العودة   جمهرة العلوم > جمهرة علوم القرآن الكريم > الإيمان بالقرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #2  
قديم 11 جمادى الأولى 1434هـ/22-03-2013م, 04:23 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

ذكر بدء إظهار المأمون القول بخلق القرآن وحمل الأمة على ذلك، وامتحان العلماء، وظهور مذهب الجهمية

قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (الحسين بن موسى: حدّثنا الحسين بن الفضل البجليّ، حدّثنا عبد العزيز بن يحيى المكّيّ، حدّثنا سليم بن مسلمٍ، عن ابن جريجٍ، عن عطاء، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم-: (لله عند إحداث كلّ بدعةٍ تكيد الإسلام وليٌّ يذبّ عن دينه)...، الحديث.
هذا موضوعٌ، ما رواه ابن جريجٍ.
كان النّاس أمّةً واحدةً، ودينهم قائماً في خلافة أبي بكرٍ وعمر.
فلمّا استشهد قفل باب الفتنة؛ عمر -رضي الله عنه- وانكسر الباب، قام رؤوس الشّرّ على الشّهيد عثمان حتّى ذبح صبراً، وتفرّقت الكلمة، وتمّت وقعة الجمل، ثمّ وقعة صفّين.
فظهرت الخوارج، وكفّرت سادة الصّحابة، ثمّ ظهرت الرّوافض والنّواصب.
وفي آخر زمن الصّحابة ظهرت القدريّة، ثمّ ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهميّة والمجسّمة بخراسان في أثناء عصر التّابعين مع ظهور السّنّة وأهلها إلى بعد المائتين، فظهر المأمون الخليفة - وكان ذكيّاً متكلّماً، له نظرٌ في المعقول - فاستجلب كتب الأوائل، وعرّب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخبّ ووضع، ورفعت الجهميّة والمعتزلة رؤوسها، بل والشّيعة، فإنّه كان كذلك.
وآل به الحال أن حمل الأمّة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء، فلم يمهل.
وهلك لعامه، وخلّى بعده شرّاً وبلاءً في الدّين، فإنّ الأمّة ما زالت على أنّ القرآن العظيم كلام الله -تعالى- ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتّى نبغ لهم القول بأنّه كلام الله مخلوقٌ مجعولٌ، وأنّه إنّما يضاف إلى الله -تعالى- إضافة تشريفٍ، كبيت الله، وناقة الله.
فأنكر ذلك العلماء.
ولم تكن الجهميّة يظهرون في دولة المهديّ والرّشيد والأمين، فلمّا ولي المأمون، كان منهم، وأظهر المقالة.
- روى: أحمد بن إبراهيم الدّورقيّ، عن محمّد بن نوحٍ: أنّ الرّشيد قال: بلغني أنّ بشر بن غياثٍ المريسيّ يقول: القرآن مخلوقٌ، فللّه عليّ إن أظفرني به، لأقتلنّه.
قال الدّورقيّ: وكان متوارياً أيّام الرّشيد، فلمّا مات الرّشيد، ظهر، ودعا إلى الضّلالة.
قلت: ثمّ إنّ المأمون نظر في الكلام، وناظر، وبقي متوقّفاً في الدّعاء إلى بدعته.
قال أبو الفرج بن الجوزيّ: خالطه قومٌ من المعتزلة، فحسّنوا له القول بخلق القرآن، وكان يتردّد ويراقب بقايا الشّيوخ، ثمّ قوي عزمه، وامتحن النّاس.).
[سير أعلام النبلاء: 11/ 235- 237]
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (أخبرنا المسلّم بن محمّدٍ في كتابه، أخبرنا أبو اليمن الكنديّ، أخبرنا أبو منصورٍ الشّيبانيّ، أخبرنا أبو بكرٍ الخطيب، أخبرنا أبو بكرٍ الحيريّ، أخبرنا أبو العبّاس الأصمّ، أخبرنا يحيى بن أبي طالبٍ، أخبرني الحسن بن شاذان الواسطيّ، حدّثني ابن عرعرة، حدّثني ابن أكثم، قال: قال لنا المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون، لأظهرت أنّ القرآن مخلوقٌ.
فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومن يزيد حتّى يتّقى؟
فقال: ويحك! إني أخاف إن أظهرته فيردّ عليّ، يختلف النّاس، وتكون فتنةٌ، وأنا أكره الفتنة.
فقال الرّجل: فأنا أخبر ذلك منه.
قال له: نعم.
فخرج إلى واسط، فجاء إلى يزيد، وقال: يا أبا خالدٍ، إنّ أمير المؤمنين يقرئك السّلام، ويقول لك: إنّي أريد أن أظهر خلق القرآن.
فقال: كذبت على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين لا يحمل النّاس على ما لا يعرفونه، فإن كنت صادقاً، فاقعد، فإذا اجتمع النّاس في المجلس، فقل.
قال: فلمّا أن كان الغد، اجتمعوا، فقام، فقال كمقالته.
فقال يزيد: كذبت على أمير المؤمنين، إنّه لا يحمل النّاس على ما لا يعرفونه وما لم يقل به أحدٌ.
قال: فقدم، وقال: يا أمير المؤمنين، كنت أعلم، وقصّ عليه.
قال: ويحك يلعب بك!!). [سير أعلام النبلاء: 11/237]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 06:46 AM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

ذكر شيء من محنة الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله

قال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ (ت: 265هـ) : (- ما ذكر من ورود كتاب المأمون في المحنة من طرسوس وبأشخاص أبي رحمه الله ومحمّد بن نوح رضي الله عنهما
سمعت أبا الفضل صالح قال: سمعت أبي يقول: لما أدخلنا على إسحاق بن إبراهيم للمحنة فقرئ عليه كتاب الّذي كان إليّ طرسوس فكان فيما قرئ علينا {ليس كمثله شيء} وهو خالق كل شيء، فقال أبي: فقلت: {وهو السّميع البصير} فقال بعض من حضر سله ما أراد بقوله {وهو السّميع البصير}
فقال أبي: فقلت: كما قال تبارك وتعالى.
وسمعت أبا الفضل يقول: ثمّ أمتحن القوم فوجه بمن امتنع إلى الحبس فأجاب القوم جميعًا غير أربعة: أبي رحمه الله، ومحمّد بن نوح، وعبيد الله بن عمر القواريري، والحسن بن حمّاد السجادة، ثمّ أجاب عبيد الله بن عمر والحسن بن حمّاد وبقي أبي ومحمّد بن نوح في الحبس فمكثا أيّامًا في الحبس ثمّ ورد كتاب من طرسوس بحملهما فحمل أبي ومحمّد بن نوح رحمة الله عليهما مقيدين زميلين اخرجا من بغداد فصرنا معهما إلى الانبار
فسأل أبو بكر الأحول أبي فقال له: يا أبا عبد الله إن عرضت على السّيف تجيب _
فقال: لا
قال أبي: فانطلق بنا حتّى دخلنا في الرحبة فلمّا دخلنا منها وذلك في جوف اللّيل وخرجنا من الرحبة عرض لنا رجل فقال: أيّكم احمد بن حنبل، فقيل له هذا فسلم على أبي ثمّ قال: يا هذا ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنّة هاهنا، ثمّ سلم وانصرف
فقلت: من هذا؟
فقيل: هذا رجل من ربيعة العرب يقول الشّعر في البادية يقال له جابر بن عامر.
فلمّا صرنا إلى أذنه ورحلنا منها وذلك في جوف اللّيل فتح لنا بابها لقينا رجل ونحن خارجون من الباب وهو داخل فقال البشرى فقد مات الرجل.
قال أبي وكنت ادعوا الله أنّي لا أراه.
فحدثني أبي قال: حدثنا معمر بن سليمان عن مرار بن سلمان عن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهن لا تدخل على السّلطان وان قلت آمره بطاعة الله، ولا تدخلن على امرأة وان قلت أعلمها كتاب الله، ولا تصغين سمعك لذي هواء فإنك لا تدري ما يعلق قلبك منه.
سمعت أبا الفضل يقول: فصار أبي ومحمّد بن نوح إلى طرسوس وجاء نعي المأمون من البذندون فردا في أقيادهما إلى الرقة وأخرجنا من الرقة في سفينة مع قوم محبسين فلمّا صارا بعانات توفّي محمّد بن نوح، وتقدم أبي فصلى عليه، ثمّ صار إلى بغداد وهو مقيّد فمكث بالياسرية أيّامًا ثمّ صير إلى الحبس في دار اكتريت عند دار عمارة ثمّ نقل بعد ذلك إلى حبس العامّة في درب الموصلية فمكث في السجن منذ اخذ وحمل إلى بغداد ضرب ودخل عليه ثمانية وعشرين شهرا.
قال أبي: فكنت أصلي بهم وأنا مقيّد.
فقال أبي إذا كان القيد لا تحجزه عن تمام الصّلاة فلأباس وكنت أرى بوران يحمل له في دورق ماء بارد فيذهب به إلى السجن.
- ذكر محنة أبي إسحاق المعتصم لأبي رحمة الله
سمعت أبا الفضل يقول: قال أبي رحمة الله: لما كان في شهر رمضان ليلة تسع عشرة خلت منه حولت من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم وأنا مقيّد بقيد واحد يوجه إليّ كل يوم رجلين سماهما أبي.
قال أبو الفضل: وهما أحمد بن رباح وأبو شعيب الحجام يكلماني ويناظراني فإذا أرادا الانصراف دعي بقيد فقيدت فمكثت على هذه الحال ثلاثة أيّام وصار في رجلي أربعة أقياد.
فقال لي أحدهما في بعض الأيّام في كلام دار وسألته عن علم الله، فقال: علم الله مخلوق.
قلت: يا كافر كفرت.
فقال لي الرّسول الّذي كان يحضر معهم من قبل إسحاق: هذا رسول أمير المؤمنين.
قال: فقلت إن هذا قد كفر وكان صاحبه الّذي يجيء معه خارج فلمّا دخل قلت إن هذا زعم أن علم الله مخلوق فنظر إليه كالمنكر عليه قال ثمّ انصرف
قال أبي: وأسماء الله في القرآن والقرآن من علم الله فمن زعم أن القران مخلوق فهو كافر ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر.
قال أبي: فلمّا كان ليلة الرّابعة بعد عشاء الأخرة وجه يعني المعتصم ببغا إلى إسحاق يأمره بحملي فأدخلت على إسحاق فقال لي: يا أحمد أنّها والله نفسك إنه قد حلف أن لا يقتلك بالسّيف وأن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشّمس أليس قال الله تعالى {إنّا جعلناه قرآنًا عربيا} أفيكون مجعولا إلّا مخلوقا.
قال أبي: فقلت فقد قال الله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} أفخلقهم، قال فقال اذهبوا به.
قال أبي: فأنزلت إلى شاطئ دجلة فاحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق
فقال بغا لمحمد الحارس بالفارسيّة: ما تريدون من هذا، قال: يريدون منه أن يقول القرآن مخلوق.
فقال: ما أعرف شيئا من هذا إلّا قول لا إله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله وقرابة أمير المؤمنين من النّبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبي: فلمّا صرنا إلى الشط أخرجت من الزورق وحملت على دابّة والأقياد عليّ وما معي أحد يمسكني فجعلت أكاد أخر على وجهي حتّى انتهى بي إلى الدّار فأدخلت ثمّ خرج بي إلى حجرة فصيرت في بيت منها وأغلق عليّ الباب، واقعد عليه رجل وذلك في جوف اللّيل وليس في البيت سراج فاحتجت إلى الضّوء فمددت يدي أطلب شيئا فإذا بإناء فيه ماء وطشت فتهيأت للصّلاة وقمت أصلي، فلمّا أصبحت جاءني الرّسول فأخذ بيدي فأدخلني الدّار وإذا هو جالس وابن أبي دؤاد حاضر وقد جمع أصحابه والدّار غاصة بأهلها فلمّا دنوت منه سلمت: فقال أدنه أدنه فلم يزل يدنيني حتّى قربت منه ثمّ قال لي اجلس فجلست وقد أثقلتني الأقياد فلمّا مكثت هنيهة قلت: تأذن في الكلام.
قال: تكلم، قلت: إلى ما دعا إليه رسوله
قال: إلى شهادة أن لا اله إلّا الله
قال: ثمّ قلت إن جدك ابن عبّاس حكى أن وفد عبد القيس لما قدموا على النّبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان باللّه تعالى فقال: أتدرون ما الإيمان، قالوا: الله ورسوله أعلم
قال: شهادة أن لا اله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله واقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم
حدثنا أبو الفضل قال: حدثني أبي قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال: حدثني أبو حمزة قال: سمعت بن عبّاس رضي الله عنه قال: إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان فذكر مثل ذلك
قال أبو الفضل قال أبي: فقال لي عند ذلك لولا أنّي وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك، ثمّ التفت إلى عبد الرّحمن بن إسحاق فقال له: يا عبد الرّحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة.
قال أبي: فقلت في نفسي الله أكبر إن في هذا لفرجا للمسلمين، قال: ثمّ قال ناظروه وكلموه، ثمّ قال: يا عبد الرّحمن كلمه، فقال لي عبد الرّحمن: ما تقول في القرآن؟
قلت: ما تقول في علم الله. قال: فسكت.
قال أبي: فجعل يكلمني هذا وهذا فأرد على هذا ثمّ أقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به ذلك
فيقول لي بن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلّا كما في كتاب الله أو سنة رسوله
قال: فقلت له تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت ما يحبس عليه ويقيد عليه
قال فقال ابن أبي دؤاد: فهو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع يا أمير المؤمنين وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم
قال فيقول لهم: ما تقولون
فيقولون: يا أمير المؤمنون هو ضال مضل مبتدع
قال: فلا يزالون يكلموني
وقال: وجعل صوتي يعلو على أصواتهم، فقال لي إنسان منهم: قال الله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} فيكون محدثا إلّا مخلوقا.
قلت له: قال الله تعالى {ص والقرآن ذي الذّكر} فالذكر هو القرآن ويلك أو ليس فيها لا ألف ولا لام
قال فجعل بن سمّاعة لا يفهم ما أقول.
قال فجعل يقول لهم ما يقول، قال فقالوا إنه يقول كذا وكذا، قال فقال لي إنسان منهم: حديث خباب: (يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت فانك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه)
قال: فقلت نعم هكذا هو
قال: فجعل بن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظا عليه
قال أبي: فقال بعضهم: أليس قال خالق كل شيء
قال: قلت قد قال تدمر كل شيء فدمرت ألا ما أراد الله.
وقال: فقال لي بعضهم فيما يقول وذكر حديث عمران بن حصين: أن الله تبارك وتعالى كتب الذّكر، فقال: إن الله خلق الذّكر
قال: فقلت هذا خطأ حدثنا غير واحد كتب الذّكر
قال أبي: فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد يتكلّم فلمّا قارب الزّوال قال لهم قوموا ثمّ حبس عبد الرّحمن بن إسحاق فخلا بي وبعبد الرّحمن فجعل يقول لي أما كنت تعرف صالح الرّشيديّ كان مؤدبي وكان في هذا الموضع جالس وأشار إلى ناحية من الدّار قال فتكلم وذكر القرآن فخالفني فأمرت به فسحب ووطئ، قال أبي ثمّ جعل يقول لي ما أعرفك ألم تكن تأتينا _
فقال له عبد الرّحمن: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك وهو ملازم لمنزله
قال: فجعل يقول والله إنه لفقيه وإنه لعالم وممّا يسرني أن يكون مثله معي يرد عني أهل الملل ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي ولا وطأن عقبة ولا ركبن إليه بجندي
قال: ثمّ التفت إليّ فيقول ويحك يا أحمد ما ما تقول؟
قال: فأقول يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة ورسوله، فلمّا طال بنا المجلس ضجر فقام فرددت إلى الموضع الّذي كنت فيه ثمّ وجه إليّ برجلين سماهما وهما صاحب الشّافعي وغسان من أصحاب ابن أبي دؤاد يناظراني فيقيمان معي حتّى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام فجعلا يأكلان وجعلت أتعلل حتّى رفع المائدة وأقاما إلى غد وفي خلال ذلك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين ما تقول _
فأقول له: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتّى أقول به، فقال لي بن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في الشّيعة فمحوته ولقد ساءني أخذهم إياك وإنه والله ليس هو السّيف إنه ضرب بعد ضرب ثمّ يقول لي ما تقول فأرد عليه نحوا ثمّ يأتي رسوله فيقول أين أحمد بن عمار _ أجب للرجل الّذي أنزلت في حجرته فيذهب ثمّ يعود فيقول يقول لك أمير المؤمنين ما تقول _ فأرد عليه نحوا ممّا رددت على ابن أبي دؤاد فلا يزال رسله تأتي قال أحمد بن عمار وهو يختلف فيما بيني وبينه ويقول يقول أمير المؤمنين أجبني حتّى اجيء فأطلق عنك بيدي
قال فلمّا كان في اليوم الثّاني أدخلت عليه.
فقال: ناظروه كلموه
قال: فجعلوا يتكلّمون هذا من ها هنا وهذا من ها هنا فأرد على هذا وهذا فإذا جاؤوا بشيء من الكلام ممّا ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فيه خبر ولا أثر قلت ما أدري ما هذا _
فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجّهت عليه الحجّة علينا وثب وإذا كلمناه بشيء يقول لا أدري ما هذا _
قال: فيقول ناظروه
قال: ثمّ يقول يا أحمد إنّي عليك شفيق
فقال رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله
قال: فقلت له ما تقول في قول الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين}
فقال: خص الله بها المؤمنين
قال: فقلت له ما تقول إن كان قاتل أو كان قاتلا عبدا يهوديّ أو نصرانيّ
قال: فسكت
قال أبي: وإنما احتججت عليه بهذا لأنهم كانوا يحتجون عليّ بظاهر القرآن وبقوله أراك تنتحل الحديث
وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي داود فيقول يا أمير أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إليّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار فيعيد ما شاء الله من ذلك ثمّ أمرهم بعد ذلك بالقيام وخلى بي وبعبد الرّحمن فيدور بيننا كلام كثير وفي خلال ذلك يقول لي تدعو حمد بن أبي دؤاد فأقول ذلك إليك فيوجه إليه فيجيء فيتكلم فلمّا طال بنا المجلس قام ورددت إلى الموضع الّذي كنت فيه وجاءني الرّجلان اللّذان كانا عندي بالأمس فجعلا يتكلمان فدار بيننا كلام كثير فلمّا كان وقت الإفطار جيء بطعام على نحو ممّا أتى به في أول ليلة فافطر وتعللت وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه ويأتيني برسالته على نحو ممّا كان أول ليلة وجاءني ابن أبي دؤاد فقال إنه قد حلف أن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشّمس.
فقلت له: فما أصنع
حتّى إذا كدت أن اصبح قلت لخليق أن يحدث من أمري في هذا اليوم شيء وقد كنت أخرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد احملها بها إذا توجّهت إليه فقلت لبعض من كان مع الموكلين ارتدّ لي خيطا فجاءني بخيط فشددت الأقياد وأعدت التكة في السّراويل ولبسته كراهية أن يحدث شيئا من أمري فاتعرى فلمّا كان في اليوم الثّالث أدخلت عليه والقوم حضور فجعلت أدخل من دار إلى دار وقوم معهم السيوف وقوم معهم السّياط وغير ذلك من الزي والسّلاح وقد حشرت الدّار الجند ولم يكن في اليومين الماضيين كثير أحد من هؤلاء
حتّى إذا صرت إليه قال: ناظروه كلموه، فعادوا بمثل مناظرتهم ودار بيننا كلام كثير حتّى إذا كان في الوقت الّذي يخلو فيه فجاءني ثمّ اجتمعوا فشاورهم ومن ثمّ نحاهم ودعاني فخلا بي وبعبد الرّحمن فقال لي: ويحل يا أحمد أنا عليك والله شفيق وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني فأجبني،
فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلمّا ضجر وطال المجلس قال لي: عليك لعنة الله لقد كنت طمعت فيك خذوه فاسحبوه
قال: فأخذت وسحبت ثمّ خلعت ثمّ قال العقابين والسياط فجيء بالعقابين والسياط
قال أبي: وقد كان صار إلى شعرة أو شعرتان من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم فصررتهما كم قميصي فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي فوجه إليّ ما هذا مصر ورنى كمك
فقلت: شعر من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم وسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين العقابين
فقال لهم: يعني المعتصم - لا تحرقوه انزعوه عنه
قال: إنّي ظننت أنه درئ عن القميص الحرق بسبب الشّعر الّذي كان فيه ثمّ صيرت بين العقابين وشددت يدي وجيء بكرسي فجلس عليه وابن أبي دؤاد قام على رأسه والنّاس أجمعون قيام ممّن حضر، فقال له إنسان ممّن شدني: خذ بأيّ الخشبتين بيدك وشد عليهما فلم أفهم ما قال فتخالفت يداي لما شدت ولم أمسك الخشبتين.
قال أبو الفضل ولم يزل أبي رحمة الله عليه يتوجع منهما إلى أن توفّي.
ثمّ قال للجلادين: تقدموا فنظر إلى السّياط، فقال ائتوا بغيرها ثمّ قال لهم تقدموا
فقال لأحدهم: أدنه اوجع قطع الله يدك
فتقدم فضربني سوطين ثمّ تنحى ثمّ قال لآخر أدنه أوجع شدّ قطع الله يدك ثمّ تقدم فضربني سوطين ثمّ تنحى
فلم يزل يدعو واحدًا بعد واحد يضربني سوطين ويتنحى ثمّ قام حتّى جاءني وهم محدقون به
فقال: ويحك يا أحمد تقتل نفسك
ويحك أجبني حتّى أطلق عنك بيدي
فجعل بعضهم يقول لي ويلك أمامك على رأسك قائم
قال لي عجيف فنخسني بقائم سيفه ويقول: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وجعل إسحاق ابن إبراهيم يقول ويحك الخليفة على رأسك قائم
قال ثمّ يقول بعضهم يا أمير المؤمنين دمه في عنقي قال ثمّ رجع فجلس على الكرسيّ ثمّ قال للجلاد أدنه شدّ قطع الله يدك.
ثمّ لم يزل يدعو بجلاد بعد جلاد فيضربني بسوطين ويتنحى وهو يقول شدّ قطع الله يدك
ثمّ قام إلى الثّانية فجعل يقول: يا أحمد أجبني ،فجعل عبد الرّحمن بن إسحاق يقول من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت هذا يحيى بن معين وهذا أبو خيثمة وابن أبي إسرائيل وجعل يعد على من أجاب
قال وجعل وهو يقول ويحك أجبني
قال: فجعلت أقول نحو ما كنت أقول لهم
قال فرجع فجلس ثمّ جعل يقول للجلاد شدّ قطع الله يدك
قال أبي فذهب عقلي فما عقلت إلّا وأنا في حجرة مطلق عني الأقياد وقال لي إنسان ممّن حضر أنا اكببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك
قال أبي: فقلت ما شعرت بذاك
قال: فجاؤني بسويق فقالوا اشرب فقلت لا أفطر فجيء به إلى دار إسحاق بن إبراهيم
قال أبي: فنودي بصلاة الظّهر فصلينا الظّهر
وقال ابن سمّاعة: صليت والدّم يسيل من ضربك
فقلت: به صلى عمر وجرحه يثغب دمًا فسكت.
ثمّ خلى عنة فصار إلى المنزل ووجه إليه الرجل من السجن ممّن يبصر الضّرب والجراحات يعالج منه فنظر إليه فقال: قال لنا والله لقد رأيت منه ضرب السيوط ما رأيت ضربا أشد من هذا لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه ثمّ أدخل ميلًا في بعض تلك الجراحات
فقال: لم ينفل فجعل يأتيه فيعالجه وقد كان أصاب وجهه غير ضربة ثمّ مكث يعالجه ما شاء الله، ثمّ قال له: إن هذا شيء أريد أن أقطعه فجاء بحديدة فجعل يعلق اللّحم بها ويقطعه بسكين معه وهو صابر يحمد الله لذلك فبرأ منه ولم يزل يتوجع من مواضع منه وكان أثر الضّرب بين في ظهره إلى أن توفّي رحمة الله علية.
سمعت أبي يقول والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ولوددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا عليّ ولا لي
قال أبو الفضل أخبرني أحد الرجلين اللّذين كانا معه وقد كان هذا الرجل صاحب حديث قد سمع ونظر ثمّ جاءني بعد فقال: يا ابن أخي رحمة الله على أبي عبد الله والله ما رأيت أحدا - يعني - يشبهه
لقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا الطّعام: يا أبا عبد الله أنت صائم وأنت في موضع تقية ولقد عطش فقال لصاحب الشّراب ناولني فناوله قدحا فيه ماء ثلج فأخذه فنظر إليه هنيهة ثمّ رده عليه
قال فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وما هو فيه من الهول.
قال أبو الفضل قد كنت التمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا أو رغيفين في هذه الأيّام فلم أقدر على ذلك
وأخبرني رجل حضره قال: فقدته في هذه الأيّام الثّلاثة وهم يناظرونه ويكلمونه فما لحن ولا ظننت أن يكون أحد في مثل شجاعته وشدّة قلبه. قال أبو الفضل دخلت على أبي - رحمة الله عليه - يومًا وقلت له بلغني أن رجلا جاء إلى فضل الأنماطي
فقال اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك فقال فضل لا جعلت أحدا في حل، فتبسّم أبي وسكت فلمّا كان بعد أيّام مررت بهذه الآية: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم قال: حدثنا المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي الله تبارك وتعالى يوم القيامة نودوا ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلّا من عفا في الدّنيا
قال أبي: فجعلت الميّت في حل من ضربه إيّاي ثمّ جعل يقول وما على رجل إلّا يعذب الله بسببه أحدا.). [سيرة الإمام أحمد: 49- 65]
قال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ (ت: 265هـ) : (باب ذكر خروج أبي عبد الله في المرة الأولى إلى سومراى وأشخاص المتوكل
له
أخبرنا المخلدي قال حدثنا عبد الله الاسفرايني قال سمعت أبا الفضل يقول وجه المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بحمل أبي إلى المعسكر قال فوجه إسحاق إلى أبي فقال أن أمير المؤمنين قد كتب إليّ يأمرني باشخاصك إليه فتأهب إليه لذلك
قال أبي فقال لي إسحاق بن إبراهيم اجعلني في حل
فقلت: قد جعلتك وكل من حضر في حل
قال أبي فقال لي إسحاق أسالك عن القران مسألة مسترشد لا مسالة امتحان وليكن ذلك عندك مستورا ما نقول في القرآن
قال أبي: فقلت القران كلام الله ليس بمخلوق
قال فقل لي من أين قلت غير مخلوق _ قال أبي: فقلت له قال الله تبارك وتعالى {ألّا له الخلق والأمر} مفرق بين الخلق والأمر.
فقال إسحاق الأمر مخلوق
فقال أبي: فقلت له يا إسحاق إن الله يخلق خلقا
فقال أبي فقال لي وعمن تحكي إنّه ليس بمخلوق، قال: فقلت جعفر بن محمّد قال ليس بخالق ولا مخلوق
قال فسكت
قال أبي فلمّا كانت اللّيلة الثّانية وجه إليّ ما تقول في الخروج _
قال فقلت ذلك إليك
فقال الّذي حكيت هو عن محمّد بن الحنفيّة
فقلت لا حكيت عن جعفر بن محمّد عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، قال فسكت
قال أبو الفضل ثمّ اخرج أبي حتّى إذا صرنا بموضع يقال بصرى بات أبي في مسجد ونحن معه فلمّا كان في جوف اللّيل
جاء النيسأبوري فقال يقول لك الأمير ارجع
فقلت له يا أبه أرجو أن يكون فيه خيرا
فقال لم أزل اللّيلة أدعو الله
وكتب المتوكل إلى إسحاق يأمره أن يسأل عن المطبوخ _ فوجه إليه إسحاق فكب إليه إنّما جاء في الحديث ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه
تمّ الجزء الأول والحمد لله وحده ويتلوه الجزء الثّاني.). [سيرة الإمام أحمد: 84- 86]
قال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ (ت: 265هـ) : (- باب ذكر خروج أبي عبد الله في المرة الأولى إلى سومراى وأشخاص المتوكل له
الجزء الثّاني
باب ذكر ورود كتاب المتوكل إلى عبد الله بن إسحاق في سبب العلوي الّذي طلبه
أخبرنا الأستاذ الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرّحمن الصّابوني رضي الله عنه قراءة عليه قدم علينا دمشق في رجب سنة اثنين وثلاثين وأربعمائة قال أخبرنا أبو محمّد الحسن بن أحمد المخلدي رضي الله عنه قال أخبرنا أبو بكر عبد الله الاسفرايني قال سمعت أبا الفضل صالح بن أحمد يقول:
لما توفّي إسحاق بن إبراهيم وولى ابنه محمّد بن عبد الله بن إسحاق كتب المتوكل إليه أن وجه إلى أحمد بن حنبل أن عندك طلبة أمير المؤمنين فوجهه بحاجبه مظفر وحضر صاحب البريد وكان يعرف بابن الكلبيّ وكتب إليه أيضا
قال مظفر يقول لك الأمير قد كتب إلى أمير المؤمنين أن عندك طلبته
وقال له ابن الكلبيّ مثل ذلك وكان قد نام النّاس فدق الباب وكان على أبي إزار ففتح لهم الباب وقعدوا على بابه ومعهم شيء فلمّا قرئ عليه الكتاب.
فقال لهم أبي: ما أعرف هذا وإني لارى طاعته في العسر واليسر والمنشط والمكره والاثرة
وإني لاسف عن تخلفي عن الصّلاة جماعة وعن حضور الجمعة ودعوة المسلمين
قال أبو الفضل وقد كان إسحاق بن إبراهيم وجه إلى أبي
إلزم بيتك ولا تخرج إلى جمعة ولا جماعة وإلّا نزل بك ما نزل بك في أيّام أبي إسحاق
قال ابن الكلبيّ قد أمرني أمير المؤمنين أن أحلفك ما عندك طلبة فتحلف
قال إن استحلفني حلفت _ فاحلفه باللّه وبالطلاق أن ما عندك طلبة أمير المؤمنين وكأنّهم أومأوا إليّ أن عنده علويا ثمّ قال له أريد أن أفتش منزلك _
قال أبو الفضل وكنت حاضرا فقال ومنزل ابنك
فقام مظفر وابن الكلبيّ وامرأتان معهما فدفلا ففتّشا البيت ثمّ فتشتا المرأتان النّساء.
وقال أبو الفضل ثمّ دخلوا إلى منزلي ففتشوا الحريم ثمّ خرجوا
فلمّا كان بعد يومين ورد كتاب عليّ بن الجهم أن أمير المؤمنين قد صحّ عنده براءتك ممّا قذفت به وقد كان أهل البدع قد مدوا أعينهم فالحمد لله الّذي لم يشمتهم بك وقد وجه إليك أمير المؤمنين بيعقوب المعروف بقوصرة ومعه جائزة ويأمرك بالخروج فالله الله أن تستعفي أو ترد المال.
باب ذكر ورود كتاب المتوكل إلى أبي ومعه الجائزة وبأشخاصه إلى المعسكر
قال أبو الفضل ثمّ ورد من الغد يعقوب قوصرة فدخل إلى أبي فقال له يا أبا عبد الله أمير المؤمنين يقرأ عليك السّلام ويقول قد صحّ عندنا نقاء ساحتك وقد أحببت أن اسر بقربك وأتبرك بدعائك وقد وجهت إليك عشرة الآف درهم معونة على سفرك، وأخرج بدرة فيها صرة نحو مائتي دينار والباقي دراهم صحاح فلم ينظر إليها ثمّ شدها يعقوب وقال له أعود غدا حتّى انظر ما تعزم عليه _ وقال له يا أبا عبد الله الحمد لله الّذي لم يشمت بك أهل البدع وانصرف فجئت بإجانة خضراء أكبها على البدرة فلمّا كان عند المغرب قال: يا صالح خذ هذه الصرة عندك، فصيرتها عند رأسي فوق البيت فلمّا كان سحرًا إذ هو ينادي يا صالح فقمت فصعدت إليه
فقال: يا صالح ما نمت ليلتي هذه _
فقلت له يا أبه لم _ فجعل يبكي وقال: سلمت من هؤلاء حتّى إذا كان في أخر عمري بليت بهم وقد عزمت على أن تفرق هذا الشّيء إذا أصبحت، فقلت ذلك إليك فلمّا اصبح جاءه الحسن بن البزّار فقال: يا صالح جئني بميزان وجهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار ثمّ قال وجه إلى فلان حتّى يفرق في ناحيته وإلى فلان فلم يزل حتّى فرقها كلها ونفض الكيس ونحن في حالة الله بها عليم فجاءني ابن لي فقال له يا ابه أعطني درهما فنظر إليّ فأخرجت قطعة أعطيته فكتب صاحب البريد انه تصدق بالدّراهم من يومه حتّى تصدق بالكيس، قال عليّ بن الجهم فقلت يا أمير المؤمنين قد تصدق بها وعلم النّاس أنه قد قبل منك ما يصنع أحمد بالمال _ وانما قوته رغيف
قال فقال لي صدقت يا عليّ.
باب مسير أبي عبد الله العسكر
قال أبو الفضل ثمّ أخرج أبي رحمه الله ليلًا ومعنا حراس معهم النفاطات فلمّا أصبح وأضاء الفجر قال لي: يا صالح معك دراهم، قلت: نعم قال: أعطهم _ فأعطيتهم درهما درهما فلمّا أصبحنا جعل يعقوب يسير معه فقال له يا أبا عبد الله ابن الثّلجي بلغني أنه كان يذكرك
فقال له: يا أبا يوسف سل الله العافية
فقال له يا أبا عبد الله أريد أن أودي عنك فيه رسالة إلى أمير المؤمنين فسكت
فقال له إن عبد الله بن إسحاق أخبرني أن الوابصى قال له أنّي اشهد عليه أنه قال إن أحمد يعبد ماني.
فقال: يا أبا يوسف يكفي الله.
فغضب يعقوب فالتفت إليّ فقال ما رأيت أعجب ممّا نحن فيه أسأله أن يطلق لي كلمة أخبر أمير المؤمنين فلا يفعل.
قال أبو الفضل وقصر أبي الصّلاة في خروجه إلى العسكر وقال تقصر الصّلاة في أربعة برد وهي ستّة عشر فرسخا فصليت يومًا به العصر فقال لي طولت بنا العصر تقرأ في الرّكعة مقدار خمسة عشرة آية وكنت أصلي به في العسكر.
قال أبو الفضل فلمّا صرنا بين الحائطين قال لنا يعقوب أقيموا ثمّ وجه إلى المتوكل بما عمل فدخلنا العسكر وأبي منكس الرّأس ورأسه مغطى فقال له يعقوب اكشف رأسك يا أبا عبد الله فكشفه ثمّ جاء وصيف يريد الدّار فلمّا نظر إلى النّاس وجمعهم قال ما هؤلاء _ قالوا أحمد بن حنبل.
فوجه إليه بعد ما جاز بيحيى بن هرثمة فقال يقرئك الأمير يقرئك السّلام ويقول الحمد لله الّذي لم يشمت بك أهل البدع قد علمت ما كان من حال ابن أبي دؤاد فينبغي أن تتكلّم بما يجب لله ومضى يحيى.
باب مقام أبي عبد الله في العسكر
قال أبو الفضل انزل أبي دار ايتاخ فجاء عليّ بن الجهم فقال قد أمر لكم أمير المؤمنين بعشرة الآف مكان الّتي فرقها وأمر أن لا يعلم شيخكم بذلك فيغتم ثمّ جاءه محمّد بن معاوية فقال إن أمير المؤمنين بكثر ذكرك ويقول تقيم ها هنا تحدث.
فقال أنا ضعيف ثمّ وضع أصبعه على بعض أسنانه فقال إن بعض أسناني يتحرّك وما أخبرت بذلك ولدي.
ثمّ وجه إليه فقال ما تقول في بهيمتين انتطحتا فعقرت إحداهما الأخرى فسقطت فذبحت.
فقال: إن كان أطرف بعينه ومصع بذنبه وسال دمه يؤكل.
قال أبو الفضل ثمّ صار إليه يحيى بن خاقان فقال يا أبا عبد الله قد أمر أمير المؤمنين أن أصير إليك لتركب إلى أبي عبد الله ثمّ قال لي امرني أن قطع له سوادا وطليسانا وقلنسوة فأي قلنسوة تلبس؟
فقلت له ما رأيته لبس قلنسوة قطّ فقال له إن أمير المؤمنين قد أمر أن يصير لك مرتبة في أعلى المراتب، ويصير أبو عبد الله في حجرك ثمّ قال قد أمرني أمير المؤمنين أن يجري عليكم وعلى قرأباتك أربعة الآف درهم تفرقها عليهم ثمّ أعاد يحيى من الغد فقال يا أبا عبد الله تركب _
قال ذاك إليكم فقال أستخير الله فلبس إزاره وخفيه وقد كان خفه قد أتى عنده نحو من خمسة عشر سنة قد رقع برقاع عدّة
فأشار يحيى إلى أن يلبس قلنسوة
فقال كيف يدخل عليه حاسرا ويحيى قائم فطلبنا له دابّة يركبها فقال يحيي يصلّي فجلس على التّراب وقال {منها خلقناكم وفيها نعيدكم} ثمّ ركب بغل بعض التّجّار فمضينا معه حتّى أدخل دار المعتز فاجلس في بيت الدهليز ثمّ جاء يحيي فأخذ بيده حتّى أدخله ورفع لنا السّتر ونحن ننظر، وكان المعتز قاعدا على دكان في الدّار وكان قد تقدم يحيى إليه فقال لا تمد يدك إليه فلمّا صعد الدّكان قعد فقال له يحيى يا أبا عبد الله إن أمير المؤمنين جاء ليأنس بقربك يصير أبا عبد الله في حجرك.
فأخبرني بعض الخدم أن المتوكل كان قاعدا وراء ستر فلمّا دخل الدّار قال لامه يا أمّاه قد أنارت الدّار
ثمّ جاء خادم بمناديل فأخذ يحيى المنديل وأخرج منه مبطنه فيها قميص فأدخل يده في جيب القميص والمبطنة ثمّ أخذ بيد أبي فأقامه ثمّ أدخل القميص والمبطنة في راسة ثمّ أدخل يده اليمنى وكذلك اليسار وهو لا يحرك يده ثمّ أخذ قلنسوة فوضعها على رأسه والبسه طيلسانا ولحفه به ولم يجيئوا بخف فبقي الخف عليه ثمّ انصرف وكانوا قد تحدثوا أنه لا يخلع عليه السواد فلمّا صار إلى الدّار نزع الثّياب عنه ثمّ جعل يبكي ثمّ قال: سلمت من هؤلاء منذ ستّين سنة حتّى إذا كان اخر عمري بليت بهم ما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام فكيف بمن يجب عليّ نصحه من وقت يقع عيني عليه إلى أن أخرج من عنده _
ثمّ قال يا صالح وجه بهذه الثّياب إلى بغداد يباع ويتصدّق بثمنها ولا يشتري أحد منكم منها شيئا.
قال أبو الفضل فوجهت بها إلى يعقوب بن بحتان فباعها وفرق ثمنها وبقيت عندي القلنسوة ثمّ أخبرنا الدّار الّتي هو فيها ايتاخ فقال اكتب رقعة إلى محمّد بن الجراح لتعفي لي من هذه الدّار فكتبنا رقعة فأمر المتوكل أن يعفى منها ووجه إلى قوم ليخرجوا منازلهم فسأل أن يعفى من ذلك واكتريت له دار بمائتي درهم فصار إليها وأجرى لنا مائدة وثلج وضرب الحنيش فلمّا رأى الحنيش والطبري نحى نفسه عن ذلك الموضع وألقى نفسه على مضربة له واشتكت عينه وبرئت قال ألا تعجب كان عيني تشتكي فمكث حين حتّى يبرا ثمّ قد برئت في سرعة وجعل يواصل يفطر في كل ثلاث على تمر وسويق فمكث بذلك خمس عشر يفطر في كل ثلاث ثمّ جعل بعد ذلك يفطر ليلة وليلة لا يفطر إلّا على رغيف وكان إذا جىء بالمائدة توضع في الدهليز لكي لا يراها فيأكل من حضر وكان إذا أجهده الحر بل خرقة فيضعها على صدره وفي كل يوم يوجه المتوكل إليه بابن ماسويه فينظر إليه _ ويقول له يا أبا عبد الله أنا أميل إليك وإلى أصحابك وما بك علّة إلّا الضعف وقلة الدّد.
فقال له ابن ماسويه أنا امرنا عبادنا بأكل دهن الخلّ فانه يلين وجعل يجيئه بالشّيء ليشربه فيصبه.
وقطع له يحيى دراعة وطليسانا سوادا، وجعل يعقوب وعتاب يصيران إليه فيقولان له يقول لك أمير المؤمنين ما تقول في ابن دؤاد في ماله _ فلا يجيب في ذلك، وجعل يعقوب وعتاب يخبرانه بما يحدث من أمر ابن أبي دؤاد في كل يوم ثمّ انحدر ابن أبي دؤاد إلى بغداد فاشهد عليه ببيع ضياعة، وكان ربما صار إليه يحيى بن خاقان وهو يصلّي فيجلس في الدهليز حتّى يفرغ، ويجىء عليّ بن الجهم فينزع سيفه وقلنسوته ويدخل عليه وأمر المتوكل أن يشتري لنا دارا،
فقال: يا صالح قلت لبيك لئن أقررت لهم بشراء دار ليكون القطيعة بيني وبينكم إنّما تريدون أن تصيروا هذا البلد لي مأوى ومسكنا _
فلم يزل يدفع شراء الدّار حتّى اندفع وصار إلى صاحب المنزل فقال أعطيك كل شهر ثلاثة آلاف مكان المائدة _ فقلت لا افعل
وجعلت رسل المتوكل تأتيه يسألونه عن خبره فيصيرون إليه ويقولون له هو ضعيف وفي خلال ذلك يقولون يا أبا عبد الله لا بد من أن يراك فيسكت فإذا خرجوا قال: ألّا تعجب من قوله لا بد من أن يراك وما عليهم من أن يراني _
وكان في هذه الدّار حجرة صغيرة فيها بيتان فقال: أدخلوني تلك الحجرة ولا تسرجوا سراجًا، فأدخلناه إليها فجاءه يعقوب فقال يا أبا عبد الله أمير المؤمنين مشتاق إليك ويقول:
انظر إلى اليوم الّذي تصير إليه فيه أي يوم هو حتّى أعرفه _ فقال: ذاك إليكم، فقال يوم الأربعاء يوم خال وخرج يعقوب فلمّا كان الغد جاء فقال البشرى يا أبا عبد الله أمير المؤمنين يقرأ عليك السّلام ويقول قد أعفيتك من لبس السواد والرّكوب إلى والي ولاة العهود وإلى الدّار فان شئت فالبس القطن وان شئت فالبس الصّوف فجعل يحمد الله على ذلك د
وقال له يعقوب إن لي ابنا وأنا معجب وله في قلبي موقع فأحب أن تحدثه بأحاديث فسكت
فلمّا خرج قال: أتراه لا يرى ما أنا فيه
قال أبو الفضل كان أبي يختم من جمعة إلى جمعة فإذ ختم دعا فيدعو ونؤمن على دعائه فلمّا كان غداة الجمعة وجه إليّ وإلى أخي عبد الله فلمّا أن ختم جعل يدعو ونؤمن على دعائه فلمّا فرغ جعل يقول أستخير الله مرارًا فجعلت أقول ما تريد _
ثمّ قال إنّي أعطي الله عهدا أن العهد كان مسئولا وقد قال الله عز وجل {يا أيها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود} إنّي لا أحدث حديثا تاما حتّى ألقى الله ولا استثني منكم أحدا، فخرجنا وجاء عليّ بن الجهم فقلنا له فقال إنّا لله وإنّا إليه راجعون فأخبر المتوكل بذلك
وقال: إنّما يريدون أن أحدث فيكون هذا البلد حبسي وإنّما كان سبب الّذين أقاموا بهذا البلد لما أعطوا فقبلوا وأمروا فحدثوا وكان يخيرونه فيتوجّه لذلك وجعل يقول والله لقد تمنيت الموت في الأمر الّذي كان وإنّي لأتمنى الموت في هذا وذاك إن هذا فتنة الدّنيا وكان ذاك فتنة الدّين ثمّ جعل يضم أصابع يده ويقول لو كانت نفسي في يدي لأرسلتها ثمّ يفتح أصابعه، وكان المتوكل يوجه إليه في كل وقت يسأل عن حاله وكان في خلال ذلك يؤمر لنا بالمال فيقول يوصل إليهم ولا يعلم شيخهم فيغتم ما يريد منهم إن كان هؤلاء يريدون الدّنيا فما يمنعهم
وقال للمتوكل إنّه - كان - لا يأكل من طعامك ولا يجلس على فرشك ويحرم الّذي تشرب فقال لهم لو نشر لي المعتصم لم أقبل منه.
باب خطاب أبي عبد الله إليّ بعدم الخروج إليه
قال أبو الفضل ثمّ إنّي انحدرت إلى بغداد وخلفت عبد الله عنده فإذا عبد الله قد قدم وجاء بثيابي الّتي كانت عنده فقلت ما جاء بك قال: قال لي انحدر وقال لصالح لا تخرج فأنتم كنتم افتي والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أخرجت منكم واحدًا معي لولا مكانكم لمن كان توضع هذه المائدة ولمن كان يفرش هذا الفرش ويجري هذا الإجراء
قال أبو الفضل فكتبت إليه أعلمه بما قال لي عبد الله فكتب إليّ بخطّه
بسم الله الرّحمن الرّحيم
أحسن الله عاقبتك ودفع عنك كل مكروه ومحذور الّذي حملني على الكتاب إليك والّذي قلت لعبد الله لا يأتيني أحدا وربما ينقطع ذكري ونحمل فإنّكم إذا كنتم ها هنا فشا ذكري وكان يجتمع إليك قوم ينقلون أخبارنا ولم يكن إلّا خيرا
وأعلم يا بني إن أقمت فلا تأت أنت ولا أخوك فهو رضائي فلا تجعل في نفسك إلّا خيرا والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال أبو الفضل ثمّ ورد إليّ كتاب آخر يذكر فيه:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
أحسن الله عاقبتك ودفع عنك السوء برحمته كتأبي إليك وأنا في نعمة من الله متظاهرة أسأله إتمامها والعون على أداء شكرها قد انفكت عنها عقدة لما كان حبس من ها هنا لما أعطوه فقبلوا وأجرى عليهم فصاروا في الحد الّذي صاروا إليه وحدثوا ودخلوا عليهم فهذه كانت قيودهم فنسأل الله أن يعيذنا من شرهم ويخلصنا فقد كان ينبغي لكم لو قربتموني بأموالكم وأهاليكم فهان ذلك عليكم للّذي أنا فيه فلا يكبر عليك ما أكتب به إليكم فالزموا بيوتكم فلعلّ الله تعالى أن يخلصني والسّلام عليكم ورحمة الله
ثمّ ورد غير كتاب إليّ بخطّه بنحو من هذا فلمّا خرجنا من المعسكر رفعت المائدة والفرش وكل ما كان أقيم لنا.
باب وصيّة أبي عبد الله رحمه الله
قال أبو الفضل وأوصى وصيته بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما أوصى به أحمد بن محمّد بن حنبل أوصى أنه يشهد أن لا اله إلّا الله وحده لا شريك له وان محمّدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدّين كله ولو كره المشركون
وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين ويحمدوه في الحامدين وان ينصحوا لجماعة المسلمين
وأوصى أنّي قد رضيت باللّه ربًّا وبالإسلام دينا وبمحمّدٍ صلى الله عليه وسلم نبيا
وأوصى أن لعبد الله بن محمّد المعروف ببوران على نحو من خمسين دينارا وهو مصدق فيما قال فيقضى ماله عليّ من غلّة الدّار إن شاء الله فإذا استوفى أعطى ولدي صالح وعبد الله إبنا احمد بن محمّد ابن حنبل كل ذكر وأنثى عشرة دراهم بعد وفاء ما عليّ لابن محمّد
شهد أبو يوسف وصالح وعبد الله ابنا أحمد بن محمّد بن حنبل.
باب ذكر إذن أمير المؤمنين لأبي عبد الله رحمه الله بالعودة
قال أبو الفضل ثمّ سال أبي أن يحول من الدّار الّتي اكتريت له فاكترى هو دارا وتحول إليها فسأل المتوكل عنه فقيل إنه عليل فقال كنت احب أن يكون في قربي وقد أذنت له يا عبيد الله احمل إليه ألف دينارا ينفقها وقال لسعيد تهيىء له حراقة ينحدر فيها
فجاءه عليّ بن الجهم في جوف اللّيل فأخبره ثمّ جاء عبيد الله ومعه ألف دينار فقال إن أمير المؤمنين قد أذن لك وقد أمر لك بهذه الألف دينار فقال قد أعفاني أمير المؤمنين ممّا اكره فردها وقال أنا رقيق على البرد والبر أرفق بي
فكتب إليّ محمّد بن عبد الله في بره وتعاهده.
باب ذكر ما جرى بين أبي وبيني وعبد الله وعمه حين قبلنا صلة السّلطان
فقدم علينا فيما بين الظّهر والعصر فلمّا انحدر إلى بغداد ومكث قليلا قال لي: يا صالح قلت لبيك قال أحب أن تدع هذا الرزق فلا تأخذه ولا توكل فيه أحدا فقد علمت أنكم إنّما تأخذونه بسببي فسكت
فقال: مالك، فقلت: اكره أن أعطيك شيئا بلساني وأخالف الى غيره فأكون قد كذبتك ونافقتك وليس في القوم أكثر عيالا مني ولا اعذر وقد كنت أشكو إليك فتقول أمرك منعقد بأمري ولعلّ الله أن يحل هذه العقدة، ثمّ قلت له وقد كنت تدعو لي فأرجوا أن يكون الله قد استجاب لك
قال: ولا تفعل، قلت لا
قال: قم فعل الله بك وفعل فأمر بسد الباب بيني وبينه
فتلقاني عبد الله فسألني فأخبرته فقال: ما أقول
قلت: ذاك إليك، فقال له مثل ما قال لي، فقال: لا افعل
فكان منه إليه نحو ما كان منه إليّ فلقينا عمه فقال لو أردتم أن تقولوا له وما علمه إذا أخذتم شيئا فدخل عليه فقال يا أبا عبد الله لست آخذ شيئا من هذا.
فقال: الحمد لله وهجرنا وسد الأبواب بيننا وبينه وتحامى منزلنا أن يدخل منه إلى منزله شيء
قال أبو الفضل فلمّا مضى نحو من شهرين كتب لنا بشيء فجيء به إلينا فأول من جاء عمه فأخذ فأخبر فجاء إلى الباب الّذي كان سده بيني وبينه وقد كان فتح الصّبيان كوّة، فقال: ادعوا لي صالحا
فجاء الرّسول وقلت له أجيء فوجه إليّ لم لا تجيء _ فقلت قل له هذا الرزق يرتزقه جماعة كثيرة وانما أنا واحد منهم وليس فيهم أعذر مني وإذا كان توبيخ خصصت به أنا فمضى فلمّا نادى عمه بالأذان خرج فلمّا خرج قيل لي انه قد خرج إلى المسجد فجئت حتّى صرت في موضع أسمع فيه كلامه فلمّا فرغ من الصّلاة التفت إلى عمه، ثمّ قال له نافقتني وكذبتني وكان غيرك أعذر منك زعمت أنك لا تأخذ من هذا شيئا ثمّ أخذته وأنت تستغل مائتي درهم وعمدت إلى طريق المسلمين تستغله إنّما أنا أشفق عليك أن تطوق يوم القيامة بسبع أرضين أخذت هذا الشّيء بغير حقه.
فقال _ قد تصدّقت، قال تصدّقت بنصف درهم
ثمّ هجره وترى الصّلاة في المسجد وخرج إلى مسجد خارج يصلّي فيه.
قال صالح وحدثني أبي قال: حدثنا عبد الله بن محمّد قال سمعت شيخنا يحدث قال استعمل بعض أمراء البصرة عبد الله بن محمّد بن واسع على الشرطة فآتاه محمّد بن واسع فقيل للأمير محمّد الباب، فقال المقوّم ظنّوا به فقال بعضهم جاء يشكر للأمير استعمل ابنه
فقال: لا ولكنه جاء يطلب لابنه الإعفاء أو قال العافية
قال فأذن له فلمّا دخل قال: أيها الأمير بلغني انك استعملت ابني واني احب أن تسترنا يسترك لله، قال قد أعفيناه يا أبا عبد الله.
قال أبو الفضل ثمّ كتب لنا بشيء فبلغه فجاء إلى الكوة الّتي في الباب فقال: يا صالح انظر ما كان للحسن عليّ فاذهب به إلى بوران حتّى يتصدّق به في الموضع الّذي اخذ منه، فقلت وما علم بوران من أي موضع اخذ هذا _ فقال: افعل ما أقول لك، فوجهت بما كان أصابهما إلى بوران وكان إذا بلغه أنا قبضنا شيئا طوى تلك اللّيلة فلم يفطر ثمّ مكث اشهرا لا ادخل إليه ثمّ فتح الصّبيان الباب _ ودخلوا غير أنه لا يدخل إليه من منزلي شيء ثمّ وجهت إليه:
يا أبت قد طال هذا الأمر وقد اشتقت إليك فسكت فدخلت فأكببت عليه وقلت له يا أبت تدخل على نفسك هذا الغم فقال: يا بني يأتيني مالا أملكه، ثمّ مكثنا مدّة لم تأخذ شيئا ثمّ كتب لنا بشيء فقبضناها فلمّا بلغه هجرنا أشهرا فكلمه بوران ووجه إلى بوران فدخلت فقال له: يا أبا عبد الله صالح يرضيك الله.
فقال: يا أبا محمّد والله لقد كان أعز الخلق عليّ وأي شيء أردت له ما أردت له إلّا ما أردت لنفسي
فقلت له: يا أبت ومن رأيت أنت أو من لقيت قوى على ما قويت أنت عليه
قال: وتحتج عليّ.
قال أبو الفضل ثمّ كتب أبي رحمه الله إلى يحيى بن خاقان يسأله ويعزم عليه أن لا يعيننا على شيء من أرزاقنا ولا يتكلّم فيه فبلغني فوجهت إلى القيم لنا وهو ابن غالب بن بنت معاوية بن عمرو وقد كنت قلت له يا أبت انه يكبر عليك وقد عزمت إذا حدث أمر أخبرتك به فلمّا وصل رسوله بالكتاب إلى يحيى أخذه من صاحب الخبر قال فأخذت نسخته ووصلت إلى المتوكل فقال لعبد الله كم من شهر لولد أحمد بن حنبل _
فقال عشرة أشهر قال تحمل السّاعة إليهم أربعون ألف درهم من بيت المال صحاحا ولا يعلم بها
فقال يحيى للقيم أنا أكتب إلى صالح واعلمه فورد عليّ كتابه فوجهت إلى أبي أعلمه فقال الّذي أخبره أنه سكت قليلا وضرب بذقنه ساعة ثمّ رفع رأسه فقال ما حيلتي إذا أردت أمرا وأراد الله أمر.
قال أبو الفضل وجاء رسول المتوكل إلى أبي يقول لو سلم أحد من النّاس سلمت رفع رجل إلى وقت كذا أن علويا قدم من خراسان وأنّك وجهت إليه بمن يلقاه وقد حبست الرجل وأردت ضربه وكرهت أن تغتم فمر فيه
فقال: هذا باطل تخلى سبيله
قال وكان رسول المتوكل يأتي أبي يبلغه السّلام ويسأله عن حاله فنسر نحن بذلك فتأخذه نفضة حتّى ندثره ويقول: والله لو أن نفسي في يدي لأرسلتها ويضم أصابعه ويفتحها.). [سيرة الإمام أحمد: 87- 115]
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( - وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون، قال: أخبرني عليّ بن أحمد أبو غالبٍ، قال: حدّثني محمّد بن يوسف المروزيّ المعروف بابن سريّة، قال: دخلت على أبي عبد اللّه والجبائر على ظهره، قال لي: يا أبا جعفرٍ أشاط القوم بدمي، فقالوا له -يعني المعتصم-: يا أمير المؤمنين سله عن القرآن، أشيءٌ هو أو غير شيءٍ؟ قال: فقال لي المعتصم: يا أحمد أجبهم.
قال: فقلت له: " يا أمير المؤمنين إنّ هؤلاء لا علم لهم بالقرآن، ولا بالنّاسخ والمنسوخ، ولا بالعامّ والخاصّ، قد قال اللّه عزّ وجلّ في قصّة موسى {وكتبنا له في الألواح من كلّ شيءٍ} [الأعراف: 145]، فما كتب له القرآن
وقال في قصّة سبأٍ {وأوتيت من كلّ شيءٍ} [النمل: 23] وما أوتيت القرآن، فأخرسوا.). [الإبانة الكبرى: 6/ 257-258] (م)

قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( - حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الشّيرجيّ الخصيب، قال: حدّثنا أبو بكرٍ محمّد بن الحجّاج المرّوذيّ، قال: قال لي أبو عبد اللّه: «مكثت ثلاثة أيّامٍ يناظرونني» .
قلت: فكان يدخل إليك بالطّعام؟
قال: «لا» .
قلت: فكنت تأكل شيئًا؟
قال: «مكثت يومين لا أطعم، ومكثت يومين لا أشرب، ومكثت ثلاثة أيّامٍ يناظرونني بين يديه، يعني الرّأس أبا إسحاق، وقد جمعوا عليّ نحوًا من خمسين بصريًّا وغير ذلك يعني من المناظرين، وفيهم الشّافعيّ الأعمى»،
فقلت له: كلّهم يناظرونك باللّيل؟
قال: " نعم كلّ ليلةٍ، وكان فيهم الغلام غسّان، يعني قاضي الكوفة، وقال: إنّما كان الأمر أمر ابن أبي دؤادٍ "،
قلت له: كانوا كلّهم يكلّمونك؟
قال: " نعم، هذا يتكلّم من هاهنا، وهذا يحتجّ من هاهنا، وهذا يتأوّل على آيةٍ وعجيفٌ عن يمينه، وإسحاق عن يساره قائمٌ، ونحن بين يديه، يعني أبا إسحاق، فسألني غير مرّةٍ، فقلت: أوجدني في كتابٍ أو سنّةٍ، فقال لي إسحاق وعجيفٌ: وأنت لا تقول إلّا ما كان في كتابٍ أو سنّةٍ؟، قلت لهم: ناظروني في الفقه أو في العلم، فقال عجيفٌ: أنت وحدك تريد أن تغلب هؤلاء الخلق كلّهم، ولزّني بقائمة سيفه، وأشار أبو عبد اللّه إلى عنقه يريني بيده هكذا، ثمّ قال إسحاق بن إبراهيم: وأنت لا تقول إلّا ما كان في كتابٍ أو سنّةٍ، ولكزني بقائمة سيفه، وأومأ أبو عبد اللّه إلى حلقه "
قلت: فكان أبو إسحاق يتكلّم؟
قال: " لا، إلّا ساكتٌ، إنّما كان الأمر أمر ابن أبي دؤادٍ، ثمّ قال أبو عبد اللّه: «لم يكن فيهم أحدٌ أرقّ عليّ من أبي إسحاق مع أنّه لم يكن فيهم رشيدٌ»
قال: وسمعت أبا عبد اللّه يقول: " لمّا قلت: لا أتكلّم إلّا ما كان في كتابٍ أو سنّةٍ احتجّ الأعمى الشّافعيّ بحديث عمران بن حصينٍ «خلق اللّه الذّكر» . قال: فقلت له: هذا خطأٌ رواه الثّوريّ وأبو معاوية، وإنّما وهم فيه محمّد بن عبيدٍ، وقد نهيته أن يحدّث به.
قال: فقال أبو إسحاق: أراه فقيهًا.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن هارون، قال: وكتب إليّ أحمد بن الحسين الورّاق من الموصل قال: حدّثنا بكر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه، قال: " واجتمع عليّ خلقٌ من الخلق، وأنا بينهم مثل الأسير، وتلك القيود قد أثقلتني، قال: وكان يلغطون ويضحكون، وكلّ واحدٍ منهم ينزع آيةً، وآخر يجئ بحديثٍ قال: والرّئيس يسكتهم، قال: فكان هذا يقول شيئًا، وهذا يقول شيئًا، وهذا يقول شيئًا، فقال لي واحدٌ منهم: أليس يروى عن أبي السّليل، عن عبد اللّه بن رباحٍ، عن أبي كعبٍ؟
فقلت: «وأنت ما يدريك من أبو السّليل؟ ومن عبد اللّه بن رباحٍ؟ وما لك ولهذا؟» قال: فسكت وقال لي آخر: ما خلق اللّه من سماءٍ ولا أرضٍ أعظم من آية الكرسيّ.
فقلت: إنّما هذا مثلٌ فسكت. واحتجّ عليّ آخر بحديث الطّنافسيّ، عن الأعمش، عن جامع حديث عمران
بن حصينٍ أنّ اللّه خلق الذّكر.
فقلت: هذا وهم فيه يعني الطّنافسيّ، وأبو معاوية يقول: كتب اللّه الذّكر. قال: وكنت أصيح عليهم، وأرفع صوتي، وكان أهون عليّ من كذا وكذا، ذهب اللّه بالرّعب من قلبي، حتّى لم أكن أبالي بهم ولا أهابهم، فلمّا يئسوا منّي واجتمعوا عليّ، قال لي عبد الرّحمن: ما رأيت مثلك قطّ، من صنع ما صنعت؟
قلت له: القرآن، قد اجتمعت أنا وأنتم على أنّه كلام اللّه، وزعمتم أنّه مخلوقٌ، فهاتوه من كتابٍ أو سنّةٍ، فقال لي ابن أبي دؤادٍ: وأنت تجد في كلّ شيءٍ كتابًا وسنّةً؟ فلمّا يئس منّي قال: خذوه، وأدخل الأتراك أيديهم في أقيادي فجرّوني إلى موضعٍ بعيدٍ، وذكر قصّة الضّرب.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن هارون، قال: وأخبرنا أحمد بن محمّد بن عبد الحميد الكوفيّ، قال: سمعت عبيد بن محمّدٍ القصير، قال: سمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبلٍ، فقال له أبو إسحاق: يا أحمد إن كنت تخشى من هؤلاء النّابتة جئتك أنا في جيشي إلى بيتك حتّى أسمع منك الحديث؟ قال: فقال له: «يا أمير المؤمنين خذ في غير هذا واسأل عن العلم واسأل عن الفقه، أيّ شيءٍ تسأل عن هذا؟»
قال عبيد بن محمّدٍ: وسمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبلٍ قال: " التفت إليه المعتصم، فقال: تعرف هذا؟ قال: لا. قال تعرف هذا؟ قال: لا. فالتفت أحمد فوقعت عينه على ابن أبي دؤادٍ فحوّل وجهه، فكأنّما وقعت عينه على قردٍ، قال: تعرف هذا يعني: عبد الرّحمن؟ قال: نعم. قال: قل: اللّه ربّ القرآن؟ قال: القرآن كلام اللّه. قال: فشهد ابن سماعة وقتلته، فقالوا: قد كفر، اقتله ودمه في أعناقنا "
- وحدّثني أبي قال: حدّثنا أبو جعفر بن بدينا، أنّ صالح بن أحمد، حدّثهم قال: أخبرني رجلٌ حضره قال: «تفقّدته في هذه الأيّام الثّلاثة وهم يناظرونه ويكلّمونه، فما لحن في كلمةٍ، وما ظننت أنّ أحدًا يكون في شجاعته وشدّة قلبه»
- وحدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الشّيرجيّ، قال: حدّثنا أبو بكرٍ المرّوذيّ، قال: كان أبو عبد اللّه لا يلحن في الكلام، قال: " وأخبرت أنّه لمّا نوظر بين يدي الخليفة لم يتعلّق عليه بلحنٍ، حتّى حكي أنّه جعل يقول: فكيف أقول ما لم يقل؟ "
- قال أبو بكرٍ المرّوذيّ: وقال لي ابن أبي حسّان الورّاق: «طلب منّي أبو عبد اللّه وهو في السّجن كتاب حمزة في العربيّة، فدفعته إليه، فنظر فيه قبل أن يمتحن»
- أخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون، وأخبرنا محمّد بن عليٍّ السّمسار قال: " رأيت شيخًا قد جاء إلى أبي عبد اللّه وهو مريضٌ، فجعل يبكي وقال إنّه ممّن حضر ضربه، فلمّا خرج سمعته يقول: واللّه، لقد كلّمت ثلاثةً من الخلفاء ووطئت بسطهم ما هبتهم وما دخلني من الرّعب ما دخلني منه وهو مسجًّى، واللّه لقد رأيته يناظر وهو عالٍ عليهم قويّ القلب، والمعتصم يكلّمه ويقول: أجبني إلى ما أسألك، أو شيءٌ منه، فيقول: لا أقول إلّا ما في كتاب اللّه أو سنّة رسول اللّه، فيقول له: لا تقول: القرآن مخلوقٌ؟ فيقول له: وكيف أقول ما لم يقل؟ . "

قال الرّجل: فقلت لرجلٍ كان إلى جانبي: ما تراه ما يرهب ما هو فيه، ولا يلحن في مثل هذا الوقت، والسّياط والعقابين بين يديه، وليس في يده منه شيءٌ.
- حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الشّيرجيّ، قال: حدّثنا المرّوذيّ، قال: سمعت أبا عبد اللّه، يقول: «لمّا ضربت كانا جلّادين يضرب كلّ واحدٍ منهما سوطًا ويتنحّى ويضرب الآخر سوطًا ويتنحّى» . قلت: قام إليك أبو إسحاق مرّتين؟ قال: " أمّا مرّةً، فأحفظ أنّه خرج إلى الرّواق، وقال: خذوه، فأخذوا بضبعيّ وجرّوني نحوًا من مائة ذراعٍ إلى العقابين فخلّعوني، وأنا أجد ذلك في كتفيّ إلى السّاعة، وكان عليّ شعرٌ كثيرٌ، وانقطعت تكّتي، فقلت: الآن تسود، يعني: وهو بينهم، قلت: من ناولك خيطًا في ذلك الموضع؟ قال: لا أدري، فشددت سراويلي، وأخبرت أنّهم خلعوا القميص ولم يخرقوه، وكان في كمّه شعر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم "
- قال المرّوذيّ: وبلغني عن يعقوب الفرس، قال: سمعت عيسى الفتّاح، يقول: قال لي أبو عبد اللّه: «يا أبا موسى ما رأيت هؤلاء قطّ، كان أشدّ عليّ من تلفّت الجلّاد، ثمّ يثب عليّ»
- قال: وسمعت الفلّاس، يقول: سمعت عيسى الفتّاح، قال: قال لي أبو عبد اللّه: قال أبو إسحاق: «ما رأيت ابن أنثى أشجع من هذا الرّجل».).
[الإبانة الكبرى: 6/ 259-266] (م)
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( - وحدّثنا أبو إسحاق الشّيرجيّ، قال: حدّثنا المرّوذيّ، قال: حدّثنا أبو عمر المخرّميّ، قال: كنت مع سعيد بن منصورٍ ونحن في الطّواف، قال: فسمعت هاتفًا يقول: ضرب أحمد بن حنبلٍ اليوم بالسّياط؟ قال: فقال لي سعيدٌ: أوما سمعت أوسمعت؟ قلت: بلى. قال: يعني: سعيد بن منصورٍ: هذا من صالحي الجنّ أو من الملائكة، إن كان هذا حقًّا، فإنّ اليوم قد ضرب أحمد بن حنبلٍ، فقال: فنظرنا فإذا قد ضرب في ذلك اليوم "
قال أبو عبد اللّه: " لمّا ضربت امتلأت ثيابي بالدّماء، وكنت صائمًا، فجاءوا بسويقٍ فلم أشرب، وأتممت صومي، وكان بعض الجيران ثمّ حاضرًا، فأيّ شيءٍ نزل به - يعني: لمّا امتنع أبو عبد اللّه من شرب السّويق - لا أدري إسحاق بن إبراهيم أو غيره قال: وبلغني أنّه لم يدخل على أبي عبد اللّه طعامٌ في قصر إسحاق، وقد كان منع أن يدخل إليه، وقال: تأكل من طعامنا. قال أبو عبد اللّه: فمكثت يومين لا أطعم "
قال المرّوذيّ: فقال لي النّيسابوريّ صاحب إسحاق بن إبراهيم: قال لي الأمير: إذا جاؤوا بإفطاره فأرونيه قال: فجاءوا برغيفين وخبّازةٍ، قال: فأروه الأمير، فقال: هذا لا يجيبنا إذا كان هذا يقنعه.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون، قال: أخبرنا عبد اللّه بن أحمد، عن أبي عبد اللّه، وذكر قصّةً طويلةً قال: «وجعل أولئك يلقون المسائل» قال: قلت: " هذا ممّا لا أتكلّم فيه، لأنّه ليس في كتاب اللّه ولا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقلت لهم: «أيّ شيءٍ تقولون إذا دخلتم المسجد؟ وأيّ شيءٍ تقولون إذا خرجتم من المسجد؟» فسكتوا، قال: قلت: " يا أمير المؤمنين هؤلاء لا يدرون أيّ شيءٍ يقولون إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا، يسألون عن القرآن؟ أمر القرآن أعظم، وذكر كلامًا كثيرًا
.). [الإبانة الكبرى: 6/ 267-268] (م)
*************************************************
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (وبإسنادي إلى أبي إسماعيل الأنصاريّ: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا نصر بن أبي نصرٍ الطّوسيّ، سمعت عليّ بن أحمد بن خشيشٍ، سمعت أبا الحديد الصّوفيّ بمصر، عن أبيه، عن المزنيّ، يقول:أحمد بن حنبلٍ يوم المحنة، أبو بكرٍ يوم الرّدّة، وعمر يوم السّقيفة، وعثمان يوم الدّار، وعليٌّ يوم صفّين. ). [سير أعلام النبلاء: 11/ 201]

قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (وبالإسناد إلى الأنصاريّ شيخ الإسلام: أخبرنا أبو يعقوب، أخبرنا منصور بن عبد الله الذّهليّ، حدّثنا محمّد بن الحسن بن عليٍّ البخاريّ، سمعت محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ - وذكر أحمد بن حنبلٍ - فقال: هو عندي أفضل وأفقه من سفيان الثّوريّ؛ وذلك أنّ سفيان لم يمتحن بمثل ما امتحن به أحمد، ولا علم سفيان ومن يقدّم من فقهاء الأمصار كعلم أحمد بن حنبلٍ؛ لأنّه كان أجمع لها، وأبصر بأغاليطهم وصدوقهم وكذوبهم.
قال: ولقد بلغني عن بشر بن الحارث أنّه قال: قام أحمد مقام الأنبياء، وأحمد عندنا امتحن بالسّرّاء والضّرّاء، فكان فيهما معتصماً بالله.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 202]

قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (وعن عليّ بن شعيبٍ، قال: عندنا المثل الكائن في بني إسرائيل، من أنّ أحدهم كان يوضع المنشار على مفرق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه، ولولا أنّ أحمد قام بهذا الشّأن، لكان عاراً علينا أنّ قوماً سبكوا، فلم يخرج منهم أحدٌ.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 202]
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يصلّي في كلّ يومٍ وليلةٍ ثلاث مائة ركعةٍ، فلمّا مرض من تلك الأسواط، أضعفته، فكان يصلّي كلّ يومٍ وليلةٍ مائةً وخمسين ركعةً.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 212]
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (- قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول:
لمّا دخلنا على إسحاق بن إبراهيم للمحنة، قرأ علينا كتاب الّذي صار إلى طرسوس -يعني: المأمون- فكان فيما قرئ علينا: {ليس كمثله شيءٌ} [الشّورى: 11]، {وهو خالق كلّ شيءٍ} [الأنعام: 102].
فقلت: {وهو السّميع البصير}.
قال صالحٌ: ثمّ امتحن القوم، ووجّه بمن امتنع إلى الحبس، فأجاب القوم جميعاً غير أربعةٍ: أبي، ومحمّد بن نوحٍ، والقواريريّ، والحسن بن حمّادٍ سجّادة.
ثمّ أجاب هذان، وبقي أبي ومحمّدٌ في الحبس أيّاماً، ثمّ جاء كتابٌ من طرسوس بحملهما مقيّدين زميلين.
- الطّبرانيّ: حدّثنا عبد الله بن أحمد، حدّثني أبو معمرٍ القطيعيّ، قال:
لمّا أحضرنا إلى دار السّلطان أيّام المحنة، وكان أحمد بن حنبلٍ قد أحضر، فلمّا رأى النّاس يجيبون، وكان رجلاً ليّناً، فانتفخت أوداجه، واحمرّت عيناه، وذهب ذلك اللّين.
فقلت: إنّه قد غضب لله، فقلت: أبشر، حدّثنا ابن فضيلٍ، عن الوليد بن عبد الله بن جميعٍ، عن أبي سلمة، قال:
كان من أصحاب رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- من إذا أريد على شيءٍ من أمر دينه، رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنّه مجنونٌ.
- أخبرنا عمر بن القوّاس: عن الكنديّ، أخبرنا الكروخيّ، أخبرنا شيخ الإسلام، أخبرنا أبو يعقوب، حدّثنا الحسين بن محمّدٍ الخفّاف: سمعت ابن أبي أسامة يقول:
حكي لنا أنّ أحمد قيل له أيّام المحنة: يا أبا عبد الله، أولا ترى الحقّ كيف ظهر عليه الباطل؟
قال: كلاّ، إن ظهور الباطل على الحقّ أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضّلالة، وقلوبنا بعد لازمةٌ للحقّ.
- الأصمّ: حدّثنا عبّاسٌ الدّوريّ: سمعت أبا جعفرٍ الأنباريّ يقول:
لمّا حمل أحمد إلى المأمون، أخبرت، فعبرت الفرات، فإذا هو جالسٌ في الخان، فسلّمت عليه، فقال: يا أبا جعفرٍ، تعنّيت.
فقلت: يا هذا، أنت اليوم رأسٌ، والنّاس يقتدون بك، فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن، ليجيبنّ خلقٌ، وإن أنت لم تجب، ليمتنعنّ خلقٌ من النّاس كثيرٌ، ومع هذا فإنّ الرّجل إن لم يقتلك فإنّك تموت، لابدّ من الموت، فاتّق الله ولا تجب.
فجعل أحمد يبكي، ويقول: ما شاء الله.
ثمّ قال: يا أبا جعفرٍ، أعد عليّ.
فأعدت عليه، وهو يقول: ما شاء الله.
- قال أحمد بن محمّد بن إسماعيل الأدميّ: حدّثنا الفضل بن زيادٍ، سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول:
أوّل يومٍ امتحنه إسحاق لمّا خرج من عنده، وذلك في جمادى الآخرة، سنة ثمان عشرة ومائتين، فقعد في مسجده، فقال له جماعةٌ: أخبرنا بمن أجاب.
فكأنّه ثقل عليه، فكلّموه أيضاً.
قال: فلم يجب أحدٌ من أصحابنا - والحمد لله -.
ثمّ ذكر من أجاب ومن واتاهم على أكثر ما أرادوا، فقال: هو مجعولٌ محدثٌ.
وامتحنهم مرّةً مرّةً، وامتحنني مرّتين مرّتين، فقال لي: ما تقول في القرآن؟
قلت: كلام الله غير مخلوقٍ.
فأقامني وأجلسني في ناحيةٍ، ثمّ سألهم، ثمّ ردّني ثانيةً، فسألني وأخذني في التّشبيه.
فقلت: {ليس كمثله شيءٌ، وهو السّميع البصير} [الشّورى:11].
فقال لي: وما السّميع البصير؟
فقلت: هكذا قال تعالى.
- قال محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ: جعلوا يذاكرون أبا عبد الله بالرّقّة في التّقيّة وما روي فيها.
فقال: كيف تصنعون بحديث خبّابٍ: (إنّ من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار، لا يصدّه ذلك عن دينه ).
فأيسنا منه.
وقال: لست أبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلاّ واحدٌ، ولا قتلاً بالسّيف، إنّما أخاف فتنة السّوط.
فسمعه بعض أهل الحبس، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلاّ سوطان، ثمّ لا تدري أين يقع الباقي، فكأنّه سرّي عنه.
قال: وحدّثني من أثق به، عن محمّد بن إبراهيم بن مصعبٍ، وهو يومئذٍ صاحب شرطة المعتصم خلافةً لأخيه إسحاق بن إبراهيم، قال:
ما رأيت أحداً لم يداخل السّلطان، ولا خالط الملوك، كان أثبت قلباً من أحمد يومئذٍ، ما نحن في عينه إلاّ كأمثال الذّباب.
وحدّثني بعض أصحابنا عن أبي عبد الرّحمن الشّافعيّ، أو هو حدّثني:
أنّهم أنفذوه إلى أحمد في محبسه ليكلّمه في معنى التّقيّة، فلعلّه يجيب.
قال: فصرت إليه أكلّمه، حتّى إذا أكثرت وهو لا يجيبني.
ثمّ قال لي: ما قولك اليوم في سجدتي السّهو؟
وإنّما أرسلوه إلى أحمد للإلف الّذي كان بينه وبين أحمد أيّام لزومهم الشّافعيّ.
فإنّ أبا عبد الرّحمن كان يومئذٍ ممّن يتقشّف ويلبس الصّوف، وكان أحفظ أصحاب الشّافعيّ للحديث من قبل أن يتبطّن بمذاهبه المذمومة.
ثمّ لم يحدّث أبو عبد الله بعد ما أنبأتك أنّه حدّثني في أوّل خلافة الواثق، ثمّ قطعه إلى أن مات، إلاّ ما كان في زمن المتوكّل.
- قال صالح بن أحمد: حمل أبي ومحمّد بن نوحٍ من بغداد مقيّدين، فصرنا معهما إلى الأنبار.
فسأل أبو بكرٍ الأحول أبي: يا أبا عبد الله، إن عرضت على السّيف، تجيب؟
قال: لا.
ثمّ سيّرا، فسمعت أبي يقول: صرنا إلى الرّحبة، ورحلنا منها في جوف اللّيل، فعرض لنا رجلٌ، فقال: أيّكم أحمد بن حنبلٍ؟
فقيل له: هذا.
فقال للجمّال: على رسلك.
ثمّ قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل ها هنا، وتدخل الجنّة؟
ثمّ قال: أستودعك الله، ومضى.
فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجلٌ من العرب من ربيعة يعمل الشّعر في البادية، يقال له: جابر بن عامرٍ، يذكر بخيرٍ.
أحمد بن أبي الحواريّ: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله، قال:
قال أحمد بن حنبلٍ: ما سمعت كلمةً منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابيٍّ كلّمني بها في رحبة طوقٍ.
قال: يا أحمد، إن يقتلك الحقّ متّ شهيداً، وإن عشت عشت حميداً.
فقوّى قلبي.
قال صالح بن أحمد: قال أبي:
فلمّا صرنا إلى أذنة، ورحلنا منها في جوف اللّيل، وفتح لنا بابها، إذا رجلٌ قد دخل، فقال: البشرى! قد مات الرّجل -يعني: المأمون-.
قال أبي: وكنت أدعو الله أن لا أراه.
- محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ: سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول:
تبيّنت الإجابة في دعوتين: دعوت الله أن لا يجمع بيني وبين المأمون، ودعوته أن لا أرى المتوكّل.
فلم أر المأمون، مات بالبذندون، قلت: وهو نهر الرّوم.
وبقي أحمد محبوساً بالرّقّة حتّى بويع المعتصم إثر موت أخيه، فردّ أحمد إلى بغداد.
وأمّا المتوكّل فإنّه نوّه بذكر الإمام أحمد، والتمس الاجتماع به، فلمّا أن حضر أحمد دار الخلافة بسامرّاء ليحدّث ولد المتوكّل ويبرّك عليه، جلس له المتوكّل في طاقةٍ، حتّى نظر هو وأمّه منها إلى أحمد، ولم يره أحمد.
قال صالحٌ: لمّا صدر أبي ومحمّد بن نوحٍ إلى طرسوس، ردّا في أقيادهما.
فلمّا صار إلى الرّقّة، حملا في سفينةٍ، فلمّا وصلا إلى عانة، توفّي محمّدٌ، وفكّ قيده، وصلّى عليه أبي.
وقال حنبلٌ: قال أبو عبد الله: ما رأيت أحداً على حداثة سنّه، وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمّد بن نوحٍ، إنّي لأرجو أن يكون قد ختم له بخيرٍ.
قال لي ذات يومٍ: يا أبا عبد الله، الله الله، إنّك لست مثلي، أنت رجلٌ يقتدى بك.
قد مدّ الخلق أعناقهم إليك، لما يكون منك، فاتّق الله، واثبت لأمر الله، أو نحو هذا.
فمات، وصلّيت عليه، ودفنته.
أظنّ قال: بعانة.
قال صالحٌ: وصار أبي إلى بغداد مقيّداً، فمكث بالياسريّة أيّاماً، ثمّ حبس في دارٍ اكتريت عند دار عمارة، ثمّ حوّل إلى حبس العامّة في درب الموصليّة.
فقال: كنت أصلّي بأهل السجن، وأنا مقيّدٌ.
فلمّا كان في رمضان سنة تسع عشر - قلت: وذلك بعد موت المأمون بأربعة عشر شهراً - حوّلت إلى دار إسحاق بن إبراهيم -يعني: نائب بغداد-.
وأمّا حنبلٌ، فقال: حبس أبو عبد الله في دار عمارة ببغداد، في إصطبل الأمير محمّد بن إبراهيم؛ أخي إسحاق بن إبراهيم، وكان في حبسٍ ضيّقٍ، ومرض في رمضان.
ثمّ حوّل بعد قليلٍ إلى سجن العامّة، فمكث في السّجن نحواً من ثلاثين شهراً.
وكنّا نأتيه، فقرأ عليّ كتاب (الإرجاء) وغيره في الحبس، ورأيته يصلّي بهم في القيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد وقت الصّلاة والنّوم.
قال صالح بن أحمد: قال أبي: كان يوجّه إليّ كلّ يومٍ برجلين، أحدهما يقال له: أحمد بن أحمد بن رباحٍ، والآخر أبو شعيبٍ الحجّام، فلا يزالان يناظراني، حتّى إذا قاما دعي بقيدٍ، فزيد في قيودي، فصار في رجليّ أربعة أقياد.
فلمّا كان في اليوم الثّالث، دخل عليّ، فناظرني، فقلت له: ما تقول في علم الله؟
قال: مخلوقٌ.
قلت: كفرت بالله .
فقال الرّسول الّذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم: إنّ هذا رسول أمير المؤمنين.
فقلت: إنّ هذا قد كفر.
فلمّا كان في اللّيلة الرّابعة، وجّه -يعني: المعتصم- ببغا الكبير إلى إسحاق، فأمره بحملي إليه، فأدخلت على إسحاق، فقال:
يا أحمد، إنّها -والله- نفسك، إنّه لا يقتلك بالسّيف، إنّه قد آلى - إن لم تجبه - أن يضربك ضرباً بعد ضربٍ، وأن يقتلك في موضعٍ لا يرى فيه شمسٌ ولا قمرٌ، أليس قد قال الله -تعالى-: {إنّا جعلناه قرآنا عربيّاً} [الزّخرف: 3]، أفيكون مجعولاً إلاّ مخلوقاً؟
فقلت: فقد قال -تعالى-: {فجعلهم كعصفٍ مأكولٍ} [الفيل:5] أفخلقهم؟
قال: فسكت.
فلمّا صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان، أخرجت، وجيء بدابّةٍ، فأركبت وعليّ الأقياد، ما معي من يمسكني، فكدت غير مرّةٍ أن أخرّ على وجهي لثقل القيود.
فجيء بي إلى دار المعتصم، فأدخلت حجرةً، ثمّ أدخلت بيتاً، وأقفل الباب عليّ في جوف اللّيل ولا سراج.
فأردت الوضوء، فمددت يدي، فإذا أنا بإناءٍ فيه ماءٌ، وطستٌ موضوعٌ، فتوضّأت وصلّيت.
فلمّا كان من الغد، أخرجت تكّتي، وشددت بها الأقياد أحملها، وعطفت سراويلي.
فجاء رسول المعتصم، فقال: أجب.
فأخذ بيدي، وأدخلني عليه، والتّكّة في يدي، أحمل بها الأقياد، وإذا هو جالسٌ، وأحمد بن أبي دواد حاضرٌ، وقد جمع خلقاً كثيراً من أصحابه.
فقال لي المعتصم: ادنه، ادنه.
فلم يزل يدنيني حتّى قربت منه، ثمّ قال: اجلس.
فجلست، وقد أثقلتني الأقياد، فمكثت قليلاً، ثمّ قلت: أتأذن في الكلام؟
قال: تكلّم.
فقلت: إلى ما دعا الله ورسوله؟
فسكت هنيّةً، ثمّ قال: إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله.
فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله.
ثمّ قلت: إنّ جدّك ابن عبّاسٍ يقول:
لمّا قدم وفد عبد القيس على رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- سألوه عن الإيمان، فقال: (أتدرون ما الإيمان؟).
قالوا: الله
ورسوله أعلم.
قال: (شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وأنّ تعطوا الخمس من المغنم ).
قال أبي: فقال -يعني: المعتصم-: لولا أنّي وجدتك في يد من كان قبلي، ما عرضت لك.
ثمّ قال: يا عبد الرّحمن بن إسحاق، ألم آمرك برفع المحنة؟
فقلت: الله أكبر! إنّ في هذا لفرجاً للمسلمين.
ثمّ قال لهم: ناظروه، وكلّموه، يا عبد الرّحمن كلّمه.
فقال: ما تقول في القرآن؟
قلت: ما تقول أنت في علم الله؟
فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قال الله -تعالى-: {الله خالق كلّ شيءٍ} [الرّعد: 16] والقرآن أليس شيئاً؟
فقلت: قال الله: {تدمّر كلّ شيءٍ} [الأحقاف: 25] فدمّرت إلاّ ما أراد الله؟
فقال بعضهم: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2] أفيكون محدثٌ إلاّ مخلوقاً؟
فقلت: قال الله: {ص، والقرآن ذي الذّكر} [ص: 1]، فالذّكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألفٌ ولامٌ.
وذكر بعضهم حديث عمران بن حصينٍ: (إنّ الله خلق الذّكر)،
فقلت: هذا خطأٌ، حدّثنا غير واحدٍ: (إنّ الله كتب الذّكر ).
واحتجوا بحديث ابن مسعودٍ: (ما خلق الله من جنّةٍ ولا نارٍ ولا سماءٍ ولا أرضٍ أعظم من آية الكرسيّ ).
فقلت: إنّما وقع الخلق على الجنّة والنّار والسّماء والأرض، ولم يقع على القرآن.
فقال بعضهم: حديث خبّابٍ: (يا هنتاه، تقرّب إلى الله بما استطعت، فإنّك لن تتقّرب إليه بشيءٍ أحبّ إليه من كلامه ).
فقلت: هكذا هو.
قال صالحٌ: وجعل ابن أبي دواد ينظر إلى أبي كالمغضب.
قال أبي: وكان يتكلّم هذا، فأردّ عليه، ويتكلّم هذا، فأردّ عليه، فإذا انقطع الرّجل منهم، اعترض ابن أبي دواد، فيقول: يا أمير المؤمنين، هو -والله- ضالٌّ مضلٌّ مبتدعٌ!
فيقول: كلّموه، ناظروه.
فيكلّمني هذا، فأردّ عليه، ويكلّمني هذا، فأردّ عليه، فإذا انقطعوا، يقول المعتصم: ويحك يا أحمد! ما تقول؟
فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنّة رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- حتّى أقول به.
فيقول أحمد بن أبي دواد: أنت لا تقول إلاّ ما في الكتاب أو السّنّة؟
فقلت له: تأوّلت تأويلاً، فأنت أعلم، وما تأوّلت ما يحبس عليه، ولا يقيّد عليه .
قال حنبلٌ: قال أبو عبد الله: لقد احتجّوا عليّ بشيءٍ ما يقوى قلبي، ولا ينطلق لساني أن أحكيه.
أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتّى سمعته، وجعلوا يرغون، يقول الخصم كذا وكذا، فاحتججت عليهم بالقرآن بقوله: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [مريم: 42]، أفهذا منكرٌ عندكم؟
فقالوا: شبّه، يا أمير المؤمنين، شبّه.
قال محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ: حدّثني بعض أصحابنا:
أنّ أحمد بن أبي دواد أقبل على أحمد يكلّمه، فلم يلتفت إليه، حتّى قال المعتصم: يا أحمد، ألا تكلّم أبا عبد الله؟
فقلت: لست أعرفه من أهل العلم فأكلّمه!!
قال صالحٌ: وجعل ابن أبي دواد يقول:
يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك، لهو أحبّ إليّ من ألف دينارٍ، ومائة ألف دينارٍ، فيعدّ من ذلك ما شاء الله أن يعدّ.
فقال: لئن أجابني لأطلقكنّ عنه بيدي، ولأركبنّ إليه بجندي، ولأطأنّ عقبه.
ثمّ قال: يا أحمد، والله إنّي عليك لشفيقٍ، وإنّي لأشفق عليك كشفقتي على ابني هارون، ما تقول؟
فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنّة رسوله.
فلمّا طال المجلس، ضجر، وقال: قوموا، وحبسني -يعني عنده - وعبد الرّحمن بن إسحاق يكلّمني، وقال: ويحك! أجبني .
وقال: ويحك! ألم تكن تأتينا؟

فقال له عبد الرّحمن: يا أمير المؤمنين، أعرفه منذ ثلاثين سنةً، يرى طاعتك والحجّ والجهاد معك.
فيقول: والله إنّه لعالمٌ، وإنّه لفقيهٌ، وما يسوءني أن يكون معي يردّ عنّي أهل الملل.
ثمّ قال: ما كنت تعرف صالحاً الرّشيديّ؟
قلت: قد سمعت به .
قال: كان مؤدّبي، وكان في ذلك الموضع جالساً - وأشار إلى ناحيةٍ من الدّار - فسألني عن القرآن، فخالفني، فأمرت به، فوطئ وسحب! يا أحمد، أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرجٍ حتّى أطلق عنك بيدي.
قلت: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنّة رسوله.
فطال المجلس، وقام، ورددت إلى الموضع.
فلمّا كان بعد المغرب، وجّه إليّ رجلين من أصحاب ابن أبي داود، يبيتان عندي ويناظراني ويقيمان معي، حتّى إذا كان وقت الإفطار، جيء بالطّعام، ويجتهدان بي أن أفطر فلا أفعل - قلت: وكانت ليالي رمضان -.
قال: ووجّه المعتصم إليّ ابن أبي دواد في اللّيل، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول؟
فأردّ عليه نحواً ممّا كنت أردّ.
فقال ابن أبي دواد: والله لقد كتب اسمك في السّبعة: يحيى بن معينٍ وغيره، فمحوته، ولقد ساءني أخذهم إيّاك.
ثمّ يقول: إنّ أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضرباً بعد ضربٍ، وأن يلقيك في موضعٍ لا ترى فيه الشّمس.
ويقول: إن أجابني، جئت إليه حتّى أطلق عنه بيدي، ثمّ انصرف.
فلمّا أصبحنا، جاء رسوله، فأخذ بيدي حتّى ذهب بي إليه، فقال لهم: ناظروه، وكلّموه.
فجعلوا يناظروني، فأردّ عليهم، فإذا جاؤوا بشيءٍ من الكلام ممّا ليس في الكتاب والسّنّة، قلت: ما أدري ما هذا.
قال: فيقولون: يا أمير المؤمنين، إذا توجّهت له الحجّة علينا، ثبت، وإذا كلّمناه بشيءٍ، يقول: لا أدري ما هذا.
فقال: ناظروه.
فقال رجلٌ: يا أحمد، أراك تذكر الحديث وتنتحله.
فقلت: ما تقول في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين} [النّساء: 11]؟
قال: خصّ الله بها المؤمنين.
قلت: ما تقول: إن كان قاتلاً أو عبداً؟
فسكت، وإنّما احتججت عليهم بهذا، لأنّهم كانوا يحتجّون بظاهر القرآن.
فحيث قال لي: أراك تنتحل الحديث، احتججت بالقرآن -يعني: وإنّ السّنّة خصّصت القاتل والعبد، فأخرجتهما من العموم-.
قال: فلم يزالوا كذلك إلى قرب الزّوال.
فلمّا ضجر، قال: قوموا.
ثمّ خلا بي، وبعبد الرّحمن بن إسحاق، فلم يزل يكلمني، ثمّ قام ودخل، ورددت إلى الموضع.
قال: فلمّا كانت اللّيلة الثّالثة، قلت: خليقٌ أن يحدث غداً من أمري شيءٌ، فقلت للموكّل بي: أريد خيطاً.
فجاءني بخيطٍ، فشددت به الأقياد، ورددت التّكّة إلى سراويلي مخافة أن يحدث من أمري شيءٌ، فأتعرّى.
فلمّا كان من الغد، أدخلت إلى الدّار، فإذا هي غاصّةٌ، فجعلت أدخل من موضعٍ إلى موضعٍ، وقومٌ معهم السّيوف، وقومٌ معهم السّياط، وغير ذلك.
ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحدٍ من هؤلاء، فلمّا انتهيت إليه، قال: اقعد.
ثمّ قال: ناظروه، كلّموه.
فجعلوا يناظروني، يتكلّم هذا، فأردّ عليه، ويتكلّم هذا، فأردّ عليه، وجعل صوتي يعلو أصواتهم.
فجعل بعض من هو قائمٌ على رأسي يومئ إليّ بيده، فلمّا طال المجلس، نحّاني، ثمّ خلا بهم، ثمّ نحّاهم، وردّني إلى عنده، وقال: ويحك يا أحمد! أجبني حتّى أطلق عنك بيدي.
فرددت عليه نحو ردّي، فقال: عليك.. - وذكر اللّعن - خذوه، اسحبوه، خلّعوه.
فسحبت، وخلعت.
قال: وقد كان صار إليّ شعرٌ من شعر النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- في كمّ قميصي، فوجّه إليّ إسحاق بن إبراهيم يقول: ما هذا المصرور؟
قلت: شعرٌ من شعر رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- وسعى بعضهم ليخرق القميص عنّي.
فقال المعتصم: لا تخرقوه.
فنزع، فظننت أنّه إنّما درئ عن القميص الخرق بالشّعر.
قال: وجلس المعتصم على كرسيٍّ، ثمّ قال: العقابين والسّياط.
فجيء بالعقابين، فمدّت يداي، فقال بعض من حضر خلفي: خذ ناتئ الخشبتين بيديك، وشدّ عليهما.
فلم أفهم ما قال، فتخلّعت يداي.

- قال محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ: ذكروا أنّ المعتصم ألان في أمر أحمد لمّا علّق في العقابين، ورأى ثباته وتصميمه وصلابته، حتّى أغراه أحمد بن أبي دواد، وقال: يا أمير المؤمنين، إن تركته، قيل: قد ترك مذهب المأمون، وسخط قوله.
فهاجه ذلك على ضربه.
وقال صالحٌ: قال أبي: ولمّا جيء بالسياط، نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها.
ثمّ قال للجلاّدين: تقدّموا.
فجعل يتقدم إليّ الرّجل منهم، فيضربني سوطين، فيقول له: شدّ، قطع الله يدك!
ثمّ يتنحّى ويتقدم آخر، فيضربني سوطين، وهو يقول في كلّ ذلك: شدّ، قطع الله يدك!
فلمّا ضربت سبعة عشر سوطاً، قام إليّ -يعني: المعتصم- فقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟ إنّي -والله- عليك لشفيقٌ.
وجعل عجيفٌ ينخسني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلّهم؟
وجعل بعضهم يقول: ويلك! إمامك على رأسك قائمٌ.
وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي، اقتله.
وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين، أنت صائمٌ، وأنت في الشّمس قائمٌ!
فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول؟
فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنّة رسول الله أقول به.
فرجع، وجلس، وقال للجلاّد: تقدم، وأوجع، قطع الله يدك.
ثمّ قام الثّانية، وجعل يقول: ويحك يا أحمد! أجبني.
فجعلوا يقبلون عليّ، ويقولون: يا أحمد، إمامك على رأسك قائمٌ!
وجعل عبد الرّحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟
والمعتصم يقول: أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرجٍ حتّى أطلق عنك بيدي.
ثمّ رجع، وقال للجلاّد: تقدّم.
فجعل يضربني سوطين، ويتنحّى، وهو في خلال ذلك يقول: شدّ، قطع الله يدك.
فذهب عقلي، ثمّ أفقت بعد، فإذا الأقياد قد أطلقت عنّي.
فقال لي رجلٌ ممّن حضر: كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك باريّةً ودسناك!
قال أبي : فما شعرت بذلك، وأتوني بسويقٍ، وقالوا: اشرب وتقيّأ.
فقلت: لا أفطر.
ثمّ جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت الظّهر، فتقدّم ابن سماعة، فصلّى، فلمّا انفتل من صلاته، وقال لي: صلّيت، والدّم يسيل في ثوبك؟
قلت: قد صلّى عمر وجرحه يثعب دماً .
قال صالحٌ: ثمّ خلّي عنه، فصار إلى منزله.
وكان مكثه في السجن منذ أخذ إلى أن ضرب وخلّي عنه، ثمانيةً وعشرين شهراً.
ولقد حدّثني أحد الرّجلين اللّذين كانا معه، قال: يا ابن أخي، رحمة الله على أبي عبد الله، والله ما رأيت أحداً يشبهه، ولقد جعلت أقول له في وقت ما يوجّه إلينا بالطّعام: يا أبا عبد الله، أنت صائمٌ، وأنت في موضع تفئةٍ . ولقد عطش، فقال لصاحب الشّراب: ناولني.
فناوله قدحاً فيه ماءٌ وثلجٌ، فأخذه، ونظر فيه، ثمّ ردّه، ولم يشرب، فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش، وهو فيما هو فيه من الهول.
قال صالحٌ: فكنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاماً أو رغيفاً في تلك الأيّام، فلم أقدر.
وأخبرني رجلٌ حضره: أنّه تفقّده في الأيّام الثّلاثة وهم يناظرونه، فما لحن في كلمةٍ.
قال: وما ظننت أنّ أحداً يكون في مثل شجاعته وشدّة قلبه.
قال حنبلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول:
ذهب عقلي مراراً، فكان إذا رفع عنّي الضّرب، رجعت إليّ نفسي، وإذا استرخيت وسقطت، رفع الضّرب، أصابني ذلك مراراً.
ورأيته -يعني: المعتصم- قاعداً في الشّمس بغير مظلّةٍ، فسمعته - وقد أفقت - يقول لابن أبي دواد: لقد ارتكبت إثماً في أمر هذا الرّجل.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنّه -والله- كافرٌ مشركٌ، قد أشرك من غير وجهٍ.
فلا يزال به حتّى يصرفه عمّا يريد.
وقد كان أراد تخليتي بلا ضربٍ، فلم يدعه، ولا إسحاق بن إبراهيم.
قال حنبلٌ: وبلغني أنّ المعتصم قال لابن أبي دواد بعد ما ضرب أبو عبد الله: كم ضرب؟
قال: أربعةً، أو نيّفاً وثلاثين سوطاً.
- قال أبو الفضل عبيد الله الزّهريّ: قال المرّوذيّ:
قلت - وأبو عبد الله بين الهنبازين -: يا أستاذ، قال الله -تعالى-: {لا تقتلوا أنفسكم} [النّساء: 29].
قال: يا مرّوذيّ، اخرج وانظر.
فخرجت إلى رحبة دار الخلافة، فرأيت خلقاً لا يحصيهم إلاّ الله، والصّحف في أيديهم، والأقلام والمحابر، فقال لهم المرّوذيّ: ماذا تعملون؟
قالوا: ننظر ما يقول أحمد، فنكتبه.
فدخل، فأخبره، فقال: يا مرّوذيّ! أضلّ هؤلاء كلّهم؟!
فهذه حكايةٌ منقطعةٌ .
- قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عبد الله بن محمّد بن الفضل الأسديّ، قال:
لمّا حمل أحمد ليضرب، جاؤوا إلى بشر بن الحارث، وقالوا: قد وجب عليك أن تتكلّم.
فقال: أتريدون منّي أقوم مقام الأنبياء، ليس ذا عندي، حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه.
- الحسن بن محمّد بن عثمان الفسويّ: حدّثنا داود بن عرفة، حدّثنا ميمون بن أصبغ، قال:
كنت ببغداد، وامتحن أحمد، فأخذت مالاً له خطرٌ، فذهبت به إلى من يدخلني إلى المجلس.
فأدخلت، فإذا السّيوف قد جرّدت، وبالرّماح قد ركزت، وبالتّراس قد صفّفت، وبالسّياط قد وضعت، وألبست قباءً أسود ومنطقةً وسيفاً، ووقّفت حيث أسمع الكلام.
فأتى أمير المؤمنين، فجلس على كرسيٍّ، وأتى بأحمد، فقال له: وقرابتي من رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- لأضربنّك بالسّياط، أو تقول كما أقول.
ثمّ التفت إلى جلاّدٍ، فقال: خذه إليك.
فأخذه، فلمّا ضرب سوطاً، قال: باسم الله.
فلمّا ضرب الثّاني، قال: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
فلمّا ضرب الثّالث، قال: القرآن كلام الله غير مخلوقٍ.
فلمّا ضرب الرّابع، قال: {قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا} [التّوبة: 51]، فضرب تسعةً وعشرين سوطاً.
وكانت تكّته حاشية ثوبٍ، فانقطعت، فنزل السّراويل إلى عانته، فقلت: السّاعة ينهتك.
فرمى بطرفه إلى السّماء، وحرّك شفتيه، فما كان بأسرع من أن بقي السّراويل لم ينزل.
فدخلت عليه بعد سبعة أيّامٍ، فقلت: يا أبا عبد الله! رأيتك وقد انحلّ سراويلك، فرفعت طرفك نحو السّماء، فما قلت؟
قال: قلت: اللّهمّ أسألك باسمك الّذي ملأت به العرش، إن كنت تعلم أنّي على الصّواب، فلا تهتك لي ستراً.
هذه حكايةٌ منكرةٌ، أخاف أن يكون داود وضعها.
- قال جعفر بن أحمد بن فارسٍ الأصبهانيّ: حدّثنا أحمد بن أبي عبيد الله، قال:
قال أحمد بن الفرج: حضرت أحمد بن حنبلٍ لمّا ضرب، فتقدّم أبو الدّنّ فضربه بضعة عشر سوطاً، فأقبل الدّم من أكتافه، وكان عليه سراويل، فانقطع خيطه، فنزل.
فلحظته وقد حرّك شفتيه، فعاد السّراويل كما كان، فسألته، قال:
قلت: إلهي وسيّدي، وقفتني هذا الموقف، فتهتكني على رؤوس الخلائق!
وهذه الحكاية لا تصحّ.
وقد ساق صاحب (الحلية) من الخرافات السّمجة هنا ما يستحيا من ذكره.
فمن ذلك، قال: حدّثنا الحسين بن محمّدٍ، حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم القاضي، حدّثني أبو عبد الله الجوهريّ، حدّثنا يوسف بن يعقوب، سمعت عليّ بن محمّدٍ القرشيّ، قال:
لمّا جرّد أحمد ليضرب، وبقي في سراويله، فبينما هو يضرب، انحلّ سراويله، فحرّك شفتيه، فرأيت يدين خرجتا من تحته، فشدّتا السّراويل.
فلمّا فرغوا من الضّرب، سألناه، قال:
قلت: يا من لا يعلم العرش منه أين هو إلاّ هو، إن كنت على الحقّ، فلا تبد عورتي.
أوردها البيهقيّ في مناقب أحمد، وما جسر على توهيتها، بل روى عن: أبي مسعودٍ البجليّ، عن ابن جهضمٍ - ذاك الكذّاب - حدّثنا أبو بكرٍ النّجّاد، حدّثنا ابن أبي العوّام الرّياحيّ نحواً منها.
وفيها أنّ مئزره اضطرب، فحرّك شفتيه، فرأيت كفّاً من ذهبٍ خرج من تحت مئزره بقدرة الله، فصاحت العامّة.
- أخبرني ابن الفرّاء، حدّثنا ابن قدامة، حدّثنا ابن خضيرٍ، حدّثنا ابن يوسف، حدّثنا البرمكيّ، حدّثنا عليّ بن مردك، حدّثنا ابن أبي حاتمٍ، حدّثنا أحمد بن سنانٍ:
أنّه بلغه أنّ المعتصم نظر عند ضربه إيّاه إلى شيءٍ مصرورٍ في كمّه، فقال: أيّ شيءٍ هذا؟
قال: شعرٌ من شعر النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم-.
قال: هاته، وأخذها منه.
ثمّ قال أحمد بن سنانٍ: كان ينبغي أن يرحمه عندما رأى شعرةً من شعر النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- معه في تلك الحال.
- وبه، قال ابن أبي حاتمٍ: قال أبو الفضل صالحٌ:
خلّي عنه، فصار إلى المنزل، ووجّه إلى المطبق، فجيء برجلٍ ممّن يبصر الضّرب والعلاج، فنظر إلى ضربه، فقال: قد رأيت من ضرب ألف سوطٍ، ما رأيت ضرباً مثل هذا، لقد جرّ عليه من خلفه، ومن قدّامه، ثمّ أخذ ميلاً، فأدخله في بعض تلك الجراحات، فنظر إليه، فقال: لم ينقب؟
وجعل يأتيه، ويعالجه.
وكان قد أصاب وجهه غير ضربة، ومكث منكبّاً على وجهه كم شاء الله.
ثمّ قال له: إنّ ها هنا شيئاً أريد أن أقطعه.
فجاء بحديدةٍ، فجعل يعلّق اللّحم بها، فيقطعه بسكّينٍ معه، وهو صابرٌ لذلك، يجهر بحمد الله في ذلك، فبرأ منه، ولم يزل يتوجّع من مواضع منه، وكان أثر الضّرب بيّناً في ظهره إلى أن توفّي.
ودخلت يوماً، فقلت له: بلغني أنّ رجلاً جاء إليك، فقال: اجعلني في حلٍّ؛ إذ لم أقم بنصرتك.
فقلت: لا أجعل أحداً في حلٍّ.
فتبسّم أبي، وسكت، وسمعت أبي يقول: لقد جعلت الميّت في حلٍّ من ضربه إيّاي.
ثمّ قال: مررت بهذه الآية: {فمن عفا وأصلح، فأجره على الله} [الشّورى: 40]، فنظرت في تفسيرها، فإذا هو ما أخبرنا هاشم بن القاسم، أخبرنا المبارك بن فضالة، قال:
أخبرني من سمع الحسن يقول: إذا كان يوم القيامة، جثت الأمم كلّها بين يدي الله ربّ العالمين، ثمّ نودي أن لا يقوم إلاّ من أجره على الله، فلا يقوم إلاّ من عفا في الدّنيا.
قال: فجعلت الميّت في حلٍّ.
ثمّ قال: وما على رجلٍ أن لا يعذّب الله بسببه أحداً.
- وبه، قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثني أحمد بن سنانٍ، قال:
بلغني أنّ أحمد بن حنبلٍ جعل المعتصم في حلٍّ يوم فتح عاصمة بابك، وظفر به، أو في فتح عمّوريّة، فقال: هو في حلٍّ من ضربي.
وسمعت أبي؛ أبا حاتمٍ يقول:
أتيت أبا عبد الله بعد ما ضرب بثلاث سنين أو نحوها، فجرى ذكر الضّرب، فقلت له: ذهب عنك ألم الضّرب؟
فأخرج يديه، وقبض كوعيه اليمين واليسار، وقال: هذا، كأنّه يقول: خلع، وإنّه يجد منهما ألم ذلك.
- وبه، قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن المثنّى صاحب بشرٍ، قال:
قال أحمد بن حنبلٍ: قيل لي: اكتب ثلاث كلماتٍ، ويخلّى سبيلك.
فقلت: هاتوا.
قالوا: اكتب: الله قديمٌ لم يزل.
قال: فكتبت.
فقالوا: اكتب: كلّ شيءٍ دون الله مخلوقٌ.
وقالوا: اكتب: الله ربّ القرآن.
قلت: أمّا هذه فلا، ورميت بالقلم.
فقال بشر بن الحارث: لو كتبها، لأعطاهم ما يريدون.
- وبه، قال: وقال إبراهيم بن الحارث العباديّ - وكان رافقنا في بلاد الرّوم - قال:
حضر أحمد بن حنبلٍ أبو محمّدٍ الطّفاويّ، فذكر له حديثٌ، فقال أبو عبد الله: أخبرك بنظير هذا، لمّا أخرج بنا، جعلت أفكر فيما نحن فيه، حتّى إذا صرنا إلى الرّحبة، أنزلنا بظاهرها، فمددت بصري، فإذا بشيءٍ لم أستثبته، فلم يزل يدنو، وإذا أعرابيٌّ جعل يتخطّى تلك المحامل حتّى صار إليّ، فوقف عليّ، فسلّم، ثمّ قال: أنت أحمد بن حنبلٍ؟
فسكتّ تعجّباً!! ثمّ أعاد، فسكتّ، فبرك على ركبتيه، فقال: أنت أبو عبد الله أحمد بن حنبلٍ؟
فقلت: نعم.
فقال: أبشر، واصبر، فإنّما هي ضربةٌ ها هنا، وتدخل الجنّة ها هنا.
ثمّ مضى، فقال الطّفاويّ: يا أبا عبد الله! إنك محمودٌ عند العامّة.
فقال: أحمد الله على ديني، إنّما هذا دينٌ، لو قلت لهم، كفرت.
فقال الطّفاويّ: أخبرني بما صنعوا بك؟
قال: لمّا ضربت بالسياط، جعلت أذكر كلام الأعرابيّ، ثمّ جاء ذاك الطّويل اللّحية -يعني: عجيفاً- فضربني بقائم السّيف، ثمّ جاء ذاك، فقلت: قد جاء الفرج، يضرب عنقي، فأستريح.
فقال له ابن سماعة: يا أمير المؤمنين، اضرب عنقه، ودمه في رقبتي.
فقال ابن أبي دواد: لا يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإنّه إن قتل أو مات في دارك، قال النّاس: صبر حتّى قتل، فاتّخذه النّاس إماماً، وثبتوا على ما هم عليه، ولكن أطلقه السّاعة، فإن مات خارجاً من منزلك، شكّ النّاس في أمره، وقال بعضهم: أجاب، وقال بعضهم: لم يجب.
فقال الطّفاويّ: وما عليك لو قلت؟
قال أبو عبد الله: لو قلت، لكفرت.
- وبه، قال ابن أبي حاتمٍ: سمعت أبا زرعة يقول:
دعا المعتصم بعمّ أحمد، ثمّ قال للنّاس: تعرفونه؟
قالوا: نعم، هو أحمد بن حنبلٍ.
قال: فانظروا إليه، أليس هو صحيح البدن؟
قالوا: نعم، ولولا أنّه فعل ذلك، لكنت أخاف أن يقع شيءٌ لا يقام له.
قال: ولمّا قال: قد سلّمته إليكم صحيح البدن، هدأ النّاس وسكنوا.
قلت: ما قال هذا مع تمكّنه في الخلافة وشجاعته إلاّ عن أمرٍ كبيرٍ، كأنّه خاف أن يموت من الضّرب، فتخرج عليه العامّة.
ولو خرج عليه عامّة بغداد، لربّما عجز عنهم.
وقال حنبلٌ: لمّا أمر المعتصم بتخلية أبي عبد الله، خلع عليه مبطّنةً وقميصاً، وطيلساناً وقلنسوةً وخفّاً.
فبينا نحن على باب الدّار، والنّاس في الميدان والدّروب وغيرها، وغلّقت الأسواق، إذ خرج أبو عبد الله على دابّةٍ من دار المعتصم في تلك الثّياب، وأحمد بن أبي دواد عن يمينه، وإسحاق بن إبراهيم -يعني: نائب بغداد- عن يساره.
فلمّا صار في الدّهليز قبل أن يخرج، قال لهم ابن أبي دواد: اكشفوا رأسه.
فكشفوه -يعني: من الطّيلسان- وذهبوا يأخذون به ناحية الميدان نحو طريق الحبس، فقال لهم إسحاق: خذوا به ها هنا - يريد دجلة -.
فذهب به إلى الزّورق، وحمل إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فأقام عنده إلى أن صلّيت الظّهر، وبعث إلى والدي وإلى جيراننا ومشايخ المحالّ، فجمعوا، وأدخلوا عليه، فقال لهم: هذا أحمد بن حنبلٍ، وإن كان فيكم من يعرفه، وإلاّ فليعرفه.
قال ابن سماعة - حين دخل الجماعة - لهم: هذا أحمد بن حنبلٍ، وإنّ أمير المؤمنين ناظره في أمره، وقد خلّى سبيله، وها هو ذا، فأخرج على فرسٍ لإسحاق بن إبراهيم عند غروب الشّمس، فصار إلى منزله، ومعه السّلطان والنّاس، وهو منحنٍ، فلمّا ذهب لينزل، احتضنته، ولم أعلم، فوقعت يدي على موضع الضّرب، فصاح، فنحّيت يدي، فنزل متوكّئاً عليّ، وأغلق الباب، ودخلنا معه، ورمى بنفسه على وجهه لا يقدر أن يتحرّك إلاّ بجهدٍ، ونزع ما كان خلع عليه، فأمر به، فبيع، وتصدّق بثمنه.
وكان المعتصم أمر إسحاق بن إبراهيم أن لا يقطع عنه خبره، وذلك أنّه ترك فيما حكي لنا عند الإياس منه.
وبلغنا: أنّ المعتصم ندم، وأسقط في يده، حتّى صلح، فكان صاحب خبر إسحاق بن إبراهيم يأتينا كلّ يومٍ يتعرّف خبره، حتّى صحّ، وبقيت إبهاماه منخلعتين، يضربان عليه في البرد، فيسخّن له الماء، ولمّا أردنا علاجه، خفنا أن يدسّ أحمد بن أبي دواد سمّاً إلى المعالج، فعملنا الدّواء والمرهم في منزلنا.
وسمعته يقول: كلّ من ذكرني ففي حلٍّ إلاّ مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق -يعني: المعتصم- في حلٍّ، ورأيت الله يقول: {وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبّون أن يغفر الله لكم} [النّور: 22] وأمر النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- أبا بكرٍ بالعفو في قصّة مسطحٍ .
قال أبو عبد الله: وما ينفعك أن يعذّب الله أخاك المسلم في سببك؟!!
قال حنبلٌ: قال أبو عبد الله: قال برغوث -يعني: يوم المحنة-: يا أمير المؤمنين، هو كافرٌ حلال الدّم، اضرب عنقه، ودمه في عنقي.
وقال شعيبٌ كذلك أيضاً: تقلّد دمي، فلم يلتفت أبو إسحاق إليهما.
وقال أبو عبد الله: لم يكن في القوم أشدّ تكفيراً لي منهما، وأمّا ابن سماعة، فقال:
يا أمير المؤمنين، إنّه من أهل بيت شرفٍ ولهم قدمٌ، ولعلّه يصير إلى الّذي عليه أمير المؤمنين، فكأنّه رقّ عندها، وكان إذا كلّمني ابن أبي دواد، لم ألتفت إلى كلامه، وإذا كلّمني أبو إسحاق، ألنت له القول.
قال: فقال في اليوم الثّالث: أجبني يا أحمد، فإنّه بلغني أنّك تحبّ الرّئاسة، وذلك لمّا أوغروا قلبه عليّ.
وجعل برغوث يقول: قال الجبريّ: كذا وكذا كلامٌ هو الكفر بالله.
فجعلت أقول: ما أدري ما هذا، إلاّ أنّي أعلم أنّه أحدٌ صمدٌ لا شبه له ولا عدل، وهو كما وصف نفسه، فسكت.
وقال لي أبو إسحاق: يا أحمد، إنّي لأشفق عليك كشفقتي على ابني هارون، فأجبني، والله لوددت أنّي لم أكن عرفتك يا أحمد، الله الله في دمك.
فلمّا كان في آخر ذلك، قال: لعنك الله، لقد طمعت أن تجيبني.
ثمّ قال: خذوه، واسحبوه.
فأخذت ثمّ خلّعت، وجيء بعقابين وأسياطٍ، وكان معي شعرٌ من شعر النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- ثمّ صيّرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين، الله الله، إنّ رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: (لا يحلّ دم امرئٍ يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله إلاّ بإحدى ثلاثٍ)، يا أمير المؤمنين، فيم تستحلّ دمي؟ الله الله، لا تلق الله وبيني وبينك مطالبةٌ، اذكر يا أمير المؤمنين وقوفك بين يدي الله -تعالى- كوقوفي بين يديك، وراقب الله.
فكأنّه أمسك، فخاف ابن أبي دواد أن يكون منه عطفٌ أو رأفةٌ، فقال: إنّه كافرٌ بالله، ضالٌّ مضلٌّ.
قال حنبلٌ: لمّا أردنا علاجه، خفنا أن يدسّ ابن أبي دواد إلى المعالج، فيلقي في دوائه سمّاً، فعملنا الدّواء والمرهم عندنا، فكان في برنيّةٍ، فإذا داواه رفعناها.
قال: وكان إذا أصابه البرد، ضرب عليه.
وقال: لقد ظننت أنّي أعطيت المجهود من نفسي.).
[سير أعلام النبلاء: 11/ 238-263]
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (محنة الواثق:
قال حنبلٌ: لم يزل أبو عبد الله بعد أن برئ من الضّرب يحضر الجمعة والجماعة، ويحدّث ويفتي، حتّى مات المعتصم، وولي ابنه الواثق، فأظهر ما أظهر من المحنة والميل إلى أحمد بن أبي دواد وأصحابه.
فلمّا اشتدّ الأمر على أهل بغداد، وأظهرت القضاة المحنة بخلق القرآن، وفرّق بين فضلٍ الأنماطيّ وبين امرأته، وبين أبي صالحٍ وبين امرأته، كان أبو عبد الله يشهد الجمعة، ويعيد الصّلاة إذا رجع، ويقول: تؤتى الجمعة لفضلها، والصّلاة تعاد خلف من قال بهذه المقالة.
وجاء نفرٌ إلى أبي عبد الله، وقالوا: هذا الأمر قد فشا وتفاقم، ونحن نخافه على أكثر من هذا، وذكروا ابن أبي دواد، وأنّه على أن يأمر المعلّمين بتعليم الصّبيان في المكاتب : القرآن كذا وكذا، فنحن لا نرضى بإمارته.
فمنعهم من ذلك، وناظرهم.
وحكى أحمد قصده في مناظرتهم، وأمرهم بالصّبر. قال: فبينا نحن في أيّام الواثق، إذ جاء يعقوب ليلاً برسالة الأمير إسحاق بن إبراهيم إلى أبي عبد الله:
يقول لك الأمير: إنّ أمير المؤمنين قد ذكرك، فلا يجتمعنّ إليك أحدٌ ولا تساكنّي بأرضٍ ولا مدينةٍ أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض الله.
قال: فاختفى أبو عبد الله بقيّة حياة الواثق.
وكانت تلك الفتنة، وقتل أحمد بن نصرٍ الخزاعيّ .
ولم يزل أبو عبد الله مختفياً في البيت لا يخرج إلى صلاةٍ ولا إلى غيرها حتّى هلك الواثق.
- وعن إبراهيم بن هانئٍ، قال: اختفى أبو عبد الله عندي ثلاثاً، ثمّ قال: اطلب لي موضعاً.
قلت: لا آمن عليك.
قال: افعل، فإذا فعلت، أفدتك.
فطلبت له موضعاً، فلمّا خرج، قال: اختفى رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- في الغار ثلاثة أيّامٍ ثمّ تحوّل .
العجب من أبي القاسم عليّ بن الحسن الحافظ، كيف ذكر ترجمة أحمد مطوّلةً كعوائده، ولكن ما أورد من أمر المحنة كلمةً مع صحّة أسانيدها، فإنّ حنبلاً ألّفها في جزءين.
وكذلك صالح بن أحمد، وجماعةٌ.
- قال أبو الحسين بن المنادي: حدّثني جدّي؛ أبو جعفرٍ، قال: لقيت أبا عبد الله، فرأيت في يديه مجمرةً يسخّن خرقةً، ثمّ يجعلها على جنبه من الضّرب، فقال:
يا أبا جعفرٍ، ما كان في القوم أرأف بي من المعتصم.
- وعن أبي عبد الله البوشنجيّ، قال: حدّث أحمد ببغداد جهرةً حين مات المعتصم.
فرجعت من الكوفة، فأدركته في رجبٍ، سنة سبعٍ وعشرين، وهو يحدّث، ثمّ قطع الحديث لثلاثٍ بقين من شعبان بلا منعٍ.
بل كتب الحسن بن عليّ بن الجعد قاضي بغداد إلى ابن أبي دواد:
إنّ أحمد قد انبسط في الحديث، فبلغ ذلك أحمد، فقطع الحديث وإلى أن توفّي.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 263-265]


قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): ( فصلٌ في حال الإمام في دولة المتوكّل
قال حنبلٌ: ولي المتوكّل جعفرٌ، فأظهر الله السّنّة، وفرّج عن النّاس، وكان أبو عبد الله يحدّثنا ويحدّث أصحابه في أيّام المتوكّل.
وسمعته يقول: ما كان النّاس إلى الحديث والعلم أحوج منهم إليه في زماننا.
قال حنبلٌ: ثمّ إنّ المتوكّل ذكره، وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم في إخراجه إليه، فجاء رسول إسحاق إلى أبي عبد الله يأمره بالحضور، فمضى أبو عبد الله ثمّ رجع، فسأله أبي عمّا دعي له؟
فقال: قرأ عليّ كتاب جعفرٍ يأمرني بالخروج إلى العسكر -يعني: سرّ من رأى-.
قال: وقال لي إسحاق بن إبراهيم: ما تقول في القرآن؟
فقلت: إنّ أمير المؤمنين قد نهى عن هذا.
قال: وخرج إسحاق إلى العسكر، وقدّم ابنه محمّداً ينوب عنه ببغداد.
قال أبو عبد الله: وقال لي إسحاق بن إبراهيم: لا تعلم أحداً أنّي سألتك عن القرآن!
فقلت له: مسألة مسترشدٍ أو مسألة متعنّتٍ؟
قال: بل مسترشدٍ.
قلت: القرآن كلام الله ليس بمخلوقٍ.
قال صالح بن أحمد: قال أبي: قال لي إسحاق بن إبراهيم: اجعلني في حلٍّ من حضوري ضربك.
فقلت: قد جعلت كلّ من حضرني في حلٍّ.
وقال لي: من أين قلت: إنّه غير مخلوقٍ؟
فقلت: قال الله: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، ففرّق بين الخلق والأمر.
فقال إسحاق: الأمر مخلوقٌ.
فقال:يا سبحان الله! أمخلوقٌ يخلق خلقاً؟!!
قلت: يعني: إنّما خلق الكائنات بأمره، وهو قوله: (كن} [الأنعام: 73].
قال: ثمّ قال لي: عمّن تحكي أنّه ليس بمخلوقٍ؟
قلت: عن جعفر بن محمّدٍ، قال: ليس بخالقٍ ولا مخلوقٍ.
قال حنبلٌ: ولم يكن عند أبي عبد الله ما يتحمّل به أو ينفقه، وكانت عندي مائة درهمٍ، فأتيت بها أبي، فذهب بها إليه، فأصلح بها ما احتاج إليه، واكترى وخرج، ولم يمض إلى محمّد بن إسحاق بن إبراهيم، ولا سلّم عليه.
فكتب بذلك محمّدٌ إلى أبيه، فحقدها إسحاق عليه، وقال: يا أمير المؤمنين! إنّ أحمد خرج من بغداد، ولم يأت مولاك محمّداً.
فقال المتوكّل: يردّ ولو وطئ بساطي - وكان أحمد قد بلغ بصرى -.
فردّ، فرجع وامتنع من الحديث إلاّ لولده ولنا، وربّما قرأ علينا في منزلنا.
ثمّ إنّ رافعاً رفع إلى المتوكّل: إنّ أحمد ربّص علويّاً في منزله، يريد أن يخرجه ويبايع عليه.
قال: ولم يكن عندنا علمٌ، فبينا نحن ذات ليلةٍ نيامٌ في الصّيف، سمعنا الجلبة، ورأينا النّيران في دار أبي عبد الله، فأسرعنا، وإذا به قاعدٌ في إزارٍ، ومظفّر بن الكلبيّ صاحب الخبر وجماعةٌ معهم، فقرأ صاحب الخبر كتاب المتوكّل:
ورد على أمير المؤمنين أنّ عندكم علويّاً ربّصته لتبايع له وتظهره...، في كلامٍ طويلٍ.
ثمّ قال له مظفّرٌ: ما تقول؟
قال: ما أعرف من هذا شيئاً، وإنّي لأرى له السّمع والطّاعة في عسري ويسري، ومنشطي ومكرهي، وأثرةٍ عليّ، وإنّي لأدعو الله له بالتّسديد والتّوفيق في اللّيل والنّهار...، في كلامٍ كثيرٍ.
فقال مظفّرٌ: قد أمرني أمير المؤمنين أن أحلّفك.
قال: فأحلفه بالطّلاق ثلاثاً أنّ ما عنده طلبة أمير المؤمنين.
ثمّ فتّشوا منزل أبي عبد الله والسرب والغرف والسطوح، وفتّشوا تابوت الكتب، وفتّشوا النّساء والمنازل، فلم يروا شيئاً، ولم يحسّوا بشيءٍ، وردّ الله الّذين كفروا بغيظهم، وكتب بذلك إلى المتوكّل، فوقع منه موقعاً حسناً، وعلم أنّ أبا عبد الله مكذوبٌ عليه.
وكان الّذي دسّ عليه رجلٌ من أهل البدع، ولم يمت حتّى بيّن الله أمره للمسلمين، وهو ابن الثّلجيّ .
فلمّا كان بعد أيّامٍ، بينا نحن جلوسٌ بباب الدّار، إذا يعقوب - أحد حجّاب المتوكّل - قد جاء، فاستأذن على أبي عبد الله، فدخل، ودخل أبي وأنا، ومع بعض غلمانه بدرةٌ على بغلٍ، ومعه كتاب المتوكّل، فقرأه على أبي عبد الله:
إنّه صحّ عند أمير المؤمنين براءة ساحتك، وقد وجّه إليك بهذا المال تستعين به.
فأبى أن يقبله، وقال: ما لي إليه حاجةٌ.
فقال: يا أبا عبد الله، اقبل من أمير المؤمنين ما أمرك به، فإنّه خيرٌ لك عنده، فإنّك إن رددته، خفت أن يظنّ بك سوءاً.
فحينئذٍ قبلها.
فلمّا خرج، قال: يا أبا عليٍّ.
قلت: لبّيك.
قال: ارفع هذه الإنجانة وضعها -يعني: البدرة- تحتها.
ففعلت، وخرجنا.
فلمّا كان من اللّيل، إذا أمّ ولد أبي عبد الله تدقّ علينا الحائط، فقالت: مولاي يدعو عمّه.
فأعلمت أبي، وخرجنا، فدخلنا على أبي عبد الله، وذلك في جوف اللّيل، فقال: يا عمّ! ما أخذني النّوم.
قال: ولم؟
قال: لهذا المال.
وجعل يتوجّع لأخذه، وأبي يسكّنه، ويسهّل عليه، وقال: حتّى تصبح وترى فيه رأيك، فإنّ هذا ليلٌ، والنّاس في المنازل.
فأمسك وخرجنا، فلمّا كان من السّحر، وجّه إلى عبدوس بن مالكٍ، وإلى الحسن بن البزّار، فحضرا، وحضر جماعةٌ، منهم: هارون الحمّال، وأحمد بن منيعٍ، وابن الدّورقيّ، وأبي، وأنا، وصالحٌ، وعبد الله، وجعلنا نكتب من يذكرونه من أهل السّتر والصّلاح ببغداد والكوفة، فوجّه منها إلى أبي كريبٍ، وللأشجّ، وإلى من يعلمون حاجته، ففرّقها كلّها ما بين الخمسين إلى المائة، وإلى المائتين، فما بقي في الكيس درهمٌ .
فلمّا كان بعد ذلك، مات الأمير إسحاق بن إبراهيم وابنه محمّدٌ، ثمّ ولي بغداد عبد الله بن إسحاق، فجاء رسولٌ إلى أبي عبد الله، فذهب إليه، فقرأ عليه كتاب المتوكّل، وقال له: يأمرك بالخروج -يعني: إلى سامرّاء-.
فقال: أنا شيخٌ ضعيفٌ عليلٌ.
فكتب عبد الله بما ردّ عليه، فورد جواب الكتاب: إنّ أمير المؤمنين يأمره بالخروج.
فوجّه عبد الله أجناداً، فباتوا على بابنا أيّاماً، حتّى تهيّأ أبو عبد الله للخروج، فخرج ومعه صالحٌ وعبد الله وأبي زميلةً .
وقال صالحٌ: كان حمل أبي إلى المتوكّل سنة سبعٍ وثلاثين، ثمّ وإلى أن مات أبي قلّ يومٌ يمضي إلاّ ورسول المتوكّل يأتيه.
وقال صالحٌ: وجّه إسحاق إلى أبي: الزم بيتك، ولا تخرج إلى جماعةٍ ولا جمعةٍ، وإلاّ نزل بك ما نزل بك أيّام أبي إسحاق.
وقال ابن الكلبيّ: أريد أن أفتّش منزلك ومنزل ابنك.
فقام مظفّرٌ وابن الكلبيّ، وامرأتان معهما، ففتّشوا، ودلّوا شمعةً في البئر، ونظروا، ثمّ خرجوا، فلمّا كان بعد يومين، ورد كتاب عليّ بن الجهم: إنّ أمير المؤمنين قد صحّ عنده براءتك، وذكر نحواً من رواية حنبلٍ.
قال حنبلٌ: فأخبرني أبي، قال:
دخلنا إلى العسكر، فإذا نحن بموكبٍ عظيمٍ مقبلٍ، فلمّا حاذى بنا، قالوا: هذا وصيفٌ.
وإذا بفارسٍ قد أقبل، فقال لأبي عبد الله: الأمير وصيفٌ يقرئك السّلام، ويقول لك: إنّ الله قد أمكنك من عدوّك -يعني: ابن أبي دواد- وأمير المؤمنين يقبل منك، فلا تدع شيئاً إلاّ تكلّمت به.
فما ردّ عليه أبو عبد الله شيئاً، وجعلت أنا أدعو لأمير المؤمنين، ودعوت لوصيفٍ، ومضينا، فأنزلنا في دار إيتاخ، ولم يعرف أبو عبد الله، فسأل بعد: لمن هذه الدّار؟
قالوا: هذه دار إيتاخ .
قال: حوّلوني، اكتروا لي داراً.
قالوا: هذه دارٌ أنزلكها أمير المؤمنين.
قال: لا أبيت ها هنا.
ولم يزل حتّى اكترينا له داراً، وكانت تأتينا في كلّ يومٍ مائدةٌ فيها ألوانٌ يأمر بها المتوكّل والثّلج والفاكهة وغير ذلك، فما ذاق منها أبو عبد الله شيئاً، ولا نظر إليها، وكان نفقة المائدة في اليوم مائةً وعشرين درهماً.
وكان يحيى بن خاقان، وابنه عبيد الله، وعليّ بن الجهم يختلفون إلى أبي عبد الله برسالة المتوكّل، ودامت العلّة بأبي عبد الله، وضعف شديداً.
وكان يواصل، ومكث ثمانية أيّامٍ لا يأكل ولا يشرب، ففي الثّامن دخلت عليه، وقد كاد أن يطفأ، فقلت: يا أبا عبد الله! ابن الزّبير كان يواصل سبعةً، وهذا لك اليوم ثمانية أيّامٍ!
قال: إنّي مطيقٌ.
قلت: بحقّي عليك.
قال: فإنّي أفعل.
فأتيته بسويقٍ، فشرب، ووجّه إليه المتوكّل بمالٍ عظيمٍ، فردّه، فقال له عبيد الله بن يحيى: فإنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك.
قال: هم مستغنون.
فردّها عليه، فأخذها عبيد الله، فقسمها على ولده، ثمّ أجرى المتوكّل على أهله وولده في كلّ شهرٍ أربعة آلافٍ، فبعث إليه أبو عبد الله: إنّهم في كفايةٍ، وليست بهم حاجةٌ.
فبعث إليه المتوكّل: إنّما هذا لولدك، فما لك ولهذا؟
فأمسك أبو عبد الله، فلم يزل يجري علينا حتّى مات المتوكّل.
وجرى بين أبي عبد الله وبين أبي كلامٌ كثيرٌ، وقال: يا عمّ! ما بقي من أعمارنا، كأنّك بالأمر قد نزل، فالله الله، فإنّ أولادنا إنّما يريدون أن يأكلوا بنا، وإنّما هي أيّامٌ قلائل، وإنّما هذه فتنةٌ.
قال أبي: فقلت: أرجو أن يؤمّنك الله ممّا تحذر.
فقال: كيف وأنتم لا تتركون طعامهم ولا جوائزهم؟ لو تركتموها، لتركوكم، ماذا ننتظر؟ إنّما هو الموت، فإمّا إلى جنّةٍ، وإمّا إلى نارٍ، فطوبى لمن قدم على خيرٍ.
قال: فقلت: أليس قد أمرت ما جاءك من هذا المال من غير إشراف نفسٍ ولا مسألةٍ أن تأخذه؟
قال: قد أخذت مرّةً بلا إشراف نفسٍ، فالثّانية والثّالثة؟ ألم تستشرف نفسك؟
قلت: أفلم يأخذ ابن عمر وابن عبّاسٍ؟
فقال: ما هذا وذاك!
وقال: لو أعلم أنّ هذا المال يؤخذ من وجهه، ولا يكون فيه ظلمٌ ولا حيفٌ، لم أبال.
قال حنبلٌ: ولمّا طالت علّة أبي عبد الله، كان المتوكّل يبعث بابن ماسويه المتطبّب، فيصف له الأدوية، فلا يتعالج، ويدخل ابن ماسويه، فقال: يا أمير المؤمنين، ليست بأحمد علّةٌ، إنّما هو من قلّة الطّعام والصّيام والعبادة.
فسكت المتوكّل.
وبلغ أمّ المتوكّل خبر أبي عبد الله، فقالت لابنها: أشتهي أن أرى هذا الرّجل.
فوجّه المتوكّل إلى أبي عبد الله يسأله أن يدخل على ابنه المعتزّ، ويدعو له، ويسلّم عليه، ويجعله في حجره.
فامتنع، ثمّ أجاب، رجاء أن يطلق وينحدر إلى بغداد، فوجّه إليه المتوكّل خلعةً، وأتوه بدابّةٍ يركبها إلى المعتزّ، فامتنع، وكانت عليه ميثرة نمورٍ، فقدّم إليه بغلٌ لتاجرٍ، فركبه، وجلس المتوكّل مع أمّه في مجلسٍ من المكان، وعلى المجلس سترٌ رقيقٌ، فدخل أبو عبد الله على المعتزّ، ونظر إليه المتوكّل وأمّه.
فلمّا رأته، قالت: يا بنيّ، الله الله في هذا الرّجل، فليس هذا ممّن يريد ما عندكم، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله، فائذن له ليذهب.
فدخل أبو عبد الله على المعتزّ، فقال: السّلام عليكم.
وجلس، ولم يسلّم عليه بالإمرة، فسمعت أبا عبد الله بعد يقول:
لمّا دخلت عليه، وجلست، قال مؤدّبه: أصلح الله الأمير، هذا هو الّذي أمره أمير المؤمنين يؤدّبك ويعلّمك؟
فقال الصّبيّ: إن علّمني شيئاً، تعلّمته.
قال أبو عبد الله: فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره، وكان صغيراً.
ودامت علّة أبي عبد الله، وبلغ المتوكّل ما هو فيه، وكلّمه يحيى بن خاقان أيضاً، وأخبره أنّه رجلٌ لا يريد الدّنيا، فأذن له في الانصراف، فجاء عبيد الله بن يحيى وقت العصر، فقال: إنّ أمير المؤمنين قد أذن لك، وأمر أن يفرش لك حرّاقةً تنحدر فيها.
فقال أبو عبد الله: اطلبوا لي زورقاً أنحدر السّاعة.
فطلبوا له زورقاً، فانحدر لوقته.
قال حنبلٌ: فما علمنا بقدومه حتّى قيل: إنّه قد وافى.
فاستقبلته بناحية القطيعة، وقد خرج من الزّورق، فمشيت معه، فقال لي: تقدّم لا يراك النّاس فيعرفوني، فتقدّمته.
قال: فلمّا وصل، ألقى نفسه على قفاه من التّعب والعياء.
وكان ربّما استعار الشّيء من منزلنا ومنزل ولده، فلمّا صار إلينا من مال السّلطان ما صار، امتنع من ذلك، حتّى لقد وصف له في علّته قرعةٌ تشوى، فشويت في تنّور صالحٍ، فعلم، فلم يستعملها، ومثل هذا كثيرٌ.
- وقد ذكر صالحٌ قصّة خروج أبيه إلى العسكر، ورجوعه، وتفتيش بيوتهم على العلويّ، وورود يعقوب بالبدرة، وأنّ بعضها كان مائتي دينارٍ، وأنّه بكى، وقال: سلمت منهم، حتّى إذا كان في آخر عمري، بليت بهم، عزمت عليك أن تفرّقها غداً.
فلمّا أصبح، جاءه حسن بن البزّار، فقال: جئني يا صالح بميزانٍ، وجّهوا إلى أبناء المهاجرين والأنصار، وإلى فلانٍ.
حتّى فرّق الجميع، ونحن في حالةٍ الله بها عليمٌ، فجاءني ابنٌ لي، فطلب درهماً، فأخرجت قطعةً، فأعطيته، فكتب صاحب البريد: إنّه تصدّق بالكلّ ليومه، حتّى بالكيس.
قال عليّ بن الجهم: فقلت: يا أمير المؤمنين، قد تصدّق بها، وعلم النّاس أنّه قد قبل منك، وما يصنع أحمد بالمال؟! وإنّما قوته رغيفٌ.
قال: صدقت.
قال صالحٌ: ثمّ أخرج أبي ليلاً، ومعنا حرّاسٌ، فلمّا أصبح، قال: أمعك دراهم؟
قلت: نعم.
قال: أعطهم.
وجعل يعقوب يسير معه، فقال له: يا أبا عبد الله، ابن الثّلجيّ بلغني أنّه كان يذكرك.
قال: يا أبا يوسف، سل الله العافية.
قال: يا أبا عبد الله، تريد أن نؤدّي عنك رسالةً إلى أمير المؤمنين.
فسكت، فقال: إنّ عبد الله بن إسحاق أخبرني أنّ الوابصيّ قال له: إنّي أشهد عليه أنّه قال: إنّ أحمد يعبد ماني !
فقال: يا أبا يوسف، يكفي الله.
فغضب يعقوب، والتفت إليّ، فقال: ما رأيت أعجب ممّا نحن فيه، أسأله أن يطلق لي كلمةً أخبر بها أمير المؤمنين، فلا يفعل.
قال: ووجّه يعقوب إلى المتوكّل بما عمل، ودخلنا العسكر، وأبي منكّس الرّأس، ورأسه مغطّى، فقال له يعقوب: اكشف رأسك.
فكشفه، ثمّ جاء وصيفٌ يريد الدّار، ووجّه إلى أبي بيحيى بن هرثمة، فقال: يقرئك أمير المؤمنين السّلام، ويقول: الحمد لله الّذي لم يشمت بك أهل البدع، قد علمت حال ابن أبي دواد، فينبغي أن تتكلّم فيه بما يجب لله.
ومضى يحيى، وأنزل أبي في دار إيتاخ، فجاء عليّ بن الجهم، وقال: قد أمر لكم أمير المؤمنين بعشرة آلافٍ مكان الّتي فرّقها، وأن لا يعلم شيخكم بذلك فيغتمّ.
ثمّ جاءه محمّد بن معاوية، فقال: إنّ أمير المؤمنين يكثر ذكرك، ويقول: تقيم هنا تحدّث.
فقال: أنا ضعيفٌ.
وصار إليه يحيى بن خاقان، فقال: يا أبا عبد الله، قد أمر أمير المؤمنين أن آتيك لتركب إلى ابنه المعتزّ.
وقال لي: أمرني أمير المؤمنين يجرى عليه وعلى قرابتكم أربعة آلافٍ .
ثمّ عاد يحيى من الغد، فقال: يا أبا عبد الله، تركب؟
قال: ذاك إليكم.
ولبس إزاره وخفّه، وكان للخفّ عنده خمسة عشر عاماً، قد رقّع برقاعٍ عدّةٍ، فأشار يحيى أن يلبس قلنسوةً.
قلت: ما له قلنسوةٌ...، إلى أن قال: فدخل دار المعتزّ، وكان قاعداً على مصطبةٍ في الدّار، فصعد، وقعد، فقال له يحيى: يا أبا عبد الله، إنّ أمير المؤمنين جاء بك ليسرّ بقربك، ويصيّر ابنه عبد الله في حجرك.
فأخبرني بعض الخدّام أنّ المتوكّل كان قاعداً وراء سترٍ، فقال لأمّه: يا أمّه، قد أنارت الدّار.
ثمّ جاء خادمٌ بمنديلٍ، فأخذ يحيى المنديل، وذكر قصّةً في إلباس أبي عبد الله القميص والقلنسوة والطّيلسان، وهو لا يحرّك يده، ثمّ انصرف.
وقد كانوا تحدّثوا: أنّه يخلع عليه سواداً.
فلمّا جاء، نزع الثّياب، وجعل يبكي، وقال: سلمت من هؤلاء منذ ستّين سنةً، حتّى إذا كان في آخر عمري، بليت بهم! ما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام، فكيف بمن يجب عليّ نصحه؟! يا صالح، وجّه بهذه الثّياب إلى بغداد تباع، ويتصدّق بثمنها، ولا يشتري أحدٌ منكم منها شيئاً.
فوجّهت بها إلى يعقوب بن بختان، فباعها، وفرّق ثمنها، وبقيت عندي القلنسوة.
قال: ومكث خمسة عشر يوماً يفطر كلّ ثلاثٍ على ثمن سويقٍ، ثمّ جعل بعد ذلك يفطر ليلةً على رغيفٍ، وليلةً لا يفطر، وإذا جاؤوا بالمائدة، توضع في الدّهليز لئلاّ يراها، وكان إذا أجهده الحرّ، بلّ خرقةً، فيضعها على صدره، وفي كلّ يومٍ يوجّه إليه بابن ماسويه، فينظر إليه، فقال: يا أبا عبد الله، أنا أميل إليك وإلى أصحابك، وما بك علّةٌ سوى الضّعف وقلّة الرّزّ .
قال: وجعل يعقوب وغياثٌ يصيران إليه، ويقولان له: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول في ابن أبي دواد وفي ماله؟
فلا يجيب بشيءٍ.
وجعل يعقوب ويحيى يخبرانه بما يحدث في أمر ابن دواد.
ثمّ بعث إلى بغداد بعد ما أشهد عليه ببيع ضياعه، وكان ربّما جاء يحيى بن خاقان - وأبو عبد الله يصلّي - فيجلس في الدّهليز حتّى يفرغ من الصّلاة.
وأمر المتوكّل أن تشترى لنا دارٌ، فقال: يا صالح.
قلت: لبّيك.
قال: لئن أقررت لهم بشراء دارٍ، لتكونّن القطيعة بيني وبينكم، إنّما يريدون أن يصيّروا هذا البلد لي مأوىً.
فلم يزل يدافع بشراء الدّار حتّى اندفع.
وجعلت رسل المتوكّل تأتيه يسألونه عن خبره، ويرجعون، فيقولون: هو ضعيفٌ.
وفي خلال ذلك يقولون: يا أبا عبد الله، لا بدّ من أن يراك.
وجاءه يعقوب، فقال: أمير المؤمنين مشتاقٌ إليك، ويقول: انظر يوماً تصير فيه - أيّ يومٍ - حتّى أعرّفه.
فقال: ذاك إليكم.
فقال: يوم الأربعاء، وخرج.
فلمّا كان من الغد، جاء، فقال: البشرى يا أبا عبد الله! إنّ أمير المؤمنين يقرأ عليك السّلام، ويقول: قد أعفيتك من لبس السّود والرّكوب إلى ولاة العهود وإلى الدّار، فالبس ما شئت .
فجعل يحمد الله على ذلك.
ثمّ قال يعقوب: إنّ لي ابناً به معجبٌ، وإنّ له في قلبي موقعاً، فأحبّ أن تحدّثه بأحاديث.
فسكت، فلما خرج، قال: أتراه لا يرى ما أنا فيه؟!!
وكان يختم القرآن من جمعةٍ إلى جمعةٍ، وإذا ختم، دعا، ونحن نؤمّن، فلمّا كان غداة الجمعة، وجّه إليّ وإلى أخي.
فلمّا ختم، جعل يدعو ونحن نؤمّن، فلمّا فرغ، جعل يقول: أستخير الله مرّاتٍ.
فجعلت أقول: ما يريد؟
ثمّ قال: إنّي أعطي الله عهداً، إنّ عهده كان مسؤولاً، وقال -تعالى-: {يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] إنّي لا أحدّث بحديثٍ تمامٍ أبداً حتّى ألقى الله، ولا أستثني منكم أحداً.
فخرجنا، وجاء عليّ بن الجهم، فأخبرناه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وأخبر المتوكّل بذلك.
وقال: إنّما يريدون أحدّث، ويكون هذا البلد حبسي، وإنّما كان سبب الّذين أقاموا بهذا البلد لمّا أعطوا فقبلوا، وأمروا فحدّثوا، والله لقد تمنّيت الموت في الأمر الّذي كان، وإنّي لأتمنّى الموت في هذا وذاك، إنّ هذا فتنة الدّنيا، وذاك كان فتنة الدّين.
ثمّ جعل يضمّ أصابعه، ويقول: لو كان نفسي في يدي، لأرسلتها.
ثمّ يفتح أصابعه .
وكان المتوكّل يكثر السّؤال عنه، وفي خلال ذلك يأمر لنا بالمال، ويقول: لا يعلم شيخهم فيغتمّ، ما يريد منهم؟ إن كان هو لا يريد الدّنيا، فلم يمنعهم؟!
وقالوا للمتوكّل: إنّه لا يأكل من طعامك، ولا يجلس على فراشك، ويحرّم الّذي تشرب.
فقال: لو نشر لي المعتصم، وقال فيه شيئاً، لم أقبل منه.
قال صالحٌ: ثمّ انحدرت إلى بغداد، وخلّفت عبد الله عنده، فإذا عبد الله قد قدم، فقلت: ما لك؟
قال: أمرني أن أنحدر.
وقال: قل لصالحٍ:
لا تخرج، فأنتم كنتم آفتي، والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما أخرجت واحداً منكم معي، لولاكم لمن كانت توضع هذه المائدة، وتفرش الفرش، وتجرى الأجراء ؟
فكتبت إليه أعلمه بما قال لي عبد الله، فكتب إليّ بخطّه:
أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك كلّ مكروهٍ ومحذورٍ، الّذي حملني على الكتاب إليك الّذي قلت لعبد الله، لا يأتيني منكم أحدٌ رجاء أن ينقطع ذكري ويخمل، وإذا كنتم ها هنا، فشا ذكري، وكان يجتمع إليكم قومٌ ينقلون أخبارنا، ولم يكن إلاّ خيرٌ، فإن أقمت فلم يأتني أنت ولا أخوك، فهو رضائي، ولا تجعل في نفسك إلاّ خيراً، والسّلام عليك.
قال: ولمّا سافرنا، رفعت المائدة والفرش، وكلّ ما أقيم لنا.
قال صالحٌ: وبعث المتوكّل إلى أبي بألف دينارٍ ليقسمها، فجاءه عليّ بن الجهم في جوف اللّيل، فأخبره بأنّه يهيّئ له حرّاقةً، ثمّ جاء عبيد الله بألف دينارٍ، فقال: إنّ أمير المؤمنين قد أذن لك، وأمر لك بهذا.
فقال: قد أعفاني أمير المؤمنين ممّا أكره.
فردّها، وقال: أنا رقيقٌ على البرد، والظّهر أرفق بي.
فكتب له جوازٌ، وكتب إلى محمّد بن عبد الله في برّه وتعاهده.
فقدم علينا، ثمّ قال: يا صالح.
قلت: لبّيك.
قال: أحبّ أن تدع هذا الرّزق، فإنّما تأخذونه بسببي.
فسكت، فقال: ما لك؟
قلت: أكره أن أعطيك بلساني، وأخالف إلى غيره، وليس في القوم أكثر عيالاً منّي، ولا أعذر، وقد كنت أشكو إليك، وتقول: أمرك منعقدٌ بأمري، ولعلّ الله أن يحلّ عنّي هذه العقدة، وقد كنت تدعو لي، فأرجو أن يكون الله قد استجاب لك.
فقال: والله لا تفعل.
فقلت: لا.
فقال: لم؟ فعل الله بك وفعل!!
- وذكر قصّةً في دخول عبد الله أخيه عليه، وقوله وجوابه له، ثمّ دخول عمّه عليه، وإنكاره للأخذ.
قال: فهجرنا أبي، وسدّ الأبواب بيننا وبينه، وتحامى منازلنا، ثمّ أخبر بأخذ عمّه، فقال: نافقتني وكذبتني!!
ثمّ هجره، وترك الصّلاة في المسجد، وخرج إلى مسجدٍ آخر يصلّي فيه.
ثمّ ذكر قصّةً في دعائه صالحاً، ومعاتبته له، ثمّ في كتابته إلى يحيى بن خاقان ليترك معونة أولاده، وأنّ الخبر بلغ المتوكّل، فأمر بحمل ما اجتمع لهم من عشرة أشهرٍ إليهم، فكان أربعين ألف درهمٍ.
وأنّ أبا عبد الله أخبر بذلك، فسكت قليلاً، وأطرق، ثمّ قال: ما حيلتي إن أردت أمراً، وأراد الله أمراً؟!
قال صالحٌ: وكان رسول المتوكّل يأتي أبي يبلغه السّلام، ويسأله عن حاله.
قال: فتأخذه قشعريرةٌ حتّى ندثّره، ثمّ يقول: والله لو أنّ نفسي في يدي، لأرسلتها.
وجاء رسول المتوكّل إليه يقول: لو سلم أحدٌ من النّاس، سلمت أنت، رفع رجلٌ إلينا : أنّ علويّاً قدم من خراسان، وأنّك وجّهت إليه من يلقاه، وقد حبست الرّجل، وأردت ضربه، فكرهت أن تغتمّ، فمر فيه.
قال: هذا باطلٌ يخلّى سبيله.
ثمّ ذكر صالحٌ قصّةً في قدوم المتوكّل بغداد، وإشارة أبي عبد الله على صالحٍ بأن لا يذهب إليهم، ومجيء يحيى بن خاقان من عند المتوكّل، وقوله: قد أعفاني أمير المؤمنين من كلّ ما أكره، وفي توجيه أمير بغداد محمّد بن عبد الله بن طاهرٍ إلى أحمد ليحضر إليه، وامتناع أحمد، وقوله: أنا رجلٌ لم أخالط السّلطان، وقد أعفاني أمير المؤمنين ممّا أكره، وهذا ممّا أكره.
قال: وكان قد أدمن الصّوم لمّا قدم من سامرّاء، وجعل لا يأكل الدّسم، وكان قبل ذلك يشترى له الشّحم بدرهمٍ، فيأكل منه شهراً !!
- الخلاّل: حدّثني محمّد بن الحسين، أنّ المرّوذيّ حدّثهم، قال:
كان أبو عبد الله بالعسكر يقول: انظر، هل تجد ماء باقلّى ؟ فكنت ربّما بللت خبزه بالماء، فيأكله بالملح .
ومنذ دخلنا العسكر إلى أن خرجنا، ما ذاق طبيخاً ولا دسماً.
- وعن المرّوذيّ، قال: أنبهني أبو عبد الله ليلةً، وكان قد واصل، فقال: هو ذا يدار بي من الجوع، فأطعمني شيئاً.
فجئته بأقلّ من رغيفٍ، فأكله، وقال: لولا أنّي أخاف العون على نفسي، ما أكلت.
وكان يقوم إلى المخرج، فيقعد يستريح من الجوع، حتّى إن كنت لأبلّ الخرقة، فيلقيها على وجهه، لترجع نفسه إليه، حتّى إنّه أوصى من الضّعف من غير مرضٍ، فسمعته يقول - ونحن بالعسكر هذا -:
ما أوصى به أحمد بن محمّدٍ، أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله.
وقال عبد الله بن أحمد: أوصى أبي هذه:
هذا ما أوصى به أحمد بن محمّد بن حنبلٍ، أوصى أنّه يشهد أن لا إله إلاّ الله، إلى أن قال:
وأوصى أن عليّ لفوران نحواً من خمسين ديناراً، وهو مصدّقٌ فيما قال، فيقضى من غلّة الدّار، فإذا استوفى، أعطي ولد عبد الله وصالحٍ، كلّ ذكرٍ وأنثى عشرة دراهم.
شهد: أبو يوسف، وعبد الله وصالحٌ؛ ابنا أحمد.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 265-281]

قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (- وعن جرير بن أحمد بن أبي دواد، قال: قال أبي:
ما رأيت أحداً أشدّ قلباً من هذا -يعني: أحمد- جعلنا نكلّمه، جعل الخليفة يكلّمه، يسمّيه مرّةً ويكنيه مرّةً، وهو يقول:
يا أمير المؤمنين، أوجدني شيئاً من كتاب الله أو سنّة رسوله حتّى أجيبك إليه.
- أبو يعقوب القرّاب: أخبرنا أبو بكرٍ بن أبي الفضل، أخبرنا محمّد بن إبراهيم الصّرّام، حدّثنا إبراهيم بن إسحاق، حدّثني الحسن بن عبد العزيز الجرويّ، قال:
دخلت أنا والحارث بن مسكينٍ على أحمد حدثان ضربه، فقال لنا: ضربت فسقطت وسمعت ذاك -يعني: ابن أبي دواد- يقول:
يا أمير المؤمنين، هو والله ضالٌّ مضلٌّ.
فقال له الحارث: أخبرني يوسف بن عمر، عن مالكٍ، أنّ الزّهريّ سعي به حتّى ضرب بالسّياط.
وقيل: علّقت كتبه في عنقه.
ثمّ قال مالكٌ: وقد ضرب سعيد بن المسيّب، وحلق رأسه ولحيته، وضرب أبو الزّناد، وضرب محمّد بن المنكدر، وأصحابٌ له في حمّامٍ بالسّياط.
وما ذكر مالكٌ نفسه، فأعجب أحمد بقول الحارث.
- قال مكّيّ بن عبدان: ضرب جعفر بن سليمان مالكاً تسعين سوطاً سنة 147.
وروي عن محمّد بن أبي سمينة، عن شاباص التّائب، قال:
لقد ضرب أحمد بن حنبلٍ ثمانين سوطاً، لو ضربته على فيلٍ، لهدّته.). [سير أعلام النبلاء: 11/295]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 06:46 AM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

ذكر امتحان عفّان بن مسلم رحمه الله وما كان من ثباته على الحق

قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( - حدّثنا أبو عمر حمزة بن القاسم بن عبد العزيز الهاشميّ الخطيب، كان في جامع منصورٍ قال: حدّثنا أبو عليٍّ حنبل بن إسحاق بن حنبلٍ، قال: حضرت أبا عبد اللّه أحمد بن حنبلٍ، ويحيى بن معينٍ عند عفّان وكان أوّل ما امتحن عفّان، وسأله يحيى بعدما امتحن من الغد فقال له: يا أبا عثمان أخبرنا بما كلّمك به إسحاق وما كان مرّده عليك؟
فقال: «يا أبا زكريّا لم أسوّد وجهك ولا وجوه أصحابك، يعني بذلك أنّي لم أجب»
فقال له: كيف كان؟
قال: " قرأ عليّ الكتاب الّذي كتب به المأمون من أرض الجزيرة من الرّقة، فإذا فيه: امتحن عفّان وادعه إلى أن يقول: القرآن - يعني: مخلوقٌ - فإن أجاب فأقرّه على أمره، وإن لم يجبك إلى ما كتبت به، فاقطع عنه الّذي تجري عليه " قال عفّان: " فلمّا قرأ عليّ، قال لي إسحاق: ما تقول؟ فقرأت عليه {قل هو اللّه أحدٌ} [الإخلاص: 1] " فقال لي إسحاق: يا شيخ إنّ أمير المؤمنين يقول: إنّك إن لم تجبه إلى ما يدعوك إليه يقطع عنك ما يجري عليك، وإن قطع عنك أمير المؤمنين قطعنا نحن أيضًا.
فقال: قال عفّان: فقلت له: فقول اللّه عزّ وجلّ {وفي السّماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات: 22] قال: فسكت عنّي وانصرفت، فسرّ أبو عبد اللّه بذلك ويحيى وأصحابهم "
قال حنبلٌ: فسمعت أبا عبد اللّه بعد ذلك يقول: " سبحان اللّه كان النّاس يتكلّمون يعني: في هذين الشّيخين ويذكرونهما، وكنّا من النّاس في أمرهما ما اللّه به عليمٌ، قاما للّه بأمرٍ لم يقم به أحدٌ مثل ما قاما به عفّان وأبو نعيمٍ.
- وحدّثنا أبو إسحاق إبراهيم الشّيرجيّ، قال: حدّثنا المرّوذيّ، قال: حدّثني أبو بكرٍ الأعين، قال: كنت عند عفّان وقد دعاه إسحاق لهذا الأمر، فقال: " أعطوني ثيابي، فجاءوه بقميصٍ جديدٍ، فقال لهم: هذا يكون لكم، هاتوا قميصًا خلقًا. قال: فألبسته إيّاه، يعني: لضرب العنق "
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون، قال: أخبرنا عليّ بن سهل بن المغيرة البزّاز، قال: " لمّا امتحن عفّان قال: امتحنه إسحاق بن إبراهيم بكتاب المأمون، وكان المأمون يجري على عفّان كلّ شهرٍ خمسمائة درهمٍ، وكان إسحاق يجري عليه ثلاثمائة درهمٍ، فكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم: امتحن عفّان، فإن أجاب إلى خلق القرآن، فأجر عليه ما كنّا نجري، وإن لم يجب، فأسقط عنه ما كان يجرى عليه، فبعث إسحاق فأحضره، وقرأ عليه كتاب المأمون فأبى أن يجيب، فقال له إسحاق: يا شيخ إنّه يقطع عنك ما كان يجري عليك إن لم تجب، فلا أدري ما ردّ عليه، قال عليّ بن سهلٍ: فأحسن إسحاق في أمره، وكتب إلى المأمون أنّه شيخٌ كبيرٌ مريضٌ، وقد امتحنه فلم يجب، ولا أحسب يصل كتابي إلى أمير المؤمنين إلّا وقد توفّي.). [الإبانة الكبرى: 6/ 293-295]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:19 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

ذكر من أجاب في المحنة من أئمة أهل السنة، ثم رجع عن ذلك

قال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ (ت: 265هـ) :
(باب من أريد على أن يقول القرآن مخلوق فأجاب إلى هذا والصّلاة خلفه وخلف من ارتدّ
أخبرنا المخلدي قال حدثنا عبد الله بن محمّد الاسفرايني قال أبو الفضل قال أبي: (إن امتحن فلا يجيب ولا كراهة فالمكروه لا يكون عندي إلّا أن ينال بضرب أو بتعذيب؛ فأما المتهدد فلا يكون عندي بالتهديد مكرها لأنَّ الآية الّتي قال الله فيها {إلّا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} نزلت في عمار وكان عمار عذب).
قلت لأبي: فإذا اجتمع رجلان أحدهما قد امتحن والآخر لم يمتحن ثمّ حضرت الصّلاة.
قال: يتقدّم الّذي لم يمتحن.
وقال أبي :كان سفيان بن عيينة يحدث هذا الحديث ولم أسمعه أنا عن إسماعيل عن قيس قال: اجتمع الأشعث بن قيس وجرير على جنازة فقدمه الأشعث عليها، وقال الأشعث للنّاس: (إنّي ارتددت وإنه لم يرتد) وأعجب أبي هذا الحديث.
قال أبو الفضل: حدثنا عليّ بن عبد الله عن سفيان عنينة؛ قال أبو الفضل: وضرب أبي على حديث كل من أجاب
وقال أبو الفضل: قدم ابن رباح يريد البصرة فبلغه أن عبد الله القواريري شيَّعه أو سلم عليه فصار القواريري إلى أبي فلمّا نظر إليه قال: (ألم يكف ما كان منك من الإجابة حتّى سلمت على ابن رباح ورد الباب في وجهه؟
وجاءه الحزامي - وقد ذهب إلى ابن دؤاد - فدق الباب فلمّا خرج إليه ورآه أغلق الباب ودخل). [سيرة الإمام أحمد: 73- 74]
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (أحمد بن عليٍّ الأبّار: حدّثنا يحيى بن عثمان الحربيّ، سمعت بشر بن الحارث يقول:
وددت أنّ رؤوسهم خضبت بدمائهم، وأنّهم لم يجيبوا).
[سير أعلام النبلاء: 11/ 323]


رؤيا عليّ بن المديني

قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ):
(
وحدّثني أبو عمر عبيد اللّه بن محمّد بن مسبّحٍ، قال: حدّثنا أبو محمّدٍ المنتصر بن تميم بن المنتصر، قال: أصبح عليّ بن المدينيّ
ذات يومٍ مغمومًا، فقال له أصحابه: ممّ غمّك؟
قال: " رأيت في منامي داود النّبيّ عليه السّلام قد صافحني، قال: فقيل له: ليس إلّا خيرٌ، نبيٌّ من الأنبياء، وكان عليّ بن المدينيّ من أعبر النّاس للرّؤيا، فقال: «أما إنّه لو كان أيّوب لابتليت في بدني، ولو كان يعقوب لابتليت في ولدي، ولكنّه داود ابتلي في دينه، وأنا أخاف اللّه أن أبتلى في ديني».
فما كانت إلّا أيّامٌ حتّى امتحن فأجاب، قال: فبينا هو جالسٌ ذات يومٍ بعد المحنة لأصحابه، إذ جاءته جاريةٌ برقعةٍ فدفعتها إليه، فقرأها ثمّ بكى قال: فسئل عمّا فيها فقال: بعض الأبيات، فإذا هي:
يا ابن المدينيّ الّذي عرضت له.....دنيا فجــــــــــــــــــــاد بدينه لينالها
مـــــــــــاذا دعاك إلى انتحال مقالةٍ.....قد كنت تزعم كافرًا من قالها
أمرٌ بدا لك رشده فتبعتــــــــــــــــــــــــه.....أم زهرة الدّنيا أردت نوالهــــــــا
فلقد عهدتك لا أبا لك جاهدًا.....صعب المقالة للّتي تدعى لها
إنّ المعزّى من يصاب بدينــــــــــــه.....لا من يرزّى ناقةً وفصالهـــــــــــــــــا
.). [الإبانة الكبرى: 6/ 288-289]
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (نقل أبو عليٍّ بن البنّاء، عن شيخٍ، عن آخر، أنّ هذه الأبيات لأحمد في عليٍّ:
يا ابن المدينيّ الّذي عرضت له ... دنيا، فجاد بدينه لينالها
ماذا دعاك إلى انتحال مقالةٍ ... قد كنت تزعم كافراً من قالها؟
أمرٌ بدا لك رشده فتبعتــــــــه ... أم زهرة الدّنيا أردت نوالها؟
ولقد عهدتك مرّةً متشدّداً ... صعب المقالة للّتي تدعى لها
إنّ المرزّى من يصاب بدينه ... لا من يرزّى ناقةً وفصالها
). [سير أعلام النبلاء: 11/ 324]


أبو نصر التمّار ، ويحيى بن معين
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (
سعيد بن عمرٍو البرذعيّ: سمعت أبا زرعة يقول:
كان أحمد لا يرى الكتابة عن أبي نصرٍ التّمّار، ولا يحيى بن معينٍ، ولا أحدٍ ممّن امتحن فأجاب.
- أبو عوانة: سمعت الميمونيّ يقول: صحّ عندي أنّ أحمد لم يحضر أبا نصرٍ التّمّار لمّا مات، فحسبت أنّ ذلك لإجابته في المحنة).

[سير أعلام النبلاء: 11/322]

أبو معمر الهذلي، وأبو كريب
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (وعن حجّاج بن الشّاعر، سمع أحمد يقول: لو حدّثت عن أحدٍ ممّن أجاب، لحدّثت عن أبي معمرٍ وأبي كريبٍ.
قلت: لأنّ أبا معمرٍ الهذليّ ندم ومقت نفسه، والآخر أجروا له دينارين بعد الإجابة، فردّهما مع فقره). [سير أعلام النبلاء: 11/322]


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:19 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

ذكر ما احتجّ به السلف على من تكلم في القرآن

قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( وحدّثني أبو عمر محمّد بن عبد الواحد النّحويّ، قال: " والإلّ: اسمٌ من أسماء اللّه عزّ وجلّ، ومنه قراءةٌ من قرأ (جبرائيل) قال ابن عبّاسٍ: " إلٌّ هاهنا اسمٌ من أسماء اللّه عزّ وجلّ، وخيّر العبد كأنّه عبد اللّه، ومنه قوله عزّ وجلّ: {لا يرقبون في مؤمنٍ إلًّا ولا ذمّةً} [التوبة: 10] قال: ومن ذلك لمّا فتح اللّه تعالى على أبي بكرٍ خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأهلك اللّه مسيلمة ومن كان معه، جاءوا بأسارى إلى أبي بكرٍ، فقال لهم أبو بكرٍ: هل معكم من كذب صاحبكم شيءٌ؟ قالوا: نعم، قال: هاتوه، فقالوا: ممّا جاء به من الكذب وزعم أنّه قرآنٌ: يا ضفدع نقّي نقّي، لا الماء تشربين ولا الطّعام تأكلين، ومنه شاةٌ سوداء تحلب لبنًا أبيض، هذا من العجب قال: وقال أبو بكرٍ رضي اللّه عنه: يا بني حنيفة، أين ذهب بكم؟ هل خرج هذا من إلٍّ؟
قال أبو عمر: قال أبو العبّاس أحمد بن يحيى: وهذا أحد الأدلّاء على أنّ القرآن كلام اللّه غير مخلوقٍ، لأنّ ما خرج من ذات اللّه لا يكون مخلوقًا.
- قال أبو عمر: سألت المشوّف الفيلسوف صديق إبراهيم، فقلت له: «أيجوز أن يكون النّوع من غير جوهر الجنس؟» قال: لا.
فقلت له: «أفطنت لما أردت؟» فقال: نعم، فحمدته على ذلك، قال أبو عمر: «لأنّه لا يكون مسحٌ من قطنٍ»
- قال أبو عمر: وسمعت ابن كيسان، وسأله رجلٌ فقال له: ما تقول في القرآن؟
فقال له ابن كيسان: أقول: «إنّ اللّه أمر وهو الخالق»، وأقول: «إنّ العبد مأمورٌ وهو مخلوقٌ»، وأقول: «إنّ القرآن أمره لا خالقٌ ولا مخلوقٌ»
ثمّ قال ابن كيسان: هذا مذهب العلماء أهل الإسلام، وهو مذهب أحمد بن حنبلٍ، وثعلبٍ، وأصحاب الحديث.). [الإبانة الكبرى: 6/ 291-293]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:17 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة