قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (القول في تفسير {بسم الله الرحمن الرحيم}
روي عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه أنه قال: «البسملة تيجان السور».
وروي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: تعس الشيطان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذلك، فإنه يتعاظم عنده، ولكن قل: {بسم الله الرحمن الرحيم} فإنه يصغر حتى يصير أقل من ذباب».
وقال علي بن الحسين رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {وإذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفوراً} [الإسراء: 46] قال: «معناه إذا قلت: {بسم الله الرحمن الرحيم}».
وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «كيف تفتتح الصلاة يا جابر؟»، قلت: بـ{الحمد لله رب العالمين}. قال: «قل: {بسم الله الرحمن الرحيم}».
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل فعلمني الصلاة فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} يجهر بها».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان الحديثان يقتضيان أنها آية من الحمد، ويرد ذلك حديث أبي بن كعب الصحيح إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك ألا تخرج من المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها»، قال: فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك، فقال لي: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟» قال: فقرأت {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت على آخرها.
ويرده الحديث الصحيح بقوله عز وجل: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، يقول العبد: {الحمد لله رب العالمين}».
ويرده أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أبي بكر، ولا عن عمر، ولا عثمان، رضي الله عنهم أنهم قرؤوا في صلاتهم: {بسم الله الرحمن الرحيم}.
ويرده عدد آيات السورة لأن الإجماع أنها سبع آيات، إلا ما روي عن حسين الجعفي أنها ست آيات، وهذا شاذ لا يعول عليه، وكذلك روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل {إيّاك نعبد} [الفاتحة: 5] آية، فهي على عده ثماني آيات، وهذا أيضا شاذ.
وقول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} [الحجر: 87] هو الفصل في ذلك.
والشافعي- رحمه الله- يعد {بسم الله الرحمن الرحيم} آية من الحمد، وكثير من قراء مكة والكوفة لا يعدون {أنعمت عليهم} [الفاتحة: 7]. ومالك- رحمه الله-، وأبو حنيفة، وجمهور الفقهاء، والقراء، لا يعدون البسملة آية.
والذي يحتمله عندي حديث جابر، وأبي هريرة- إذا صحّا- أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قراءة جابر وحكايته أمر الصلاة قراءة في غير صلاة على جهة التعلم فأمره بالبسملة لهذا لا لأنها آية.
وكذلك في حديث أبي هريرة رآها قراءة تعليم، ولم يفعل ذلك مع أبيّ لأنه قصد تخصيص السورة ووسمها من الفضل بما لها، فلم يدخل معها ما ليس منها، وليس هذا القصد في حديث جابر وأبي هريرة، والله أعلم.
وقال ابن المبارك: «إن البسملة آية في كل سورة»، وهذا قول شاذ رد الناس عليه.
وروى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب «باسمك اللهم»، حتى أمر أن يكتب «بسم الله» فكتبها. فلما نزلت {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرّحمن} [الإسراء: 110] كتب: «بسم الله الرحمن». فلما نزلت: {إنّه من سليمان وإنّه بسم اللّه الرّحمن الرّحيم} [النمل: 30] كتبها.
وروى عمرو بن شرحبيل: أن جبريل أول ما جاء النبي عليه السلام قال له: «قل: {بسم الله الرحمن الرحيم}».
وروي عن ابن عباس: أن أول ما نزل به جبريل: «{بسم الله الرحمن الرحيم}».
وفي بعض طرق حديث خديجة وحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ورقة، أن جبريل قال للنبي عليهما السلام: «قل: {بسم الله الرحمن الرحيم}» فقالها: فقال: «اقرأ»، قال: «ما أنا بقارئ» = الحديث.
والبسملة تسعة عشر حرفا.
فقال بعض الناس: إن رواية بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم {عليها تسعة عشر} [المدثر: 30] إنما ترتب عددهم على حروف بسم الله الرحمن الرحيم، لكل حرف ملك، وهم يقولون في كل أفعالهم: {بسم الله الرحمن الرحيم} فمن هنالك هي قوتهم، وباسم الله استضلعوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه من ملح التفسير، وليست من متين العلم، وهي نظير قولهم في ليلة القدر: «إنها ليلة سبع وعشرين»، مراعاة للفظة هي في كلمات سورة {إنّا أنزلناه} [القدر: 1]، ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: «ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه»، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، قالوا: فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول».
والباء في: {بسم الله} متعلقة عند نحاة البصرة باسم تقديره: ابتداء مستقر أو ثابت بسم الله، وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره: ابتدأت بسم الله، فبسم الله في موضع رفع على مذهب البصريين، وفي موضع نصب على مذهب الكوفيين، كذا أطلق القول قوم،
والظاهر من مذهب سيبويه أن الباء متعلقة باسم كما تقدم، وبسم الله في موضع نصب تعلقا بثابت أو مستقر بمنزلة: في الدار من قولك زيد في الدار، وكسرت باء الجر ليناسب لفظها عملها، أو لكونها لا تدخل إلا على الأسماء فخصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء، أو ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما نحو الكاف في قول الأعشى:
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ....... كالطّعن يذهب فيه الزيت والفتل
وحذفت الألف من بسم الله في الخط اختصارا وتخفيفا لكثرة الاستعمال.
واختلف النحاة إذا كتب «باسم الرحمن وباسم القاهر» فقال الكسائي وسعيد الأخفش: «يحذف الألف». وقال يحيى بن زياد: «لا تحذف إلا مع بسم الله فقط، لأن الاستعمال إنما كثر فيه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فأما في غير اسم الله تعالى فلا خلاف في ثبوت الألف.
و"اسم" أصله سمو بكسر السين أو سمو بضمها، وهو عند البصريين مشتق من السمو. يقال: سما يسمو، فعلى هذا تضم السين في قولك سمو ويقال: سمي يسمى فعلى هذا تكسر، وحذفت الواو من سمو، وكسرت السين من سم، كما قال الشاعر:
باسم الذي في كلّ سورة سمه ....... ... ... ... ...
وسكنت السين من "بسم" اعتلالا على غير قياس، وإنما استدل على هذا الأصل الذي ذكرناه بقولهم في التصغير سمّي، وفي الجمع أسماء، وفي جمع الجمع أسامي.
وقال الكوفيون: أصل اسم وسم من السمة، وهي العلامة. لأن الاسم علامة لمن وضع له، وحذفت فاؤه اعتلالا على غير قياس، والتصغير والجمع المذكوران يردان هذا المذهب الكوفي. وأما المعنى فيه فجيد لولا ما يلزمهم من أن يقال في التصغير وسيم، وفي الجمع أوسام، لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. وقد ذكر بعض المفسرين في هذا الموضع الاسم والمسمى هل هما واحد؟
فقال الطبري رحمه الله: إنه ليس بموضع للمسألة، وأنحى في خطبته على المتكلمين في هذه المسألة ونحوها، ولكن بحسب ما قد تدوول القول فيها، فلنقل إن الاسم كزيد وأسد وفرس قد يرد في الكلام ويراد به الذات، كقولك زيد قائم والأسد شجاع، وقد يراد به التسمية ذاتها، كقولك أسد ثلاثة أحرف، ففي الأول يقال الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى، وفي الثاني لا يراد به المسمى.
ومن الورود الأول قولك: يا رحمن اغفر لي، وقوله تعالى: {الرّحمن * علّم القرآن} [الرحمن: 1-2] .
ومن الورود الثاني قولك: الرحمن وصف لله تعالى.
وأما اسم الذي هو ألف وسين وميم، فقد يجري في لغة العرب مجرى الذات. يقال: ذات، ونفس، واسم، وعين، بمعنى. وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى: {سبّح اسم ربّك الأعلى} [الأعلى: 1]، وقوله تعالى: {تبارك اسم ربّك ذي الجلال والإكرام} [الرحمن: 78]. وقوله تعالى: {ما تعبدون من دونه إلّا أسماءً سمّيتموها أنتم وآباؤكم} [يوسف: 40].
وعضدوا ذلك بقول لبيد:
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ....... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقالوا: إن لبيدا أراد التحية،
وقد يجري «اسم» في اللغة مجرى ذات العبارة، وهو الأكثر من استعمالها، فمنه قوله تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} [البقرة: 31] على أشهر التأويلات فيه.
ومنه قول النبي عليه السلام: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة»،
وعلى هذا النحو استعمل النحويون الاسم في تصريف أقوالهم فالذي يتنخل من هذا: أن الأسماء قد تجيء يراد بها ذوات المسميات، وفي هذا يقال الاسم هو المسمى، وقد تجيء يراد بها ذواتها نفسها لا مسمياتها.
ومر بي أن مالكا رحمه الله سئل عن الاسم أهو المسمى؟ فقال: «ليس به ولا هو غيره»، يريد دائما في كل موضع، وهذا موافق لما قلناه، والمكتوبة التي لفظها الله أبهر أسماء الله تعالى وأكثرها استعمالا، وهو المتقدم لسائرها في الأغلب، وإنما تجيء الأخر أوصافا، واختلف الناس في اشتقاقه، فقالت فرقة من أهل العلم: «هو اسم مرتجل، لا اشتقاق له من فعل، وإنما هو اسم موضوع له تبارك وتعالى، والألف واللام لازمة له لا لتعريف ولا لغيره، بل هكذا وضع الاسم». وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه مشتق من أله الرجل إذا عبد، وتأله إذا تنسك. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
لله در الغانيات المدّه ....... سبّحن واسترجعن من تألّهي
ومن ذلك قول الله تعالى: {ويذرك وآلهتك} [الأعراف: 127] على هذه القراءة فإن ابن عباس وغيره قال: «وعبادتك»، قالوا: فاسم الله مشتق من هذا الفعل، لأنه الذي يألهه كل خلق ويعبده، حكاه النقاش في صدر سورة آل عمران فإلاه فعال من هذا.
واختلف كيف تعلل (إله) حتى جاء (الله)، فقيل: حذفت الهمزة حذفا على غير قياس ودخلت الألف واللام للتعظيم على لاه، وقيل بل دخلتا على اله ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام فجاء اللاه ثم أدغمت اللام في اللام. وقيل إن أصل الكلمة لاه، وعليه دخلت الألف واللام، والأول أقوى.
وروي عن الخليل أن أصل إله ولاه وأن الهمزة مبدلة من واو كما هي في إشاح ووشاح وإسادة ووسادة، وقيل إن أصل الكلمة ولاه كما قال الخليل إلا أنها مأخوذة من وله الرجل إذا تحير، لأنه -تعالى- تتحير الألباب في حقائق صفاته، والفكر في المعرفة به، وحذفت الألف الأخيرة من «الله» لئلا يشكل بخط اللات، وقيل طرحت تخفيفا، وقيل هي لغة فاستعملت في الخط ومنها قول الشاعر ابن الأعرابي:
أقبل سيل جاء من أمر الله ....... يحرد حرد الجنّة المغلّة
والرحمن صفة مبالغة من الرحمة، ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان، وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر، وهي أبلغ من فعيل، وفعيل أبلغ من فاعل، لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك، والرحمن النهاية في الرحمة.
وقال بعض الناس: «الرحمن الرحيم» بمعنى واحد، كالندمان والنديم، وزعم أنهما من فعل واحد، ولكن أحدهما أبلغ من الآخر.
وأما المفسرون فعبروا عن «الرحمن الرحيم» بعبارات، فمنها أن العرزمي قال: «معناه: الرحمن بجميع خلقه في الأمطار، ونعم الحواس، والنعم العامة، الرحيم بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم».
ومنها أن أبا سعيد الخدري وابن مسعود رويا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة».
وقال أبو علي الفارسي: الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين، كما قال تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيماً} [الأحزاب: 43] وهذه كلها أقوال تتعاضد.
وقال عطاء الخراساني: «كان الرحمن فلما اختزل وسمي به مسيلمة الكذاب قال الله -سبحانه- لنفسه: «الرحمن الرحيم» فهذا الاقتران بين الصفتين ليس لأحد إلا لله تعالى» وهذا قول ضعيف، لأن {بسم الله الرحمن الرحيم} كان قبل أن ينجم أمر مسيلمة. وأيضا فتسمي مسيلمة بهذا لم يكن مما تأصل وثبت.
وقال قوم: إن العرب كانت لا تعرف لفظة الرحمن، ولا كانت في لغتها، واستدلوا على ذلك بقول العرب: {وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا} وهذا القول ضعيف، وإنما وقفت العرب على تعيين الإله الذي أمروا بالسجود له، لا على نفس اللفظة.
واختلف في وصل الرحيم بالحمد، فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الرحيم الحمد، تسكن الميم ويوقف عليها ويبتدأ بألف مقطوعة، وقرأ به قوم من الكوفيين،
وقرأ جمهور الناس الرحيم الحمد يعرب الرحيم بالخفض، وتوصل الألف من الحمد،
ومن شاء أن يقدر أنه أسكن الميم ثم لما وصل حركها للالتقاء ولم يعتد بألف الوصل فذلك سائغ، والأول أخصر.
وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ الرحيم الحمد بفتح الميم وصلة الألف كأنها سكنت الميم وقطعت الألف، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت، ولم ترو هذه قراءة عن أحد فيما علمت، وهذا هو نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى: {الم * اللّه}). [المحرر الوجيز: 1 /59-68]