التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {الم (1)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله تعالى: {الم * ذلك الكتاب...} الهجاء موقوف في كل القرآن، وليس بجزم يسمّى جزماً، إنما هو كلام جزمه نّية الوقوف على كل حرف منه؛ فافعل ذلك بجميع الهجاء فيما قلّ أو كثر، وإنما قرأت القرّاء :{الم * الله} في "آل عمران" ففتحوا الميم؛ لأن الميم كانت مجزومة لنيّة الوقفة عليها، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف، فكانت القراءة "ا ل م الله " فتركت العرب همزة الألف من "الله" فصارت فتحتها في الميم لسكونها، ولو كانت الميم جزماً مستحقّاً للجزم لكسرت، كما في {قيل ادخل الجنة}، وقد قرأها رجل من النحويين، وهو: أبو جعفر الرؤاسيّ -وكان رجلاً صالحاً- : {الم الله} بقطع الألف، والقراءة بطرح الهمزة، قال الفراء: « وبلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع الألف ».
وإذا كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفاً واحداً؛ مثل قوله "ص" و"ن" و"ق" كان فيه وجهان في العربية؛ إن نويت به الهجاء: تركته جزماً وكتبته حرفاً واحداً، وإن جعلته اسماً للسورة أو في مذهب قسم: كتبته على هجائه "نون" و"صاد" و"وقاف" وكسرت الدال من صاد، والفاء من قاف، ونصبت النون الآخرة من "نون"، فقلت: "نون والقلم" و"صاد والقرآن" و"قاف"؛ لأنه قد صار كأنه أداة؛ كما قالوا "رجلان"، فخفضوا النون من رجلان؛ لأن قبلها ألفاً، ونصبوا النون في "المسلمون والمسلمين" ؛ لأن قبلها ياء وواواً، وكذلك فافعل بـ "ياسين والقرآن"، فتنصب النون من "ياسين" وتجزمها، وكذلك "حم" و"طس"، ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل "طا سين ميم"؛ لأنها لا تشبه الأسماء، و"طس" تشبه قابيل، ولا يجوز ذلك في شيء من القرآن مثل : "الم" و"المر" ونحوهما). [معاني القرآن: 1 / 9 -10]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الم} سكّنت الألف واللام والميم؛ لأنه هجاء، ولا يدخل في حروف الهجاء إعراب، قال أبو النّجم العجليّ:
أقبلت من عند زياد كالخرف
أجرّ رجليّ بخٍطّ مخٌتلف
كأنمّا تكتّبان لام ألف
فجزمه؛ لأنه هجاء، ومعنى {الم}: افتتاح مبتدأ كلامٍ، شعار للسورة). [مجاز القرآن: 1 / 28]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الم} أما قوله: {الم} فإن هذه الحروف أسكنت؛ لأن الكلام ليس بمدرج، وإنما يكون مدرجاً لو عطف بحرف العطف، وذلك إن العرب تقول في حروف المعجم كلها بالوقف إذا لم يدخلوا حروف العطف، فيقولون: "ألف باء تاء ثاء" ويقولون: "ألفٌ وباءٌ وتاءٌ وثاءٌ"، وكذلك العدد عندهم ما لم يدخلوا حروف العطف، فيقولون: "واحد اثنان ثلاثه"، وبذلك على أنه ليس بمدرج قطع ألف "اثنين" وهي من الوصل، فلو كان وصلها بالذي قبلها لذهبت ولكن هذا من العدد، والعدد والحروف كل واحد منها شيء مفصول على حياله، ومثل ذلك: {المص} و{الر} و{المر} و{كهيعص} و{طسم} و{يس} و{طه} و{حم} و{ق} و{ص} إلا أن قوماً قد نصبوا {يس} و{طه} و{حم} وهو كثير في كلام العرب، وذلك أنهم جعلوها أسماء كالأسماء الأعجمية "هابيل" و"قابيل"، فإما أن يكونوا جعلوها في موضع نصب ولم يصرفوها كأنه قال: "اذكر حم وطس ويس"، أو جعلوها كالأسماء التي هي غير متمكنة فحرّكوا آخرها حركة واحدة كفتح "أين"، وكقول بعض الناس {الحمد للّه}، وقرأ بعضهم {ص} و{ن} و{ق} بالفتح وجعلوها أسماء ليست بمتمكنة فألزموها حركة واحدة وجعلوها أسماء للسورة، فصارت أسماء مؤنثة، ومن العرب من لا يصرف المؤنث إذا كان وسطه ساكناً نحو "هند" و"جمل" و"دعد"، قال الشاعر:
وإني لأهوى بيت هندٍ وأهلها......على هنواتٍ قد ذكرن على هند
وهو يجوز في هذه اللغة، أو يكون سماها بالحرف، والحرف مذكر وإذا سمي المؤنث بالمذكر لم ينصرف، فجعل {ص} وما أشبهها اسماً للسورة ولم يصرف، وجعله في موضع نصب.
وقال بعضهم "صاد والقرآن" فجعلها من "صاديت" ثم أمر كما تقول "رام"، كأنه قال: "صاد الحقّ بعملك" أي: تعمده، ثم قال: {والقرآن} فأقسم، ثم قال: {بل الّذين كفروا في عزّةٍ وشقاقٍ} فعلى هذا وقع القسم، وذلك أنهم زعموا أن "بل" هاهنا إنما هي "أن" ؛ فلذلك صار القسم عليها.
وقد اختلف الناس في الحروف التي في فواتح السور، فقال بعضهم: "إنما هي حروف يستفتح بها"، فإن قيل "هل يكون شيء من القرآن ليس له معنى؟" فإن معنى هذه أنه ابتدأ بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى، فجعل هذا علامة لانقطاع ما بينهما، وذلك موجود في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول:
بل وبلدةٍ ما الإنس من أهّالها
أو يقول:
بل ما هاج أحزاناً وشجواً قد شجا
فـ"بل" ليست من البيت ولا تعد في وزنه، ولكن يقطع بها كلام ويستأنف آخر، وقال قوم: إنها حروف إذا وصلت كانت هجاء لشيء يعرف معناه، وقد أوتى بعض الناس علم ذلك؛ وذلك أن بعضهم كان يقول: "الر" و"حم" و"ن" هذا هو اسم "الرحمن" جل وعزّ، وما بقي منها فنحو هذا.
وقالوا أن قوله: {كهيعص} كاف هاد عالم صادق، فاظهر من كل اسم منها حرفًا ليستدل به عليها، فهذا يدل على أن الوجه الأول لا يكون إلا وله معنى؛ لأنه يريد معنى الحروف، ولم ينصبوا من هذه الحروف شيئا غير ما ذكرت لك، لأن {الم} و{طسم} و{كهيعص} ليست مثل شيء من الأسماء، وإنما هي حروف مقطعة.
وقال: {الم * اللّه لا إله إلاّ هو} فالميم مفتوحة؛ لأنها لقيها حرف ساكن، فلم يكن من حركتها بد، فإن قيل: "فهلا حركت بالجر؟" فإن هذا لا يلزم فيها و إنما أرادوا الحركة، فإذا حركوها بأي حركة كانت فقد وصلوا إلى الكلام بها، ولو كانت كسرت لجاز، ولا أعلمها إلا لغة.
وقال بعضهم: فتحوا الحروف التي للهجاء إذا لقيها الساكن ليفصلوا بينها وبين غيرها، وقالوا: منَ الرجل؟، ففتحوا لاجتماع الساكنين، ويقولون: "هل الرجل" و"بل الرجل"، وليس بين هذين وبين "من الرجل" فرق إلا أنهم قد فتحوا "من الرجل" لئلا تجتمع كسرتان، وكسروا {إذ الظّالمون} وقد اجتمعت كسرتان؛ لأن من أكثر استعمالاً في كلامهم من "إذ"، فأدخلوها الفتح ليخف عليهم، وإن شئت قلت "الم" حروف منفصل بعضها من بعض؛ لأنه ليس فيها حرف عطف، وهي أيضاً منفصلة مما بعدها، فالأصل فيه أن تقول:{الم ألله} فتقطع ألف {الله} إذا كان ما قبله منفصلا منه كما قلت "واحد، اثنان" فقطعت، وكما قرأ القراء {ن والقلم} فبينوا النون لأنها منفصلة، ولو كانت غير منفصلة لم تبين إلا أن يلقاها أحد الحروف الستة ألا ترى أنك تقول "خذه من زيد" و "خذه من عمرو"، فتبين النون في "عمرو" ولا تبين في "زيد"، فلما كانت ميم ساكنة وبعدها حرف مقطوع مفتوح: جاز أن تحرك الميم بفتحة الألف، وتحذف الألف في لغة من قال: "من أبوك" فلا تقططع، وقد جعل قوم (نون) بمنزلة المدرج فقالوا {نون والقلم} فأثبتوا النون ولم يبينوها، وقالوا: {يس والقرآن} فلم يبينوا أيضاً، وليست هذه النون ههنا بمنزلة قول {كهيعص} و{طس تلك} و{حم عسق} فهذه النونات لا تبين في القراءة في قراءة أحد؛ لأن النون قريبة من الصاد؛ لأن الصاد والنون من مخرج طرف اللسان، وكذلك التاء والسين في {طس تلك} وفي {حم عسق}، فلذلك لم تبين النون إذ قربن منها، وتبينت النون في {يس} و{نون} لبعد النون من الواو؛ لأن النون بطرف اللسان والواو بالشفتين). [معاني القرآن: 1 / 15]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (الإعراب
الخبر الثالث عن إعراب مشكل سورة البقرة
{ألم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}، أما {الم}]، و{كهيعص} و{طسم} و{الر كتاب} وأشباه ذلك, فهذه حروف المعجم؛ والعرب تقف عليها حرفا حرفا, لتقطيعها وإبانة بعضها من بعض؛ ولم يدخلوا فيها الواو فيقولوا: ألف ولام وميم؛ لأنهم لم يريدوا الإدراج, وإنما أرادوا الوقف على كل حرف على حاله, فمن ثم لم يكن مثل: زيد وعمرو فيرفعون وينونون؛ لأن الذي بعد زيد خبر عنه؛ وليست هذه الحروف هكذا, إذا قال: ألف لام ميم, لم تكن اللام خبرا عن الألف؛ لأنها غيرها.
وكرهوا أن يعربوا وينونوا مع إرادتهم الإيجاز فيبطئوا, فلذلك أسكنوا, كما أسكنوا العدد في قولهم: واحد, إثنان بإسكان الدال وقطع الألف؛ وسمعنا العرب تقول: أحد إثنان فتسكن.
[زاد محمد بن صالح في روايته]:
وتميم تعرب فتقول: أحد اثنان ثلاثة أربعة, إلى العشرة, وقال بعض العرب: ثلاثة اربعة؛ فحرك هاء "ثلاثة" وألقى الحركة على الهاء, ولم يقلبها تاء.
وقال الراجز:
وبعضهم يقول: هذه لام ألف, بغير نون؛ ولام ألف رفع بنون.
[معاني القرآن لقطرب: 390]
وقالت العرب في لعب لها فأسكنت كما أسكنت هذه الحروف الأربعة: إحده, إثنه, إثله, إربه, إخمه, إسده, إسبع، إثمن, إتسع, عاشر.
[وزاد محمد بن صالح في روايته]:
ووجه آخر إن شئت قلت: {المص}, {الر كتاب} يكون "كتاب" خبرا عنه؛ كأنك قلت: هذه الحروف كتاب.
وأما {حم (1) والكتاب المبين} و{يس (1) والقرآن} وما جاء ليس بعده خبر, فيكون في هذا القول يضمر الخبر؛ كأنه قال: هذه {حم} و{يس}.
وأما تذكير هذه الحروف وتأنيثها: فالعرب تذكرها وتؤنثها؛ والتأنيث فيما كان علي حرفين أكثر منه في الثلاثة, نحو: الحاء والياء.
قال ذو الرمة:
تخط لامي ألف موصول ... والزاي والرا أيما تهليل
فذكر الألف.
وبعضهم يقول: الزاي, وأهل الحجاز-فيما زعم يونس- يمدونها فيقولون: هذه تاء وياء؛ وتميم تقصر فتقول [...]: الثا واليا والتا, وعليها قراءة الحسن "كهيعص"؛ وهي لغة مرغوب عنها, وسنذكرها إن شاء الله.
وزعم يونس: أنه سمع هذه التاء غير ممالة.
[معاني القرآن لقطرب: 391]
وأما معانيها:
فكان ابن عباس رحمه الله يقول: هي أسماء الله: كاف هاد يفاع عالم صادق في {كهيعص}، صيرها أوائل أسماء الله عز وجل.
وكان الحسن يقول: هي مفاتيح السور.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: هو اسم الله الأعظم، في الكتاب متفرق، فمن أحسن تأليفه أصاب اسم الله الأعظم، يعني {الم} و{المص} و{الر}.
وقال قتادة: اسم من أسماء الله.
وقال {ق} اسم من أسماء الله.
[معاني القرآن لقطرب: 392]
وكان ابن عباس أيضا يقول: { الم} أنا الله أعلم و{المر} أنا الله أعلم وأرى, و{الر} أنا الله أرى, و{المص} أنا الله أفصل .
وقال الشعبي: لم ينزل الله كتابا قط إلا له سر لا يعلمه الناس؛ وسر القرآن فواتحه.
وقال ابن عباس رحمه الله: {حم} قضي ما هو كائن.
وقال ابن عباس رحمه الله {ق} جبل أخضر من زمرد مطيف بالدنيا, فخضرة السماء منه.
[معاني القرآن لقطرب: 393]
وقال عكرمة وقتادة: اسم من أسماء الله عز وجل.
وقال بعض المفسرين في نون والقلم: نون الدواة.
وقال الحسن في { عسق}: العين: علم الله, والسين: سناء الله, والقاف: قدرة الله.
وعن الكلبي {يس}: يا إنسان, في لغة طيء, يعني النبي صلى الله عليه [وسلم].
وعن ابن عباس في {طه}: يا رجل في لغة السريانية.
[معاني القرآن لقطرب: 394]
قال أبو النجم فقصر "طه":
وقال بعض أهل العلم: هي حروف القرآن أقسم الله عز وجل بها, وذلك حسن.
وهو عند العرب افتتاح كلام كقولك: ألا إنك ذاهب.
وكان الحسن يقول: هي مفاتيح السور وأسماءها؛ فكأن ذلك يقرب من افتتاح الكلام في المعنى.
وهذه الأبيات شبيه بما ذكرنا قول الراجز:
[معاني القرآن لقطرب: 395]
وقال غيلان الراجز:
وقال الراجز:
وقال الآخر:
إن شئت يا سمرا أشرفنا معا ... دعا كلانا ربه فأسمعا
بالخير خيرات وإن شرا فئا ... ولا أريد الشر إلا أن تئا
قال أبو علي: وحكي عنهم في كلام: ألا تا, فقال الآخر: بلى فا؛ يريد: ألا ترحل, فقال: بلى فارحل.
وقال الآخر فأظهر الحرف كله:
قلنا لها قفي قالت قاف ... لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
فأظهر القاف كلها.
[معاني القرآن لقطرب: 396]
قال أبو علي: وقد حرك قوم هذه الحروف؛ كان عيسى ابن عمر يقول: "نونَ والقلم" و"صادَ والقرآن" فيفتح؛ كأنه شبه ذلك بـ: أين, وكيف لالتقاء الساكنين.
وكان عبد الله بن أبي إسحاق يكسر "نونِ والقلم" و"قافِ والقرآن"؛ كأنه حرك على مثل: اضرب الرجل, وخذ المال؛ لما التقى ساكنان؛ وقد فسرنا الوقف في أول هذا الباب .
وكان يونس يقول: هذه حاميم يا هذا, فيفتح.
وقال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها منا تقي ومعرب
وقال عبد الله بن مكعبر:
يذكرني حاميم والرمح دونه ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
ففتح أيضا؛ جعل حاميم مثل آمين؛ لأنها حرفان, فما كان على حرف [...].
[معاني القرآن لقطرب: 397]
على حرفين مثل: {طه} و{طس} و{يس} فإن القياس فيه أن يجوز فيه ما جاز في حاميم؛ لأنه على لفظ أسمائهم, مثل: حضر موت, وبعل بك؛ لأنهما اسمان ضم أحدهما إلى صاحبه.
وأما ما كان على ثلاثة أحرف فصاعدا مثل: {المص} و{الم} و{كهيعص} فهذه حكاية كلها ساكنة؛ لأنها قد طالت وخرجت من حد أسماءهم؛ لأنهم يصيرون شيئين كشيء واحد؛ فأما ثلاثة أشياء فلا يكون ذلك فيها.
وأما قوله عز وجل {الم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم} فإن الفتح في هذا لالتقاء الساكنين: الميم واللام؛ وجواز ذلك على شيئين:
أحدهما: أن يذهب إلى قراءة عيسى بن عمر, فيفتح عليها في قوله: "نون والقلم" "وصاد والقرآن ", كأن الفتح أصل له.
ويكون على لغة من قال: قل الحق, وبع الثوب, فيحرك بالفتح؛ وقد حكي لنا ذلك عن بعض العرب, وكذلك القول في كل ما التقي فيه [ساكنان] في القرآن إذا كانا من كلمتين, فالكسر أغلب وأكثر, إلا ما ذكرنا من لغة شاذة, وذلك {قم الليل إلا قليلا} و{خذ العفو}
[معاني القرآن لقطرب: 398]
{وقل الحق من ربكم} وإنما كسروا ليدلوا على أن حركته ليس بإعراب، وإنما هو لالتقاء الساكنين؛ إذ كان الجر لا يدخل الفعل لإعراب، وقد يدخله الرفع والنصب لإعراب فكسروه لذلك.
قال يونس: في المضموم: اقتل اقتل بكسر اللام، واقتل بضم اللام الأولى، {وقال اخرج} و{قل انظروا} ونعم ادخل؛ والكسر أيضا جائز.
وقالوا: "قم الليل" و"قل الحق" فأتبعوا الضمة الضمة، كما قالوا: منذ يومين، والأسود بن يعفر.
وقيس عامر وسليم وغيرهم إلا غطفان، وخزاعة وهذيل يضمون: أن اشكروا، و{أن اعبدوا}؛ وأسد يكسرون هذا كله). [معاني القرآن لقطرب: 399]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الم} فما أشبهها من " قاف" و" صاد " فواتح للسور). [غريب القرآن وتفسيره: 63]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الم} قد ذكرت تأويله وتأويل غيره من الحروف المقطعة في كتاب: «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 39]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله تبارك وتعالى: {الم}، زعم أبو عبيدة معمر بن المثنى أنّها -حروف الهجاء- افتتاح كلام، وكذلك: {المر} و {المص}، وزعم أبو الحسن الأخفش أنّها افتتاح كلام، ودليل ذلك أن الكلام الذي ذكر قبل السورة قد تم.
وزعم قطرب أن:{الم} و{المص} و{المر} و{كهيعص} و{ق} و{يس} و{نون} حروف المعجم ذكرت؛ لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي حروف أ. ب. ت. ث، فجاء بعضها مقطعاً وجاء تمامها مؤلفاً؛ ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها لا ريب فيه.
ويروى عن الشعبي أنه قال: للّه في كل كتاب سر، وسره في القرآن حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور.
ويروى عن ابن عباس ثلاثة أوجه في {الم} وما أشبهها، فوجه منها أنه قال: « أقسم اللّه بهذه الحروف أن هذا الكتاب الّذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: هو الكتاب الذي عنده، عزّ وجلّ لا شك فيه » ، والقول الثاني عنه أن: « {الر} و {حم} و {نون}اسم للرحمن عزّ وجلّ مقطع في اللفظ موصول في المعنى ».
والثالث عنه أنّه قال: « {الم} معناه: أنا اللّه أعلم، و{الر}معناه: أنا الله أرى، و{المص}معناه: أنا الله أعلم وأفصل، و{المر} معناه: أنا الله أعلم وأرى ».
فهذا جميع ما انتهى إلينا من قول أهل اللغة والنحويين في معنى {الم}، وجميع ما انتهى إلينا من أهل العلم بالتفسير.
ونقول في إعراب {الم} و {الر} و {كهيعص} وما أشبه هذه الحروف، هذا باب حروف التهجي، وهي: الألف والباء والتاء والثاء، وسائر ما في القرآن منها.
فإجماع النحويين أن هذه الحروف مبنية على الوقف لا تعرب، ومعنى قولنا "مبنية على الوقف" أنك تقدر أن تسكت على كل حرف منها، فالنطق: ألف، لام، ميم ذلك.
والدليل على أنك تقدر السكت عليها: جمعك بين ساكنين في قولك: (لام) وفي قولك (ميم).
والدّليل على أن حروف الهجاء مبنيّة على السكت كما بني العدد على السكت: أنك تقول فيها بالوقف مع الجمع بين ساكنين، كما تقول إذا عددت واحد، اثنان، ثلاثه، أربعه، ولولا أنك تقدر السكت لقلت: (ثلاثة) بالتاء كما تقول: ثلاثاً يا هذا، فتصير الهاء تاء مع التنوين واتصال الكلام.
وحقها من الإعراب أن تكون سواكن الأواخر، زعم سيبويه أنك أردت أن المعجم حروف يحكى بها ما في الأسماء المؤلفة من الحروف فجرى مجرى ما يحكى به نحو: «غاق» وغاق يا فتى، إنما حكى صوت الغراب.
والدليل أيضاً على أنها موقوفة قول الشاعر:
أقبلت من عند زياد كالخرف
تخطّ رجلاي بخط مختلف
تكتبان في الطريق لام ألف
كأنه قال: لام ألف، بسكون "لام" ولكنه ألقى حركة همزة " ألف" على الميم، ففتحها.
قال أبو إسحاق: وشرح هذه الحروف وتفسيرها: أنها ليست تجري مجرى الأسماء المتمكنة، والأفعال المضارعة التي يجب لها الإعراب، وإنما هي تقطيع الاسم المؤلف الذي لا يجب الإعراب فيه إلا مع كماله، فقولك "جعفر" لا يجب أن تعرب منه الجيم ولا العين ولا الفاء ولا الراء، دون تكميل الاسم، فإنما هي حكايات وضعت على هذه الحروف، فإن أجريتها مجرى الأسماء وحدثت عنها قلت: هذه كاف حسنة، وهذا كاف حسن.
وكذلك سائر حروف المعجم، فمن قال: هذه كاف أنث لمعنى الكلمة، ومن ذكر فلمعنى الحرف، والإعراب وقع فيها؛ لأنك تخرجها من باب الحكاية.
قال الشاعر:
كافا وميمين وسينا طاسما
وقال أيضاً:
كما بينت كاف تلوح وميمها
ذكر طاسماً؛ لأنه جعله صفة للسين، وجعل السين في معنى الحرف،
وقال: (تلوح)، فأنث الكاف، ذهب بها مذهب الكلمة، قال الشاعر -يهجو النحويين، وهو يزيد بن الحكم-:
إذا اجتمعوا على ألف وواو......وياء لاح بينهمو جدال
فأما إعراب (أبي جاد) و (هوز) و (حطي)، فزعم سيبويه أن هذه معروفات الاشتقاق في كلام العرب، وهي مصروفة، تقول: علمت أبا جاد وانتفعت بأبي جاد، وكذلك (هوز) تقول: نفعني (هوز)، وانتفعت بـ(هوز)، وكذلك (حطي)، وهن مصروفات منوّنات.
فأما (كلمون) و (سعفص) و (قريشيات)، فأعجميات، تقول: هذه كلمون يا هذا، وتعلمت كلمون، وانتفعت بكلمون، وكذلك (سعفص)، فأما قريشيات؛ فاسم للجمع مصروفة بسبب الألف والتاء تقول: هذه قريشيات يا هذا، وعجبت من قريشيات يا هذا.
ولقطرب قول آخر في {الم}: زعم أنه يجوز: لما لغا القوم في القرآن، فلم يتفهموه حين قالوا: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} أنزل ذكر هذه الحروف، فسكتوا لمّا سمعوا الحروف؛ طمعاً في الظفر بما يحبون؛ ليفهموا بعد الحروف القرآن وما فيه، فتكون الحجة عليهم أثبت إذا جحدوا بعد تفهم وتعلم.
قال أبو إسحاق: والذي أختاره من هذه الأقوال التي قيلت في قوله عزّ وجلّ {الم}: بعض ما يروى عن ابن عباس رحمة اللّه عليه.
وهو أن المعنى: {الم}: أنا اللّه أعلم، وأن كل حرف منها له تفسيره. والدليل على ذلك : أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها. قال الشاعر:
قلنا لها قفي قالت قاف.......لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف
فنطق بقاف فقط، يريد قالت: أقف.
وقال الشاعر أيضاً:
نادوهمو أن الجموا ألا تا......قالوا جميعا كلهم ألا فا
تفسيره: نادوهموا أن الجموا، ألا تركبون، قالوا جميعاً: ألا فاركبوا.
فإنما نطق بتاء وفاء كما نطق الأول بقاف.
وأنشد بعض أهل اللغة للقيم بن سعد بن مالك:
إن شئت أشرفنا كلانا فدعا.......اللّه ربا جهده فاسمعا
بالخير خيرات وإن شرا فآي.......ولا أريد الشر إلا أن تآء
وأنشد النحويون:
بالخير خيرات وإن شرا فا.....ز.ولا أريد الشر إلا إن تا
يريدون: إن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء.
أنشد جميع البصريين ذلك، فهذا الذي أختاره في هذه الحروف، واللّه أعلم بحقيقتها.
فأما {ص}؛ فقرأ الحسن: "صادِ والقرآن"، فكسر الدال، فقال أهل اللغة: معناه: صاد القرآن بعملك، أي: تعمّده، وسقطت الياء للأمر، ويجوز أن تكون كسرت الدال لالتقاء السّاكنين إذا نويت الوصل,، وكذلك قرأ عبد الله بن أبي إسحاق: "صاد والقرآن"، وقرأ أيضا "قاف والقرآن المجيد".
فالكسر في مذهب بن أبي إسحاق لالتقاء السّاكنين.
وقرأ عيسى بن عمر: "صادَ والقرآن" بفتح الدّال، وكذلك قرأ "نون والقلم " و" قاف والقرآن " بالفتح أيضًا، لالتقاء السّاكنين.
قال سيبويه: إذا ناديت أسحار، والأسحارّ اسم نبت -مشدد الراء-، قلت في ترخيمه: يا أسحارَ أقبل، ففتحت لالتقاء الساكنين كما اخترت الفتح في قولك: عضَّ يا فتى، فإتباع الفتحة الفتحة كإتباع الألف الفتحة، ويجوز: يا أسحارِ أقبل، فتكسر لالتقاء الساكنين.
وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز أن يكون "صاد" و"قاف" و"نون" أسماء للسور منصوبة إلا أنها لا تصرف كما لا تصرف جملة أسماء المؤنث.
والقول الأول أعني التقاء السّاكنين، والفتح والكسر من أجل التقائها أقيس؛ لأنه يزعم أنه ينصب هذه الأشياء كأنه قال: أذكر صاد.
وكذلك يجيز في {حم} و{طس} النصب و{ياسين} أيضاً على أنها أسماء للسور، ولو كان قرئ بها؛ لكان وجهه الفتح لالتقاء السّاكنين.
فأما {كهيعص} فلا تبين فيها النون مع الصاد في القراءة، وكذلك {حم * عسق} لا تبين فيها النون مع السين.
قال الأخفش وغيره من النحويين: لم تبين النون؛ لقرب مخرجها من السين والصاد.
فأما {نون * والقلم} فالقراءة فيها تبيين النون مع الواو التي في {والقلم} وبترك التبيين، إن شئت بينت وإن شئت لم تبيّن، فقلت "نون والقلم"؛ لأن النون بعدت قليلاً عن الواو.
وأما قوله عزّ وجلّ {الم اللّه}: ففي فتح الميم قولان:
أحدهما لجماعة من النحويين: وهو أن هذه الحروف مبنية على الوقف، فيجب بعدها قطع ألف الوصل، فيكون الأصل: "أ. ل. م. اللّه لا إله إلا هو"، ثم طرحت فتحة الهمزة على الميم، وسقطت الهمزة كما تقول: واحد. اثنان، وإن شئت قلت: واحدِ. اثنان فألقيت كسرة "اثنين" على الدال.
وقال قوم من النحويين: لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكن، فلا بد من فتحة الميم في: {الم اللّه} لالتقاء السّاكنين، يعني: الميم واللام والتي بعدها، وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره.
فأمّا من زعم أنه إنما ألقي حركة الهمزة فيجب أن يقرأ: {الم الله} وهذا لا أعلم أحداً قرأ به إلا ما ذكر عن الرؤاسي، فأما من رواه عن عاصم؛ فليس بصحيح الرواية.
وقال بعض النحويين: لو كانت محركة لالتقاء السّاكنين لكانت مكسورة، وهذا غلط، لو فعلنا في التقاء السّاكنين إذا كان الأول منهما ياء لوجب أن تقول: "كيف زيد وابن زيد" وهذا لا يجوز، وإنما وقع الفتح؛ لثقل الكسرة بعد الياء). [معاني القرآن: 1 / 55 -66]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (من ذلك قوله تعالى: {الم} اختلف أهل التفسير وأهل اللغة في معنى {الم} وما أشبهها .
قال: فحدثنا عبد الله بن إبراهيم البغدادي بالرملة، قال: حدثنا حفص بن عمر بن الصباح الرقي أبو عمرو، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شريك، عن عطاء، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله تعالى {الم}، قال: « أنا الله أعلم، {الر} أنا الله أرى، {المص} أنا الله أفصل ».
وروى أبو اليقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير مثله.
وشرح هذا القول: أن الألف تؤدي عن معنى "أنا"، واللام تؤدي عن اسم الله جل وعز، والميم تؤدي عن معنى "أعلم".
ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ويقول: أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى .
وحدثنا بكر بن سهل، قال: حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:« {المص} و{طه}و{طس} و{طسم} و{يس} و{ص} و{حم عسق} و{ق} و{ن والقلم} وأشباه هذا هو قسم أقسم الله به وهن من أسماء الله تعالى ».
وروى ابن علية، عن خالد الحذاء، عن عكرمة قال: « {الم} قسم».
وحدثنا أحمد بن محمد بن نافع، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى {الم}، قال: « اسم من أسماء القرآن».
وروي عن مجاهد قولان:
قال أبو عبيد: حدثنا أبو مهدي، عن سفيان، عن خصيف أو غيره: هكذا، قال: عن مجاهد، قال -في كله- : "هي فواتح السور" .
والقول الآخر: حدثنا به محمد بن جعفر الأنباري، قال: حدثني محمد بن بحر، قال: حدثنا موسى، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: « {الم}اسم من أسماء القرآن».
قال أبو العباس - وهو اختياره -: « روي عن بعض أهل السلف أنه قال: هي تنبيه ».
وقال أبو عبيده والأخفش: « هي افتتاح كلام ».
وقطرب يذهب إلى أنها جيء بها؛ لأنهم كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا {الم} و{المص} استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له، أقبل عليهم بالقرآن المؤلف، ليثبت في أسماعهم وآذانهم، ويقيم الحجة عليهم.
وقال الفراء: « المعنى: هذه الحروف يا محمد: ذلك الكتاب».
وقال أبو إسحاق: « ولو كان كما قال لوجب أن يكون بعده ابدأ ذلك الكتاب أو ما أشبهه ».
وهذه الأقوال يقرب بعضها من بعض؛ لأنه يجوز أن تكون أسماء للسورة، وفيها معنى التنبيه.
فأما القسم فلا يجوز؛ لعلة أوجبت ذلك من العربية.
وأبين هذه الأقوال: قول مجاهد الأول: « أنها فواتح السور»، وكذلك قول من قال: "هي تنبيه"، وقول من قال: "هي افتتاح كلام"، ولم يشرحوا ذلك بأكثر من هذا؛ لأنه ليس من مذهب الأوائل، وإنما باقي الكلام عنهم مجملاً، ثم تأوله أهل النظر على ما يوجبه المعنى.
ومعنى "افتتاح كلام" و"تنبيه": أنها بمنزلة "ها" في التنبيه و"يا" في النداء، والله تعالى أعلم بما أراد.
وقد توقف بعض العلماء عن الكلام فيها وأشكالها، حتى قال الشعبي: لله تعالى في كل كتاب سر، وسره في القرآن فواتح السور.
وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله تعالى بها). [معاني القرآن: 1/73-78]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الم}: وفواتح السور قد كثر الاختلاف في ذلك، فقيل: هي فواتح، وقيل: هي أحرف مأخوذة من أسماء الله تعالى، كالصاد من صادق، والعين من عليم ونحوه، وقيل: هي أقسام، وقيل: هي أسماء للسور، وقيل: هي مما لا يعلم تأويله إلا الله، وقيل: تنبيه، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: « {الم} الألف الله، واللام جبريل، والميم محمد ». روي ذلك عن عطاء والضحاك. وكل ما ذكرنا في تفسير أوائل السور عن ابن عباس؛ فهو مما رواه عنه عطاء والضحاك). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 23-24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الم}: أنا الله أعلم). [العمدة في غريب القرآن: 69]