكم ويقولون نحن أكرم على الله حين لم يفعل بنا مثل هذا؟»، وفتح على هذا التأويل بمعنى حكم،
- وقال مجاهد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة: «يا إخوة الخنازير والقردة»، فقال الأحبار لأتباعهم: ما عرف هذا إلا من عندكم، أتحدثونهم؟
- وقال ابن زيد: «كانوا إذا سئلوا عن شيء، قالوا: في التوراة كذا وكذا، فكرهت الأحبار ذلك، ونهوا في الخلوة عنه، ففيه نزلت الآية».
والفتح في اللغة ينقسم أقساما تجمعها بالمعنى: التوسعة وإزالة الإبهام، وإلى هذا يرجع الحكم وغيره، والفتاح هو القاضي بلغة اليمن،
و«يحاجوكم» من الحجة، وأصله من حج إذا قصد، لأن المتحاجّين كل واحد منهما يقصد غلبة الآخر،
و«عند ربّكم» معناه في الآخرة، وقيل: عند بمعنى في ربكم، أي: فيكونون أحق به، وقيل: المعنى عند ذكر ربكم.
وقوله تعالى: {أفلا تعقلون} قيل: هو من قول الأحبار للأتباع، وقيل: هو خطاب من الله للمؤمنين، أي: أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال. والعقل علوم ضرورية). [المحرر الوجيز: 1/ 260-261]
تفسير قوله تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ الجمهور «أولا يعلمون» بالياء من أسفل، وقرأ ابن محيصن «أولا تعلمون» بالتاء خطابا للمؤمنين، والذي أسروه: كفرهم، والذي أعلنوه: قولهم آمنا، هذا في سائر اليهود، والذي أسره الأحبار: صفة محمد صلى الله عليه وسلم والمعرفة به، والذي أعلنوه: الجحد به، ولفظ الآية يعم الجميع). [المحرر الوجيز: 1/ 261-262]