العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة البقرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 03:10 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي تفسير سورة البقرة [من الآية (30) إلى الآية (32) ]

تفسير سورة البقرة
[من الآية (30) إلى الآية (32) ]

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17 ربيع الثاني 1434هـ/27-02-2013م, 02:31 AM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي جمهرة تفاسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها} قال: «كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء فذلك قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها}»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 42]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {ونحن نسبح بحمدك} قال: «التسبيح: التسبيح»). [تفسير عبد الرزاق: 1 /42]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: {ونقدس لك} قال: «التقديس: الصلاة»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 42]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري]، عن سالم بن أبي حفصة، عن رجل، عن ابن عبّاسٍ قال: «إنّ اللّه جلّ وعزّ أخرج آدم من الجنّة من قبل أن يخلقه»، ثمّ قرأ: {إنّي جاعل في الأرض خليفة}).
[تفسير الثوري: 43-44]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] في قول اللّه جلّ وعزّ: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: «نمجدك كل ونعظمك»). [تفسير الثوري: 44]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ([قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}]
- نا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ أو غيره، عن مجاهدٍ في قوله عزّ وجلّ: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}، قال: «علم من إبليس المعصية، وخلقه لها»). [سنن سعيد بن منصور: 2/ 548]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، وابن أبي عديٍّ، ومحمّد بن جعفرٍ، وعبد الوهّاب، قالوا: حدّثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابيّ، عن قسامة بن زهيرٍ، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه تعالى خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسّهل والحزن والخبيث والطّيّب».
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ). [سنن الترمذي: 5/ 54]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذ قال ربّك}
زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة أنّ تأويل قوله: {وإذ قال ربّك} وقال ربّك، وأنّ (إذ) من الحروف الزّوائد، وأنّ معناها الحذف. واعتلّ لقوله الّذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يعفر:
فإذا وذلك لا مهاه لذكره.......والدّهر يعقب صالحًا بفساد
ثمّ قال: ومعناها: وذلك لا مهاه لذكره. وببيت عبد مناف بن ربعٍ الهذليّ:
حتّى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ.......شلًّا كما تطرد الجمّالة الشّردا
وقال: معناه: حتّى أسلكوهم.
قال أبو جعفرٍ: والأمر في ذلك بخلاف ما قال؛ وذلك أنّ (إذ) حرف يأتي بمعنى الجزاء، ويدلّ على مجهولٍ من الوقت، وغير جائزٍ إبطال حرفٍ كان دليلاً على معنى في الكلام. إذ سواءٌ قيل قائلٍ هو بمعنى البطوّل، وهو في الكلام دليلٌ على معنى مفهومٍ. وقيل آخر في جميع الكلام الّذي نطق به دليلاً على ما أريد به وهو بمعنى البطوّل.
وليس لما ادّعي الّذي وصفنا قوله في بيت الأسود بن يعفر، أنّ إذا بمعنى البطوّل وجهٌ مفهومٌ؛ بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الّذي أراده الأسود بن يعفر من قوله:

فإذا وذلك لا مهاه لذكره
وذلك أنّه أراد بقوله: فإذا الّذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله وذلك إلى ما تقدّم وصفه من عيشه الّذي كان فيه لامهاه لذكره، يعني لا طعم له ولا فضل، لإعقاب الدّهر صالح ذلك بفسادٍ. وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربعٍ:
حتّى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ.......شلًّا كما تطرد الجمّالة الشّردا
لو أسقط منه إذا بطل معنى الكلام؛ لأنّ معناه: حتّى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ سلكوا شلًّا. فدلّ قوله: أسلكوهم شلًّا على معنى المحذوف، فاستغني عن ذكره بدلالة إذا عليه، فحذف. كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل العرب في نظائر ذلك، وكما قال النّمر بن تولبٍ:
فإنّ المنيّة من يخشها.......فسوف تصادفه أينما
وهو يريد: أينما ذهب. وكما تقول العرب: أتيتك من قبل ومن بعد؛ تريد: من قبل ذلك ومن بعد ذلك.
فكذلك ذلك في إذا كما يقول القائل: إذا أكرمك أخوك فأكرمه وإذا لا فلا؛ يريد: وإذا لم يكرمك فلا تكرمه. ومن ذلك قول الآخر:
فإذا وذلك لا يضرّك ضرّه.......في يوم أسأل نائلاً أو أنكد
نظير ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول اللّه جلّ ثناؤه: {وإذ قال ربّك للملائكة} لو أبطلت إذ وحذفت من الكلام، لاستحال عن معناه الّذي هو به وفيه إذ.
فإن قال قائلٌ: فما معنى ذلك؟ وما الجالب لـ(إذ)، إذا لم يكن في الكلام قبله ما يعطف به عليه؟
قيل له: قد ذكرنا فيما مضى أنّ اللّه جلّ ثناؤه خاطب الّذين خاطبهم بقوله: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتًا فأحياكم} بهذه الآيات والّتي بعدها موبّخهم مقبّحًا إليهم سوء فعالهم ومقامهم على ضلالهم مع النّعم الّتي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم، ومذكّرهم بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم بأسه أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصية اللّه، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته؛ ومعرّفهم ما كان منه من تعطّفه على التّائب منهم استعتابًا منه لهم.
فكان ممّا عدّد من نعمه عليهم، أنّه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، وسخّر لهم ما في السّموات من شمسها وقمرها ونجومها وغير ذلك من منافعها الّتي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع، فكان في قوله: {كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتًا فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم ثمّ إليه ترجعون} معنى: اذكروا نعمتي عليكم، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا، وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وسوّيت لكم ما في السّماء. ثمّ عطف بقوله: {وإذ قال ربّك للملائكة} على المعنى المقتضى بقوله: {كيف تكفرون باللّه} إذ كان مقتضيًا ما وصفت من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلت، واذكروا فعلي بأبيكم آدم، إذ قلت للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً.
فإن قال قائلٌ: فهل لذلك من نظيرٍ في كلام العرب نعلم به صحّة ما قلت؟
قيل: نعم، أكثر من أن يحصى، من ذلك قول الشّاعر:
أجدّك لن ترى بثعيلباتٍ.......ولا بيدان ناجيةً ذمولا
ولا متداركٍ والشّمس طفلٌ.......ببعض نواشغ الوادي حمولا
فقال: ولا متداركٍ، ولم يتقدّمه فعلٌ بلفظه يعطف عليه، ولا حرفٌ معربٌ إعرابه فيردّ متداركٌ عليه في إعرابه. ولكنّه لمّا تقدّمه فعلٌ مجحودٌ بلن يدلّ على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف، استغنى بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حذف، وعامل الكلام في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوفٌ منه ظاهرًا. لأنّ قوله:
أجدّك لن ترى بثعيلباتٍ
بمعنى: أجدّك لست براءٍ، فردّ متداركًا على موضع ترى كأنّ لست والباء موجودتان في الكلام، فكذلك قوله: {وإذ قال ربّك} لمّا سلف قبله تذكير اللّه المخاطبين به ما سلف قبلهم وقبل آبائهم من أياديه وآلائه، وكان قوله: {وإذ قال ربّك للملائكة} مع ما بعده من النّعم الّتي عدّدها عليهم ونبّههم على مواقعها، ردّ إذ على موضع: {وكنتم أمواتًا فأحياكم} لأنّ معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي، وهذه الّتي قلت فيها للملائكة. فلمّا كانت الأولى مقتضيةً إذ عطف بإذ على موضعها في الأولى كما وصفنا من فعل الشّاعر في ولا متداركٍ). [جامع البيان: 1/ 466-471]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {للملائكة}.
والملائكة جمع ملأكٍ، غير أنّ واحدهم بغير الهمز أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمز، وذلك أنّهم يقولون في واحدهم ملكٌ من الملائكة، فيحذفون الهمز منه، ويحرّكون اللاّم الّتي كانت مسكّنةً لو همز الاسم. وإنّما يحرّكونها بالفتح، لأنّهم ينقلون حركة الهمزة الّتي فيه بسقوطها إلى الحرف السّاكن قبلها، فإذا جمعوا واحدهم ردّوه فى الجمع إلى الأصل وهمزوا، فقالوا: ملائكةٌ.
وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرًا في كلامها، فتترك الهمز في الكلمة الّتي هي مهموزةٌ فيجري كلامهم بترك همزها في حالٍ، وبهمزها في أخرى، كقولهم: رأيت فلانًا، فجرى كلامهم بهمز رأيت، ثمّ قالوا: نرى وترى ويرى، فجرى كلامهم في يفعل ونظائرها بترك الهمز، حتّى صار الهمز معها شاذًّا مع كون الهمز فيها أصلاً. فكذلك ذلك في ملكٍ وملائكةٍ، جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم، وبالهمز في جميعهم. وربّما جاء الواحد منهم مهموزًا كما قال الشّاعر:
فلست بجنى ولكن لملأكٍ.......تحدّر من جوّ السّماء يصوب
وقد يقال في واحدهم: مألكٌ، فيكون ذلك مثل قولهم: جبذ وجذب، وشأمل وشمأل، وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أنّ الّذي يجب إذا سمّي واحدهم مألكٌ، أن يجمع إذ جمع على ذلك: مالكٌ، ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعًا، ولكنّهم قد يجمعون ملائك وملائكةً، كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثة، ومسمعٌ: مسامعٌ ومسامعةٌ. قال أميّة بن أبي الصّلت في جمعهم كذلك:
وفيها من عباد اللّه قومٌ.......ملائك ذلّلوا وهم صعاب
وأصل الملأك: الرّسالة، كما قال عديّ بن زيدٍ العباديّ:
أبلغ النّعمان عنّي ملأكًا.......أنّه قد طال حبسي وانتظاري
وقد ينشد مألكًا على اللّغة الأخرى، فمن قال: ملأكًا، فهو مفعلٌ من لأك إليه يلأك: إذا أرسل إليه رسالةً ملأكةً. ومن قال: مألكًا، فهو مفعلٌ من ألكت إليه آلك: إذا أرسلت إليه مألكةً وألوكًا، كما قال لبيد ابن ربيعة:
وغلامٍ أرسلته أمّه.......بألوكٍ فبذلنا ما سأل
فهذا من ألكت. ومنه قول نابغة بني ذبيان:
ألكني يا عيين إليك قولاً.......سأهديه إليك إليك عنّي
وقال عبد بني الحسحاس:
ألكني إليها عمرك اللّه يا فتى.......بآيةٍ ما جاءت إلينا تهاديا
يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسمّيت الملائكة ملائكةً بالرّسالة، لأنّها رسل اللّه بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده).[جامع البيان: 1/ 472-475]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّي جاعلٌ في الأرض}
اختلف أهل التّأويل في تّأويل قوله: {إنّي جاعلٌ}؛

فقال بعضهم: إنّي فاعلٌ. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا القاسم بن الحسن قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن جرير بن حازمٍ، ومباركٍ، عن الحسن، وأبي بكرٍ يعني الهذليّ، عن الحسن، وقتادة، قالوا: «قال اللّه للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قال لهم: إنّي فاعلٌ».
وقال آخرون: إنّي خالقٌ. ذكر من قال ذلك:
- حدّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، قال: «كلّ شيءٍ في القرآن "جعل" فهو "خلق"».

قال أبو جعفرٍ: والصّواب في تأويل قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} أي: مستخلفٌ فيها خليفةً ومصيّرٌ فيها خلفًاء، وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة.
وقيل: إنّ الأرض الّتي ذكرها اللّه في هذه الآية هي مكّة. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن ابن سابطٍ، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «دحيت الأرض من مكّة وكانت الملائكة تطوف بالبيت، فهي أوّل من طاف به وهي الأرض الّتي قال اللّه: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، وكان النّبيّ إذا هلك قومه ونجا هو والصّالحون أتاها هو ومن معه فعبدوا اللّه بها حتّى يموتوا، فإنّ قبر نوحٍ وهودٍ وصالحٍ وشعيبٍ بين زمزم والرّكن والمقام»). [جامع البيان: 1/ 475-476]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {خليفةً}
والخليفة: الفعيلة، من قولك: خلف فلانٌ فلانًا في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده كما قال جلّ ثناؤه: {ثمّ جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}
يعني بذلك: أنّه أبدلكم في الأرض منهم فجعلكم خلفاء بعدهم ومن ذلك قيل للسّلطان الأعظم: خليفةً، لأنّه خلف الّذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفًا، يقال منه: خلف الخليفة يخلف خلافةً وخليفًى.
وكان ابن إسحاق يقول بما
حدّثنا به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}: «يقول: ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمرها ليس خلقًا منكم».
وليس الّذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها، وإن كان اللّه جلّ ثناؤه إنّما أخبر ملائكته أنّه جاعلٌ في الأرض خليفةً يسكنها، ولكنّ معناها ما وصفت قبل.
فإن قال لنا قائلٌ: فما الّذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرًا فكان بنو آدم بدلاً منه وفيها منه خلفًا؟
قيل: قد اختلف أهل التّأويل في ذلك.
- فحدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة،
عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «أوّل من سكن الأرض الجنّ، فأفسدوا فيها، وسفكوا الدّماء، وقتل بعضهم بعضًا». قال: «فبعث اللّه إليهم إبليس في جندٍ من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه، حتّى ألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال؛ ثمّ خلق آدم فأسكنه إيّاها، فلذلك قال: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}».

فعلى هذا القول: إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً من الجنّ يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها.
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: في قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} الآية، قال: «إنّ اللّه خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجنّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قومٌ من الجنّ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدّماء وكان الفساد في الأرض».
- وقال آخرون في تأويل قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} أي: خلفًاء يخلف بعضهم بعضًا، وهم ولد آدم الّذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كلّ قرنٍ منهم القرن الّذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الحسن البصريّ.
ونظيرٌ له ما حدّثني به، محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا سفيان، عن عطاء بن السّائب، عن ابن سابطٍ: في قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} قال: «يعنون به بني آدم».
- وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: «قال اللّه للملائكة: إنّي أريد أن أخلق في الأرض خلقًا، وأجعل فيها خليفةً، وليس للّه يومئذٍ خلقٌ إلاّ الملائكة والأرض ليس فيها خلقٌ».
وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن، ويحتمل أن يكون أراد ابن زيدٍ أنّ اللّه أخبر الملائكة أنّه جاعلٌ في الأرض خليفةً له، يحكم فيها بين خلقه بحكمه.
- نظير ما حدّثني به موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «أنّ اللّه جلّ ثناؤه قال للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قالوا: ربّنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّيّةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا».
فكان تأويل الآية على هذه الرّواية الّتي ذكرناها عن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ: إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة اللّه والحكم بالعدل بين خلقه. وأمّا الإفساد وسفك الدّماء بغير حقّها فمن غير خلفائه، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد اللّه؛ لأنّهما أخبرا أنّ اللّه جلّ ثناؤه قال لملائكته إذ سألوه: ما ذاك الخليفة: إنّه خليفةٌ يكون له ذرّيّةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فأضاف الإفساد وسفك الدّماء بغير حقّها إلى ذرّيّة خليفته دونه وأخرج منه خليفته.
وهذا التّأويل وإن كان مخالفًا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجهٍ، فموافقٌ له من وجهٍ.

- فأمّا موافقته إيّاه فصرف متأوّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدّماء فيها إلى غير الخليفة.
- وأمّا مخالفته إيّاها فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف اللّه إيّاه فيها، وإضافة الحسن الخلافة إلى ولده بمعنى خلافة بعضهم بعضًا، وقيام قرنٍ منهم مقام قرنٍ قبلهم، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدّماء إلى الخليفة.
والّذي دعا المتأوّلين قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} التّأويل الّذي ذكر عن الحسن إلى ما قالوا في ذلك أنّهم قالوا: إنّ الملائكة إنّما قالت لربّها إذ قال لهم ربّهم: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} إخبارًا منها بذلك عن الخليفة الّذي أخبر اللّه جلّ ثناؤه أنّه جاعله في الأرض لا عن غيره؛ لأنّ المحاورة بين الملائكة وبين ربّها عنه جرت. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان اللّه قد برّأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدّماء وطهّره من ذلك، علم أنّ الّذي عني به غيره من ذرّيّته، فثبت أنّ الخليفة الّذي يفسد في الأرض ويسفك الدّماء هو غير آدم، وأنّهم ولده الّذين فعلوا ذلك، وأنّ معنى الخلافة الّتي ذكرها اللّه إنّما هي خلافة قرنٍ منهم قرنًا عندهم لما وصفنا.

وأغفل قائلو هذه المقالة ومتأوّلو الآية هذا التّأويل سبيل التّأويل، وذلك أنّ الملائكة إذ قال لها ربّها: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} لم تضف الإفساد وسفك الدّماء في جوابها ربّها إلى خليفته في أرضه، بل قالت: {أتجعل فيها من يفسد فيها} وغير منكرٍ أن يكون ربّها أعلمها أنّه يكون لخليفته ذلك ذرّيّةٌ يكون منهم الإفساد وسفك الدّماء، فقالت: يا ربّنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء؟ كما قال ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التّأويل). [جامع البيان: 1/ 476-481]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}.
إن قال قائلٌ: وكيف قالت الملائكة لربّها إذ أخبرها أنّه جاعلٌ في الأرض خليفةً: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} ولم يكن آدم بعد مخلوقًا ولا ذرّيّته، فيعلموا ما يفعلون عيانًا؟ أعلمت الغيب فقالت ذلك، أم قالت ما قالت من ذلك ظنًّا، فذلك شهادةٌ منها بالظّنّ وقولٌ بما لا تعلم، وذلك ليس من صفتها، فما وجه قيلها ذلك لربّها؟
قيل: قد قالت العلماء من أهل التّأويل في ذلك أقوالاً؛ ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك، ثمّ مخبرون بأصحّها برهانًا وأوضحها حجّةً.
- فروي عن ابن عبّاسٍ في ذلك ما حدّثنا به أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كان إبليس من حيٍّ من أحياء الملائكة، يقال لهم الجنّ خلقوا من نار السّموم من بين الملائكة»،

قال: «وكان اسمه الحارث».
قال: «وكان خازنًا من خزّان الجنّة».
قال: «وخلقت الملائكة كلّهم من نورٍ غير هذا الحيّ».
قال: «وخلقت الجنّ الّذين ذكروا في القرآن من مارجٍ من نارٍ، وهو لسان النّار الّذي يكون في طرفها إذ ألهبت».
قال: «وخلق الإنسان من طينٍ، فأوّل من سكن الأرض الجنّ، فأفسدوا فيها وسفكوا الدّماء، وقتل بعضهم بعضًا».
قال: «فبعث اللّه إليهم إبليس في جندٍ من الملائكة، وهم هذا الحيّ الّذين يقال لهم الجنّ فقتلهم إبليس ومن معه حتّى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلمّا فعل إبليس ذلك أغترّ في نفسه، وقال: قد صنعت شيئًا لم يصنعه أحدٌ».

قال: «فاطّلع اللّه على ذلك من قلبه ولم تطّلع عليه الملائكة الّذين كانوا معه؛ فقال اللّه جل ثناؤه للملائكة الّذين معه: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} فقالت الملائكة مجيبين له: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} كما أفسدت الجنّ وسفكت الدّماء؟ وإنّما بعثتنا عليهم لذلك. فقال: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} يقول: إنّي قد اطّلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا عليه من كبره واغتراره»،
قال: «ثمّ أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق اللّه آدم من طينٍ لازبٍ، واللاّزب: اللّزج الطيب من حمأٍ مسنونٍ منتنٍ».
قال: «وإنّما كان حمأً مسنونًا بعد التّراب».
قال: «فخلق منه آدم بيده».
قال: «فمكث أربعين ليلةً جسدًا ملقًى، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل، أي: فيصوّت»،
قال: «فهو قول اللّه: {من صلصالٍ كالفخّار} يقول: كالشّيء المنفوخ الّذي ليس بمصمتٍ»،
قال: «ثمّ يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثمّ يقول: لست شيئًا. للصّلصلة، ولشيءٍ ما خلقت. لئن سلّطت عليك لأهلكنّك، ولئن سلّطت عليّ لأعصينّك».
قال: «فلمّا نفخ اللّه فيه من روحه، أتت النّفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيءٌ منها في جسده إلاّ صار لحمًا ودمًا. فلمّا انتهت النّفخة إلى سرّته نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول اللّه: {وكان الإنسان عجولاً}»،
قال: «ضجرًا لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء».
قال: «فلمّا تمّت النّفخة في جسده عطس فقال: الحمد للّه ربّ العالمين، بإلهامٍ من اللّه تعالى. فقال اللّه له: يرحمك اللّه يا آدم».
قال: «ثمّ قال اللّه للملائكة الّذين كانوا مع إبليس خاصّةً دون الملائكة الّذين في السّموات: اسجدوا لآدم. فسجدوا كلّهم أجمعون إلاّ إبليس أبى واستكبر لما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره، فقال: لا أسجد له وأنا خيرٌ منه وأكبر سنًّا وأقوى خلقًا، خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ. يقول: إنّ النّار أقوى من الطّين».
قال: «فلمّا أبى إبليس أن يسجد أبلسه اللّه، أى: آيسه من الخير كلّه، وجعله شيطانًا رجيمًا عقوبةً لمعصيته. ثمّ علّم آدم الأسماء كلّها، وهي هذه الأسماء الّتي يتعارف بها النّاس: إنسانٌ ودابّةٌ وأرضٌ وسهلٌ وبحرٌ وجبلٌ وحمارٌ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثمّ عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني الملائكة الّذين كانوا مع إبليس الّذين خلقوا من نار السّموم، وقال لهم: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء {إن كنتم صادقين} إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفةً».
قال: «فلمّا علمت الملائكة مؤاخذة اللّه عليهم فيما تكلّموا به من علم الغيب الّذي لا يعلمه غيره الّذي ليس لهم به علمٌ، قالوا: سبحانك. تنزيهًا للّه من أن يكون أحدٌ يعلم الغيب غيره، تبنا إليك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا. تبرّيًا منهم من علم الغيب، إلاّ ما علّمتنا كما علّمت آدم. فقال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} يقول: أخبرهم بأسمائهم {فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم} أيّها الملائكة خاصّةً {إنّي أعلم غيب السّموات والأرض} ولا يعلمه غيري {وأعلم ما تبدون} يقول: ما تظهرون {وما كنتم تكتمون} يقول: أعلم السّرّ كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار».
وهذه الرّواية عن ابن عبّاسٍ تنبئ عن أنّ قول اللّه جلّ ثناؤه: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} خطابٌ من اللّه جلّ ثناؤه لخاصٍّ من الملائكة دون الجميع، وأنّ الّذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصّةً، الّذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم. وأنّ اللّه إنّما خصّهم بقيل ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاءً ليعرّفهم قصور علمهم وفضل كثيرٍ ممّن هو أضعف خلقًا منهم من خلقه عليهم، وأنّ كرامته لا تنال بقوى الأبدان وشدّة الأجسام كما ظنّه إبليس عدوّ اللّه. ومصرّح بأنّ قيلهم لربّهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} كانت هفوةً منهم ورجمًا بالغيب، وأنّ اللّه جلّ ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك، ووقّفهم عليه حتّى تابوا وأنابوا إليه ممّا قالوا ونطقوا من رجم الغيب بالظّنون، وتبرّءوا إليه أن يعلم الغيب غيره، وأظهر لهم من إبليس ما كان منطويًا عليه من الكبر الّذي قد كان عنهم مستخفيًا.
- وقد روي عن ابن عبّاسٍ خلاف هذه الرّواية، وهو ما حدّثني به، موسى بن هارون قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «لمّا فرغ اللّه من خلق ما أحبّ، استوى على العرش فجعل إبليس على ملك سماء الدّنيا، وكان من قبيلةٍ من الملائكة يقال لهم الجنّ؛ وإنّما سمّوا الجنّ لأنّهم خزّان الجنّة. وكان إبليس مع ملكه خازنًا، فوقع في صدره كبرٌ وقال: ما أعطاني اللّه هذا إلاّ لمزيّد لي»، هكذا قال موسى بن هارون،

وقد حدّثني به غيره فقال: «لمزيّةٍ لي على الملائكة، فلمّا وقع ذلك الكبر في نفسه، اطّلع اللّه على ذلك منه، فقال اللّه للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قالوا: ربّنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّيّةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا {قالوا} ربّنا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني من شأن إبليس. فبعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطينٍ منها، فقالت الأرض: إنّي أعوذ باللّه منك أن تنقص منّي أو تشينني. فرجع ولم يأخذ وقال: ربّ إنّها عاذت بك فأعذتها. فبعث اللّه ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث ملك الموت، فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ باللّه أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض وخلط، فلم يأخذ من مكانٍ واحدٍ، وأخذ من تربةٍ حمراء وبيضاء وسوداء؛ فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به فبلّ التّراب حتّى عاد طينًا لازبًا واللاّزب: هو الّذي يلتزق بعضه ببعضٍ، ثمّ ترك حتّى أنتن وتغيّر، وذلك حين يقول: {من حمأٍ مسنونٍ}»،قال: «منتنٌ، ثمّ قال للملائكة {إنّي خالقٌ بشرًا من طينٍ فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} فخلقه اللّه بيديه لكيلا يتكبّر إبليس عليه ليقول له: تتكبّر عمّا عملت بيديّ ولم أتكبّر أنا عنه؟ فخلقه بشرًا، فكان جسدًا من طينٍ أربعين سنةً من مقدار يوم الجمعة. فمرّت به الملائكة ففزعوا منه لمّا رأوه، وكان أشدّهم منه فزعًا إبليس، فكان يمرّ فيضربه، فيصوّت الجسد كما يصوّت الفخّار وتكون له صلصلةٌ، فذلك حين يقول: {من صلصالٍ كالفخّار} ويقول لأمرٍ ما خلقت. ودخل من فيه فخرج من دبره، فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإنّ ربّكم صمدٌ وهذا أجوف، لئن سلّطت عليه لأهلكنّه. فلمّا بلغ الحين الّذي يريد اللّه جلّ ثناؤه أن ينفخ فيه الرّوح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له. فلمّا نفخ فيه الرّوح، فدخل الرّوح في رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد للّه. فقال: الحمد للّه، فقال له اللّه: رحمك ربّك. فلمّا دخل الرّوح في عينيه، نظر إلى ثمار الجنّة، فلمّا دخل في جوفه اشتهى الطّعام، فوثب قبل أن تبلغ الرّوح رجليه عجلان إلى ثمار الجنّة، فذلك حين يقول: {خلق الإنسان من عجلٍ} فسجد الملائكة كلّهم أجمعون إلاّ إبليس أبى أن يكون مع السّاجدين، أي: استكبر وكان من الكافرين، قال اللّه له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيديّ، قال: أنا خيرٌ منه لم أكن لأسجد لبشرٍ خلقته من طينٍ، قال اللّه له: اخرج منها فما يكون لك -يعني: ما ينبغي لك- أن تتكبّر فيها فاخرج إنّك من الصّاغرين، والصّغار هو الذّلّ».
قال: «وعلّم آدم الأسماء كلّها، ثمّ عرض الخلق على الملائكة فقال: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء، فقالوا له: {سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم} قال اللّه: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السّموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}»،قال: «قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} فهذا الّذي أبدوا، وأعلم ما كنتم تكتمون، يعني: ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر».
فهذا الخبر أوّله مخالفٌ معناه معنى الرّواية الّتي رويت عن ابن عبّاسٍ من رواية الضّحّاك الّتي قد قدّمنا ذكرها قبل، وموافقٌ معنى آخره معناها؛ وذلك أنّه ذكر في أوّله أنّ الملائكة سألت ربّها: ما ذاك الخليفة؟ حين قال لها: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} فأجابها أنّه تكون له ذرّيّة يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فقالت الملائكة حينئذٍ: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، فكان قول الملائكة ما قالت من ذلك لربّها بعد إعلام اللّه إيّاها أنّ ذلك كائنٌ من ذرّيّة الخليفة الّذي يجعله في الأرض، فذلك معنى خلاف أوّله معنى خبر الضّحّاك الّذي ذكرناه.
وأمّا موافقته إيّاه في آخره، فهو قولهم في تأويل قوله: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء. وأنّ الملائكة قالت إذ قال لها ربّها ذلك، تبرّيًا من علم الغيب: {سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم}.
وهذا إذا تدبّره ذو الفهم، علم أنّ أوّله يفسد آخره، وأنّ آخره يبطل معنى أوّله؛ وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أنّ ذرّيّة الخليفة الّذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدّماء، فقالت الملائكة لربّها: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمّن أخبرها اللّه عنه أنّه يفسد في الأرض ويسفك الدّماء بمثل الّذي أخبرها عنهم ربّها، فيجوز أن يقال لها فيما طوي عنها من العلوم: {إن كنتم صادقين} فيما علمتم بخبر اللّه إيّاكم أنّه كائنٌ من الأمور، فأخبرتم به فأخبرونا بالّذي قد طوى اللّه عنكم علمه، كما قد أخبرتمونا بالّذي قد أطلعكم اللّه على علمه.
بل ذلك خلفٌ من التّأويل، ودعوى على اللّه ما لا يجوز أن يكون له صفةً. وأخشى أن يكون بعض نقلة هذا الخبر هو الّذي غلط على من رواه عنه من الصّحابة، وأن يكون التّأويل منهم كان فى ذلك: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} فيما ظننتم أنّكم أدركتموه من العلم بخبري إيّاكم أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء، حتّى استجزتم أن تقولوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، فيكون التّوبيخ حينئذٍ واقعًا على ما ظنّوا أنّهم قد أدركوا بقول اللّه لهم: إنّه يكون له ذرّيّةٌ يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء، لا على إخبارهم بما أخبرهم اللّه به أنّه كائنٌ.

وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه وإن كان أخبرهم عمّا يكون من بعض ذرّيّة خليفته في الأرض ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدّماء، فقد كان طوى عنهم الخبر عمّا يكون من كثيرٍ منهم ما يكون من طاعتهم ربّهم وإصلاحهم في أرضه وحقن الدّماء ورفعه منزلتهم وكرامتهم عليه، فلم يخبرهم بذلك، فقالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} على ظنٍّ منها على تأويل هذين الخبرين اللّذين ذكرت، وظاهرهما أنّ جميع ذرّيّة الخليفة الّذي يجعل في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدّماء. فقال اللّه لهم إذ علّم آدم الأسماء كلّها: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} أنّكم تعلمون أنّ جميع بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء على ما ظننتم في أنفسكم، إنكارًا منه جلّ ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم، وهو من صفة خاصّ ذرّيّة الخليفة منهم.
وهذا الّذي ذكرناه هو صفةٌ منّا لتأويل الخبر لا القول الّذي نختاره في تأويل الآية.
- وممّا يدلّ على ما ذكرنا من توجيه مخبرج الملائكة عن إفساد ذرّيّة الخليفة وسفكها الدّماء على العموم
ما حدّثنا به، أحمد بن إسحاق الأهوازيّ قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا سفيان، عن عطاء بن السّائب، عن عبد الرّحمن بن سابطٍ، قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، قال: «يعنون النّاس».
- وقال آخرون في ذلك بما حدّثنا به، بشر بن معاذٍ قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة: «قوله: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، وقد علمت الملائكة من علم اللّه أنّه لا شيء أكره إلى اللّه من سفك الدّماء والفساد في الأرض، {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}، فكان في علم اللّه جلّ ثناؤه أنّه سيكون من تلك الخليفة أنبياء ورسلٌ، وقومٌ صالحون، وساكنو الجنّة».

قال: وذكر لنا أنّ ابن عبّاسٍ كان يقول: «إنّ اللّه لمّا أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما اللّه خالقٌ خلقًا أكرم عليه منّا، ولا أعلم منّا. فابتلوا بخلق آدم، وكلّ خلقٍ مبتلًى، كما ابتليت السّموات والأرض بالطّاعة، فقال اللّه: {ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين}».
وهذا الخبر عن قتادة، يدلّ على أنّ قتادة كان يرى أنّ الملائكة قالت ما قالت من قولها: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} على غير يقين علمٍ تقدّم منها بأنّ ذلك كائنٌ؛ ولكن على الرّأي منها والظّنّ، وأنّ اللّه جلّ ثناؤه أنكر ذلك من قيلها وردّ عليها ما رأت بقوله: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} من أنّه يكون من ذرّيّة ذلك الخليفة الأنبياء والرّسل والمجتهد في طاعة اللّه.
وقد روي عن قتادة خلاف هذا التّأويل،
وهو ما حدّثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: في قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها}، قال: «كان اللّه أعلمهم إذا كان في الأرض خلقٌ أفسدوا فيها وسفكوا الدّماء، فذلك قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها}».

وبمثل قول قتادة قال جماعةٌ من أهل التّأويل، منهم الحسن البصريّ.
- حدّثنا القاسم قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن جرير بن حازمٍ، ومباركٌ، عن الحسن، وأبي بكرٍ، عن الحسن، وقتادة، قالا: «قال اللّه لملائكته: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قال لهم إنّي فاعلٌ. فعرّضوا برأيهم، فعلّمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه لا يعلمونه. فقالوا بالعلم الّذي علّمهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، وقد كانت الملائكة علمت من علم اللّه أنّه لا ذنب أعظم عند اللّه من سفك الدّماء {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} فلمّا أخذ في خلق آدم، همست الملائكة فيما بينها، فقالوا: ليخلق ربّنا ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقًا إلاّ كنّا أعلم منه، وأكرم عليه منه. فلمّا خلقه ونفخ فيه من روحه، أمرهم أن يسجدوا له لمّا قالوا، ففضّله عليهم، فعلموا أنّهم ليسوا بخيرٍ منه، فقالوا: إن لم نكن خيرًا منه فنحن أعلم منه، لأنّا كنّا قبله، وخلقت الأمم قبله، فلمّا أعجبوا بعلمهم ابتلوا {فعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} أنّي لا أخلق خلقًا إلاّ كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين».

قال: «ففزع القوم إلى التّوبة، وإليها يفزع كلّ مؤمنٍ فقالوا: {سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السّموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} لقولهم: ليخلق ربّنا ما شاء فلن يخلق خلقًا أكرم عليه منّا ولا أعلم منّا».
قال: «علّمه اسم كلّ شيءٍ، هذه الخيل وهذه البغال، والإبل، والجنّ، والوحش، وجعل يسمّي كلّ شيءٍ باسمه، وعرضت عليه كلّ أمّةٍ فـ{قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السّموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}».
قال: «أمّا ما أبدوا فقولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، وأمّا ما كتموا فقول بعضهم لبعضٍ: نحن خيرٌ منه وأعلم».
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: في قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} الآية. قال: «إنّ اللّه خلق الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجنّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة». قال: «فكفر قومٌ من الجنّ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدّماء، وكان الفساد في الأرض. فمن ثمّ قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} الآية».
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: أخبرنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، بمثله.
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدثنا بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن غير الرّبيع بن أنس: {ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} إلى قوله: {إنّك أنت العليم الحكيم}. قال: «وذلك حين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}». قال: «فلمّا عرفوا أنّه جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا بينهم: لن يخلق اللّه خلقًا إلاّ كنّا نحن أعلم منه وأكرم. فأراد اللّه أن يخبرهم أنّه قد فضّل عليهم آدم، وعلّم آدم الأسماء كلّها، فقال للملائكة: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} إلى قوله: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}، فكان الّذي أبدوا حين قالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} وكان الّذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق اللّه خلقًا إلاّ كنّا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أنّ اللّه فضّل عليهم آدم في العلم والكرم».
- وقال ابن زيدٍ بما حدّثني به، يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: «لمّا خلق اللّه النّار ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا، وقالوا: ربّنا لم خلقت هذه النّار، ولأيّ شيءٍ خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي».

قال: «ولم يكن للّه خلقٌ يومئذٍ إلاّ الملائكة، والأرض ليس فيها خلقٌ، إنّما خلق آدم بعد ذلك». وقرأ قول اللّه: {هل أتى على الإنسان حينٌ من الدّهر لم يكن شيئًا مذكورًا}.
قال: قال عمر بن الخطّاب: «يا رسول اللّه ليت ذلك الحين».
ثمّ قال: «قالت الملائكة: يا ربّ أويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه. لا يرون له خلقًا غيرهم. قال: لا، إنّي أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعل فيها خليفةً يسفكون الدّماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} وقد اخترتنا؟ فاجعلنا نحن فيها فنحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل اللّه في الأرض من يعصيه. فقال: إنّي أعلم ما لا تعلمون، يا آدم أنبئهم بأسمائهم. فقال: فلانٌ، وفلانٌ».
قال: «فلمّا رأوا ما أعطاه اللّه من العلم عليهم، أقرّوا لآدم بالفضل عليهم، وأبى الخبيث إبليس أن يقرّ له، قال: {أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبّر فيها}».
- وقال ابن إسحاق بما حدّثنا به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، قال: «لمّا أراد اللّه أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه، وكان أوّل بلاءٍ ابتليت به الملائكة ممّا لها فيه ما تحبّ وما تكره للبلاء والتّمحيص لما فيهم ممّا لم يعلموا وأحاط به علم اللّه منهم، جمع الملائكة من سكّان السّموات والأرض، ثمّ قال: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} يقول: ساكنٌا وعامراٌ ليسكنها ويعمرها خلقًا ليس منكم. ثمّ أخبرهم بعلمه فيهم، فقال: يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء ويعملون بالمعاصي، فقالوا جميعًا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} لا نعصي ولا نأتي شيئًا كرهته؟ قال: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} أى: فيكم ومنكم، ولم يبدها لهم، من المعصية والفساد وسفك الدّماء وإتيان ما أكره منهم، ممّا يكون في الأرض، ممّا ذكرت في بني آدم.
قال اللّه لمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {ما كان لي من علمٍ بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إليّ إلاّ أنّما أنا نذيرٌ مبينٌ} إلى قوله: {فقعوا له ساجدين}.
فذكر لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم الّذي كان من ذكره آدم حين أراد خلقه ومراجعة الملائكة إيّاه فيما ذكر لهم منه. فلمّا عزم اللّه تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة: {إنّي خالقٌ بشرًا من صلصالٍ من حمأٍ مسنونٍ} بيديّ تكرمةً له، وتعظيمًا لأمره، وتشريفًا له؛ حفظت الملائكة عهده، ووعوا قوله، وأجمعوا الطّاعة، إلاّ ما كان من عدوّ اللّه إبليس، فإنّه صمت على ما كان في نفسه من الحسد والبغي والتّكبّر والمعصية.
وخلق اللّه آدم من آدمة الأرض، من طينٍ لازبٍ من حمأٍ مسنونٍ، بيديه تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفًا له على سائر خلقه».
قال ابن إسحاق: «فيقال واللّه أعلم: خلق اللّه آدم ثمّ وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن ينفخ فيه الرّوح حتّى عاد صلصالاً كالفخّار، ولم تمسّه نارٌ».

قال: «فيقال واللّه أعلم: إنّه لمّا انتهى الرّوح إلى رأسه عطس، فقال: الحمد للّه. فقال له ربّه: يرحمك ربّك. ووقع الملائكة حين استوى سجودًا له حفظًا لعهد اللّه الّذي عهد إليهم، وطاعةً لأمره الّذي أمرهم به. وقام عدوّ اللّه إبليس من بينهم، فلم يسجد مكابرًا متعظّمًا بغيًا وحسدًا، فقال له: {يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ} إلى: {لأملأنّ جهنّم منك وممّن تبعك منهم أجمعين}».
قال: «فلمّا فرغ اللّه من إبليس ومعاتبته وأبى إلاّ المعصية، أوقع عليه اللّعنة وأخرجه من الجنّة. ثمّ أقبل على آدم، وقد علّمه الأسماء كلّها، فقال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السّموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}، {قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم} أي: إنّما أجبناك فيما علّمتنا، فأمّا ما لم تعلّمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمّى آدم من شيءٍ كان اسمه الّذي هو عليه إلى يوم القيامة».
- وقال ابن جريجٍ بما حدّثنا به القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: «إنّما تكلّموا بما أعلمهم أنّه كائنٌ من خلق آدم، فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}».

- وقال بعضهم: إنّما قالت الملائكة ما قالت: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} لأنّ اللّه أذن لها في السّؤال عن ذلك بعد ما أخبرها أنّ ذلك كائنٌ من بني آدم، فسألته الملائكة فقالت على التّعجّب منها: وكيف يعصونك يا ربّ وأنت خالقهم. فأجابهم ربّهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني أنّ ذلك كائنٌ منهم وإن لم تعلموه أنتم، ومن بعض من ترونه لي طائعًا. يعرّفهم بذلك قصور علمهم عن علمه.
- وقال بعض أهل العربيّة: قول الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها} على غير وجه الإنكار منهم على ربّهم، وإنّما سألوه ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنّهم يسبّحون. وقال: قالوا ذلك لأنّهم كرهوا أن يعصى اللّه، لأنّ الجنّ قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
- وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عمّا لم يعلموا من ذلك، فكأنّهم قالوا: يا ربّ خبّرنا؛ مسألة استخبارٍ منهم للّه لا على وجه مسألة التّوبيخ.
قال أبو جعفرٍ: وأولى هذه التّأويلات بقول اللّه جلّ ثناؤه مخبرًا عن ملائكته قيلها له: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} تأويل من قال: إنّ ذلك منها استخبارٌ لربّها؛ بمعنى: أعلمنا يا ربّنا، أجاعلٌ أنت في الأرض من هذه صفته وتاركٌ أن تجعل خليفتك فيها، ونحن نسبّح بحمدك، ونقدّس لك؟ لا إنكار منها لما أعلمها ربّها أنّه فاعلٌ، وإن كانت قد استعظمت لمّا أخبرت بذلك أن يكون للّه خلقٌ يعصيه.
- وأمّا دعوى من زعم أنّ اللّه جلّ ثناؤه كان أذن لها بالسّؤال عن ذلك فسألته على وجه التّعجّب، فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التّنزيل ولا خبر بها من الحجّة يقطع العذر، وغير جائزٍ أن يقال في تأويل كتاب اللّه بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه الّتي تقوم بها الحجّة.
- وأمّا وصف الملائكة من وصفت في استخبارها ربّها عنه بالفساد في الأرض وسفك الدّماء، فغير مستحيلٍ فيه ما روي عن ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ من القول الّذي رواه السّدّيّ ووافقهما عليه قتادة من التّأويل. وهو أنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبرهم أنّه جاعلٌ في الأرض خليفةً تكون له ذرّيّةً يفعلون كذا وكذا، فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} على ما وصفت من الاستخبار.
فإن قال لنا قائلٌ: وما وجه استخبارها والأمر على ما وصفت من أنّها قد أخبرت أنّ ذلك كائنٌ؟
قيل: وجه استخبارها حينئذٍ يكون عن حالهم عند وقوع ذلك، وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربّهم أن يجعلهم الخلفاء في الأرض حتّى لا يعصوه.
- وغير فاسدٍ أيضًا ما رواه الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ وتابعه عليه الرّبيع بن أنسٍ من أنّ الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكّان الأرض قبل آدم من الجنّ، فقالت لربّها: أجاعلٌ فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الّذي كانوا يفعلون؟ على وجه الاستعلام منهم لربّهم، لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائنٌ كذلك، فيكون ذلك منها إخبارًا عمّا لم تطّلع عليه من علم الغيب.
- وغير خطأٍ أيضًا ما قاله ابن زيدٍ من أن يكون قيل الملائكة ما قالت كان على وجه التّعجّب منها من أن يكون للّه خلقٌ يعصي خالقه.
- وإنّما تركنا القول بالّذي رواه الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ ووافقه عليه الرّبيع بن أنسٍ وبالّذي قاله ابن زيدٍ في تأويل ذلك؛ لأنّه لا خبر عندنا بالّذي قالوه من وجهٍ يقطع مجيئه العذر ويلزم سامعه به الحجّة. والخبر عمّا مضى وما قد سلف، لا يدرك علم صحّته إلاّ بمجيئه مجيئًا يمتنع منه التّشاغب والتّواطؤ، ويستحيل فيه الكذب والخطأ والسّهو. وليس ذلك بموجودٍ كذلك فيما حكاه الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ ووافقه عليه الرّبيع، ولا فيما قاله ابن زيدٍ.
فأولى التّأويلات إذ كان الأمر كذلك بالآية، ما كان عليه من ظاهر التّنزيل دلالةً ممّا يصحّ مخرجه في المفهوم.
فإن قال قائلٌ: فإن كان أولى التّأويلات بالآية هو ما ذكرت من أنّ اللّه أخبر الملائكة بأنّ ذرّيّة خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدّماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها} فأين ذكر إخبار اللّه إيّاهم في كتابه بذلك؟
قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه، كما قال الشّاعر:

فلا تدفنوني إنّ دفني محرّمٌ.......عليكم ولكن خامري أمّ عامر
فحذف قوله: دعوني للّتي يقال لها إذا أريد صيدها خامري أمّ عامر، إذ كان فيما أظهر من كلامه دلالةٌ على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} لمّا كان فيه دلالةٌ على ما ترك ذكره بعد قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} من الخبر عمّا يكون من إفساد ذرّيّته في الأرض اكتفى بدلالته وحذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشّاعر ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}). [جامع البيان: 1/ 482-501]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}
أمّا قوله: {ونحن نسبّح بحمدك} فإنّه يعني: إنّا نعظّمك بالحمد لك والشّكر، كما قال الله تعالى ذكره: {فسبّح بحمد ربّك} وكما قال: {والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم} وكلّ ذكرٌ للّه عند العرب فتسبيحٌ وصلاةٌ، يقول الرّجل منهم: قضيت سبحتي من الذّكر والصّلاة. وقد قيل: إنّ التّسبيح صلاة الملائكة.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يعقوب القمّيّ، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي، فمرّ رجلٌ من المسلمين على رجلٍ من المنافقين، فقال له: النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي وأنت جالسٌ؟ فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عملٌ. فقال: ما أظنّ إلاّ سيمرّ عليك من ينكر عليك.

فمرّ عليه عمر بن الخطّاب، فقال له: يا فلان، النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي وأنت جالسٌ. فقال له مثلها، فقال: هذا من عملي. فوثب عليه فضربه حتّى انبهر. ثمّ دخل المسجد فصلّى مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فلمّا انفتل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قام إليه عمر، فقال: يا نبيّ اللّه، مررت آنفًا على فلانٍ وأنت تصلّي، فقلت له: النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي وأنت جالسٌ. فقال: مر إلى عملك إن كان لك عملٌ. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «فهلاّ ضربت عنقه». فقام عمر مسرعًا. فقال:«يا عمر ارجع فإنّ غضبك عزٌّ ورضاك حكمٌ، إنّ للّه في السّموات السّبع ملائكةً يصلّون له غنًى عن صلاة فلانٍ». فقال عمر: يا نبيّ اللّه وما صلاتهم؟ فلم يردّ عليه شيئًا. فأتاه جبريل، فقال: «يا نبيّ اللّه سألك عمر عن صلاة أهل السّماء؟» قال: «نعم»، فقال: «اقرأ على عمر السّلام، وأخبره أنّ أهل السّماء الدّنيا سجودٌ إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السّماء الثّانية ركوعٌ إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزّة والجبروت، وأهل السّماء الثّالثة قيامٌ إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحيّ الّذي لا يموت».
- وحدّثني يعقوب بن إبراهيم، وسهل بن موسى الرّازيّ، قالا: حدّثنا ابن عليّة، قال: أخبرنا الجريريّ، عن أبي عبد اللّه الجسريّ، عن عبد اللّه بن الصّامت، عن أبي ذرٍّ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عاده، أو أنّ أبا ذرٍّ عاد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللّه بأبي أنت، أيّ الكلام أحبّ إلى اللّه؟ فقال: «ما اصطفى اللّه لملائكته: سبحان ربّي وبحمده، سبحان ربّي وبحمده».
في أشكالٍ لما ذكرنا من الأخبار كرهنا إطالة الكتاب باستقصائها.
وأصل التّسبيح للّه عند العرب التّنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه والتّبرئة له من ذلك، كما قال أعشى بني ثعلبة:
أقول لمّا جاءني فخره.......سبحان من علقمة الفاخر
يريد: سبحان اللّه من فخر علقمة. أي: تنزيهًا للّه ممّا أتى علقمة من الافتخار على وجه النّكير منه لذلك.
وقد اختلف أهل التّأويل في معنى التّسبيح والتّقديس في هذا الموضع.

فقال بعضهم: قولهم: {نسبّح بحمدك}: نصلّي لك. ذكر من قال ذلك:
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: «يقولون: نصلّي لك».
وقال آخرون: {نسبّح بحمدك} التّسبيح المعلوم. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: في قوله: {ونحن نسبّح بحمدك} قال: «التّسبيح: التّسبيح»). [جامع البيان: 1/ 502-505]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ونقدّس لك}
والتّقديس هو التّطهير والتّعظيم؛ ومنه قولهم: سبّوحٌ قدّوسٌ، يعني بقولهم سبّوحٌ: تنزيهٌ للّه؛ وبقولهم قدّوسٌ: طهارةٌ له وتعظيمٌ؛ ولذلك قيل للأرض: أرضٌ مقدّسةٌ، يعني بذلك المطهّرة.
فمعنى قول الملائكة إذًا {ونحن نسبّح بحمدك} ننزّهك ونبرّئك ممّا يضيفه إليك أهل الشّرك بك، ونصلّي لك. ونقدّس لك: ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطّهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
وقد قيل: إنّ تقديس الملائكة لربّها صلاتها له.
- كما حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: في قوله: {ونقدّس لك} قال: «التّقديس: الصّلاة».
وقال بعضهم: نقدّس لك: نعظّمك ونمجّدك.ذكر من قال ذلك؛
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هاشم بن القاسم، قال: حدّثنا أبو سعيدٍ المؤدّب، قال: حدّثنا إسماعيل، عن أبي صالحٍ: في قوله: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: «نعظّمك ونمجّدك».

- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثني عيسى، وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: في قول اللّه: {ونقدّس لك} قال: «نعظّمك ونكبّرك».
- وحدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}: «لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه».
- وحدّثت عن المنجاب، قال: حدّثنا بشرٌ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك: في قوله: {ونقدّس لك} قال: «التّقديس: التّطهير».
وأمّا قول من قال: إنّ التّقديس الصّلاة أو التّعظيم، فإنّ معنى قوله ذلك راجعٌ إلى نحو المعنى الّذي ذكرناه من التّطهير؛ من أجل أنّ صلاتها لربّها تعظيمٌ منها له وتطهيرٌ ممّا ينسبه إليه أهل الكفر به.
ولو قال مكان: {ونقدّس لك}: ونقدّسك، كان فصيحًا من الكلام، وذلك أنّ العرب تقول: فلانٌ يسبّح اللّه ويقدّسه، ويسبّح للّه ويقدّس له بمعنى واحدٍ، وقد جاء بذلك القرآن، قال اللّه جلّ ثناؤه: {كي نسبّحك كثيرًا ونذكرك كثيرًا} وقال في موضعٍ آخر: {يسبّح للّه ما في السّموات وما في الأرض}). [جامع البيان: 1/ 505-507]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}.
اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك؛

فقال بعضهم: يعني بقوله: {أعلم ما لا تعلمون} ممّا اطّلع عليه من إبليس، وإضماره المعصية للّه وإخفائه الكبر، ممّا اطّلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمّد بن العلاء، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}: «يقول: إنّي قد اطّلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا عليه من كبره واغتراره».
- وحدّثني موسى قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}: «يعني من شأن إبليس».
- وحدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد، وحدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا مؤمّلٌ، قالا جميعًا: حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال: «علم من إبليس المعصية وخلقه لها».
- وحدّثني موسى بن عبد الرّحمن المسروقيّ، قال: حدّثنا محمّد بن بشرٍ، قال: حدّثنا سفيان عن عليّ بن بذيمة، عن مجاهدٍ مثله.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن يمانٍ، عن سفيان، عن عليّ بن بذيمة، عن مجاهدٍ مثله.
- وحدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن محمّد بن عبد الرّحمن عن القاسم بن أبي بزّة عن مجاهدٍ: في قوله: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال: «علم من إبليس المعصية وخلقه لها».
- وحدّثني جعفر بن محمّدٍ البزوريّ، قال: حدّثنا حسن بن بشرٍ، عن حمزة الزّيّات، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: في قوله: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال: «علم من إبليس كتمانه الكبر أن لا يسجد لآدم».
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى بن ميمونٍ، قال: وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: في قول اللّه: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال: «علم من إبليس المعصية».
- وحدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: قال مجاهدٌ: في قوله: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال: «علم من إبليس المعصية وخلقه لها». وقال مرّةً: «آدم».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا حجّاج بن المنهال، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عبد الوهّاب بن مجاهدٍ يحدّث عن أبيه: في قوله: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال: «علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطّاعة وخلقه لها».
- وحدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن ابن طاووسٍ، عن أبيه والثّوريّ عن عليّ بن بذيمة، عن مجاهدٍ: في قوله: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال: «علم من إبليس المعصية وخلقه لها».
- وحدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}: «أي: فيكم ومنكم ولم يبدها لهم من المعصية والفساد وسفك الدّماء».
وقال آخرون: معنى ذلك أنّي أعلم ما لا تعلمون من أنّه يكون من تلك الخليفة أهل الطّاعة والولاية للّه. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: «{إنّي أعلم ما لا تعلمون} فكان في علم اللّه أنّه سيكون من تلك الخليفة أنبياء ورسلٌ وقومٌ صالحون وساكنو الجنّة».
وهذا الخبر من اللّه جلّ ثناؤه، ينبئ عن أنّ الملائكة الّتي قالت: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} استفظعت أن يكون للّه خلقٌ يعصيه، وعجبت منه إذ أخبرت أنّ ذلك كائنٌ؛ فلذلك قال لهم ربّهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني بذلك واللّه أعلم: إنّكم لتعجبون من أمر وتستفظعونه وأنا أعلم أنّه في بعضكم، وتصفون أنفسكم بصفةٍ أعلم خلافها من بعضكم وتعرّضون بأمرٍ قد جعلته لغيركم.

وذلك أنّ الملائكة قالت لربها لمّا أخبرها ربّها بما هو كائنٌ من ذرّيّة خليفته من الفساد وسفك الدّماء قالت لربّها: يا ربّ أجاعلٌ أنت في الأرض خليفةً من غيرنا يكون من ذرّيّته من يعصيك أم منّا؟ فإنّا نعظّمك ونصلّي لك ونطيعك ولا نعصيك. ولم يكن عندها علمٌ بما قد انطوى عليه كشحًا إبليس من استكباره على ربّه. فقال لهم ربّهم: إنّي أعلم غير الّذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورًا عنهم من أمر إبليس وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قيلهم ذلك ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عوتبوا). [جامع البيان: 1/ 507-511]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون (30)}
قوله: {وإذ قال ربك للملائكة}
- حدثنا أبو بكر أبي موسى الأنصاريّ، ثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ، عن أسباط بن نصرٍ، عن السّدّيّ، عن أبي مالك: «قوله: {وإذ}: فقد كان».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}: «فاستشار الملائكة في خلق آدم». وكذا روي عن قتادة). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 75-76]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {إنّي جاعلٌ}
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا سعيد بن سليمان، ثنا مبارك بن فضالة، ثنا الحسن، قال: «قال اللّه للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قال لهم: إنّي فاعلٌ».
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن سلمة، ثنا سلمة -يعني ابن الفضل-، حدّثني محمّد بن إسحاق: «قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} يقول: ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمّرها خلقًا ليس منكم»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 76]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {في الأرض}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو سلمة، ثنا حمّادٌ، أنبأ عطاء بن السائب، عن ابن سابطٍ أنّ النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: «دحيت الأرض من مكّة، وأوّل من طاف بالبيت الملائكة فقال: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}»، يعني مكّة.
- حدّثنا أحمد بن عصامٍ الأنصاريّ وحميد بن عيّاشٍ، قالا: ثنا مؤمّلٌ، ثنا حماد ابن سلمة وحمّاد بن زيدٍ، عن خالدٍ الحذّاء، قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيدٍ، آدم للسّماء خلق أم الأرض؟ قال: «أما تقرأ القرآن: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}؟ لا، بل للأرض خلق»). [تفسير القرآن العظيم: 1 /76]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {خليفةً}
- حدّثنا عمرو بن عبد اللّه الأوديّ، ثنا وكيعٌ، ثنا سفيان، عن سالم بن أبي حفصة، عن رجلٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: «أخرج اللّه آدم من الجنّة قبل أن يسكنها إيّاه»، ثمّ قرأ: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة}). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 76]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {قالوا أتجعل فيها}
- حدّثنا أبي، ثنا هشام بن عبيد اللّه، أنبأ عتّاب، أعين عن سفيان الثّوريّ، عن عطاء بن السّائب، عن ابن سابطٍ في قول اللّه: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} قال: «يعنون الحرام»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 77]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {من يفسد فيها ويسفك الدماء}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي، ثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسيّ، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش،، عن بكير ابن الأخنس عن مجاهدٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو قال: «كان الجنّ بنو الجانّ في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنةٍ، فأفسدوا في الأرض، سفكوا الدّماء، فبعث اللّه جندًا من الملائكة فضربوهم حتّى ألحقوهم بجزائر البحور، فقال اللّه للملائكة: إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء، قال: إنّي أعلم ما لا تعلمون».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} إلى قوله: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} قال: «خلق اللّه الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجنّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجان، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدّماء بينهم، وكان الفساد في الأرض فمن ثمّ قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} كما أفسدت الجنّ، {ويسفك الدّماء} كما سفكوا».
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا سعيد بن سليمان، ثنا مبارك بن فضالة، ثنا الحسن، قال: «قال اللّه تعالى للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قال لهم إنيّ فاعلٌ. أفضوا برأيهم فعلّمهم علمًا، وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الّذي علّمهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء، قال: إنّي أعلم ما لا تعلمون»، قال الحسن: «إنّ الجنّ كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدّماء ولكن جعل اللّه في قلوبهم أنّ ذلك سيكون، فقالوا بالقول الّذي علّمهم».
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا عبيد اللّه بن موسى، أنبأ إسرائيل، عن السدي،
عمّن حدّثه، عن ابن عبّاسٍ: «قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال اللّه: إنّي خالقٌ بشرًا وإنّهم يتحاسدون فيقتل بعضهم بعضًا، ويفسدون في الأرض، فلذلك قالوا ما قالوا». يعني: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}.
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع الجرجانيّ، أنبأ عبد الرّزّاق، أنبأ معمرٌ، عن قتادة في قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} قال: «كان اللّه أعلم أنّه إذا كان في الأرض خلقٌ أفسدوا فيها وسفكوا الدّماء، فذلك حين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} يعنون النّاس».
- حدّثنا أحمد بن عصامٍ، ثنا أبو أحمد الزّبيريّ، ثنا سفيان، عن عطاء بن السّائب، عن ابن سابطٍ في قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}: «يعنون النّاس».
والوجه الثّالث:
- حدّثنا أبي، ثنا هشامٌ الرّازيّ، ثنا ابن المبارك، عن معروفٍ -يعني ابن خربؤ المكّيّ- عمّن سمع أبا جعفرٍ محمّد بن عليٍّ يقول: «السّجلّ ملكٌ، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له كلّ يومٍ ثلاث لمحاتٍ ينظرهنّ في أمّ الكتاب، فنظر نظرةً لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما فيه من الأمور، فأسرّ ذلك إلى هاروت وماروت وكانا من أعوانه، فلمّا قال: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}، قالا ذلك استطالةً على الملائكة».
والوجه الرّابع:
- حدّثنا أبى هشام بن عبيد اللّه، ثنا عبد اللّه بن يحيى بن أبي كثيرٍ، قال:
سمعت أبي يقول: «إنّ الملائكة الّذين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} كانوا عشرة آلافٍ، فخرجت نارٌ من عند الله فأحرقتهم»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 77-78]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ونحن نسبح بحمدك}
[الوجه الأول]
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أنبأ عبد الرّزّاق، أنبأ معمرٌ، عن قتادة في قوله: {ونحن نسبّح بحمدك} قال: «التّسبيح: التّسبيح».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ونحن نسبّح بحمدك} يقول: «نصلّي لك»). [تفسير القرآن العظيم: 1 /79]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ونقدّس لك}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ونقدّس لك} قال: «التّقديس: التّطهير».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أنبأ عبد الرّزّاق، أنا معمرٌ، عن قتادة في قوله: {ونقدّس لك} قال: «التّقديس: الصّلاة». قال أبو محمّدٍ: وكذا فسّره السّدّيّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 79]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا عبد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن السّدّيّ، عمّن ؟؟ عن ابن عبّاسٍ قال: «كان إبليس على ملائكة سماء الدّنيا فاستكبر وهمّ بالمعصية وطغى، فذلك قول اللّه: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} في نفس إبليس البغي»، وروي عن السّدّيّ نحو ذلك.
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا أحمد بن بشيرٍ، عن محمّد بن مسلمٍ، عن علي ابن بذيمة، عن مجاهدٍ: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال: «علم من إبليس المعصية، وخلقه لها».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، أخبرني سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة:
قوله: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال: «كان من علم اللّه أنّه سيكون من ذلك الخليفة رسلٌ وأنبياء وقومٌ صالحون وساكن الجنّة»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 79-80]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم، قال: نا آدم، قال: نا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} قال: «نعظمك ونكبرك»، فقال الله عز وجل: {إني أعلم ما لا تعلمون} قال: «علم من إبليس المعصية وخلقه لها»). [تفسير مجاهد: 72-73]

قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرني عبد اللّه بن موسى الصّيدلانيّ، ثنا إسماعيل بن قتيبة، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: «لقد أخرج اللّه آدم من الجنّة قبل أن يدخلها أحدٌ، قال اللّه تعالى: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عامٍ الجنّ بنو الجانّ، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدّماء، فلمّا قال اللّه تعالى: إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء، يعنون الجنّ بني الجانّ، فلمّا أفسدوا في الأرض بعث عليهم جنودًا من الملائكة، فضربوهم حتّى ألحقوهم بجزائر البحور».

قال: «فقالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها} كما فعل أولئك الجنّ بنو الجانّ؟»
قال: «فقال اللّه: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}»، «هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه»). [المستدرك: 2/ 287]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرني أبو بكرٍ محمّد بن المؤمّل، ثنا الحسن بن عيسى، ثنا الفضل بن محمّدٍ الشّعرانيّ، ثنا النّفيليّ، ثنا محمّد بن سلمة، عن خصيف بن عبد الرّحمن، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: «لمّا فرغ اللّه من خلق آدم، وأجرى فيه الرّوح عطس، فقال: الحمد للّه. فقال له ربّه: يرحمك ربّك»، «هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه، وقد أسنده عتّابٌ، عن خصيفٍ، وليس من شرط هذا الكتاب»).[المستدرك: 2/ 287]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا محمّد بن محمّد بن عليٍّ الصّنعانيّ، بمكّة، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ عبد الرّزّاق، أنبأ معمرٌ، أخبرنا عوفٌ العبديّ، عن قسامة بن زهيرٍ، عن أبي موسى الأشعريّ رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خلق اللّه آدم من أديم الأرض كلّها، فخرجت ذرّيّته على حسب ذلك، منهم الأبيض والأسود، والأسمر والأحمر، ومنهم بين بين ذلك، ومنهم السّهل، والخبيث، والطّيّب» هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرّجاه). [المستدرك: 2/ 288]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا الحسن بن يعقوب العدل، ثنا يحيى بن أبي طالبٍ، ثنا عبد الوهّاب بن عطاءٍ، أنبأ سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن يحيى بن ضمرة، عن أبيّ بن كعبٍ رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ آدم كان رجلًا طوالًا، كأنّه نخلةٌ سحوقٌ، كثير شعر الرّأس، فلمّا ركب الخطيئة بدت له عورته، وكان لا يراها قبل ذلك، فانطلق هاربًا في الجنّة، فتعلّقت به شجرةٌ، فقال لها: أرسليني. قالت: لست بمرسلتك. قال: وناداه ربّه: يا آدم أمنّي تفرّ؟ قال: يا ربّ إنّي استحيتك»، «هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه»). [المستدرك: 2/ 288]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثني إبراهيم بن إسماعيل القارئ، ثنا عثمان بن سعيدٍ الدّارميّ، ثنا أبو توبة الرّبيع بن نافعٍ الحلبيّ، ثنا معاوية بن سلّامٍ، حدّثني زيد بن سلّامٍ، أنّه سمع أبا سلّامٍ، يقول: حدّثني أبو أمامة رضي اللّه عنه، أنّ رجلًا قال: يا رسول اللّه، أنبيًّا كان آدم؟ قال: «نعم، معلّمٌ مكلّمٌ» قال: كم بينه وبين نوحٍ؟ قال: «عشر قرونٍ» قال: كم بين نوحٍ وإبراهيم؟ قال: «عشر قرونٍ» قالوا: يا رسول اللّه، كم كانت الرّسل؟ قال: «ثلاث مائةٍ وخمس عشرة جمًّا غفيرًا» هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه). [المستدرك: 2/ 288]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {أتجعل فيها من يفسد فيها}
- عن ابن عمر أنّه سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنّ آدم صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا أهبطه اللّه تبارك وتعالى إلى الأرض، قالت الملائكة: أي ربّ {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} قالوا: ربّنا نحن أطوع لك من بني آدم.
قال اللّه تبارك وتعالى للملائكة: هلمّوا ملكين من الملائكة حتّى نهبط بهما إلى الأرض، فننظر كيف يعملان، قالوا: ربّنا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، ومثّلت لهما الزّهرة امرأةً من أحسن البشر.
فجاآها فسألاها نفسها، فقالت: لا واللّه حتّى تكلّما بهذه الكلمة من الإشراك، قالا: لا واللّه لا نشرك باللّه أبدًا، فذهبت عنهما ثمّ رجعت بصبيٍّ تحمله فسألاها نفسها، فقالت: لا واللّه حتّى تقتلا هذا الصّبيّ، فقالا: لا واللّه لا نقتله أبدًا، فذهبت.
ثمّ رجعت بقدح خمرٍ تحمله فسألاها نفسها، فقالت: لا واللّه حتّى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا، فوقعا عليها، وقتلا الصّبيّ، فلمّا أفاقا قالت المرأة: واللّه ما تركتما شيئًا ممّا أبيتماه عليّ إلّا فعلتماه
حين سكرتما. فخيّرا بين عذاب الدّنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدّنيا».
رواه أحمد، ورجاله رجال الصّحيح غير موسى بن جبيرٍ وهو ثقةٌ). [مجمع الزوائد: 6/ 313-314]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ): (أخبرنا الحسن بن سفيان، حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن أبي بكيرٍ، عن زهير بن محمّدٍ عم موسى بن جبيرٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر أنّه سمع رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ آدم لمّا أهبط إلى الأرض قالت الملائكة: أي ربّ {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} قالوا: ربّنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال اللّه لملائكته: هلمّوا ملكين من الملائكة فننظر كيف يعملان، قالوا: ربنا هاروت وماروت، قال: اهبطا إلى الأرض،

فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر، فجاآها فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتّى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك، قالا: والله لا نشرك باللّه أبدا، فذهبت عنهما ثمّ رجعت إليهما ومعها صبي تحمله، فسألاها نفسها فقالت: لا واللّه حتّى تقتلا هذا الصّبي، فقالا: والله لا نقتله أبدًا، فذهبت ثمّ رجعت بقدحٍ من خمرٍ تحمله، فسألاها نفسها فقالت: لا واللّه حتّى تشربا هذه الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصّبيّ، فلمّا أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتكما من شيء أبيتماه عليّ إلا فعلتماه حين سكرتما، فخيّرا عند ذلك بين عذاب الدّنيا والآخرة فاختارا عذاب الدّنيا»). [موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: 1/ 425]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون}.
أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك قال: «ما كان في القرآن {إذ} فقد كان».
وأخرج ابن جرير، عن الحسن في قوله: {إني جاعل} قال: «فاعل».
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك قال: «كل شيء في القرآن {جعل} فهو خلق».
وأخرج وكيع وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر عن ابن عباس قال: «إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه»، ثم قرأ {إني جاعل في الأرض خليفة}.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «لقد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يدخلها قال الله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}، وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان ففسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث عليهم جنودا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} كما فعل أولئك الجان فقال الله: {إني أعلم ما لا تعلمون}».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر، مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: «كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث فكان خازنا من خزان الجنة، وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، وخلقت الجن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت، فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتلوا بعضهم بعضا، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتر بنفسه وقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد، فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم يطلع عليه الملائكة، فقال الله للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة}، فقالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} كما أفسدت الجن، قال: {إني أعلم ما لا تعلمون} يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره،

ثم أمر بتربة آدم فرفعت فخلق الله آدم عليه السلام من طين لازب، واللازب: اللزج الطيب من حمأ مسنون منتن، وإنما كان حمأ مسنون بعد التراب، فخلق منه آدم بيده فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى، فكان إبليس يأتيه يضربه برجله فيصلصل فيصوت ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئا، ولشيء ما خلقت ولئن سلطت عليك لأهلنك ولئن سلطت على لأعصينك،
فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله: {خلق الإنسان من عجل}، فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال: الحمد لله رب العالمين، بإلهام من الله، فقال الله له: يرحمك الله يا آدم، ثم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم فسجدوا، إلا إبليس أبى واستكبر لما حدث في نفسه من الكبر، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، فأبلسه الله وآيسه من الخير كله وجعله شيطانا رجيما».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن أبي العالية قال: «إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم فكانت الدماء وكان الفساد في الأرض، فمن ثم قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}».
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: «لما خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا، وقالوا: ربنا لم خلقت هذه، قال: لمن عصاني من خلقي، ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة، قالوا: يا رب ويأتي دهر نعصيك فيه، قال: لا، إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض، قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} فاجعلنا نحن فيها {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون}».
وأخرج ابن جرير، وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة: «لما فرغ الله من خلق ما أحب، استوى على العرش فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزائن الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازنا، فوقع في صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيد أو لمزية لي، فاطلع الله على ذلك منه فقال للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} قالوا: ربنا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}، قال: {إني أعلم ما لا تعلمون}».
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {وإذ قال ربك للملائكة} الآية، قال: «إن الله قال للملائكة: إني خالق بشرا وإنهم متحاسدون فيقتل بعضهم بعضا ويفسدون في الأرض، فلذلك قالوا {أتجعل فيها من يفسد}».

قال: «وكان إبليس أميرا على ملائكة سماء الدنيا فاستكبر وهم بالمعصية وطغى فعلم الله ذلك منه، فذلك قوله {إني أعلم ما لا تعلمون} وإن في نفس إبليس بغيا».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} قال: «قد علمت الملائكة وعلم الله أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض».
وأخرج ابن المنذر، وابن بطة في أماليه عن ابن عباس قال: «إياكم والرأي، فإن الله تعالى رد الرأي على الملائكة، وذلك إن الله قال: {إني جاعل في الأرض خليفة} قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها}، {قال إني أعلم ما لا تعلمون}».
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول من لبى الملائكة، قال الله: {إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}»، قال: «فزادوه فأعرض عنهم فطافوا بالعرش ست سنين يقولون: لبيك لبيك اعتذارا إليك لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن ابن سابط أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت، فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله: {إني جاعل في الأرض خليفة}، وكان النّبيّ إذا هلك قومه نجا هو والصالحون أتاها هو ومن معه فيعبدون الله بها حتى يموتوا فيها، وإن قبر نوح وهود وشعيب وصالح بين زمزم وبين الركن والمقام».
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} قال: «التسبيح: التسبيح، والتقديس: الصلاة».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي ذر أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«أحب الكلام إلى الله ما اصطفاه الله لملائكته، سبحان ربي وبحمده»، وفي لفظ: «سبحان الله وبحمده».
وأخرج ابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أن عمر بن الخطاب سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن صلاة الملائكة فلم يرد عليه شيئا، فأتاه جبريل فقال: «إن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله {ونقدس لك} قال: «نصلي لك».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «التقديس: التطهير».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله {ونقدس لك} قال: «نعظمك ونكبرك».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن أبي صالح في قوله {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} قال: «نعظمك ونمجدك».
وأخرج وكيع وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير في قوله {إني أعلم مالا تعلمون} قال: «علم من إبليس ؟؟ وخلقه لها».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة {إني أعلم ما لا تعلمون} قال: «كان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة».
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا في الأمل عن الحسن قال: «لما خلق الله آدم وذريته، قالت الملائكة: ربنا إن الأرض لم تسعهم، قال: إني جاعل موتا، قالوا: إذا لا يهنأ لهم العيش، قال: إني جاعل أملا».
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد في مسنده، وابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات، وابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن آدم لما أهبطه إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماءونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان، فقالوا: ربنا هاروت وماروت، قال: فاهبطا إلى الأرض، فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها،
فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك، قالا: والله لا نشرك بالله أبدا، فذهبت عنهما، ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي، قالا: لا والله لا نقتله أبدا، فذهبت ثم رجعت بقدح من خمر، فسألاها نفسها فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي، فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئا أبيتماه علي قد فعلتماه حين سكرتما، فخيرا عند ذلك بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا».
وأخرج ابن سعد في طبقاته وأحمد، وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وصححه والحكيم في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب».
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: «خلقت الكعبة قبل الأرض بألفي سنة»،

قالوا: كيف خلقت قبل وهي من الأرض؟
قال: «كانت حشفة على الماء عليها ملكان يسبحان الليل والنهار ألفي سنة، فلما أراد الله أن يخلق الأرض دحاها منها فجعلها في وسط الأرض، فلما أراد الله أن يخلق آدم بعث ملكا من حملة العرش يأتي بتراب من الأرض، فلما هوى ليأخذ قالت الأرض: أسألك بالذي أرسلك أن لا تأخذ مني اليوم شيئا يكون منه للنار نصيب غدا، فتركها فلما رجع إلى ربه قال: ما منعك أن تأتي بما أمرتك، قال: سألتني بك، فعظمت أن أرد شيئا سألني بك، فأرسل ملكا آخر فقال مثل ذلك، حتى أرسلهم كلهم، فأرسل ملك الموت فقالت له مثل ذلك، قال: إن الذي أرسلني أحق بالطاعة منك، فأخذ من وجه الأرض كلها، من طيبها وخبيثها، حتى كانت قبضة عند موضع الكعبة، فجاء به إلى ربه فصب عليه من ماء الجنة، فجاء حمأ مسنونا فخلق منه آدم بيده ثم مسح على ظهره، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فتركه أربعين ليلة لا ينفخ فيه الروح، ثم نفخ فيه الروح فجرى فيه الروح من رأسه إلى صدره فأراد أن يثب -فتلا أبو هريرة: {خلق الإنسان من عجل}-
فلما جرى فيه الروح قعد جالسا، فعطس فقال الله: قل الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال: رحمك ربك، ثم قال: انطلق إلى هؤلاء الملائكة فسلم عليهم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقال: هذه تحيتك وتحية ذريتك، يا آدم، أي مكان أحب إليك أن أريك ذريتك فيه، فقال: بيمين ربي وكلتا يدي ربي يمين، فبسط يمينه فأراه فيها ذريته كلهم، وما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته والمبتلى على هيئته والأنبياء على هيئتهم، فقال: أي رب ألا عافيهتم كلهم، فقال: إني أحببت أن أشكر، فرأى فيها رجلا ساطعا نوره فقال: أي رب من هذا؟، فقال: هذا ابنك داود، فقال: كم عمره؟، قال: ستون سنة، قال: كم عمري؟، قال: ألف سنة، قال: انقص من عمري أربعين سنة فزدها في عمره، ثم رأى آخر ساطعا نوره ليس مع أحد من الأنبياء مثل ما معه، فقال: أي رب من هذا؟، قال: هذا ابنك محمد وهو أول من يدخل الجنة، فقال آدم: الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يسبقني إلى الجنة ولا أحسده، فلما مضى لآدم ألف سنة إلا أربعين جاءته الملائكة تتوفاه عيانا، قال: ما تريدون؟، قالوا: أردنا أن نتوفاك، قال: بقي من أجلي أربعون، قالوا: أليس قد أعطيتها ابنك داود، قال: ما أعطيت أحدا شيئا»،
قال أبو هريرة: «جحد آدم وجحدت ذريته، ونسي ونسيت ذريته».
وأخرج ابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا: «بعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: أعوذ منك أن تنقص مني، فرجع ولم يأخذ شيئا، وقال: يا رب إنها أعاذت بك فأعذتها، فبعث الله ميكائيل كذلك، فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء -فذلك خرج بنو آدم مختلفين-، فصعد به فبل التراب حتى صار طينا لازبا، واللازب: هو الذي يلزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة: إني خالق بشرا من طين، فخلقه الله بيده لئلا يتكبر عليه إبليس، فخلقه بشرا سويا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعا إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة، فيقول: لأمر ما خلقت، ويدخل من فيه ويخرج من دبره، ويقول للملائكة: لا ترهبوا منه فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل في رأسه عطس فقالت الملائكة: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله له: يرحمك ربك، فلما دخلت الروح في عنقه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ إلى رجليه عجلا إلى ثمار الجنة، وذلك قوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل}».
وأخرج ابن سعد في طبقاته، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس قال: «بعث رب العزة إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها فخلق منها آدم، فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى السعادة، وإن كان ابن كافرين، وكل شيء خلقه من مالحها فهو صائر إلى الشقاء وإن كان أبن نبيين»، قال: «ومن ثم قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينا، إن هذه الطينة أنا جئت بها، ومن ثم سمي آدم لأنه أخذ من أديم الأرض».
وأخرج ابن جرير، عن علي، قال:«إن آدم خلق من أديم الأرض، فيه الطيب والصالح والرديء فكل ذلك أنت راء في ولده».
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر عن أبي ذر سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إن آدم خلق من ثلاث تربات: سوداء وبيضاء وحمراء».
وأخرج ابن سعد في الطبقات، وعبد بن حميد وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات، وابن عساكر عن سعيد بن جبير قال: «خلق الله آدم من أرض يقال لها دحناء».
وأخرج الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا: «الهوى والبلاء والشهوة معجونة بطينة آدم عليه السلام».
وأخرج الطيالسي، وابن سعد وأحمد، وعبد بن حميد ومسلم وأبو يعلى، وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لما صور الله تعالى آدم في الجنة تركه ما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك»، ولفظ أبي الشيخ قال: «خلق لا يتمالك ظفرت به».
وأخرج ابن حبان عن أنس أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«لما نفخ الله في آدم الروح فبلغ الروح رأسه عطس، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له تبارك وتعالى: يرحمك الله».
وأخرج ابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله آدم عطس، فألهمه الله ربه أن قال: الحمد لله، قال له ربه: يرحمك الله، فلذلك سبقت رحمته غضبه».
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «لما فرغ الله من خلق آدم وجرى فيه الروح، عطس فقال: الحمد لله، فقال له ربه: يرحمك الله».
وأخرج ابن سعد وأبو يعلى، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طينا، ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا خلقه وصوره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار، وجعل إبليس يمر به فيقول: لقد خلقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه، فكأن أول شيء جرى فيه الروح بصره وخياشيمه، فعطس فلقنه الله حمد ربه، فقال الرب: يرحمك ربك، ثم قال: يا آدم اذهب إلى أولئك النفر فقل لهم وانظر ماذا يقولون، فجاء فسلم عليهم فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله، فجاء إلى ربه فقال: ماذا قالوا لك؟، وهو أعلم بما قالوا له، قال: يا رب سلمت عليهم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله، قال: يا آدم هذه تحيتك وتحية ذريتك، قال: يا رب وما ذريتي؟، قال: اختر يدي، قال: أختار يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين، فبسط الله كفه فإذا كل ما هو كائن من ذريته في كف الرحمن عز وجل».
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا، قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة، فاسمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعا، فلم تزل الخلق تنقص حتى الآن».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والطبراني في الكبير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خلق آدم طوله ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع».
وأخرج مسلم وأبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها وفيه مات وفيه تيب عليه وفيه تقوم الساعة».
وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي نضرة قال: «لما خلق الله آدم ألقى جسده في السماء لا روح فيه، فلما رأته الملائكة راعهم ما رأوه من خلقه، فأتاه إبليس فلما رأى خلقه منتصبا راعه، فدنا منه فنكته برجله فصل آدم فقال: هذا أجوف لا شيء عنده».
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج قال: «خلق الله آدم في سماء الدنيا، وإنما أسجد له ملائكة سماء الدنيا، ولم يسجد له ملائكة السموات».
وأخرج أبو الشيخ بسند صحيح عن ابن زيد يرفعه إلى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لما أراد أن يخلق آدم بعث ملكا والأرض يومئذ وافرة، فقال: اقبض لي منها قبضة آتني بها أخلق منها خلقا، قالت: فإني أعوذ بأسماء الله أن تقبض اليوم مني قبضة يخلق خلقا يكون لجهنم منه نصيب، فعرج الملك ولم يقبض شيئا فقال له: مالك، قال: عاذت بأسمائك أن أقبض منها خلقا يكون لجهنم منه نصيب، فلم أجد عليها نجازا، فبعث ملكا خر فلما أتاها قالت له مثل ما قالت للأول، ثم بعث الثالث فقالت له مثل قالت لهما، فعرج ولم يقبض منها شيئا، فقال له الرب تعالى مثل ما قال للذين قبله، ثم دعا إبليس -واسمه يومئذ في الملائكة حباب- فقال له: اذهب فاقبض لي من الأرض قبضة، فذهب حتى أتاها فقالت له مثل ما قالت للذين من قبله من الملائكة، فقبض منها قبضة ولم يسمع لحرجها، فلما أتاه قال الله تعالى: ما أعاذت بأسمائي منك، قال: بلى، قال: فما كان من أسمائي ما يعيذها منك، قال: بلى، ولكن أمرتني فأطعتك، فقال الله: لأخلقن منها خلقا يسوء وجهك، فألقى الله تلك القبضة في نهر من أنهر الجنة حتى صارت طينا، فكان أول طين، ثم تركها حتى صارت حمأ مسنونا منتن الريح، ثم خلق منها آدم ثم تركه في الجنة أربعين سنة حتى صار صلصلا كالفخار يبس حتى كان كالفخار، ثم نفخ فيه الروح بعد ذلك وأوحى الله إلى ملائكته: إذا نفخت فيه من الروح فقعوا له ساجدين، وكان آدم مستلقيا في الجنة فجلس حين وجد مس الروح، فعطس فقال الله له: أحمد ربك، فقال: يرحمك ربك، فمن هنالك يقال: سبقت رحمته غضبه، وسجدت الملائكة إلا هو قام فقال: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك أستكبرت أم كنت من العالين} فأخبر الله أنه لا يستطيع أن يعلن على الله ما له يكيد على صاحبه، فقال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}، قال: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} إلى قوله: {ولا تجد أكثرهم شاكرين وقال الله: إن إبليس قد صدق عليهم ظنه وإنما كان ظنه أن لا يجد أكثرهم شاكرين»). [الدر المنثور: 1/ 240-262]

قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: {إن كنتم صادقين} قال: «إن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء»، وفي قوله: {وأعلم ما تبدون} قال: «قولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها}»،«{وما كنتم تكتمون}يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر».
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} قال: «ما أسر إبليس من الكفر في السجود».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وأعلم ما تبدون} قال: «ما تظهرون»، {وما كنتم تكتمون}: «يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية».
وأخرج ابن جرير عن قتادة والحسن في قوله: {ما تبدون}: «يعني قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها}»، {وما كنتم تكتمون}:«يعني قول بعضهم لبعض: نحن خير منه وأعلم».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مهدي بن ميمون قال: سمعت الحسن وسأله الحسن بن دينار، فقال: يا أبا سعيد! أرأيت قول الله للملائكة: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}، ما الذي كتمت الملائكة؟ قال: «إن الله لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا فكأنهم دخلهم من ذلك شيء». قال: «ثم أقبل بعضهم على بعض فأسروا ذلك بينهم فقال بعضه لبعض: ما الذي يهمكم من هذا الخلق؟ إن الله لا يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه، فذلك الذي كتمت»). [الدر المنثور: 1/ 267-268] (م)

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (حدثنا معمر، عن قتادة، في قوله: {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: «علمه اسم كل شيء، هذا بحر وهذا جبل وهذا كذا وهذا كذا لكل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة، فقال: {أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 42-43]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): (باب قول اللّه: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}
- حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدّثنا هشامٌ، حدّثنا قتادة، عن أنسٍ رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ح وقال لي خليفة، حدّثنا يزيد بن زريعٍ، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن أنسٍ رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال:«يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو النّاس، خلقك اللّه بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيءٍ، فاشفع لنا عند ربّك حتّى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحًا، فإنّه أوّل رسولٍ بعثه اللّه إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر سؤاله ربّه ما ليس له به علمٌ فيستحي، فيقول: ائتوا خليل الرّحمن، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ائتوا موسى، عبدًا كلّمه اللّه وأعطاه التّوراة، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النّفس بغير نفسٍ، فيستحي من ربّه، فيقول: ائتوا عيسى عبد اللّه ورسوله، وكلمة اللّه وروحه، فيقول: لست هناكم، ائتوا محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم، عبدًا غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فيأتوني، فأنطلق حتّى أستأذن على ربّي، فيؤذن لي، فإذا رأيت ربّي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء اللّه، ثمّ يقال: ارفع رأسك وسل تعطه، وقل يسمع واشفع تشفّع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميدٍ يعلّمنيه، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود إليه فإذا رأيت ربّي مثله، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود الرّابعة، فأقول ما بقي في النّار إلّا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود».

قال أبو عبد اللّه: «إلّا من حبسه القرآن» يعني قول اللّه تعالى: {خالدين فيها} [البقرة: 162]). [صحيح البخاري: 6/ 17-18]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله: (باب قول اللّه تعالى {وعلّم آدم الأسماء})، كذا لأبي ذرٍّ وسقطت لغيره: (باب قول الله).
قوله: (حدثنا مسلم) هو بن إبراهيم، و(هشامٌ) هو الدّستوائيّ، وساق المصنّف حديث الشّفاعة لقول أهل الموقف لآدم وعلّمك أسماء كلّ شيءٍ،
واختلف في المراد بالأسماء؛
فقيل: أسماء ذرّيّته،
وقيل: أسماء الملائكة،
وقيل: أسماء الأجناس دون أنواعها،
وقيل: أسماء كلّ ما في الأرض،
وقيل: أسماء كلّ شيءٍ حتّى القصعة،
وقد غفل المزّيّ في الأطراف فنسب هذه الطّريق إلى كتاب الإيمان وليس لها فيه ذكرٌ وإنّما هي في التّفسير، وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفًى في كتاب الرّقاق إن شاء اللّه تعالى.
قوله: (قال أبو عبد اللّه) هو المصنّف). [فتح الباري: 8/ 160]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ): ( (باب قول الله تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها})
أي: هذا باب في بيان تفسير قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} هكذا وقع في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره سقط لفظ: (باب قول الله).
- حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدّثنا هشامٌ، حدّثنا قتادة، عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال لي خليفة، حدثنا يزيد بن زريعٍ، حدثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا، فيأتون آدم، فيقولون: أنت أبو النّاس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيءٍ، فاشفع لنا عند ربّك حتّى يريحنا من مكاننا هاذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحاً فإنّه أوّل رسولٍ بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر سؤاله ربّه ما ليس له به علمٌ فيستحي، فيقول: ائتوا خليل الرّحمان، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ائتوا موساى عبداً كلّمه الله وأعطاه التّوراة، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النّفس بغير نفسٍ فيستحي من ربّه، فيقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه، فيقول: لست هناكم، ائتوا محمّداً صلى الله عليه وسلم عبداً غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فيأتوني فأنطلق حتّى أستأذن على ربّي فيؤذن، فإذا رأيت ربّي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله ثمّ يقال: ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميدٍ يعلّمنيه، ثمّ أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود إليه فإذا رأيت ربّي مثله ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود الثّالثة، ثمّ أعود الرّابعة، فأقول: ما بقي في النّار إلاّ من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود».

قال أبو عبد الله: «إلاّ من حبسه القرآن» يعني قول الله تعالى: {خالدين فيها}.
مطابقته للتّرجمة في قوله: «وعلمك أسماء كل شيء» وأخرجه من طريقين:

الأول: عن مسلم بن إبراهيم الأزديّ القصاب البصريّ، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس.
والثّاني: عن خليفة بن خياط، عن يزيد من الزّيادة ابن زريع مصغر زرع، عن سعيد بن أبي عروبة البصريّ، عن قتادة، عن أنس.
والحديث أخرجه البخاريّ أيضا في كتاب التّوحيد في قول الله تعالى: {لما خلقت بيدي} [ص: 75] عن معاذ بن فضالة، عن هشام، عن قتادة، عن أنس ..الخ بطوله.

وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي موسى وبندار.
وأخرجه النّسائيّ في التّفسير عن أبي الأشعث.
وأخرجه ابن ماجه في الزّهد عن نصر بن عليّ.
قوله: (وقال لي خليفة) في الطّريق الثّاني هو على سبيل المذاكرة، وقيل: هو بمنزلة التحديث على رأى من رآه، وقيل: روى البخاريّ عن خليفة هذا في عشرة مواضع مقرونا ومنفرداً، والغالب أنه إذا أفرده ذكره بصيغة: قال لي.

قوله: «وعلمك أسماء كل شيء»، أي: كل شيء من سائر الأشياء حتّى القصعة والقصيعة، روي ذلك عن ابن عبّاس، وقيل: علمه أسماء معدودة، وفيه أربعة أقوال:
الأول: أنه علمه أسماء الملائكة.
الثّاني: أنه علمه أسماء الأجناس دون أنواعها كقولك: وملك.
الثّالث: أنه علمه أسماء ما خلق الله في الأرض من الدو اب والهوام والطير.
الرّابع: أنه علمه أسماء ذريّته.
فإن قلت: هل التّعليم مقصور على الإسم دون المعنى أو عليهما؟ قلت: فيه قولان.
قوله: «حتّى يريحنا»، بضم الياء وبالراء: من الإراحة، وقيل: بالزاي، يعني: يذهبنا ويبعدنا عن هذا المكان، وهو موقف العرصات عند الفزع الأكبر.
قوله: «لست هناكم»، يعني: لم يخبر أن له ذلك، وهنا، للقريب، والكاف، للخطاب.
قوله: «ويذكر ذنبه»، وهو قربان الشّجرة والأكل منها.
قوله: «فإنّه أول رسول» أي فإن نوحًا عليه السّلام، أول رسول من الرّسل الّذين أرسلهم الله.
فإن قلت: آدم هو أول الرّسل؟
قلت: معناه: أول رسول أرسله الله بعد الطوفان، وقيل: آدم كان نبيا لا رسولا، وهو غير صحيح، لأنّه أول رسول أرسله الله بالإنذار لأولاده والإرشاد لهم.
قوله: «ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم» وهو قوله: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26].
قوله: «قتل النّفس» هو قتله القبطي،
قوله: «وكلمة الله وروحه» قال الله تعالى: {إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النّساء: 171]قيل له: كلمة الله، لأنّه وجد بكلمة: كن، وروح الله بقوله: {فنفخنا فيه من روحنا} [الأنبياء: 91] والحصول الرّوح فيمن أحي من الموتى،
وقال الزّمخشريّ: هو كلمة الله لأنّه قد وجد بأمر الله وكلمته من غير واسطة أب ونطفة، وروح الله لأنّه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح كالنطفة المنفصلة من الأب الحيّ، وإنّما اخترع اختراعاً من عند الله تعالى.
قوله: «حتّى استأذن على ربّي»، وفي رواية: «في داره»، فمعناه: داره الّتي خلقها العبادة، كما قيل: بيت الله للكعبة والمساجد.
قوله: «تشفع» على صيغة المجهول بتشديد الفاء، أي تقبل شفاعتك.
قوله: «فيحدلي حدا»، أي: يعين لي قوما.
قوله: «إلاّ من حبسه القرآن»، أي: إلاّ من حكم عليه القرآن بالحبس والخلود في النّار قال تعالى: {خالدين فيها}، أي: الكفّار والمنافقين، وهو معنى قوله: «ووجب عليه الخلود»، أي: في النّار.
قوله: (وقال أبو عبد الله) هو البخاريّ نفسه، أشار بهذا إلى أن معنى قوله: «حبسه القرآن» هو قوله تعالى: {خالدين فيها}.
فإن قلت: في هذا الحديث: إنّهم يخرجون من النّار بشفاعة النّبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في رواية: «فأمر الملائكة أن يخرجوا قوما من النّار».
قلت: لا منافاة فيه لأنهم قد يؤمرون أن يخرجوهم بشفاعة النّبي صلى الله عليه وسلم). [عمدة القاري: 18/ 82-83]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
{وعلّم آدم الأسماء كلّها}

(بسم الله الرحمن الرحيم سورة البقرة) كذا لأبي ذر وسقطت البسملة لغيره.
وفي نسخة باب تفسير سورة البقرة ({وعلّم}) ولأبي ذر مما وجد مكتوبًا بين أسطر اليونينية، باب قول الله تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلها}) إما بخلق علم ضروري بها فيه أو إلقاء في روعه.
ولا يفتقر إلى سابقه اصطلاح للتسلسل والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالبًا، ولذلك يقال: علمته فلم يتعلم قاله البيضاوي. وظاهر الآية يقتضي أن التعليم للأسماء ويؤيده {بأسماء هؤلاء}.
وقال الزمخشري: أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلومًا مدلولًا عليه بذكر الأسماء لأن الاسم لا بد له من مسمى وعوّض عنه اللام كقوله: {واشتعل الرأس شيبًا} [مريم: 4] واعترض بأن كون اللام عوضًا عن الإضافة ليس مذهب البصريين إنما قال به الكوفيون وبعض البصريين، والبصريون إنما قالوا ذلك في المظهر لا في المضمر، وبأنه لم يجعل المحذوف مضافًا إلى الأسماء أي: مسميات الأسماء لينتظم تعليق الأنباء بالأسماء فيما ذكر بعد التعليم، وهو وإن قدر المضاف إليه وجعل الأسماء غير المسميات لا يقول إن ما علمه آدم وعلمه وعجز عنه الملائكة هو مجرد الألفاظ واللغات من غير علم بحقائق المسميات وأحوالها ومنافعها لظهور أن لفضيلة والكمال إنما هي في ذلك، وإلى هذا ذهب من جعل الاسم نفس المسمى، أو حمل الكلام على حذف المضاف أي: مسميات الأسماء، لكن يرد عليه أنه لا دلالة في الكلام على هذا التقدير،

وجوابه: أن الأحوال والمنافع أيضًا المسميات التي علم أسماءها ولا يتم ذلك بدون معرفتها على وجه تمتاز به عما عداها وهذا كاف قاله في المصابيح، واختلف في المراد بالأسماء؛
فقيل: أسماء الأجناس دون أنواعها،
وقيل: أسماء كل شيء حتى القصعة.
- حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدّثنا هشامٌ، حدّثنا قتادة عن أنسٍ -رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ح.
وقال لي خليفة: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، حدّثنا سعيدٌ عن قتادة، عن أنسٍ -رضي الله عنه-، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو النّاس خلقك اللّه بيده وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيءٍ فاشفع لنا عند ربّك حتّى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحًا فإنّه أوّل رسولٍ بعثه اللّه إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر سؤاله ربّه ما ليس له به علمٌ، فيستحي فيقول: ائتوا خليل الرّحمن، فيأتونه فيقول: لست هناكم ائتوا موسى عبدًا كلّمه اللّه وأعطاه التّوراة، فيأتونه فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النّفس بغير نفسٍ، فيستحي من ربّه فيقول: ائتوا عيسى عبد اللّه ورسوله، وكلمة اللّه وروحه فيقول: لست هناكم، ائتوا محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم عبدًا غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فيأتوني فأنطلق حتّى أستأذن على ربّي فيؤذن فإذا رأيت ربّي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء اللّه ثمّ يقال: ارفع رأسك وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفّع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميدٍ يعلّمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنّة ثمّ أعود إليه، فإذا رأيت ربّي مثله ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود الثّالثة، ثمّ أعود الرّابعة، فأقول: ما بقى في النّار إلاّ من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود».

قال أبو عبد اللّه:«إلاّ من حبسه القرآن» يعنى قول اللّه تعالى: {خالدين فيها} [آل عمران: 15 وغيرها].
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الأزدي الفراهيدي بالفاء البصري، وسقط لأبي ذر: (ابن إبراهيم)، قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي، قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن أنس رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم).
قال البخاري: (وقال لي خليفة) بن خياط العصفري بضم العين وسكون الصاد المهملتين وضم الفاء البصري على سبيل المذاكرة أو التحديث (حدّثنا يزيد بن زريع) بتقديم الزاي مصغرًا أبو معاوية البصري، قال: (حدّثنا سعيد) هو ابن أبي عروبة (عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم) أنه (قال):
«يجتمع المؤمنون يوم القيامة» ولأبي ذر: «ويجتمع» بواو العطف على محذوف بينه في رواية له.

«فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا» لو هي المتضمنة للتمني والطلب أي: لو استشفعنا أحد إلى ربنا فيشفع لنا فيخلصنا مما نحن فيه من الكرب «فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء»، وضع شيئًا موضع أشياء أي المسميات إرادة للتقصي واحدًا فواحدًا حتى يستغرق المسميات كلها «فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا» بالراء من الإراحة «من مكاننا هذا فيقول» لهم: «لست هناكم» أي لست في المكانة والمنزلة التي تحسبونني يريد مقام الشفاعة «ويذكر ذنبه» وهو قربان الشجرة وأكل منها «فيستحي»، بكسر الحاء، ولأبي ذر: «فيستحيي» بسكونها وزيادة تحتية «ائتوا نوحًا فإنه أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض»، بالإنذار وإهلاك قومه، لأن آدم كانت رسالته بمنزلة التربية والإرشاد للأولاد، وليس المراد بقوله: «بعثه الله إلى أهل الأرض» عموم بعثته، فإن هذا من خصوصيات نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم، فإن هذا إنما حصل له بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس بالطوفان فلم يكن ذلك في أصل بعثته، وأما الاستدلال على عموم رسالته بدعائه على جميع من في الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة لأنه لو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أهلكوا لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15] وقد ثبت أنه أوّل الرسل؛ فأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح وبأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم. فأجيب: لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح عليه الصلاة والسلام غيره، فالله أعلم.
«فيأتونه فيقول» لهم: «لست هناكم» قال عياض: كناية عن أن منزلته دون هذه المنزلة تواضعًا أو أن كلاًّ منهم يشير إلى أنها ليست له بل لغيره «ويذكر سؤاله ربه» المحكي عنه في القرآن بقوله تعالى: {رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق} [هود: 45] أي: وعدتني أن تنجي أهلي من الغرق، وسأل أن ينجيه من الغرق وفي نسخة لربه «ما ليس له به علم» حال من الضمير المضاف إليه في سؤاله أي صادرًا عنه بغير علم أو من المضاف أي متلبسًا لغير علم، وربه مفعول سؤاله، وكان يجب عليه أن لا يسأل كما قال تعالى: {فلا تسألني ما ليس لك به علم} [هود: 46] أي: ما شعرت من المراد بالأهل، وهو: من آمن وعمل صالحًا وأن ابنك عمل غير صالح «فيستحيي» ولغير أبي ذر بياء واحدة وكسر الحاء «فيقول: ائتوا خليل الرحمن» إبراهيم عليه الصلاة والسلام «فيأتونه فيقول: لست هناكم ائتوا موسى عبدًا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحيي من ربه» ولغير أبي ذر: «فيستحي» بياء واحدة وكسر الحاء ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ، وإنما عدّه من عمل الشيطان وسماه ظلمًا واستغفر منه كما في الآية على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم «فيقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله» لأنه وجد بأمره تعالى دون أبي «وروحه» أي: ذا روح صدر منه لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له، وقيل: لأنه كان يحيي الأموات والقلوب «فيقول:» أي: بعد ما يأتونه «لست هناكم ائتوا محمدًا صلّى اللّه عليه وسلّم» سقطت التصلية لغير أبي ذر «عبدًا»، بالنصب، ولأبي ذر: «عبد»،

«غفر الله له ما تقدم من ذنبه» عن سهو وتأويل «وما تأخر» بالعصمة أو إنه مغفور له غير مؤاخذ بذنب لو وقع «فيأتوني» ولأبي ذر: «فيأتونني» بنونين وفيه إظهار شرف نبينا عليه الصلاة والسلام كما لا يخفى «فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن» بالرفع عطفًا على أنطلق، ولأبي ذر: «فيؤذن» بالنصب عطفًا على المنصوب في قوله: «حتى استأذن»،
«فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا فيدعني ما شاء» ولغير أبي ذر: «ما شاء الله»،
«ثم يقال: ارفع رأسك» وسقط لأبي ذر لفظة: «رأسك»،
«وسل» بفتح السين من غير ألف وصل «تعطه» بهاء بعد الطاء «وقل يسمع» أي: قوله «واشفع تشفع» أي: تقبل شفاعتك «فأرفع رأسي» من السجود «فأحمده» تعالى «تحميد يعلمنيه» بضم الميم «ثم أشفع فيحدّ لي» بفتح الياء تعالى «حدًّا» أي: يبين لي قومًا أشفع فيهم، كان يقول: "شفعتك فيمن أخلّ بالصلاة" «فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه» تعالى «فإذا رأيت ربي مثله» أي: أفعل مثل ما سبق من السجود ورفع الرأس وغيره «ثم أشفع، فيحدّ لي حدًّا» كأن يقول: شفعتك فيمن زنى أو فيمن شرب الخمر مثلًا «فأدخلهم الجنّة، ثم أعود الثالثة، ثم أعود الرابعة فأقول، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن» أي: حكم بحبسه أبدًا «ووجب عليه الخلود» وهم الكفار.
(قال أبو عبد الله) البخاري: («إلا من حبسه القرآن» يعني قول الله تعالى) أي: في الكفار: ({خالدين فيها})[آل عمران: 15 وغيرها] وسقط لأبي ذر لفظ: «إلا من».
واستشكل سياق هذا الحديث من جهة كون المطلوب الشفاعة للإراحة من موقف العرصات لما يحصل لهم من ذلك الكرب الشديد لا للإخراج من النار.

وأجيب: بأنه قد انتهت حكاية الإراحة عند لفظ: «فيؤذن لي» وما بعده هو زيادة على ذلك قاله الكرماني.
وقال الطيبي: لعل المؤمنين صاروا فرقتين فرقة سيق بهم إلى النار من غير توقف، وفرقة حبسوا في المحشر واستشفعوا به صلّى اللّه عليه وسلّم فخلصهم مما هم فيه وأدخلهم الجنة، ثم شرع في شفاعة الداخلين النار زمرًا بعد زمر كما دل عليه قوله: «فيحدّ لي حدًّا» الخ فاختصر الكلام.
وقال في فتوح الغيب: إيراد قصة واحدة في مقامات متعددة بعبارات مختلفة وأنحاء شتى بحيث لا تغيير ولا تناقض البتة من فصيح الكلام وبليغه، وهو باب من الإيجاز المختص بالإعجاز، ويحتاج في التوفيق إلى قانون يرجع إليه، وهو أن يعمد إلى الاقتصاصات المتفرقة ويجعل لها أصل بأن يؤخذ من المباني ما هو أجمع للمعاني، فما نقص من تلك المعاني شيء يلحق به، انتهى.
وقال في شرح المشكاة: أو يراد بالنار الحبس والكربة وما يكونون فيه من الشّدة ودنو الشمس إلى رؤوسهم وحرها وإلجامهم بالعرق وبالخروج إلى الخلاص منها.
وهذا الحديث يأتي إن شاء الله تعالى في التوحيد، وأخرجه مسلم في الإيمان، والنسائي في التفسير، وابن ماجه في الزهد).

[إرشاد الساري: 7/ 6-9]
- قال محمدُ بنُ عبدِ الهادي السِّنْديُّ (ت: 1136هـ) : (باب قول الله: {وعلم آدم الأسماء كلها}

قوله: «وعلمك أسماء كل شيء» وبه تبين أن المراد بالأسماء كلها أسماء كل شيء لا أسماء نوع مخصوص، وهذا هو الموافق للتأكيد، والله تعالى أعلم، اهـ سندي). [حاشية السندي على البخاري: 3 /37]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله تبارك وتعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}
- أخبرني إبراهيم بن الحسن، حدّثنا الحارث بن عطيّة، عن هشامٍ الدّستوائيّ، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا حتّى يريحنا من مكاننا هذا؟ فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو النّاس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيءٍ، فاشفع لنا إلى ربّك حتّى تريحنا من مكاننا هذا»، وساق حديث الشّفاعة بطوله). [السنن الكبرى للنسائي: 10/ 7]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}.
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا يعقوب القمّيّ، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «بعث ربّ العزّة تعالى ذكره إبليس، فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها، فخلق منه آدم. ومن ثمّ سمّي آدم لأنّه خلق من أديم الأرض».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا عمرو بن ثابتٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليٍّ، قال:«إنّ آدم خلق من أديم الأرض فيه الطّيّب والصّالح والرّديء، فكلّ ذلك أنت راءٍ في ولده الصّالح والرّديء».
- وحدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا مسعرٌ، عن أبي حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: «خلق آدم من أديم الأرض فسمّي آدم».
- وحدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي حصينٍ، عن سعيد بن جبيرٍ قال: «إنّما سمّي آدم لأنّه خلق من أديم الأرض».
- وحدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ ملك الموت لمّا بعث ليأخذ من الأرض تربة آدم، أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكانٍ واحدٍ، وأخذ من تربةٍ حمراء وبيضاء وسوداء؛ فلذلك خرج بنو آدم مختلفين ولذلك سمّي آدم، لأنّه أخذ من أديم الأرض».
وقد روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خبرٌ يحقّق ما قال من حكينا قوله في معنى آدم.
- وذلك ما حدّثني به، يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن عوفٍ، وحدّثنا محمّد بن بشّارٍ، وعمر بن شبّة، قالا: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، قال: حدّثنا عوفٌ، وحدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، ومحمّد بن جعفرٍ، وعبد الوهّاب الثّقفيّ، قالوا: حدّثنا عوفٌ، وحدّثني محمّد بن عمارة الأسديّ، قال: حدّثنا إسماعيل بن أبان، قال: حدّثنا عنبسة، عن عوفٍ الأعرابيّ، عن قسامة بن زهيرٍ، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك والسّهل والحزن والخبيث والطّيّب».
قال أبو جعفرٍ: فعلى التّأويل الّذي تأوّل آدم من تأوّله بمعنى أنّه خلق من أديم الأرض، يجب أن يكون أصل آدم فعلاً سمّي به أبو البشر، كما سمّي أحمد بالفعل من الإحماد، وأسعد من الإسعاد، فلذلك لم يجر، ويكون تأويله حينئذٍ: آدم الملك الأرض، يعني به بلغ آدمتها، وآدمتها وجهها الظّاهر لرأي العين، كما جلدة كلّ ذي جلد له آدمةٌ، ومن ذلك سمّي الإدام إدامًا، لأنّه صار كالجلدة العليا ممّا هي منه، ثمّ نقل من الفعل فجعل اسمًا للشّخص بعينه). [جامع البيان: 1/ 511-514]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {الأسماء كلّها}.
قال أبو جعفرٍ: اختلف أهل التّأويل في الأسماء الّتي علّمها آدم ثمّ عرضها على الملائكة.
- فقال ابن عبّاسٍ ما حدّثنا به أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «علّم اللّه آدم الأسماء كلّها، وهي هذه الأسماء الّتي يتعارف بها النّاس: إنسانٌ ودابّةٌ، وأرضٌ، وسهلٌ، وبحرٌ، وجبلٌ، وحمارٌ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها».
- وحدّثنا محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثني عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: في قول اللّه تعالى ذكره: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «ما خلق الله كله».
- وحدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «علّمه اسم كلّ شيءٍ».
- حدّثنا عليّ بن الحسن، قال: حدّثنا مسلمٌ الحرميّ، عن محمّد بن مصعبٍ، عن قيس بن الرّبيع، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ، قال: «علّمه اسم الغراب والحمامة، واسم كلّ شيءٍ».
- وحدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن شريكٍ، عن سالمٍ الأفطس، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: «علّمه اسم كلّ شيءٍ، حتّى البعير والبقرة والشّاة».
- وحدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن شريكٍ، عن عاصم بن كليبٍ، عن سعيد بن معبدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «علّمه اسم القصعة والفسوة والفسيّة».
- وحدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا شريكٌ، عن عاصم بن كليبٍ، عن الحسن بن سعدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «حتّى الفسوة والفسيّة».
- حدّثنا عليّ بن الحسن، قال: حدّثنا مسلمٌ، قال: حدّثنا محمّد بن مصعبٍ، عن قيسٍ، عن عاصم بن كليبٍ، عن سعيد بن معبدٍ، عن ابن عبّاسٍ: في قول اللّه: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «علّمه اسم كلّ شيءٍ حتّى الهنة والهنيّة والفسوة والضّرطة».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا عليّ بن مسهرٍ، عن عاصم بن كليبٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: «علّمه القصعة من القصيعة، والفسوة من الفسيّة».
- وحدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة: قوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} حتّى بلغ: {إنّك أنت العليم الحكيم}، قال: «{يا آدم أنبئهم بأسمائهم} فأنبأ كلّ صنفٍ من الخلق باسمه وألجأه إلى جنسه».
- وحدّثنا الحسن بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، قال: حدّثنا معمرٌ، عن قتادة: في قوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «علّمه اسم كلّ شيءٍ: هذا جبلٌ، وهذا بحرٌ، وهذا كذا وهذا كذا، لكلّ شيءٍ، ثمّ عرض تلك الأسماء على الملائكة، فقال:{أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن جرير بن حازمٍ، ومباركٍ، عن الحسن، وأبي بكرٍ، عن الحسن، وقتادة، قالا: «علّمه اسم كلّ شيءٍ: هذه الخيل، وهذه البغال، والإبل، والجنّ، والوحش، وجعل يسمّي كلّ شيءٍ باسمه».
- وحدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن غير الرّبيع، قال: «اسم كلّ شيءٍ».
وقال آخرون: علّم آدم الأسماء كلّها أسماء الملائكة. ذكر من قال ذلك:
- حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: قوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «أسماء الملائكة».
وقال آخرون: إنّما علّمه أسماء ذرّيّته. ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: في قوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «أسماء ذرّيّته كلهم أجمعين».
قال أبو جعفرٍ: وأولى هذه الأقوال بالصّواب وأشبهها بما دلّ على صحّته ظاهر التّلاوة قول من قال في قوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} إنّها أسماء ذرّيّته وأسماء الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق.

وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه قال: {ثمّ عرضهم على الملائكة} يعني بذلك أعيان المسمّين بالأسماء الّتي علّمها آدم، ولا تكاد العرب تكنّي بالهاء والميم إلاّ عن أسماء بني آدم والملائكة؛ وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق، سوى من وصفنا، فإنّها تكنّي عنها بالهاء والألف، أو بالهاء والنّون، فقالت: عرضهنّ، أو عرضها. وكذلك تفعل إذا كنّت عن أصنافٍ من الخلق، كالبهائم والطّير وسائر أصناف الأمم، وفيها أسماء بني آدم أوالملائكة، فإنّها تكنّي عنها بما وصفنا من الهاء والنّون، والهاء والألف. وربّما كنّت عنها إذ كان ذلك بالهاء والميم، كما قال جلّ ثناؤه: {واللّه خلق كلّ دابّةٍ من ماءٍ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربعٍ} فكنّى عنها بالهاء والميم، وهي أصنافٌ مختلفةٌ فيها الآدميّ وغيره.
وذلك وإن كان جائزًا فإنّ الغالب المستفيض في كلام العرب ما وصفنا من إخراجهم كناية أسماء أجناس الأمم إذا اختلطت بالهاء والألف، والهاء والنّون. فلذلك قلت: أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء الّتي علّمها آدم أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة. وإن كان ما قال ابن عبّاسٍ جائزًا على مثال ما جاء في كتاب اللّه من قوله: {واللّه خلق كلّ دابّةٍ من ماءٍ فمنهم من يمشي على بطنه} الآية. وقد ذكر أنّها في حرف ابن مسعودٍ: ثمّ عرضهنّ، وأنّها في حرف أبيٍّ: ثمّ عرضها.
ولعلّ ابن عبّاسٍ تأوّل ما تأوّل من قوله: «علّمه اسم كلّ شيءٍ حتّى الفسوة والفسيّة» على قراءة أبيٍّ فإنّه فيما بلغنا كان يقرأ قراءة أبيٍّ. وتأويل ابن عبّاسٍ على ما حكي عن أبيٍّ من قراءته غير مستنكرٍ، بل هو صحيحٌ مستفيضٌ في كلام العرب على نحو ما تقدّم وصفي ذلك). [جامع البيان: 1/ 514-519]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ثمّ عرضهم على الملائكة}
قال أبو جعفرٍ: قد تقدّم ذكرنا التّأويل الّذي هو أولى بالآية على قراءتنا ورسم مصحفنا، وأنّ قوله: {ثمّ عرضهم} بالدّلالة على بني آدم والملائكة أولى منه بالدّلالة على أجناس الخلق كلّها، وإن كان غير فاسدٌ أن يكون دالًّا على جميع أصناف الأمم للعلل الّتي وصفنا.
ويعني جلّ ثناؤه بقوله: {ثمّ عرضهم} ثمّ عرض أهل الأسماء على الملائكة.
وقد اختلف المفسّرون في تأويل قوله: {ثمّ عرضهم على الملائكة} نحو اختلافهم في قوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} وسأذكر قول بعض من انتهى إلينا عنه فيه قولٌ.
- حدّثنا محمّد بن العلاء، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «{ثمّ عرضهم على الملائكة}:ثمّ عرض هذه الأسماء؛ يعني أسماء جميع الأشياء الّتي علّمها آدم من أصناف الخلق».
- وحدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:«{ثمّ عرضهم}: ثمّ عرض الخلق على الملائكة».
- وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: «أسماء ذرّيّته كلّها أخذهم من ظهره». قال: «ثمّ عرضهم على الملائكة».
- وحدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {ثمّ عرضهم} قال: «علّمه اسم كلّ شيءٍ ثمّ عرض تلك الأسماء على الملائكة».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: «{ثمّ عرضهم}: عرض أصحاب الأسماء على الملائكة».
- وحدّثنا عليّ بن الحسن، قال: حدّثنا مسلمٌ، قال: حدّثنا محمّد بن مصعبٍ، عن قيسٍ، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ: «{ثمّ عرضهم على الملائكة}: يعني عرض الأسماء الحمامة والغراب».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن جرير بن حازمٍ، ومباركٍ، عن الحسن، وأبي بكرٍ عن الحسن، وقتادة، قالا: «علّمه اسم كلّ شيءٍ هذه الخيل وهذه البغال وما أشبه ذلك، وجعل يسمّي كلّ شيءٍ باسمه، وعرضت عليه أمّةً أمّةً»). [جامع البيان: 1/ 519-521]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء}
قال أبوجعفرٍ: وتأويل قوله: {أنبئوني}: أخبروني.
- كما حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان، قال: حدّثنا بشرٌ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {أنبئوني} يقول: «أخبروني بأسماء هؤلاء».
ومنه قول نابغة بني ذبيان:
وأنبأه المنبّئ أنّ حيًّا.......حلولٌ من حرامٍ أو جذام
يعني بقوله (أنبأه): أخبره وأعلمه). [جامع البيان: 1/ 521-522]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : لقول في تأويل قوله تعالى: {بأسماء هؤلاء}.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: في قول اللّه: {بأسماء هؤلاء} قال: «بأسماء هذه الّتي حدّثت بها آدم».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريج، عن مجاهدٍ: «{أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} يقول: بأسماء هؤلاء الّتي حدّثت بها آدم»). [جامع البيان: 1/ 522]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إن كنتم صادقين}
قال أبو جعفرٍ: اختلف أهل التّأويل في ذلك.
- فحدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «{إن كنتم صادقين}: إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفةً».
- وحدّثنا موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «{إن كنتم صادقين}: أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن جرير بن حازمٍ، ومباركٍ، عن الحسن، وأبي بكرٍ، عن الحسن، وقتادة، قالا: «{أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}: أنّي لم أخلق خلقًا إلاّ كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين».
قال أبو جعفرٍ: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية تأويل ابن عبّاسٍ ومن قال بقوله.
ومعنى ذلك فقال: أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيّتها الملائكة القائلون: أتجعل في الارض من يفسد فيها ويسفك الدّماء من غيرنا، أم منّا؟ فنحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؛ إن كنتم صادقين في قيلكم أنّي إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذرّيّته، وأفسدوا فيها، وسفكوا الدّماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتّبعتم أمري بالتّعظيم لي والتّقديس. فإنّكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الّذين عرضتهم عليكم من خلقي وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعلمه غيركم بتعليمي إيّاه، فأنتم بما هو غير موجودٍ من الأمور الكائنة الّتي لم توجد بعد، وبما هو مستترٌ من الأمور الّتي هي موجودةٌ عن أعينكم أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علمٌ، فإنّي أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.
وهذا الفعل من اللّه جلّ ثناؤه بملائكته الّذين قالوا له: {أتجعل فيها من يفسد فيها} من جهة عتابه جلّ ذكره إيّاهم، نظير قوله جلّ جلاله لنبيّه نوحٍ صلوات اللّه عليه، إذ قال: {ربّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين}: {لا تسألن ما ليس لك به علمٌ إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين}. فكذلك الملائكة سألت ربّها أن تكون خلفاءه في الأرض يسبّحوه ويقدّسوه فيها، إذ كان ذرّيّة من أخبرهم أنّه جاعله في الأرض خليفةً، يفسدون فيها، ويسفكون الدّماء، فقال لهم جلّ ذكره: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني بذلك إنّي أعلم أنّ بعضكم فاتح المعاصي وخاتمها، وهو إبليس، منكرًا بذلك تعالى ذكره قولهم. ثمّ عرّفهم موضع هفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عمّا هم له شاهدون عيانًا، فكيف بما لم يروه ولم يخبروا عنه بعرضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذٍ، وقيله لهم: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} أنّكم إن استخلفتكم في أرضي سبّحتموني وقدّستموني، وإن استخلفت فيها غيركم عصاني ذرّيّته، وأفسدوا وسفكوا الدّماء. فلمّا اتّضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هفوة زلّتهم أنابوا إلى اللّه بالتّوبة فقالوا: {سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا} فسارعوا الرّجعة من الهفوة، وبادروا الإنابة من الزّلّة، كما قال نوحٌ حين عوتب في مسألته، فقيل له: {لا تسألن ما ليس لك به علمٌ}: {ربّ إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علمٌ وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} وكذلك فعل كلّ مسدّدٍ للحقّ موفّقٍ له، سريعةٌ إلى الحقّ إنابته، قريبةٌ إليه أوبته.
وقد زعم بعض نحويّي أهل البصرة أنّ قوله: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} لم يكن ذلك لأنّ الملائكة ادّعوا شيئًا، إنّما أخبر اللّه عن جهلهم بعلم الغيب وعلمه بذلك وفضله، فقال: أنبئوني إن كنتم صادقين؛ كما يقول الرّجل للرّجل: أنبئني بهذا إن كنت تعلم، وهو يعلم أنّه لا يعلم؛ يريد أنّه جاهلٌ.
وهذا قولٌ إذا تدبّره متدبّرٌ علم أنّ بعضه مفسدٌ بعضًا، وذلك أنّ قائله زعم أنّ اللّه جلّ ثناؤه قال للملائكة إذ عرض عليهم أهل الأسماء: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} وهو يعلم أنّهم لا يعلمون ذلك، ولا هم ادّعوا علم شيءٍ يوجب أن يوبّخوا بهذا القول. وزعم أنّ قوله: {إن كنتم صادقين} نظير قول القاتل: أنبئني بهذا إن كنت تعلم، وهو يعلم أنّه لا يعلم؛ يريد أنّه جاهلٌ. ولا شكّ أنّ معنى قوله: إذ كنتم صادقين إنّما هو إن كنتم صادقين، إمّا في قولكم، وإمّا في فعلكم؛ لأنّ الصّدق في كلام العرب إنّما هو صدقٌ في الخبر لا في العلم؛ وذلك أنّه غير معقولٍ في لغةٍ من اللّغات أن يقال صدق الرّجل بمعنى علم.
فإذا كان ذلك كذلك فقد وجب أن يكون اللّه جلّ ثناؤه قال للملائكة على تأويل قول هذا الّذي حكينا قوله في هذه الآية: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} وهو يعلم أنّهم غير صادقين يريد بذلك أنّهم كاذبون. وذلك هو عين ما أنكره، لأنّه زعم أنّ الملائكة لم تدّع شيئًا فكيف جاز أن يقال لها: إن كنتم صادقين فأنبئوني بأسماء هؤلاء؟ مع خروج هذا القول الّذي حكيناه عن صاحبه من أقوال جميع المتقدّمين والمتأخّرين من أهل التّأويل والتّفسير.
وقد حكي عن بعض أهل التّفسير أنّه كان يتأوّل قوله: {إن كنتم صادقين} بمعنى: إذ كنتم صادقين.
ولو كانت إن بمعنى إذ في هذا الموضع لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها، لأنّ إذ إذا تقدّمها فعلٌ مستقبلٌ صارت علّةً للفعل وسببًا له، وذلك كقول القائل: أقوم إذ قمت، فمعناه: أقوم من أجل أنّك قمت، والأمر بمعنى الاستقبال. فمعنى الكلام لو كانت إن بمعنى إذ: أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنّكم صادقون. فإذا وضعت إن مكان ذلك، قيل: أنبئوني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين. مفتوحة الألف، وفي إجماع جميع قرّاء أهل الإسلام على كسر الألف من إن دليلٌ واضحٌ على خطأ تأويل من تأوّل إن بمعنى إذ في هذا الموضع). [جامع البيان: 1/ 522-526]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31)}
قوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا عبيد اللّه بن موسى، أنبأ إسرائيل، عن السّدّيّ، عمّن حدّثه، عن ابن عبّاسٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا، والدّوابّ. فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس».
- حدّثنا أبي، ثنا عبد المؤمن بن عليٍّ، ثنا عبد السّلام بن حربٍ الملائيّ، عن عاصم بن كليبٍ، عن سعيد بن معبدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «علّمه اسم الصفحة والقدر»، قال: «نعم حتّى الفسوة والفسيّة».
- حدّثني أبي، ثنا أبو عبد الرّحمن عبد اللّه محمّد بن إسحاق الأذرميّ، ثنا قاسم بن يزيد الجرميّ، ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «علّمه كلّ دابّةٍ وكلّ طيرٍ وكلّ شيءٍ». قال أبو محمّدٍ: وروي عن مجاهدٍ ، وسعيد بن جبيرٍ، وقتادة نحو قول ابن عبّاسٍ.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا إبراهيم بن سعيدٍ الجوهريّ، ثنا أبو أحمد الزّبيريّ، عن الحسن بن صالحٍ، عن أبيه، عن حميدٍ الشّاميّ قال: «علّم آدم النّجوم». قال أبو محمّدٍ: يعني أسماء النّجوم). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 80]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ثمّ عرضهم على الملائكة}
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أنبأ عبد الرّزّاق، أنبأ معمرٌ، عن قتادة قال: «ثمّ عرض تلك الأسماء على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{وعلّم آدم الأسماء كلّها}: ثمّ عرض الخلق على الملائكة»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 80]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «{فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}: بأسماء هذه الّتي حدّث بها آدم»). [تفسير القرآن العظيم: 1 /81]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم، قال: ثنا آدم، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: «علم آدم الأسماء كلها يعني ما خلق الله كله {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء} بأسماء هذه التي حدث بها آدم»). [تفسير مجاهد: 73]

قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}
أخرج الفريابي، وابن سعد، وابن جرير، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: «إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض الحمرة والبياض والسواد وكذلك ألوان الناس مختلفة فيها الأحمر والأبيض والأسود والطيب والخبيث».
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: «خلق الله آدم من أديم الأرض، من طينة حمراء وبيضاء وسوداء».
وأخرج ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: «أتدرون لم سمي آدم؟ لأنه خلق من آديم الأرض».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: «علمه اسم الصحفة والقدر وكل شيء حتى الفسوة والفسية».

وأخرج وكيع، وابن جرير عن ابن عباس في قوله {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: «علمه اسم كل شيء، حتى علمه القصعة والقصيعة والفسوة والفسية».
وأخرج وكيع، وابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: «علمه اسم كل شيء، حتى البعير والبقرة والشاة».
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: «ما خلق الله».
وأخرج الديلمي عن أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلت لي أمتي في الماء والطين وعلمت الأسماء كما علم آدم الأسماء كلها».
وأخرج وكيع في تاريخه، وابن عساكر والديلمي عن عطية بن يسر مرفوعا، في قوله {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: «علم الله في تلك الأسماء ألف حرفة من الحرف وقال له: قل لولدك وذريتك يا آدم إن لم تصبروا عن الدنيا فاطلبوا الدنيا بهذه الحرف ولا تطلبوها بالدين فإن الدين لي وحدي خالصا، ويل لمن طلب الدنيا بالدين ويل له».
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: «أسماء ذريته أجمعين»، {ثم عرضهم} قال: «أخذهم من ظهره».
وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: «أسماء الملائكة».
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: «علم آدم من الأسماء أسماء خلقه، ثم قال ما لم تعلم الملائكة، فسمى كل شيء باسمه وألجأ كل شيء إلى جنسه».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {وعلم آدم الأسماء كلها} قال: «علم الله آدم الأسماء كلها وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس، إنسان دابة وأرض وبحر وسهل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها {ثم عرضهم على الملائكة} يعني عرض أسماء جميع الأشياء التي علمها آدم من أصناف الخلق {فقال أنبئوني} يقول: أخبروني {بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة {قالوا سبحانك} تنزيها لله من أن يكون يعلم الغيب أحد غيره تبنا إليك {لا علم لنا} تبريا منهم من علم الغيب {إلا ما علمتنا} كما علمت آدم».
وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله {ثم عرضهم} قال: «عرض أصحاب الأسماء على الملائكة».
وأخرج ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس قال: «إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا، فابتلوا بخلق آدم».
وأخرج ابن جرير عن قتادة والحسن قالا: «لما أخذ الله في خلق آدم همست الملائكة فيما بينها فقالوا: لن يخلق الله خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه، فلما خلقه أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضله عليهم فعلموا أنهم ليسوا بخير منه فقالوا: إن لم نكن خيرا منه فنحن أعلم منه لانا كنا قبله {وعلم آدم الأسماء كلها} فعلم اسم كل شيء، جعل يسمي كل شيء باسمه وعرضوا عليه أمة {ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} ففزعوا إلى التوبة فقالوا: {سبحانك لا علم لنا} الآية».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {إنك أنت العليم الحكيم} قال: «العليم: الذي قد كمل في علمه، الحكيم: الذي قد كمل في حكمه».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله {إن كنتم صادقين} قال: «إن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء»، وفي قوله {وأعلم ما تبدون} قال: «قولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها}»، «{وما كنتم تكتمون} يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر».
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} قال: «ما أسر إبليس من الكفر في السجود».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {وأعلم ما تبدون} قال: «ما تظهرون»، «{وما كنتم تكتمون} يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية».
وأخرج ابن جرير عن قتادة والحسن في قوله: {ما تبدون} «يعني قولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها}»، {وما كنتم تكتمون}«يعني قول بعضهم لبعض: نحن خير منه وأعلم».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مهدي بن ميمون قال: سمعت الحسن وسأله الحسن بن دينار فقال: يا أبا سعيد أرأيت قول الله للملائكة {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} ما الذي كتمت الملائكة؟ قال: «إن الله لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا فكأنهم دخلهم من ذلك شيء قال: ثم أقبل بعضهم على بعض، فأسروا ذلك بينهم فقال بعضه لبعض: ما الذي يهمكم من هذا الخلق إن الله لا يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه، فذلك الذي كتمت»). [الدر المنثور: 1/ 262-268]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم}
قال أبو جعفرٍ: وهذا خبرٌ من اللّه جلّ ذكره عن ملائكته بالأوبة إليه، وتسليم علم ما علم مما لم يعلموه له، وتبرّيهم من أن يعلموا أو يعلم أحدٌ شيئًا إلاّ ما علمه تعالى ذكره.
وفي هذه الآيات الثّلاث العبرة لمن اعتبر، والذّكرى لمن ادّكر، والبيان لمن كان له قلبٌ أو ألقى السّمع وهو شهيدٌ، عمّا أودع اللّه جلّ ثناؤه آي هذا القرآن من لطائف الحكم الّتي تعجز عن أوصافها الألسن.

وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه احتجّ فيها لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل بإطلاعه إيّاه من علوم الغيب الّتي لم يكن جلّ ثناؤه أطلع عليها من خلقه إلاّ خاصًّا، ولم يكن مدركًا علمه إلاّ بالإنباء والإخبار، لتتقرّر عندهم صحّة نبوّته، ويعلموا أنّ ما أتاهم به فمن عنده، ودلّ فيها على أنّ كلّ مخبرٌ خبرًا عمّا قد كان أو عمّا هو كائنٌ ممّا لم يكن ولم يأته به خبرٌ ولم يوضع له على صحّته برهانٌ فمتقوّلٌ ما يستوجب به من ربّه العقوبة.
ألا ترى أنّ اللّه ردّ على ملائكته قيلهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} وعرّفهم أنّ قيل ذلك لم يكن جائزًا لهم بما عرّفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء، فقال: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} فلم يكن لهم مفزعٌ إلاّ الإقرار بالعجز والتّبرّي إليه أن يعلموا إلاّ ما علّمهم بقولهم: {سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا} فكان في ذلك أوضح الدّلالة وأبين الحجّة على كذب مقالة كلّ من ادّعى شيئًا من علوم الغيب من الحزاة والكهنة والعافة والمتنجّمة.
وذكّر بها الّذين وصفنا أمرهم من أهل الكتاب سوالف نعمه على آبائهم، وأياديه عند أسلافهم، عند إنابتهم إليه، وإقبالهم إلى طاعته؛ مستعطفهم بذلك إلى الرّشاد، ومستعتبهم به إلى النّجاة، وحذّرهم بالإصرار والتّمادي في الغيّ والضّلال، حلول العقاب بهم نظير ما أحلّ بعدوّه إبليس، إذ تمادى في الغيّ والخسار.
وأمّا تأويل قوله: {سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا} فهو كما
حدّثنا به أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «قالوا: {سبحانك} تنزيهًا للّه من أن يكون أحدٌ يعلم الغيب غيره، تبنا إليك، {لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا} تبرّءوا منهم من علم الغيب، إلاّ ما علّمتنا كما علّمت آدم».
وسبحان مصدرٌ لا تصرّف له، ومعناه: تسبّيحك كأنّهم قالوا: نسبّحك تسبيحًا، وننزّهك تنزيهًا، ونبرّئك من أن نعلم شيئًا غير ما علّمتنا). [جامع البيان: 1/ 526-528]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّك أنت العليم الحكيم}
قال أبو جعفرٍ: وتأويل ذلك: إنّك أنت يا ربّنا العليم من غير تعليمٍ بجميع ما قد كان وما وهو كائنٌ، والعالم للغيوب دون جميع خلقك.
وذلك أنّهم نفوا عن أنفسهم بقولهم: {لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا} أن يكون لهم علمٌ إلاّ ما علّمهم ربّهم، وأثبتوا ما نفوا عن أنفسهم من ذلك لربّهم بقولهم: {إنّك أنت العليم} يعنون بذلك العالم من غير تعليمٍ، إذ كان من سواك لا يعلم شيئًا إلاّ بتعليم غيره إيّاه.
والحكيم: هو ذو الحكمة.
- كما حدّثني به المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ: «العليم: الّذي قد كمل في علمه؛ والحكيم: الّذي قد كمل في حكمته».
وقد قيل: إنّ معنى الحكيم: الحاكم، كما العليم بمعنى العالم، والخبير بمعنى الخابر). [جامع البيان: 1/ 528-529]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({قالوا سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم (32)}
قوله: {قالوا سبحانك}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا حفص بن غياثٍ، عن حجّاجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاسٍ: سبحان اللّه قالوا قال تنزيه نفسه عن السّوء، قال: ثمّ قال عمر لعليٍّ وأصحابه عنده:«لا إله إلا اللّه قد عرفناه، فما سبحان اللّه؟» فقال له عليّ: «كلمةٌ أحبّها اللّه لنفسه ورضيها وأحبّ أن تقال».
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي ثنا ابن نفيلٍ، ثنا النّضر بن عربيٍّ، قال: سأل رجلٌ ميمون بن مهران عن سبحان اللّه. فقال: «اسمٌ يعظّم اللّه به ويحاشى به من السّوء».
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيدٍ القطّان، ثنا زيد بن الحباب، حدّثني أبو الأشهب، عن الحسن قال: «سبحان اللّه اسمٌ لا يستطيع النّاس أن ينتحلوه»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 81]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لا علم لنا إلا ما علّمتنا}
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن سلمة، ثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق: {قالوا سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم} «أي: إنّما أجبناك فيما علّمتنا، فأمّا ما لم تعلّمنا فإنّك أعلم به منّا»). [تفسير القرآن العظيم: 1 /81]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {إنّك أنت العليم الحكيم}
- وبه عن سلمة، ثنا محمّد بن إسحاق: «العليم أي: عليمٌ بما تخفون»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 81]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {الحكيم}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: قوله: {الحكيم} قال: «حكيم في أمره».
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، قال: محمّد بن إسحاق، وحدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير قوله: {الحكيم} قال: «الحكيم في عذره وحجّته إلى عباده»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 81-82]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله {إنك أنت العليم الحكيم} قال: «العليم: الذي قد كمل في علمه، الحكيم: الذي قد كمل في حكمه»). [الدر المنثور: 1/ 267]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 02:54 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وإذ قال ربّك للملائكة} الهمزة فيها مجتلبة، لأن واحدها "ملك" بغير همزة، قال الشاعر فهمز:

ولست لإنسيٍّ ولكـن لمـلأك ....... تنزّل من جوّ السماء يصوب
{أتجعل فيها من يفسد فيها} جاءت على لفظ الاستفهام، والملائكة لم تستفهم ربّها، وقد قال تبارك وتعالى: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}، ولكن معناها معنى الإيجاب، أي: أنك ستفعل. وقال جرير: فأوجب، ولم يستفهم، لعبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا.......وأنــدى العالمـيـن بـطــون راح
وتقول : وأنت تضرب الغلام على الذنب: ألست الفاعل كذا؟ ليس باستفهام ولكن تقرير.
{نقدّس لك}: نطهّر، التقديس: التطهير.
{ونسبّح}: نصليّ، تقول: قد فرغت من سبحتي، أي: من صلاتي). [مجاز القرآن: 1 /35-36]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون}
أما قول الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها} فلم يكن ذلك إنكاراً منهم على ربهم، إنما سألوا ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبّحون ويقدّسون، أو قالوا ذلك؛ لأنهم كرهوا أن يُعصى الله؛ لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.
وأما قوله: {نسبّح بحمدك ونقدّس لك}، وقال: {والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم}، وقال: {فسبّح بحمد ربّك واستغفره} فذلك لأن الذكر كله تسبيح وصلاة، تقول: "قضيت سبحتي من الذكر والصلاة"، فقال: سبّح بالحمد، أي: لتكن سبحتك بالحمد لله.
و قوله {أتجعل فيها}: جاء على وجه الإقرار، كما قال الشاعر:
ألستم خير من ركب المطايا.......وأنــدى العالمـيـن بـطــون راح
أي: أنتم كذلك). [معاني القرآن: 1/ 44-45]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله عز وجل {إني جاعل في الأرض خليفة} هم يقولون: إني وإنني، وكأني وكأنني، ولعلي ولعلني، ولكني ولكنني؛ فيحذفون لتداني هذه المخارج؛ لأن اللام من مخرج النون تضع لسانك على حنكك الأعلى؛ فإذا قالوا: ليتني، أثبتوا النون لتباعد التاء منها في المخرج، وقد حكيت أيضًا في كلامهم وفي الشعر. قال أبو علي قطرب: سمعنا من يحكي بيت مهلهل:
زعموا أنني ذهلت وليتي = أستطيع الغداة عنها ذهولا
وقال الآخر:
[معاني القرآن لقطرب: 296]
كمنية جابر إذ قال ليتي = أصادفه وأتلف جل مالي
وقوله {خليفة} فإنهم يقولون: هو خليفتي، وهو خليفي.
وأما قوله {ويسفك الدماء} فالسفك الصب، يقال: سفك الإناء، وانسفك هو؛ إذا انصب، وقال: رجل مسفك الكلام؛ أي كثيره، وسفوك الكذب؛ وقال الشاعر:
إذا ذكرت يوما من الدهر شجوها = على فرع ساق أذرت الدمع سافكا
وقوله عز وجل {ونقدس لك} هم يقولون: قدس عليهم الأنبياء؛ أي بركوا عليه؛ وكان ابن عباس يقول: المقدس الطاهر.
وقال الآخر:
أعوذ بالله الملي القادس
وقال رؤبة:
دعوة رب القوة القدوسا = .............
والقدوساء أيضًا، والمقدس: المعظم.
[معاني القرآن لقطرب: 297]
قال بشر:
فأدركنه يأخذن بالساق والنسا = كما شبرق الولدان ثوب المقدس
قال: يريد المبرك، قدس عليه برك عليه). [معاني القرآن لقطرب: 298]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يسفك الدماء}: يصبها، سفك دمه أي: صبه.
{نسبح}: نصلي، تقول: قد فرغت من سبحتي، أي: من صلاتي.
{ونقدس لك}: نطهر لك. والتقديس التطهير. وقالوا: {نقدس لك} نكبرك ونعظمك). [غريب القرآن وتفسيره: 67]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وقوله {وإذ قال ربّك للملائكة} أراد: وقال ربك للملائكة، و«إذ» تزاد، والمعنى: إلقاؤها، على ما بينت في كتاب «المشكل».
{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} يرى أهل النظر من أصحاب اللغة: أن اللّه جل وعزّ قال: (إني جاعل في الأرض خليفة يفعل ولده كذا ويفعلون كذا)، فقالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفعل هذه الأفاعيل؟) ولولا ذلك ما علمت الملائكة في وقت الخطاب أن خليفة اللّه يفعل ذلك، فاختصر اللّه الكلام على ما بينت في كتاب «المشكل»).[تفسير غريب القرآن: 45]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}
قال أبو عبيدة: "إذ" ههنا زائدة، وهذا إقدام من أبي عبيدة؛ لأن القرآن لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا بغاية تجري إلى الحق، و(إذ) معناها الوقت، وهي اسم فكيف يكون لغواً ومعناها الوقت؛ والحجة في (إذ) أنّ اللّه تعالى ذكر خلق الناس وغيرهم، فكأنّه قال: (ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة).
وفي ذكر هذه الآية احتجاج على أهل الكتاب بتثبيت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ خبر آدم وما أمره اللّه به من سجود الملائكة له معلوم عندهم، وليس هذا من علم العرب الذي كانت تعلمه، ففي إخبار النبي صلى الله عليه وسلم دليل على تثبيت رسالته إذ آتاهم بما ليس من علم العرب، وإنما هو خبر لا يعلمه إلا من قرأ الكتاب أو أوحي إليه به.
وتأويل قوله عزّ وجلّ: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}
روي: أن خلقا يقال لهم "الجان" كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث اللّه ملائكته فأجلتهم من الأرض.
وقيل: إن هؤلاء الملائكة صاروا سكان الأرض بعد "الجان"، فقالوا: "يا رب، {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك}".
وتأويل استخبارهم هذا: على جهة الاستعلام وجهة الحكمة، لا على الإنكار، فكأنهم قالوا: يا اللّه، إن كان هذا ظننا، فعرّفنا وجه الحق فيه.
وقال قوم: المعنى فيه غير هذا، وهو: أن الله عزّ وجلّ أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، وأن من الخليفة فرقة تسفك الدماء، وهي فرقة من بني آدم، وأذن اللّه عزّ وجلّ للملائكة أن يسألوه عن ذلك، وكان إعلامه إياهم هذا زيادة في التثبيت في نفوسهم أنّه يعلم الغيب، فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوماً يسفكون الدماء ويعصونك؛ وإنّما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا بحمدك كما نسبح، ويقدسوا كما نقدس، ولم يقولوا هذا إلا وقد أذن لهم، ولا يجوز على الملائكة أن تقول شيئاً تتظنى فيه، لأن اللّه تعالى وصفهم بأنهم يفعلون ما يؤمرون.
وقوله عزّ وجلّ {إني أعلم ما لا تعلمون}: أي: أبتلي من تظنون أنّه يطيع فيهديه الابتلاء، فالألف ههنا إنّما هي على إيجاب الجعل في هذا القول، كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا.......وأنــدى العالمـيـن بـطــون راح
ومعنى {يسفك}: يصب، يقال: سفك الشيء إذا صبّه.
ومعنى {نسبح بحمدك}: نبرئك من السوء، وكل من عمل عملا ً قصد به اللّه: فقد سبح، يقال: فرغت من تسبيحي، أي: من صلاتي، وقال سيبويه وغيره من النحويين: إن معنى "سبحان الله": براءة اللّه من السوء وتنزيهه من السوء، وقال الأعشى:
أقــول لـمـا جـاءنــي فـخــره.......سبحان من علقمة الفاخر
المعنى: البراءة منه ومن فخره، ومعنى {نقدّس لك} أي: نطهر أنفسنا لك، وكذلك من أطاعك نقدسه، أي: نطهّره، ومن هذا بيت المقدس، أي: البيت المطهر، أو المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب). [معاني القرآن: 1 /108-110]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): ({ويسفك الدماء} أي: يصب الدماء بغير حق، ويسفك أيضاً: يصب الدماء بحق). [ياقوتة الصراط: 172]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({نسبح} أي: ننزه، وقيل: نصلي، {ونقدس} أي: نطهر، وقيل: نعظمك ونكبرك).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 26]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَيَسْفِكُ}: يصب، {نُقَدِّسُ}: نتطهّر، {نُسَبِّحُ}: نصلي). [العمدة في غريب القرآن: 72-73]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة...}
فكان {عرضهم} على مذهب شخوص العالمين وسائر العالم، ولو قصد قصد الأسماء بلا شخوص جاز فيه "عرضهنّ" و"عرضها"، وهي في حرف عبد الله: (ثم عرضهنّ)، وفي حرف أبيّ: (ثم عرضها) فإذا قلت "عرضها" جاز أن تكون للأسماء دون الشخوص، وللشخوص دون الأسماء). [معاني القرآن: 1 /26]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها}: أسماء الخلق، {ثمّ عرضهم على الملائكة} أي: عرض الخلق). [مجاز القرآن: 1/ 36]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}
قوله {الأسماء كلّها ثمّ عرضهم} فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء، ويدلك على ذلك قوله: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} فلم يكن ذلك أن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب وعلمه بذلك وفعله، فقال: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}، كما يقول الرجل للرجل: "أنبئني بهذا إن كنت تعلم" وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد: أنه جاهل.
فأعظموه عند ذلك فقالوا: {سبحانك لا علم لنا} بالغيب على ذلك، ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب، إخباراً عن أنفسهم بنحو ما خبَّر الله عنهم، وقوله: {سبحانك لا علم لنا} فنصب "سبحانك"؛ لأنه أراد "نسبّحك" جعله بدلا من اللفظ بالفعل، كأنه قال: "نسبّحك بسبحانك" ولكن "سبحان" مصدر لا ينصرف.
و"سبحان" في التفسير: براءة وتنزيه، قال الشاعر:
أقــول لـمّـا جـاءنــي فـخــره.......سبحان من علقمة الفاخر
يقول: براءة منه). [معاني القرآن: 1/ 45-46]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله عز وجل {والملائكة} والواحد: ملك غير مهموز، وأصله ملأك؛ رمى بالهمزة كما تقول: مسألة ومسلة؛ ويسأل ويسل، وألقى الحركة على ما قبلها.
وقال علقمة بن عبدة:
فلست بجني ولكن ملأكا = تنزل من جو السماء يصوب
أي ينصب.
قال أبو علي وأنشدني من نثق بعلمه، للمثقب العبدي.
فلست لإنسي ولكن لملأك = تنزل من جو السماء يصوب
[معاني القرآن لقطرب: 298 ]
وإنما هي الرسالة؛ وقالوا فيها: هي المالكة والمالكة؛ فقدموا الهمزة، وقالوا: هي الملأكة والملاك.
وقال عدي بن زيد:
أبلغ النعمان عني مألكا = إنه قد طال حبسي وانتظاري
وقالوا أيضًا: هو المألك والمألك بضم اللام؛ والألوك للرسالة.
قال لبيد:
وغلام أرسلته أمه = بألوك فبذلنا ما سأل
وقالوا في الفعل: ألك يألك ألكا؛ إذا جعل زيد رسولا، وقالوا آلكه عني، وألكني إليه، وآلكه رسالتي.
وقال النابغة:
ألكني يا عيين إليك قولا = ستحمله الرواة إليك عني
يريد: أبلغه عني؛ ألكني يألكني برفع اللام، يريد: أبلغه عني.
وقال أمية:
وكأن برقع والملائك تحتها = ستدر تواكله القوائم أجرب
أراد: الملائكة، فرمى بالهاء؛ السماء يقال لها: الجرباء والبرقع والخلقاء والرقيع أسماء السماء، ويقال: برقع). [معاني القرآن لقطرب: 299]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وعلّم آدم الأسماء كلّها} يريد: أسماء ما خلق في الأرض، {ثمّ عرضهم على الملائكة} أي: عرض أعيان الخلق عليهم {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء}). [تفسير غريب القرآن: 46]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}
قال أهل اللغة: علم آدم أسماء الأجناس، وعرض أصحاب الأسماء من الناس وغيرهم على الملائكة، فلذا قال: {ثم عرضهم}؛ لأن فيهم من يعقل.
وكل ما يعقل يقال لجماعتهم: (هم)، و(هم) يقال للناس، ويقال للملائكة، ويقال للجن، ويقال للجان، ويقال للشياطين، فكل مميز في الإضمار (هم)، هذا مذهب أهل اللغة.
وقد قال بعض أهل النظر: إن الفائدة في الإتيان بالأسماء أبلغ منها هي الفائدة بأسماء معاني كل صنف من هذه، لأن الحجة في هذا أن الخيل إذا عرضت، فقيل: ما اسم هذه؟ قيل: خيل، فأي اسم وضع على هذه أنبأ عنها.
وإنما الفائدة أن تنبئ باسم كل معنى في كل جنس، فيقال: هذه تصلح لكذا، فهذه الفائدة البينة التي يتفق فيها أن تسمى الدابة والبعير بأي اسم شئت، والمعنى الذي فيها وهو خاصها معنى واحد وإن اختلفت عليه الأسماء واللّه أعلم). [معاني القرآن: 1/ 110-111]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({سبحانك}: تنزيه للرب، وتبرؤٌ، قال الأعشى -تبرءاً وتكذيباً لفخر علقمة-:
أقــــول لــمّــا جــاءنــي فــخـــره.......سبحان من علقمة الفاخر
).
[مجاز القرآن: 1/ 36]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({سبحانك}: تنزيه للرب جل ثناؤه، وتبرؤ). [غريب القرآن وتفسيره: 67]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11 جمادى الأولى 1434هـ/22-03-2013م, 02:05 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]


تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
[لا يوجد]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}

قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): ({وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} قال: {عرضهم} بالميم لا تكون إلا للأشخاص، فإذا قال: عرضهن وعرضها فهو لغير الأشخاص، ولا تكون عرضهن إلا للأسماء، وتكون عرضها للأسماء والأشخاص). [مجالس ثعلب: 265]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}

[لا يوجد]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 10:16 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 10:17 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 10:17 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 10:17 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون (30) وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم (32)
قال معمر بن المثنى: «إذ زائدة، والتقدير: وقال ربك».
قال أبو إسحاق الزجاج: «هذا اجتراء من أبي عبيدة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكذلك رد عليه جميع المفسرين.
وقال الجمهور: ليست بزائدة وإنما هي معلقة بفعل مقدر تقديره: واذكر إذ قال، وأيضا فقوله: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} الآية، يقتضي أن يكون التقدير وابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة، وإضافة رب إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- ومخاطبته بالكاف تشريف منه له، وإظهار لاختصاصه به، والملائكة واحدها ملك أصله ملاك على وزن مفعل من لاك إذا أرسل، وجمعه ملائكة على وزن مفاعلة.
وقال قوم: أصل ملك مألك، من ألك إذا أرسل، ومنه قول عدي بن زيد:

أبلغ النعمان عني مألكا.......أنه قد طال حبسي وانتظاري
واللغتان مسموعتان لأك وألك، قلبت فيه الهمزة بعد اللام فجاء وزنه معفل، وجمعه ملائكة، وزنه معافلة.
وقال ابن كيسان: «هو من ملك يملك، والهمزة فيه زائدة كما زيدت في شمأل من شمل، فوزنه فعأل، ووزن جمعه فعائلة» وقد يأتي في الشعر على أصله كما قال:

فلست لأنسيّ ولكن لملأك.......تنزّل من جوّ السماء يصوب
وأما في الكلام فسهلت الهمزة وألقيت حركتها على اللام أو على العين في قول ابن كيسان فقيل ملك، والهاء في ملائكة لتأنيث الجموع غير حقيقي، وقيل هي للمبالغة كعلامة ونسابة، والأول أبين.
وقال أبو عبيدة: «الهمزة في ملائكة مجتلبة لأن واحدها ملك».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا الذي نحا إليه ابن كيسان.
وجاعلٌ في هذه الآية بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد.
وقال الحسن وقتادة: «جاعل بمعنى فاعل».
وقال ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الأرض هنا يعني بها مكة لأن الأرض دحيت من تحتها، ولأنها مقرّ من هلك قومه من الأنبياء، وإن قبر نوح وهود وصالح بين المقام والركن».
وخليفةً معناه من يخلف.
قال ابن عباس: «كانت الجن قبل بني آدم في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة قتلهم وألحق فلّهم بجزائر البحار ورؤوس الجبال، وجعل آدم وذريته خليفة».
وقال الحسن: «إنما سمى الله بني آدم خليفة لأن كل قرن منهم يخلف الذي قبله، الجيل بعد الجيل».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ففي هذا القول، يحتمل أن تكون بمعنى خالفة وبمعنى مخلوفة.
وقال ابن مسعود: «إنما معناه: خليفة مني في الحكم بين عبادي بالحق وبأوامري» يعني بذلك آدم عليه السلام ومن قام مقامه بعده من ذريته.
وقرأ زيد بن علي «خليفة» بالقاف.
وقوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها} الآية، وقد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة، لأن قوله: {لا يسبقونه بالقول} خرج على جهة المدح لهم.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: «فهذه قرينة العموم، فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة في الأرض نبأ ومقدمة».
قال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا، الاستخلاف، والعصيان.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم {أتجعل فيها} الآية، على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟
وقال آخرون: كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقا يفسدون ويسفكون الدماء، فلما قال لهم بعد ذلك: {إنّي جاعلٌ}؛ {قالوا أتجعل فيها} الآية، على جهة الاسترشاد والاستعلام هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به قبل أو غيره؟
والسفك: صب الدم، هذا عرفه، وقد يقال: سفك كلامه في كذا، إذا سرده.
وقراءة الجمهور بكسر الفاء.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: ويسفك» بضم الفاء.
وقرأ ابن هرمز «ويسفك» بالنصب بواو الصرف كأنه قال: من يجمع أن يفسد وأن يسفك.
وقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأول أحسن.
وقولهم: {ونحن نسبّح بحمدك} قال بعض المتأولين: هو على جهة الاستفهام، كأنهم أرادوا ونحن نسبّح بحمدك الآية، أم نتغير عن هذه الحال.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: {أتجعل}؟
وقال آخرون: معناه التمدح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم كما قال يوسف عليه السلام: {إنّي حفيظٌ عليمٌ} [يوسف: 55].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يحسن مع التعجب والاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه في قولهم أتجعل وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}.
وقال قوم: معنى الآية: ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح بحمدك. وهذا أيضا حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم: {أتجعل}.
ومعنى {نسبّح بحمدك}: ننزهك عما لا يليق بك وبصفاتك.
وقال ابن عباس وابن مسعود: «تسبيح الملائكة صلاتهم لله».
وقال قتادة: «تسبيح الملائكة قولهم سبحان الله على عرفه في اللغة».
و{بحمدك} معناه: نخلط التسبيح بالحمد ونصله به،
ويحتمل أن يكون قوله بحمدك اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي: وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك.
{ونقدّس لك} قال الضحاك وغيره: «معناه نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك»، والتقديس: التطهير بلا خلاف، ومنه: الأرض المقدسة أي المطهرة، ومنه: بيت المقدس، ومنه: القدس الذي يتطهر به.
وقال آخرون: {ونقدّس لك} معناه: ونقدسك أي: نعظمك ونطهر ذكرك عما لا يليق به. قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما.
وقال قوم: {نقدس لك} معناه: نصلي لك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف.
وقوله تعالى: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} الأظهر أن أعلم فعل مستقبل، وما في موضع نصب به،
وقيل: أعلم اسم، وما في موضع خفض بالإضافة، ولا يصح الصرف فيه بإجماع من النحاة، وإنما الخلاف في أفعل إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش يصرفه.
واختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: {ما لا تعلمون} فقال ابن عباس: «كان إبليس -لعنه الله- قد أعجب ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا وشرفه».
وقيل: بل لما بعثه الله إلى قتل الجن الذين كانوا أفسدوا في الأرض فهزمهم وقتلهم بجنده، قاله ابن عباس أيضا. واعتقد أن ذلك لمزية له واستحقب الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام.
قال: فلما قالت الملائكة: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك. قال الله لهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني: ما في نفس إبليس.
وقال قتادة: «لما قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها وقد علم الله تعالى أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة، قال لهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني: أفعال الفضلاء من بني آدم»). [المحرر الوجيز: 1/ 164-169]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وعلّم} معناه: عرف، وتعليم آدم هنا عند قوم: إلهام علمه ضرورة.
وقال قوم: بل تعليم بقول، فإما بواسطة ملك، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض، فلا يشارك موسى -عليه السلام- في خاصته.
وقرأ اليماني: «وعلّم» بضم العين على بناء الفعل للمفعول، «آدم» مرفوعا. قال أبو الفتح: «وهي قراءة يزيد البربري»،
وآدم أفعل مشتق من الأدمة وهي حمرة تميل إلى السواد، وجمعه أدم وأوادم كحمر وأحامر، ولا ينصرف بوجه،
وقيل: آدم وزنه فاعل مشتق من أديم الأرض، كأن الملك آدمها وجمعه آدمون وأوادم، ويلزم قائل هذه المقالة صرفه.
وقال الطبري: «آدم فعل رباعي سمي به»، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب والخبيث».
واختلف المتأولون في قوله: {الأسماء} فقال جمهور الأمة: «علمه التسميات» وقال قوم: «عرض عليه الأشخاص».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأول أبين، ولفظة -علمه- تعطي ذلك.
ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه؟ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد: «علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها».
وقال حميد الشامي: «علمه أسماء النجوم فقط».
وقال الربيع بن خثيم: «علمه أسماء الملائكة فقط».
وقال عبد الرحمن بن زيد: «علمه أسماء ذريته فقط».
وقال الطبري: «علمه أسماء ذريته والملائكة»، واختار هذا ورجحه بقوله تعالى: {ثمّ عرضهم على الملائكة}.
وحكى النقاش عن ابن عباس: أنه تعالى علمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء.
وقال آخرون: «علمه أسماء الأجناس، كالجبال والخيل والأودية ونحو ذلك، دون أن يعين ما سمته ذريته منها».
وقال ابن قتيبة: «علمه أسماء ما خلق في الأرض».
وقال قوم: علمه الأسماء بلغة واحدة، ثم وقع الاصطلاح من ذريته فيما سواها.
وقال بعضهم: «بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته»، وقد غلا قوم في هذا المعنى حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال: «علم الله تعالى آدم كل شيء، حتى إنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه»، ونحو هذا من القول الذي هو بين الخطأ من جهات. وقال أكثر العلماء: «علمه تعالى منافع كل شيء ولما يصلح».
وقال قوم: «عرض عليه الأشخاص عند التعليم».
وقال قوم: «بل وصفها له دون عرض أشخاص».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه كلها احتمالات، قال الناس بها.
وقرأ أبي بن كعب: «ثم عرضها». وقرأ ابن مسعود: «ثم عرضهن» .
واختلف المتأولون هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص؟
فقال ابن مسعود وغيره: «عرض الأشخاص».
وقال ابن عباس وغيره: «عرض الأسماء»،
فمن قال في الأسماء بعموم كل شيء قال: عرضهم أمة أمة ونوعا نوعا، ومن قال في الأسماء إنها التسميات استقام على قراءة أبيّ: «عرضها»، ونقول في قراءة من قرأ «عرضهم»: إن لفظ الأسماء يدل على الأشخاص، فلذلك ساغ أن يقول للأسماء عرضهم.
و{أنبئوني} معناه: أخبروني، والنبأ: الخبر، ومنه النبيء.
وقال قوم: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق، ويتقرر جوازه، لأنه تعالى علم أنهم لا يعلمون.
وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف.
وقوله تعالى: {هؤلاء} ظاهره حضور أشخاص، وذلك عند العرض على الملائكة.
وليس في هذه الآية ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب إليه مكي والمهدوي، فمن قال: إنه تعالى عرض على الملائكة أشخاصا؛ استقام له مع لفظ {هؤلاء}،
ومن قال: إنه إنما عرض أسماء فقط جعل الإشارة بـ{هؤلاء} إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها بسبب، وذلك أسماؤها، وكأنه قال لهم في كل اسم: لأي شخص هذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصا، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم، ثم إن آدم قال لهم هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وهؤلاء لفظ مبني على الكسر والقصر فيه لغة تميم وبعض قيس وأسد، قال الأعشى:

هؤلا ثم هؤلا كلا أعطيـ.......ـت نعالا محذوة بنعال
و{كنتم} في موضع الجزم بالشرط، والجواب عند سيبويه فيما قبله، وعند المبرد محذوف، والتقدير: إن كنتم صادقين فأنبئوني.
وقال ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب النبي عليه السلام: «معنى الآية: إن كنتم صادقين في أن الخليفة يفسد ويسفك».
وقال آخرون: صادقين في أني إن استخلفتكم سبحتم بحمدي وقدستم لي.
وقال الحسن وقتادة: «روي أن الملائكة قالت حين خلق الله آدم: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أعلم منا ولا أكرم عليه، فأراد الله تعالى أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا فالمعنى: إن كنتم صادقين في دعواكم العلم».
وقال قوم: معنى الآية: إن كنتم صادقين في جواب السؤال عالمين بالأسماء. قالوا: ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا: {سبحانك} حكاه النقاش. قال: ولو لم يشترط عليهم الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له: {كم لبثت}؟ ولم يشترط عليه الإصابة. فقال، ولم يصب فلم يعنف، وهذا كله محتمل.
وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال: معنى إن كنتم: «إذ كنتم». قال الطبري: وهذا خطأ.
وإن قال قائل: ما الحكمة في قول الله تعالى للملائكة: {إنّي جاعلٌ} الآية،
قيل: هذا منه امتحان لهم واختبار ليقع منهم ما وقع ويؤدبهم تعالى من تعليم آدم وتكريمه بما أدب). [المحرر الوجيز: 1 /169-173]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : {سبحانك} معناه: تنزيها لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا ما علمته، وسبحانك نصب على المصدر.
وقال الكسائي: «نصبه على أنه منادى مضاف».
قال الزهراوي: موضع (ما) من قولهم: {ما علّمتنا} نصب بـ{علّمتنا}، وخبر التبرئة في {لنا}، ويحتمل أن يكون موضع (ما) رفعا على أنه بدل من خبر التبرئة، كما تقول: لا إله إلا الله أي: لا إله في الوجود إلا الله، وأنت في موضع نصب تأكيد للضمير في إنّك، أو في موضع رفع على الابتداء. والعليم خبره، والجملة خبر «إن»، أو فاصلة لا موضع لها من الإعراب.
والعليم معناه: العالم، ويزيد عليه معنى من المبالغة والتكثير من المعلومات في حق الله عز وجل.
والحكيم معناه الحاكم، وبينهما مزية المبالغة، وقيل: معناه المحكم، كما قال عمرو بن معديكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي: المسمع، ويجيء الحكيم على هذا من صفات الفعل.
وقال قوم: الحكيم المانع من الفساد، ومنه حكمة الفرس ما نعته، ومنه قول جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم.......إني أخاف عليكم أن أغضبا
). [المحرر الوجيز: 1/ 173-174]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 10:17 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 10:18 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون (30)}
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة} أي: واذكر يا محمّد إذ قال ربّك للملائكة، واقصص على قومك ذلك.
وحكى ابن جريرٍ عن بعض أهل العربيّة [وهو أبو عبيدة] أنّه زعم أنّ "إذ" هاهنا زائدةٌ، وأنّ تقدير الكلام: وقال ربّك. وردّه ابن جريرٍ.
قال القرطبيّ: وكذا ردّه جميع المفسّرين حتّى قال الزّجّاج: هذا اجتراءٌ من أبي عبيدة.
{إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} أي: قومًا يخلف بعضهم بعضًا قرنًا بعد قرنٍ وجيلًا بعد جيلٍ، كما قال تعالى: {وهو الّذي جعلكم خلائف الأرض} [الأنعام: 165] وقال {ويجعلكم خلفاء الأرض} [النّمل: 62]. وقال {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض يخلفون} [الزّخرف: 60]. وقال {فخلف من بعدهم خلفٌ} [مريم: 59]. [وقرئ في الشّاذّ: "إنّي جاعلٌ في الأرض خليقةً" حكاه الزّمخشريّ وغيره ونقلها القرطبيّ عن زيد بن عليٍّ].
وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم -عليه السّلام- فقط، كما يقوله طائفةٌ من المفسّرين، وعزاه القرطبيّ إلى ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وجميع أهل التّأويل، وفي ذلك نظرٌ، بل الخلاف في ذلك كثيرٌ، حكاه فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره وغيره، والظّاهر أنّه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} فإنّهم إنّما أرادوا أنّ من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنّهم علموا ذلك بعلمٍ خاصٍّ، أو بما فهموه من الطّبيعة البشريّة فإنّه أخبرهم أنّه يخلق هذا الصّنف من صلصال من حمإٍ مسنونٍ [أو فهموا من الخليفة أنّه الّذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويردّ عنهم المحارم والمآثم، قاله القرطبيّ] أو أنّهم قاسوهم على من سبق، كما سنذكر أقوال المفسّرين في ذلك.
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على اللّه، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهّمه بعض المفسّرين [وقد وصفهم اللّه تعالى بأنّهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئًا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لمّا أعلمهم بأنّه سيخلق في الأرض خلقًا. قال قتادة: «وقد تقدّم إليهم أنّهم يفسدون فيها فقالوا: {أتجعل فيها} الآية»].
وإنّما هو سؤال استعلامٍ واستكشافٍ عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربّنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أنّ منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدّماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك، أي: نصلّي لك كما سيأتي، أي: ولا يصدر منّا شيءٌ من ذلك، وهلّا وقع الاقتصار علينا؟
قال اللّه تعالى مجيبًا لهم عن هذا السّؤال: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} أي: إنّي أعلم من المصلحة الرّاجحة في خلق هذا الصّنف على المفاسد الّتي ذكّرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإنّي سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرّسل، ويوجد فيهم الصّدّيقون والشّهداء، والصّالحون والعبّاد، والزّهّاد والأولياء، والأبرار والمقرّبون، والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبّون له تبارك وتعالى المتّبعون رسله، صلوات اللّه وسلامه عليهم.
وقد ثبت في الصّحيح:«أنّ الملائكة إذا صعدت إلى الرّبّ تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلّون». وذلك لأنّهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصّبح وصلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السّلام: «يرفع إليه عمل اللّيل قبل النّهار، وعمل النّهار قبل اللّيل» فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون، من تفسير قوله: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}.
وقيل: معنى قوله جوابًا لهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} أنّ لي حكمةً مفصّلةً في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها،
وقيل: إنّه جوابٌ لقولهم: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} فقال: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به.
وقيل: بل تضمّن قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال اللّه تعالى لهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} من أنّ بقاءكم في السّماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها فخر الدّين مع غيرها من الأجوبة، واللّه أعلم.
ذكر أقوال المفسّرين ببسط ما ذكرناه:
قال ابن جريرٍ: حدّثني القاسم بن الحسن قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني الحجّاج، عن جرير بن حازمٍ، ومباركٍ، عن الحسن وأبي بكرٍ، عن الحسن وقتادة، قالوا: «قال اللّه للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قال لهم: إنّي فاعلٌ. وهذا معناه أنّه أخبرهم بذلك».
وقال السّدّيّ:«استشار الملائكة في خلق آدم». رواه ابن أبي حاتمٍ، قال: وروي عن قتادة نحوه. وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهلٌ، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جريرٍ أحسن، واللّه أعلم.
{في الأرض} قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو سلمة، حدّثنا حمّادٌ حدّثنا عطاء بن السّائب، عن عبد الرّحمن بن سابطٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:«دحيت الأرض من مكّة، وأوّل من طاف بالبيت الملائكة، فقال اللّه: إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً»، يعني مكّة.
وهذا مرسلٌ، وفي سنده ضعفٌ، وفيه مدرج، وهو أنّ المراد بالأرض مكّة، واللّه أعلم، فإنّ الظّاهر أنّ المراد بالأرض أعمّ من ذلك.
{خليفةً} قال السّدّيّ في تفسيره عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «أنّ اللّه تعالى قال للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قالوا: ربّنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّيّةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا».
قال ابن جريرٍ: فكان تأويل الآية على هذا: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} منّي، يخلفني في الحكم بين خلقي، وإنّ ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة اللّه والحكم بالعدل بين خلقه. وأمّا الإفساد وسفك الدّماء بغير حقّها فمن غير خلفائه.
قال ابن جريرٍ: وإنّما [كان تأويل الآية على هذا] معنى الخلافة الّتي ذكرها اللّه إنّما هي خلافة قرن منهم قرنا.
قال: والخليفة الفعلية من قولك، خلف فلانٌ فلانًا في هذا الأمر: إذا قام مقامه فيه بعده، كما قال تعالى: {ثمّ جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} [يونس: 14]. ومن ذلك قيل للسّلطان الأعظم: خليفةٌ؛ لأنّه خلف الّذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفًا.
قال: وكان محمّد بن إسحاق يقول في قوله تعالى: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} يقول: «ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمّرها خلفًا ليس منكم».
قال ابن جريرٍ: وحدّثنا أبو كريب، حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «أوّل من سكن الأرض الجنّ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدّماء، وقتل بعضهم بعضًا». قال: «فبعث اللّه إليهم إبليس، فقتلهم إبليس ومن معه حتّى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثمّ خلق آدم وأسكنه إيّاها، فلذلك قال: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً}».
وقال سفيان الثّوريّ، عن عطاء بن السّائب، عن ابن سابطٍ: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} قال:«يعنون [به] بني آدم».
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «قال اللّه للملائكة: إنّي أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعل فيها خليفةً وليس للّه -عزّ وجلّ- خلقٌ إلّا الملائكة، والأرض ليس فيها خلقٌ، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها [ويسفك الدّماء]؟!».
وقد تقدّم ما رواه السّدّيّ، عن ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ وغيرهما من الصّحابة: أنّ اللّه أعلم الملائكة بما يفعل ذرّيّة آدم، فقالت الملائكة ذلك. وتقدّم آنفًا ما رواه الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: أنّ الجنّ أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء بأولئك.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسي، حدّثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهدٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، قال: «كان الجنّ بنو الجانّ في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنةٍ، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدّماء، فبعث اللّه جندًا من الملائكة فضربوهم، حتّى ألحقوهم بجزائر البحور، فقال اللّه للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء؟ قال: {إنّي أعلم ما لا تعلمون}».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عن أبي العالية في قوله: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} إلى قوله: {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} [البقرة: 33] قال: «خلق اللّه الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجنّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة؛ فكفر قومٌ من الجنّ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدّماء بينهم، وكان الفساد في الأرض، فمن ثمّ قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} كما أفسدت الجنّ {ويسفك الدّماء} كما سفكوا».
قال ابن أبي حاتمٍ: وحدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا مبارك بن فضالة، حدّثنا الحسن، قال: «قال اللّه للملائكة: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} قال لهم: إنّي فاعلٌ. فآمنوا بربّهم، فعلّمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الّذي علّمهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}؟ {قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}».
قال الحسن: «إنّ الجنّ كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدّماء، ولكن جعل اللّه في قلوبهم أنّ ذلك سيكون فقالوا بالقول الّذي علّمهم».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة في قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها}: «كان [اللّه] أعلمهم أنّه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدّماء، فذلك حين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها}».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا هشام الرّازيّ، حدّثنا ابن المبارك، عن معروفٍ، يعني ابن خرّبوذ المكّيّ، عمّن سمع أبا جعفرٍ محمّد بن عليٍّ يقول: «السّجلّ ملكٌ، وكان هاروت وماروت من أعوانه، وكان له في كلّ يومٍ ثلاث لمحاتٍ ينظرهنّ في أمّ الكتاب، فنظر نظرةً لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور، فأسر ذلك إلى هاروت وماروت، وكانا من أعوانه، فلمّا قال تعالى: {إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} قالا ذلك استطالةً على الملائكة».
وهذا أثرٌ غريبٌ. وبتقدير صحّته إلى أبي جعفرٍ محمّد بن عليّ بن الحسن الباقر، فهو نقله عن أهل الكتاب، وفيه نكارةٌ توجب ردّه، واللّه أعلم. ومقتضاه أنّ الّذين قالوا ذلك إنّما كانوا اثنين فقط، وهو خلاف السّياق.
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتمٍ -أيضًا- حيث قال: حدّثنا أبي، حدّثنا هشام بن أبي عبد اللّه، حدّثنا عبد اللّه بن يحيى بن أبي كثيرٍ، قال: سمعت أبي يقول:«إنّ الملائكة الّذين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} كانوا عشرة آلافٍ، فخرجت نارٌ من عند اللّه فأحرقتهم».
وهذا -أيضًا- إسرائيليٌّ منكرٌ كالّذي قبله، واللّه أعلم.
قال ابن جريجٍ:«إنّما تكلّموا بما أعلمهم اللّه أنّه كائنٌ من خلق آدم، فقالوا:{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}».
وقال ابن جريرٍ: وقال بعضهم: إنّما قالت الملائكة ما قالت: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء}؛ لأنّ اللّه أذن لهم في السّؤال عن ذلك، بعد ما أخبرهم أنّ ذلك كائنٌ من بني آدم، فسألته الملائكة، فقالت على التّعجّب منها: وكيف يعصونك يا ربّ وأنت خالقهم!؟ فأجابهم ربّهم: {إنّي أعلم ما لا تعلمون} يعني: أنّ ذلك كائنٌ منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من ترونه لي طائعًا.
قال: وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عمّا لم يعلموا من ذلك، فكأنّهم قالوا: يا ربّ خبّرنا، مسألة [الملائكة] استخبارٌ منهم، لا على وجه الإنكار، واختاره ابن جريرٍ.
وقال سعيدٌ عن قتادة: «قوله: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء} وقد علمت الملائكة من علم اللّه أنّه لا شيء أكره إلى اللّه من سفك الدّماء والفساد في الأرض {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} فكان في علم اللّه أنّه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسلٌ وقومٌ صالحون وساكنو الجنّة»،
قال: وذكر لنا عن ابن عبّاسٍ أنّه كان يقول: «إنّ اللّه لمّا أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما اللّه خالقٌ خلقًا أكرم عليه منّا ولا أعلم منّا، فابتلوا بخلق آدم، وكلّ خلقٍ مبتلًى كما ابتليت السّماوات والأرض بالطّاعة فقال: {ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين} [فصّلت: 11]».
وقوله تعالى: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: «التسبيح: التسبيح، والتّقديس: الصّلاة».
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ- وعن ناسٍ من الصّحابة: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: «يقولون: نصلّي لك».
وقال مجاهدٌ: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: «نعظمك ونكبرك».
وقال الضّحّاك: «التّقديس: التّطهير».
وقال محمّد بن إسحاق: {ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك} قال: «لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه».
وقال ابن جريرٍ: التّقديس: هو التّعظيم والتّطهير، ومنه قولهم: سبّوح قدّوس، يعني بقولهم: سبوح، تنزيهٌ له، وبقولهم: قدّوسٌ، طهارةٌ وتعظيمٌ له. ولذلك قيل للأرض: أرضٌ مقدّسةٌ، يعني بذلك المطهّرة. فمعنى قول الملائكة إذًا: {ونحن نسبّح بحمدك} ننزّهك ونبرّئك ممّا يضيفه إليك أهل الشّرك بك {ونقدّس لك} ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطّهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك.
[وفي صحيح مسلمٍ عن أبي ذرٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل: أيّ الكلام أفضل؟ قال: «ما اصطفى اللّه لملائكته سبحان اللّه وبحمده» وروى البيهقيّ عن عبد الرّحمن بن قرطٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة أسري به سمع تسبيحًا في السّماوات العلا «سبحان العليّ الأعلى سبحانه وتعالى»].
{قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} قال قتادة: «فكان في علم اللّه أنّه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسلٌ وقومٌ صالحون وساكنو الجنّة»، وسيأتي عن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وغير واحدٍ من الصّحابة والتّابعين أقوالٌ في حكمة قوله تعالى: {قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}.
وقد استدلّ القرطبيّ وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين النّاس فيما يختلفون فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمّة الّتي لا يمكن إقامتها إلّا بالإمام، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجبٌ.
والإمامة تنال بالنّصّ كما يقوله طائفةٌ من أهل السّنّة في أبي بكرٍ، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصّدّيق بعمر بن الخطّاب، أو بتركه شورى في جماعةٍ صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحلّ والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحدٍ منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع، واللّه أعلم، أو بقهر واحدٍ النّاس على طاعته فتجب لئلّا يؤدّي ذلك إلى الشّقاق والاختلاف، وقد نصّ عليه الشّافعيّ.
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلافٌ،
فمنهم من قال: لا يشترط،
وقيل: بلى ويكفي شاهدان.
وقال الجبّائيّ: يجب أربعةٌ وعاقدٌ ومعقودٌ له، كما ترك عمر رضي اللّه عنه، الأمر شورى بين ستّةٍ، فوقع الأمر على عاقدٍ وهو عبد الرّحمن بن عوف، ومعقود له وهو عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشّهود من الأربعة الباقين، وفي هذا نظرٌ، واللّه أعلم.
ويجب أن يكون ذكرًا حرًّا بالغًا عاقلًا مسلمًا عدلًا مجتهدًا بصيرًا سليم الأعضاء خبيرًا بالحروب والآراء قرشيًّا على الصّحيح، ولا يشترط الهاشميّ ولا المعصوم من الخطأ خلافًا للغلاة الرّوافض،
ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلافٌ، والصّحيح أنّه لا ينعزل لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «إلّا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من اللّه فيه برهانٌ».
وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلافٌ، وقد عزل الحسن بن عليٍّ نفسه وسلّم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذرٍ وقد مدح على ذلك.
فأمّا نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «من جاءكم وأمركم جميعٌ يريد أن يفرّق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان». وهذا قول الجمهور، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحدٍ، منهم إمام الحرمين،
وقالت الكرّاميّة: يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان عليٌّ ومعاوية إمامين واجبي الطّاعة، قالوا: وإذا جاز بعث نبيّين في وقتٍ واحدٍ وأكثر جاز ذلك في الإمامة؛ لأنّ النّبوّة أعلى رتبةً بلا خلافٍ،
وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنّه جوّز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتّسعت الأقاليم بينهما، وتردّد إمام الحرمين في ذلك، قلت: وهذا يشبه حال خلفاء بني العبّاس بالعراق والفاطميّين بمصر والأمويّين بالمغرب). [تفسير ابن كثير: 1/ 216-222]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33)}
هذا مقامٌ ذكر اللّه تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصّه به من علم أسماء كلّ شيءٍ دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنّما قدّم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم [اللّه] تعالى بأنّه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر تعالى هذا المقام عقيب هذا ليبيّن لهم شرف آدم بما فضّل به عليهم في العلم، فقال تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}.
وقال السّدّيّ، عمّن حدّثه، عن ابن عبّاسٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «عرض عليه أسماء ولده إنسانًا إنسانًا، والدّوابّ، فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس».
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «هي هذه الأسماء التي يتعارف بها النّاس: إنسانٌ، ودابّةٌ، وسماءٌ، وأرضٌ، وسهلٌ، وبحرٌ، وجملٌ، وحمارٌ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها».
وروى ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ، من حديث عاصم بن كليبٍ، عن سعيد بن معبدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «علّمه اسم الصّحفة والقدر»، قال: «نعم حتّى الفسوة والفسيّة».
وقال مجاهدٌ: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} قال: «علّمه اسم كلّ دابّةٍ، وكلّ طيرٍ، وكلّ شيءٍ».
وكذلك روي عن سعيد بن جبيرٍ وقتادة وغيرهم من السّلف: أنّه علّمه أسماء كلّ شيءٍ،
وقال الرّبيع في روايةٍ عنه: «أسماء الملائكة».
وقال حميدٌ الشّاميّ: «أسماء النّجوم».
وقال عبد الرّحمن بن زيدٍ: «علّمه أسماء ذرّيّته كلّهم».
واختار ابن جريرٍ أنّه علّمه أسماء الملائكة وأسماء الذّرّيّة؛ لأنّه قال: {ثمّ عرضهم} وهذا عبارةٌ عمّا يعقل. وهذا الّذي رجّح به ليس بلازمٍ، فإنّه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم، ويعبّر عن الجميع بصيغة من يعقل للتّغليب. كما قال: {واللّه خلق كلّ دابّةٍ من ماءٍ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربعٍ يخلق اللّه ما يشاء إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} [النّور: 45].
[وقد قرأ عبد اللّه بن مسعودٍ: "ثمّ عرضهنّ" وقرأ أبيّ بن كعبٍ: "ثمّ عرضها" أي: السّماوات].
والصّحيح أنّه علّمه أسماء الأشياء كلّها: ذواتها وأفعالها؛ كما قال ابن عبّاسٍ حتّى الفسوة والفسية. يعني أسماء الذّوات والأفعال المكبّر والمصغّر؛ ولهذا قال البخاريّ في تفسير هذه الآية من كتاب التّفسير من صحيحه: حدّثنا مسلم بن إبراهيم، حدّثنا مسلمٌ، حدّثنا هشامٌ، حدّثنا قتادة، عن أنسٍ رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وقال لي خليفة: حدّثنا يزيد بن زريع، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة عن أنسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا؟ فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو النّاس، خلقك اللّه بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيءٍ، فاشفع لنا عند ربّك حتّى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي؛ ائتوا نوحًا فإنّه أوّل رسولٍ بعثه اللّه إلى أهل الأرض، فيأتونه فيقول: لست هناكم. ويذكر سؤاله ربّه ما ليس له به علمٌ فيستحي. فيقول: ائتوا خليل الرّحمن، فيأتونه، فيقول: لست هناكم؛ فيقول: ائتوا موسى عبدًا كلمه اللّه، وأعطاه التّوراة، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ويذكر قتل النفس بغير نفس، فيستحي من ربّه؛ فيقول: ائتوا عيسى عبد اللّه ورسوله وكلمة اللّه وروحه، فيأتونه، فيقول: لست هناكم، ائتوا محمّدًا عبدًا غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فيأتوني، فأنطلق حتّى أستأذن على ربّي، فيؤذن لي، فإذا رأيت ربّي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء اللّه، ثمّ يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفّع، فأرفع رأسي، فأحمده بتحميدٍ يعلمنيه، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود إليه، وإذا رأيت ربّي مثله، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود الرّابعة فأقول: ما بقي في النّار إلّا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود».
هكذا ساق البخاريّ هذا الحديث هاهنا. وقد رواه مسلمٌ والنّسائيّ من حديث هشامٍ، وهو ابن أبي عبد اللّه الدّستوائي، عن قتادة، به. وأخرجه مسلمٌ والنّسائيّ وابن ماجه من حديث سعيدٍ، وهو ابن أبي عروبة، عن قتادة.
ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصّلاة والسّلام: «فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو النّاس خلقك اللّه بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيءٍ»، فدلّ هذا على أنّه علّمه أسماء جميع المخلوقات؛ ولهذا قال: {ثمّ عرضهم على الملائكة} يعني: المسمّيات؛ كما قال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة قال:«ثمّ عرض تلك الأسماء على الملائكة{فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}».
وقال السّدّيّ في تفسيره عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}: «ثمّ عرض الخلق على الملائكة».
وقال ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {ثمّ عرضهم} «عرض أصحاب الأسماء على الملائكة».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا القاسم، حدّثنا الحسين، حدّثني الحجّاج، عن جرير بن حازمٍ ومبارك بن فضالة، عن الحسن -وأبي بكرٍ، عن الحسن وقتادة -قالا: «علّمه اسم كلّ شيءٍ، وجعل يسمّي كلّ شيءٍ باسمه، وعرضت عليه أمّةً أمّةً».
وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله: {إن كنتم صادقين}: «إنّي لم أخلق خلقًا إلّا كنتم أعلم منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين».
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: {إن كنتم صادقين}: «إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفةً».
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة: «إن كنتم صادقين أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدّماء».
وقال ابن جريرٍ: وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عبّاسٍ ومن قال بقوله، ومعنى ذلك فقال: أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيّها الملائكة القائلون: أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدّماء، من غيرنا أم منّا، فنحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم: إنّي إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذرّيّته وأفسدوا وسفكوا الدّماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتّبعتم أمري بالتّعظيم لي والتّقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الّذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم، فأنتم بما هو غير موجودٍ من الأمور الكائنة الّتي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين). [تفسير ابن كثير: 1/ 222-225]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): ([وقوله] {قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم} هذا تقديسٌ وتنزيهٌ من الملائكة للّه تعالى أن يحيط أحدٌ بشيءٍ من علمه إلّا بما شاء، وأن يعلموا شيئًا إلّا ما علّمهم اللّه تعالى، ولهذا قالوا: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم} أي: العليم بكلّ شيءٍ، الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل التّامّ.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا حفص بن غياثٍ، عن حجّاجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاسٍ: سبحان اللّه، قال: «تنزيه اللّه نفسه عن السّوء». [قال] ثمّ قال عمر لعلي وأصحابه عنده:«لا إله إلا الله، قد عرفناها فما سبحان اللّه؟» فقال له عليٌّ: «كلمةٌ أحبّها اللّه لنفسه، ورضيها، وأحبّ أن تقال».
قال: وحدّثنا أبي، حدّثنا ابن نفيلٍ، حدّثنا النّضر بن عربيٍّ قال: سأل رجلٌ ميمون بن مهران عن "سبحان اللّه"، فقال: «اسمٌ يعظّم اللّه به، ويحاشى به من السّوء»). [تفسير ابن كثير: 1/ 225]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:16 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة