الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله تعالى وأنه غير مخلوق
قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ (360هـ): ( قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} ، وقال تعالى: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه}، وقال تعالى لنبيه عليه السلام: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت، فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته} وهو القرآن، وقال لموسى عليه السلام: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي}
قال محمد بن الحسين: ومثل هذا في القرآن كثير، وقال تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم}، وقال تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين}.). [الشريعة للآجري: ؟؟]
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( باب ذكر ما نطق به نصّ التّنزيل من القرآن الكريم بأنّه كلام اللّه، وأنّ اللّه عالمٌ متكلّمٌ قال اللّه عزّ وجلّ: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه} [التوبة: 6] وقال تعالى: {وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام اللّه ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75] وقال: {فآمنوا باللّه ورسوله النّبيّ الأمّيّ الّذي يؤمن باللّه وكلماته} [الأعراف: 158] وقال عزّ وجلّ: {قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مددًا} [الكهف: 109]، وقال عزّ وجلّ: {إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144]، وقال: {ولو أنّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحرٍ ما نفدت كلمات اللّه} وقال تعالى {يريدون أن يبدّلوا كلام اللّه} [الفتح: 15]
وقال تعالى: {وكلّم اللّه موسى تكليمًا} [النساء: 164] وقال تعالى {ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه} [الأعراف: 143] وقال تعالى: {ومن أصدق من اللّه حديثًا} [النساء: 87]، ولم يقل: أصدق من اللّه خلقًا. وقال: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} [البقرة: 30] ولم يقل: وإذ خلق ربّك. وقال عزّ وجلّ: {قال اللّه إنّي منزّلها عليكم} [المائدة: 115] وقال: {وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للنّاس} [المائدة: 116]، وقال تعالى: {قال اللّه هذا يوم ينفع الصّادقين صدقهم} [المائدة: 119]، وقال تعالى: {وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] وقال: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة} [البقرة: 35] ). [الإبانة الكبرى: 5/ 216-217]
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( وممّا ذكر اللّه عزّ وجلّ من كلامه في كتابه قوله تعالى: {فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ فتاب عليه} [البقرة: 37] وقال تعالى: {يسمعون كلام اللّه ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75] . وقال تعالى: {ما يأكلون في بطونهم إلّا النّار ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم} [البقرة: 174]
وقال: {بديع السّموات والأرض وإذا قضى أمرًا فإنّما يقول له كن فيكون} وقال عزّ وجلّ: {وقال الّذين لا يعلمون لولا يكلّمنا اللّه أو تأتينا آيةٌ} [البقرة: 118] وقال: {إنّ الّذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلّا النّار ولا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ} [البقرة: 174] وقال عزّ وجلّ: {إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ اللّه يبشّرك بكلمةٍ منه} [آل عمران: 45] .
وقال: {يخلق ما يشاء إذا قضى أمرًا فإنّما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47] وقال: {إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين} [آل عمران: 59] وقال: {إنّ الّذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنًا قليلًا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ} [آل عمران: 77] وقال: {إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه} [النساء: 171] وقال: {حتّى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات اللّه} [الأنعام: 34]
وقال: {وتمّت كلمة ربّك صدقًا وعدلًا لا مبدّل لكلماته وهو السّميع البصير} وقال: {وهو الّذي خلق السّموات والأرض بالحقّ ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ وله الملك} وقال عزّ وجلّ: {وتمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل} وقال عزّ وجلّ: {والشّمس والقمر والنّجوم مسخّراتٍ بأمره ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] وقال: {ويريد اللّه أن يحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر الكافرين} [الأنفال: 7] وقال: {وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة اللّه هي العليا} [التوبة: 40] وقال: {ولولا كلمةٌ سبقت من ربّك لقضي بينهم} [يونس: 19] وقال: {وكذلك حقّت كلمة ربّك على الّذين فسقوا} وقال: {لا تبديل لكلمات اللّه} [يونس: 64]
وقال: {ويحقّ اللّه الحقّ بكلماته ولو كره المجرمون} [يونس: 82] وقال: {إنّ الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك لا يؤمنون} وقال: {ولولا كلمةٌ سبقت من ربّك لقضي بينهم وإنّهم لفي شكٍّ منه مريبٍ} [هود: 110] وقال: {وتمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين} [هود: 119] وقال: {اتل ما أوحي إليك من كتاب ربّك لا مبدّل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدًا} [الكهف: 27] وقال تعالى: {ولولا كلمةٌ سبقت من ربّك لكان لزامًا وأجلٌ مسمًّى} [طه: 129] وقال: {وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12] وقال: {ويحقّ الحقّ بكلماته إنّه عليمٌ بذات الصّدور} [الشورى: 24] فهذا ونحوه في القرآن كثيرٌ، يدلّ على أنّ القرآن كلام اللّه، وأنّ اللّه تعالى تكلّم به، خلافًا لما تقوله الجهميّة الضّالّة.). [الإبانة الكبرى: 5/ 219-223]
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( - حدّثنا أبو محمّدٍ الحسن بن عليّ بن يزيد بن حميدٍ العسكريّ، قال: حدّثنا جعفر بن محمّد بن الفضيل الرّسعنيّ، من أهل رأس عينٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ قال: حدّثنا معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ،
- وحدّثنا أبو الحسن أحمد بن زكريّا السّاجي قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا أحمد بن سعيدٍ الهمدانيّ، قال: حدّثنا ابن وهبٍ، قال: حدّثنا معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، في قول اللّه عزّ وجلّ: {قرآنًا عربيًّا غير ذي عوجٍ} [الزمر: 28] قال: غير مخلوقٍ.
- وأخبرني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه جعفر بن إدريس القزوينيّ قال: حدّثنا حمّوية بن يونس، إمام مسجد جامع قزوين: بلغ أحمد بن حنبلٍ هذا الحديث، فكتب إلى جعفر بن محمّد بن فضيلٍ الرّسعنيّ: اكتب إليّ بإجازته، فكتب إليه بإجازته، فسرّ أحمد بهذا الحديث وقال: كيف فاتني عن عبد اللّه بن صالحٍ هذا الحديث؟.). [الإبانة الكبرى: 5/ 288-290]
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): ( باب التّصديق بأنّ اللّه تبارك وتعالى كلّم موسى، وبيان كفر من جحده وأنكره
اعلموا رحمكم اللّه أنّه من زعم أنّه على ملّة إبراهيم ودين محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وأنّه من أهل شريعة الإسلام ثمّ جحد أنّ اللّه كلّم موسى، فقد أبطل فيما ادّعاه من دين الإسلام، وكذب في قوله: إنّه من المسلمين، وردّ على اللّه قوله، وكذّب بما جاء به جبريل إلى محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وردّ الكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة، قال اللّه عزّ وجلّ {وكلّم اللّه موسى تكليمًا} [النساء: 164]، وقال {ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه} [الأعراف: 143]، وقال {إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144]، وقال {إنّني أنا اللّه لا إله إلّا أنا فاعبدني وأقم الصّلاة لذكري} [طه: 14]، وقال {يا موسى إنّه أنا اللّه العزيز الحكيم} [النمل: 9]، وقال {يا موسى إنّي أنا اللّه ربّ العالمين} [القصص: 30]،
وقال {يا موسى إنّي أنا ربّك فاخلع نعليك} [طه: 12]، وقال {هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربّه بالوادي المقدّس} [النازعات: 15] فأنكر الجهميّ الخبيث الملعون هذا كلّه، وردّه وجحد به، وقال: إنّ اللّه ما تكلّم قطّ ولا يتكلّم، وزعم أنّ ربّه كالحجارة الصّمّ البكم الجماد الخرس الّتي كانت تعبدها الجاهليّة، لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنطق، ولا تنفع، ولا تضرّ، وهو مع هذا يزعم أنّه يريد أن ينزّه اللّه ويرفعه عن التّشبيه ببني آدم يتكلّمون ويسمعون ويبصرون، ويقول: إنّ الكلام لا يجوز أن يكون إلّا من جوفٍ بلسانٍ وشفتين وحلقٍ ولهواتً، فينفون عن اللّه القدرة، ويزعمون أنّه لا يقدر أن يتكلّم إلّا بآلات الكلام، وقالوا: إنّ اللّه كوّن شيئًا فعبّر عنه، وخلق صوتًا، فأسمع موسى ذلك الكلام، قلنا: هل شاهدتموه وعاينتموه حتّى علمتم أنّ هذا هكذا كان؟
قالوا: لا،
قلنا: بلغكم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال ذلك؟
قالوا: لا.
قلنا: فهل أنزل اللّه عزّ وجلّ ذلك في كتبه السّالفة، أو قاله نبيٌّ من الأنبياء المتقدّمين؟
قالوا: لا، ولكنّ المعقول يدلّ على ما قلناه،
قلنا: فهل يجوز لمخلوقٍ خلقه اللّه وكوّنه أن يقول {إنّني أنا اللّه لا إله إلّا أنا فاعبدني وأقم الصّلاة لذكري} [طه: 14] ؟ فمن زعم أنّ المكلّم لموسى كان غير اللّه، فقد زعم أنّ اللّه خلق خلقًا ادّعى الرّبوبيّة، وأنّ موسى أجابه وعبده من دونه، ومضى إلى فرعون برسالة مخلوقٍ، وأمر فرعون أن يعبد غير اللّه، تعالى اللّه عن ذلك علوًّا كبيرًا،
قال اللّه عزّ وجلّ فيما وصف به كتابه {بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ} [الشعراء: 195]، وقال {وما أرسلنا من رسولٍ إلّا بلسان قومه} [إبراهيم: 4] فقد علم أهل العلم بكلام العرب وفصيح اللّسان أنّه لا يكون كلامٌ إلّا من متكلّمٍ، كما لا يكون رسولٌ إلّا من مرسلٍ، ولا عطاءٌ إلّا من معطٍ وقال تعالى {وكلّم اللّه موسى تكليمًا} [النساء: 164]، فأدخل {تكليمًا} [النساء: 164] تأكيدًا للكلام ولنفي المجاز، فإنّه لا جائز أن يقول إنسانٌ: كلّمت فلانًا في كتابي وعلى لسان رسولي تكليمًا.
- حدّثني أبو يوسف يعقوب بن يوسف قال: حدّثنا أبو بكر بن فردة، قال: حدّثنا إسحاق بن يعقوب، قال: حدّثني محمّد بن غزوان، قال: سألت الأصمعيّ عن قول اللّه تعالى {وكلّم اللّه موسى تكليمًا} [النساء: 164] قال: «تأكيدًا لكلامه، يريد أنّه لا ترجمان بينهما ولا رسول»،
قلت: فما موضعه من الكلام؟
قال: " كقول الرّجل: لأضربنّك ضربًا، ولأفعلنّ بك فعلا، ثمّ قال تعالى: {يا موسى إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144]، ففصل بين الرّسالة والكلام، لأنّ جميع رسل اللّه وأنبيائه إنّما أرسلهم اللّه بالوحي. فلولا ما خصّ اللّه تعالى به موسى من الكلام الّذي لا ترجمان بينه وبينه فيه، لما قال: {وبكلامي} [الأعراف: 144]، ولما كان له هناك فضيلةٌ ومزيّةٌ على غيره ممّن لم يكلّمه اللّه ولم يخصّه بما خصّ به موسى، ولكنّ الجهميّة لا بمشاهدةٍ علموا ما يدّعون، ولا بما أخبر اللّه عن نفسه في كتابه يصدّقون، ولا ما قاله صلّى اللّه عليه وسلّم وصحابته يقبلون، ولا في جملة أهل الإسلام يدخلون، ولا لكلام العرب وفصيح اللّسان يعرفون، فهم لأهوائهم يعبدون، وبالمعقول من غير عقلٍ صحيحٍ يدينون، وتعالى اللّه علوًّا كبيرًا عمّا يقولون " .). [الإبانة الكبرى: 6/ 301-304] (م)
قال أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي (ت: 418هـ): (سياق ما ورد في كتاب اللّه من الآيات ممّا فسّر أو دلّ على أنّ القرآن كلام اللّه غير مخلوقٍ
- أخبرنا محمّد بن عثمان بن محمّدٍ الدّقيقيّ قال: حدّثنا الحسين بن محمّد بن عبادة الواسطيّ قال: حدّثنا مسلم بن عيسى الأحمر قال: حدّثنا إبراهيم بن بشّارٍ قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن محمّد بن سوقة، عن مكحولٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: {قرآنًا عربيًّا غير ذي عوجٍ} [الزمر: 28] قال: غير مخلوقٍ.
- وأخبرنا الحسين بن أحمد بن إبراهيم الطّبريّ قال: حدّثنا الحسن بن طاهرٍ قال: حدّثنا مسبّح بن حاتمٍ البصريّ بالبصرة قال: حدّثنا عبد الأعلى بن عبد الكريم الخراسانيّ قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {قرآنًا عربيًّا غير ذي عوجٍ} [الزمر: 28] قال: غير مخلوقٍ.). [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 2/241-242]
قال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458هـ) : (وقال: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين}، وقال: {لولا كتاب من الله سبق}، والسبق على الإطلاق يقتضي سبق كل شيء سواه.
وقال: {وكلم الله موسى تكليما}، ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم قائما بغيره ثم يكون هو به متكلما مكلما دون ذلك الغير، كما لا يجوز ذلك في العلم والسمع والبصر،
وقال: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء}، فلو كان كلام الله لا يوجد إلا مخلوقا في شيء مخلوق لم يكن لاشتراط هذه الوجوه معنى لاستواء جميع الخلق في سماعه من غير الله ووجودهم ذلك عند الجهمية مخلوقا في غير الله، وهذا يوجب إسقاط مرتبة النبيين صلوات الله عليهم أجمعين، ويجب عليهم إذا زعموا أن كلام الله لموسى خلقه في شجرة، أن يكون من سمع كلام الله من ملك أو من نبي أتاه به من عند الله أفضل مرتبة في سماع الكلام من موسى؛ لأنهم سمعوه من نبي ولم يسمعه موسى عليه السلام من الله، وإنما سمعه من شجرة، وأن يزعموا أن اليهود إذ سمعت كلام الله من موسى نبي الله أفضل مرتبة في هذا المعنى من موسى بن عمران صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم؛ لأن اليهود سمعته من نبي من الأنبياء وموسى صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم سمعه مخلوقا في شجرة ولو كان مخلوقا في شجرة لم يكن الله عز وجل مكلما لموسى من وراء حجاب؛ ولأن كلام الله عز وجل لموسى عليه السلام لو كان مخلوقا في شجرة كما زعموا لزمهم أن تكون الشجرة بذلك الكلام متكلمة، ووجب عليهم أن مخلوقا من المخلوقين كلم موسى وقال له: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني}، وهذا ظاهر الفساد، وقد احتج علي بن إسماعيل رحمه الله بهذه الفصول واحتج بها غيره من سلفنا رحمهم الله.
- وأخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، أنا الحسن بن رشيق، إجازة، ثنا محمد بن سفيان بن سعيد، ثنا محمد بن إسماعيل الأصبهاني، بمكة قال: سمعت الجارودي، يقول: ذكر الشافعي إبراهيم بن إسماعيل ابن علية فقال: أنا مخالف له في كل شيء، وفي قوله: لا إله إلا الله، لست أقول كما يقول، أنا أقول: لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء حجاب، وذاك يقول: لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى من وراء حجاب.
قلنا: ولأن الله قال مخبرا عن المشركين أنهم قالوا: {إن هذا إلا قول البشر}، يعنون القرآن، فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد جعله قولا للبشر، وهذا مما أنكره الله على المشركين.). [كتاب الاعتقاد: ؟؟]
قال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458هـ) : (وأما قول الله عز وجل: {إنه لقول رسول كريم}، معناه: قول تلقاه عن رسول كريم أو سمعه من رسول كريم، أو نزل به رسول كريم. فقد قال: {أجره حتى يسمع كلام الله}، فأثبت أن القرآن كلام الله عز وجل، ولا يكون شيء واحد كلاما للرسول صلى الله عليه وسلم وكلاما لله، دل أن المراد بالأول ما قلنا،
وقوله: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) معناه: سميناه قرآنا عربيا وأنزلناه مع الملك الذي أسمعناه إياه حتى نزل به بلسان العرب ليعقلوا معناه، وهو كما قال الله عز وجل: {ويجعلون لله ما يكرهون}، يعني: يصفون لله ما يكرهون ولم يرد به الخلق.
وقوله: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون} يحتمل أن يكون معناه ذكرا غير القرآن، وهو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ووعظه إياهم بقوله {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}؛ ولأنه لم يقل: لا يأتيهم ذكر إلا كان محدثا، وإنما قال: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون}، فدل على أن ذكرا غير محدث ثم إنه إنما أراد ذكر القرآن لهم وتلاوته عليهم وعلمهم به، وكل ذلك محدث، والمذكور المتلو المعلوم غير محدث، كما أن ذكر العبد لله وعلمه به وعبادته له محدث، والمذكور المعلوم المعبود غير محدث، وحين احتج به على أحمد بن حنبل رحمه الله قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: قد يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المحدث لا الذكر نفسه محدث.
قال الشيخ رحمه الله: وهذا الذي أجاب به أحمد بن حنبل رحمه الله ظاهر في الآية، وإتيانه تنزيله على لسان الملك الذي أتى به، والتنزيل محدث، وقد أجاب أحمد رحمه الله بالجواب الأول.
وأما تسمية عيسى بكلمة الله فعلى معنى أنه صار مكونا بكلمة الله من غير أب كما صار آدم مكونا بكلمة الله من غير أب ولا أم، وقد بينه بقوله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}. ). [كتاب الاعتقاد: ؟؟]
قالَ أبو الفَرَجِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَلِيٍّ ابنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ) : (وقال ابن عباس في قوله تعالى: {قرآنًا عربيًا غير ذي عوج}، قال: غير مخلوق.) [فنون الأفنان:155]
قال أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني (ت:728هـ): (( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً )، ( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيْسى بنَ مَرْيَمَ )، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وقولُهُ: ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ).
( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ )، ( وَلَمَّا جَاءَ مُوْسَى لِمِيْقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ).
( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيّاً )، وقَوْلُهُ: ( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوْسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ)، (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ )، وقَوْلُهُ: ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلينَ ).). [العقيدة الواسطية:؟؟]
- قال عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408) : ( قَولُهُ: (وَمَنْ أَصْدَقُ)
ش: لفظةُ استفهامٍ، ومعناه لا أحدَ أصدقُ من اللهِ في حديثِه وخبرِه ووعدِه ووعيدِه، وكانَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- يقولُ في خُطبتِه: ((إِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-)).
قَولُهُ: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً)
ش: أي لا أحدَ أصدقُ مَن اللهِ قولاً ولا خبرًا.
قَولُهُ: (ابنَ مَرْيَمَ)
ش: أضافَه إلى أمِّه لأَنَّهُ لا أبَ له، فهو من أمٍّ بِلا أبٍ، ففي هذه الآياتِ إثباتُ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالى- وأنَّهُ يقولُ متى شاءَ إذا شاءَ، وأنَّ الكلامَ والقولَ المضافَ إليه -سُبْحَانَهُ- قديمُ النَّوعِ حادثُ الأحادِ، وفيه دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- يتكلَّمُ بحرفٍ وصوتٍ كما يليقُ بجلالِه سُبْحَانَهُ، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ، إذ المعنى المجرَّدُ لا يُسمعُ.
قَولُهُ: (صِدْقًا)
ش: أي صدقًا في الإخبارِ، وعدلاً في الطَّلبِ، فكلُّ ما أخبرَ به -سُبْحَانَهُ- فهو حقٌّ لا مريةَ فيه ولا شكَّ، فكلُّ ما أمَرَ به فهو العدلُ الَّذي لا عدلَ سِواه، وكلُّ ما نهى عنه فباطلٌ؛ لأنَّه لا يَنهى إلا عن مفسدةٍ، والمرادُ بالكلمةِ: أمرُه ونهيهُ ووعدُه ووعيدُه، وكلماتُ اللهِ نوعان: كونيَّةٌ ودينيَّةٌ.
فكلماتُ اللهِ الكونيَّةُ: هي الَّتي استعاذَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بها في قَولِهِ: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلا فَاجِرٌ))، وكقَولِهِ: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً).
النَّوعُ الثَّاني: الكلماتُ الدِّينيَّةُ: وهي القرآنُ وشرعُ اللهِ الَّذي بَعَثَ به رسولَه، وهي أمرُه ونهيهُ، انتهى. مِن كلامِ الشَّيخِ تقيِّ الدِّينِ بنِ تيميةَ.
قَولُهُ: (لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)
ش: أي ليسَ أحدٌ يعقِّبُ حكمَه -سُبْحَانَهُ- لا في الدُّنْيَا ولا في الآخرةِ.
قَولُهُ: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
ش: الَّذي أحاطَ سمعُه بسائرِ الأصواتِ، وأحاطَ علمُه بالظَّواهرِ والخفيَّاتِ.
قَولُهُ: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيما)
ش: خصَّصَ اللهُ نبيَّه موسى عليه السَّلامُ بهذه الصِّفةِ تشريفًا له، ولذا يُقالُ لموسى عليه السَّلامُ الكليمُ، وهذا دليلٌ على أنَّ التَّكليمَ الَّذي حصلَ لموسى عليه السَّلامُ أخصُّ من مُطلقِ الوحيِ، ثم أكَّدَهُ بالمصدرِ الحقيقيِّ رفعًا لِمَا توهَّمه المعطِّلةُ من أنَّه إِلهامٌ أو إشارةٌ أو تعريفٌ للمعنى النَّفسيِّ بِشيءٍ غيرِ التَّكليمِ فأكَّدهُ بالمصدرِ المُفيدِ تحقَّقَ النَّسبةِ ورفعَ توهَّمَ المجازِ.
قالَ الفرَّاءُ: إنَّ الكلامَ إذا أُكِّدَ بالمصدرِ ارتفعَ المجازُ وثبتتِ الحقيقةُ، ويُروى أنَّ رجلاً قال لأبي عمرِو بنِ العلاءِ أريدُ أن تَقْرأَ: (وَكَلَّمَ اللهَ مُوسى تَكْلِيما)، بنصبِ لفظِ الجلالةِ فقالَ له: هبْ أنَّي قرأتُ ذلك فما تقولُ في قَولِهِ: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) فَبُهِتَ المعتزليُّ.
قَولُهُ: (مِنْهُم مَّنْ كَلَّمَ اللهُ)
ش: أي: كلَّمَهُ اللهُ، كموسى عليه السـَّلامُ ومحمَّدٍ وكذلك آدمُ، كما وردَ به الحديثُ المرويُّ في صحيحِ ابنِ حِبَّانَ عن أبي ذرٍّ رَضِي اللهُ عَنْهُ.
قَولُهُ: (لِمِيْقاتِنا)
ش: أي للوقتِ الَّذي ضَرَبنا أن نُكَلِّمَه فيه.
قَولُهُ: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)
ش: أي كلَّمهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- بكلامٍ حقيقيٍّ يليقُ بجلالِه وعظمتِه، وكلَّمهُ بلا واسطةٍ، فهذه الآياتُ أفادتْ إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ، وأَنَّه تكلَّمَ ويتكلَّمُ -سُبْحَانَهُ- وتعالى، والأدلَّـةُ الدَّالَّـةُ على أنَّه يتكلَّمُ أكثرُ من أَنْ تُحصرَ، وفيها الرَّدُّ على مَنْ زعمَ أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- معنًى واحدٌ قائمٌ بالنَّفسِ لا يُتصوَّرُ أنْ يُسمعَ، وفيها دليلٌ على أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- حقيقةٌ لا مجازٌ، لأنَّه أكَّده بالمصدرِ، فقال: (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيما)، أكَّدَهُ بالمصدرِ لنفي المجازِ؛ لأنَّ العربَ لا تؤكِّدُ بالمصدرِ إلا إذا أرادتِ الحقيقةَ.
وفيها دليلٌ على أنَّ اللهَ لم يَزل مُتَكَلِّما إذا شاءَ ومتى شاءَ وكيفَ شاءَ.
وفيها دليلٌ على أَنَّ نوعَ الكلامِ قديمٌ، وإنْ لم يكنِ الصَّوتُ المعيَّنُ قديمًا، فكلامُ اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- قديمُ النَّوعِ حادثُ الآحادِ، وتقدَّمتِ الإشارةُ إلى أنَّ كلامَهُ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- نوعانِ:
كونيٌ قدريٌّ به توجدُ الأشياءُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ).
الثَّاني: كلامٌ دينيٌّ شرعيٌّ، ومنه كُتُبُه المنَزَّلةُ على رُسلِه، فهو الَّذي تكلَّم بها حقًّا وليست مخلوقةً، بل هي من جُملةِ صفاتِه، وصفاتُه -سُبْحَانَهُ- غيرُ مخلوقةٍ، كما تقدَّمَ في حديثِ خولةَ، وبه استدلَّ الإمامُ أحمدُ وغيرُه على أنَّ كلامَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّه أمرَ بالاستعاذةِ بكلماتِ اللهِ، والاستعاذةُ بالمخلوقِ شركٌ،فدلَّ على أَنَّ كلامَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ.
وتكليمُه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- لعبادِه نوعان:
الأوَّلُ: بلا واسطةٍ، كما كلَّم موسى بنَ عمرانَ، وكما كلَّمَ الأبويْنِ، وكذا نادى نبيَّنا ليلةَ الإسراءِ.
الثَّاني: تكليمُه -سُبْحَانَهُ- لعبادِه بواسطةٍ، إمَّا بالوحْيِ الخاصِّ للأنبياءِ، وإمَّا بإرسالِه إليهم رسُولا يكلِّمُهم من أمرِه بما شاءَ.
وفي الآياتِ المتقدِّمةِ أيضًا دليلٌ على أنَّ الكلامَ المضافَ إليه -سُبْحَانَهُ وتعالَى- من صفاتِه الذَّاتيَّةِ من حيثُ تعلُّقُها بذاتِه واتَّصافُه بها، ومن صفاتِه الفعليَّةِ حيث كانت متعلِّقةً بقدرتِه ومشيئتِه.
قَولُهُ: (وَنَادَيْنَاهُ)
ش: أي نادينَا موسى وكلَّمناه بقولِ: (يا موسى إِنَّي أَنَا اللَّهُ ).
وقَولُهُ: (الطُّورِ)
ش: هو اسمُ جبلٍ بيَن مصرَ ومدينَ.
وقَولُهُ: (الأَيْمَنِ)
ش: أي الَّذي يلي يمينَ موسى حين أقبلَ من مدينَ.
قَولُهُ: (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا)
ش: أي مناجيًا.
وقَولُهُ: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوْسَى أَنِ ائْتِ القَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقَولُهُ: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ)
ش: أي نادى آدمَ وحوَّاءَ.
وقَولُهُ: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقولُ مَاذا أَجَبْتُمُ المُرْسَلينَ)
ش: قالَ بعضُ السَّلفِ: ما من فعلةٍ وإنْ صغُرتْ إلا ويُنشرُ لها ديوانانِ لِمَ وكيف، أي لِم فعلتَ وكيفَ فعلتَ ؟،
فالأوَّلُ سؤالٌ عن الإخلاصِ، والثَّاني سؤالٌ عن المتابعةِ. فإنَّ اللهَ لا يقبلُ عملاً إلا بهما.
فطريقُ التَّخلُّصِ من السَّؤالِ الأوَّلِ: بتجريدِ الإخلاصِ، وطريقُ التَّخلُّصِ مِن السَّؤالِ الثَّاني: بتحقيقِ المتابعةِ. انتهى. من الإغاثةِ.
وقال بعضُ السَّلفِ: كلمتانِ يُسأل عنهما الأوَّلونَ والآخِرونَ: ماذا كنتم تعبدونَ وماذا أجبتُم المُرسلينَ؟ فَيُسألُ عن المعبودِ وعن العبادةِ.
أفادتْ هذه الآياتُ إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ، وأنَّه نادى وناجَى، وقد جاءَ النِّداءُ في تسعِ آياتٍ من القرآنِ، وكذلك النَّجاءُ جاء في عدَّةِ آياتٍ، والنِّداءُ هو الصَّوتُ الرَّفيعُ، وضدُّه النَّجاءُ، ففيها إثباتُ أنَّ اللهَ يتكلَّمُ بحرفٍ وصوتٍ يليقُ بجلالِه، إذ لا يُعقلُ النِّداءُ والنجاءُ إلا ما كان حرفًا وصوتًا، وقد استفاضتِ الآثارُ عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- والصَّحابةِ والتَّابعين ومَن بعدَهم من أئمَّةِ السُّنَّةِ بذلك، وقال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ في (النُّونيَّةِ):
واللهُ قد نَادى الكليمَ وقبلَـهسمعَ النِّدا في الجنَّـةِ الأبـوانِ
وأتى النِّدا في تسعِ آياتٍ لـهوصفًا فراجعْها من القـرآنِ
أيصِحُّ في عقلٍ وفي نقلٍ نداءٌليس مسموعًـا لنـا بـأذانِ
أم أجمعَ العلماءُ والعقلاءُ مـنأهلِ اللسانِ وأهلِ كُلِّ لسانِ
إنَّ النِّدا الصَّوتُ الرَّفيعُ وضدُّهفهو النَّجاءُ كلاهمـا صوتـانِ
وفي هذه الآياتِ أيضًا الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ كلامَ اللِه هو المعنى النَّفسيُّ، إذ المعنى المجرَّدُ لا يُسمعُ.
وقد ردَّ الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ على مَن زعَم ذلك من تسعين وجهًا، قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ):
تِسعون وجهًا بيَّنتْ بطلانَـهأعني كلامَ النَّفسِ ذي البُطلانِ
قال بعضُ العلماءِ: مَن زعَم أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ فقد زعمَ أنَّ اللهَ لم يُرسِلْ رسولا ولم يُنزِلُ كتابًا، وقال: مَنْ زعمَ أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفسيُّ فقد زعَم أنَّ اللهَ أخرسَ، وقال ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ في شرحِ البخاريِّ: ومَنْ نفى الصَّوتَ فقدْ زعمَ أنَّ اللهَ لم يُسمِعْ أحدًا من ملائكتِه ولا رُسلِه كلامًا بل ألهمَهم إيَّاه إلهامًا، وفيها الرَّدُّ على مَن زَعَمَ أنَّ كلامَ اللهِ هو معنًى قائمٌ بذاتِه لا يتجزَّأُ ولا يتبعَّضُ، فإنَّ الأمرَ لو كانَ كما زَعَموا لكانَ موسى عليه السَّلامُ سَمِعَ جميعَ كلامِ اللهِ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعَم أنَّ كلامَ اللِه مخلوقٌ، فإنَّ صفاتِ اللهِ داخلةٌ في مُسمَّى اسمِه، فليسَ اللهُ اسمًا لذاتٍ لا سَمْعَ لها ولا بصرَ ولا حياةَ ولا كلامَ لها، فكلامُهُ وعلمُهُ وحياتُه وقُدرتُه داخلَةٌ في مُسمَّى اسمِه، فهو -سُبْحَانَهُ- بصفاتِه الخالقُ وما سواهُ المخلوقُ، وفي إثباتِ الكلامِ إثباتُ الرِّسالةِ، فإذا انتَفَت صفةُ الكلامِ انتفتْ صفةُ الرِّسالةِ، إذ حقيقةُ الرِّسالةِ تبليغُ كلامِ المرسلِ، ومِن ها هنا قال السَّلفُ: مَن أنكرَ كونَ اللهِ متكلِّمًا فقد أنكرَ رسالةَ الرُّسلِ كلِّهم، والرَّبُّ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- يخلقُ بقَولِهِ وبكلامِه كما قال: (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، فإذا انتفَتْ حقيقةُ الكلامِ عنه فقد انتفى الخلقُ.). [التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية: ؟؟]
- قال زيد بن عبد العزيز الفياض (ت: 1416هـ) : ( فِي هَذِهِ الآْيَاتِ إثباتُ صِفَةِ الكلامِ لله حَقِيقَةً عَلَى ما يَلِيقُ بِجَلالِهِ تَعَالَى وهُوَ سُبْحَانَهُ قد تَكَلَّمَ بالْقُرْآنِ والكُتُبِ المُنزَّلةِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ . وغيرِ ذَلِكَ ويَتَكَلَّمُ إذا شَاءَ مَتَى شَاءَ والْقُرْآنُ كَلامُه تَعَالَى مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخلوقٍ وهُوَ كلامُ اللهِ حُروفُه ومَعَانِيهِ وهُوَ سورٌ وآياتٌ وحُروفٌ وكَلِماتٌ قد تَكَلَّمَ بها .
وهَذَا مَذْهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ، وقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وصَرِيحُ السُّنَّةِ والمَعْقولُ وكلامُ السَّلفِ عَلَى أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَتكَلَّمُ بِمَشيئتِهِ ، كما دَلَّ عَلَى أَنَّ كَلامَهُ صِفَةٌ قَائِمةٌ بِذَاتِهِ وهِيَ صِفةُ ذَاتٍ وفِعلٍ .
قَالَ تَعَالَى :{ إِنَّمَا أَمرنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وتَأَمَّلْ نُصوصَ الْقُرْآنِ مِن أوَّلِه إلى آخِرِه . ونُصوصَ السُّنَّةِ التي إِنْ دُفِعَتْ دُفِعَتِ الرِّسالةُ بِأَجْمَعِها، وإِنْ كَانَتْ مَجَازاً كَانَ الوَحْيُ كُلُّهُ مَجَازاً وإِنْ كَانَتْ مِن المُتَشابِهِ كَانَ الوْحَيُ كُلُّه مِن المُتشابِهِ وإِنْ وَجَبَ أَوْ سَاغَ تَأْوِيلُها عَلَى خلافِ ظَاهِرِها سَاغَ تَأْوِيلُ جَميع الْقُرْآنِ والسُّنَّةِ عَلَى خلافِ ظَاهِرِه فإِنَّ مَجِيءَ هَذِهِ النُّصوصِ فِي الْكِتَابِ والسُّنَّةِ وظُهورَ مَعانِيها وتَعَدُّدَ أَنْواعِها ، واخْتلافَ مَرَاتِبِها أظْهرُ مِن كُلِّ ظَاهرٍ وَأَوْضَحُ مِن كُلِّ واضِحٍ . فَكَمْ جُهْدٍ مَا يَبْلُغُ التَّأويلَ والتَّحريفَ والحَمْلَ عَلَى المَجازِ . هَبْ أَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ فِي مَوْضِعٍ واثْنَينِ وَعَشَرةٍ . أَفَيَسوغُ حَمْلُ أكْثرَ مِن ثلاثةِ آلافٍ وأرْبعةِ آلافٍ مَوْضِعٍ كُلِّها عَلَى المجَازَ وتَأْوِيلُ الجميعِ بما يُخالفُ الظَّاهِرَ . فكُلُّ آيةٍ وكُلُّ حَدِيثٍ إلهِيٍّ وكُلُّ حَدِيثٍ فيه الإِخْبارُ عَما قَالَ اللهُ تَعَالَى أو يقولُ وكُلُّ أثرٍ فيه ذَلِكَ إذا اسْتُقْرِئَتْ زَادَتْ عَلَى هذا العدَدِ . ويكفِي أحاديثُ الشَّفَاعةِ وأحاديثُ الرُّؤيةِ وأحاديثُ الحِسابِ وأحاديثُ تَكلِيمِ اللهِ لِملائِكَتِه وأَنْبيائِهِ ورُسِلِه وأهلِ الجَنَّةِ وأحاديثُ تكليمِ اللهِ لمُوسى وأحاديثُ تَكَلُّمِه عندَ النُّزولِ الإلهِيِّ وأحاديثُ تَكَلُّمِه بالوَحْيِ ، وأحاديثُ تَكْليمِه للشُّهداءِ ، وأحاديثُ تَكليمِ كَافَّةِ عِبَادِه يومَ القيامَةِ بلا تُرجُمَانٍ ولا وَاسطةٍ ، وأحاديثُ تَكْليمِه للشُّفعاءِ يومَ القِيامَةِ حين يَأْذنُ لهم فِي الشَّفاعةِ إلى غيرِ ذَلِكَ .
وقد دَلَّتِ النُّصوصُ النَّبَوِيَّةُ عَلَى أَنَّه تَعَالَى يَتكلَّمُ إذا شاءَ بما شَاءَ وأَنَّ كَلامَه يُسمَعُ وأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ الَّذِي هُوَ سورٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ عينُ كلامِهِ حَقاًّ . لا تَأليفُ مَلَكٍ ولا بَشَرٍ وأَنَّه سُبْحَانَهُ الَّذِي قَالَ بِنَفْسِه ( المص ) و ( حمسق ) و ( كهيعص ) .
((وأنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَه حُروفَهُ ومَعَانِيَهُ نَفْسُ كَلاَمِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ به ولَيْسَ بِمخْلوقٍ ولا بَعْضُهُ قديماً وهُوَ المَعْنى ، وَبعْضُه مَخلوقٌ وهُوَ الكَلِماتُ والحروفُ ولا بَعْضُه كَلامُهُ وَبَعْضُه كلامُ غَيرِهِ . ولا ألفاظُ الْقُرْآنِ وحروفُهُ تَرْجمةٌ تَرْجمَ بها جَبْرائِيلُ أو مُحَمَّدٌ عليهما السَّلامُ عمَّا قَامَ به الرَّبُّ مِن المعْنَى مِن غيرِ أَنْ يَتكلّمَ اللهُ بها؛ بل الْقُرْآنُ جَميعُه كلامُ اللهِ حُروفُه وَمَعانِيه تَكَلَّمَ اللهُ به حَقِيقةً، والْقُرْآنُ اسمٌ لهذا النَّظمِ الْعَربيِّ الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن جَبْرائِيلَ عَن رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَللرَّسُولَينِ مِنه مُجَرَّدُ التَّبْليغِ وَالأدَاءِ لاَ الْوَضْعُ والإِنْشاءُ كَمَا يَقُولُ أهلُ الزَّيْغِ وَالاعْتِداءِ )) .
قَوْلُه :{ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً }
ش: قَالَ الأئمَّةُ : هَذِهِ الآيةُ أَقْوَى مَا وَرَدَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ .
قَالَ النَّحَّاسُ : أجمَعَ النَّحْويُّونَ عَلَى أَنَّ الفِعْلَ إذا أُكِّدَ بالمَصْدَرِ لَمْ يَكُنْ مَجَازاً فإِذَا قَالَ تَكْلِيماً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلاَماً عَلَى الحَقيقةِ.
وأجمَعَ السَّلفُ والخَلَفُ مِن أَهْلِ السُّنَّةِ وغَيْرِهم عَلَى أَنَّ كَلَّمَ هنا مِن الْكَلاَمِ ، وَنَقَلَ الْكَشَّافُ عَن بِدَعِ بَعْضِ التَّفْسيرِ أَنَّه مِن الْكَلْمِ بمَعْنَى الْجَرْحِ وهُوَ مَرْدودٌ بالإِجْماعِ المذْكُورِ.
ورُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ المشَائِخِ " وَكَلَّمَ اللهَ مُوسَى تَكْلِيماً " بِنَصْبِ لفظِ الجَلالةِ ! فقَالَ له : يَا ابْنَ الخَنَّاءِ، كَيْفَ تَصنعُ بقَوْلِه تَعَالَى :{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } يَعْنِي أَنَّ هَذَا لا يَحْتَمِلُ التَّحرِيفَ ولا التَّأوِيلَ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي أوَّلِ الآْيَةِ وَحْيَهُ إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِه ثم خَصَّ مُوسَى مِن بَيْنِهم بِالإِخبارِ بأَنَّه كَلَّمَه؛ وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيمَ الَّذِي حَصَلَ له أَخَصُّ مِن مُطلَقِ الْوَحْيِ الَّذِي ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الآْيَةِ ثُمَّ أَكَّدَهُ بالمَصْدَرِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَصدرُ كَلَّمَ وهُوَ التَّكَلُّمُ رَفْعاً لِما تَوَهَّمَهُ الْمُعَطِّلَةُ والْجَهْمِيَّةُ والْمُعْتَزِلَةُ وغَيْرُهم مِن أَنَّه إِلْهامٌ أو إِشَارةٌ أو تَعْرِيفٌ للمَعْنَى النَّفْسِيِّ بِشَيءٍ غَيْرِ التَّكْلِيمِ فأَكَّدَهُ بالمَصْدرِ المُفِيدِ تَحْقِيقَ النِّسْبةِ وَرَفْعَ تَوَهُّمِ المَجَازِ .
قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تُسَمِّي مَا يُوصَلُ إلى الإِنْسَانِ كَلاَماً بِأَيِّ طَريقٍ وَصَلَ، فَإِذَا حَقَّقْتَهُ بالمَصْدرِ لم يَكُنْ إلا حَقِيقَةَ الْكَلاَمِ كالإرَادَةِ يُقَالُ: فُلانٌ أرَادَ إِرَادَةً يُريدُونَ حَقِيقَةَ الإِرَادَةِ، ويُقَالُ: أَرَادَ الْجِدَارُ ولا يُقَالُ إِرَادَةً لأَنَّه مَجَازٌ غَيرُ حَقِيقَةٍ هَذَا كَلامُهُ .
وقَالَ تَعَالَى :{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ }
ش: وهَذَا تَكْليمٌ غَيْرُ التَّكْليمِ الأوَّلِ الَّذِي أَرْسَلَهُ به إلى فِرعونَ وفِي هَذَا التَّكْلِيمِ الثَّانِي سَألَ النَّظَرَ، لا فِي الأَوَّلِ (( وفيه أُعْطِيَ الأَلْوَاحَ وكَانَ عَلَى مُواعَدَةٍ مِن اللهِ له والتَّكْلِيمُ الأَوَّلُ لم يَكُنْ عَن مُواعدةٍ، وفيه قَالَ اللهُ له :{ قَالَ يَامُوسَى إِنَّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } أي بِتَكْلِيمي لك بِإجماعِ السَّلفِ.
وقد أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ فِي كِتابِه أَنَّه نَادَاهُ وَنَاجَاهُ فالنِّداءُ مِن بُعْدٍ ، وَالنِّجَاءُ مِن قُرْبٍ . تَقُولُ الْعَرَبُ إذا كَبُرَتِ الْحَلْقَةُ فهُوَ نِداءٌ أو نِجَاءٌ .
وقَالَ أَبُوه آدَمُ فِي مُحاجَّتِه: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللهُ بِكَلاَمِهِ وخَطَّ لك التَّوْرَاةَ بِيدِهِ، وكذَلِكَ يَقُولُ له أَهْلُ المَوقِفِ إذا طَلَبُوا منه الشَّفَاعةَ إلى رَبِّه، وكذَلِكَ فِي حَدِيثِ الإسْراءِ فِي رؤيةِ مُوسَى فِي السَّماءِ السَّادِسَةِ أو السَّابِعَةِ عَلَى اخْتلافِ الرِّوَايةِ، قَالَ: وذَلِكَ بِتَفْضِيلِهِ بكلامِ اللهِ ولو كَانَ التَّكْلِيمُ الَّذِي حَصَلَ له مِن جِنْسِ ما حَصَلَ لِغَيْرِه مِن الأَنْبِيَاءِلم يَكُنْ لهَذَا التَّخْصِيصِ به فِي الأَحَادِيثِ مَعْنًى ولا كَانَ يُسَمَّى كَلِيمَ الرَّحْمَنِ .
وقَالَ تَعَالَى :{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَفَرْقٌ بين تَكْليمِ الْوَحْيِ ، والتَّكْلِيمِ بإرْسَالِ الرَّسُول ِ والتَّكْلِيمِ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ .
وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) أُدْنِىِ حتى سَمِعَ صَرِيفَ الأقْلامِ، وقَالَ الْبَغَوِيُّ:( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ) أي مُناجِياً فَالنَّجِيُّ المُنَاجِي كما يُقَالُ جَلِيسٌ وَنَدِيمٌ ا.ه
ففِي هَذِهِ الآْيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى تَكْليمِ مُوسَى، والمَعْنَى الْمُجَرَّدُ لا يُسْمَعُ بالضَّرورةِ، ومَن قَالَ: إِنَّه يُسمَعُ فهُوَ مُكابِرٌ ودَليلٌ أَنَّه نَادَاهُ . وَالنِّدَاءُ لا يَكُونُ إلا صَوْتاً مَسْمُوعاً، لا يُعْقَلُ فِي لُغةِ الْعَرَبِ لَفْظُ النِّداءِ بِغَيْرِ صَوْتٍ مَسْمُوعٍ لا حَقِيقَةً ولا مجازاً، فإِنَّ النِّداءَ وُقِّتَ بِظَرفٍ مُحَدَّدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّداءَ يَقعُ فِي ذَلِكَ الحِينِ دونَ غَيرِهِ .
وجُعٍلَ الظَّرفُ للنِّداءِ لاَ يُسمَعُ النِّداءُ إلاَّ فِيه، والِكُلاَّبيَّةُ وَمَن وَافَقَهُم مِن أصْحَابِ الأئمَّةِ الأرْبعةِ يَقُولُونَ: إِنَّه لا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئتِه وَقُدرَتِه؛ بل الْكَلاَمُ المُعَيَّنُ لازِمٌ لِذَاتِه كَلُزومِ الْحَياةِ لِذَاتِه، وَعِندَهم لمَّا جَاءَ مُوسَى لِميقَاتِ رَبِّه سَمِعَ النِّداءَ الْقَديِمَ لا أَنَّه حِينَئذٍ نُودِيَ ولهَذَا يَقُولُونَ إِنَّه يُسْمِعُ كَلامَه لِخلْقِه، بَدَلَ قَوْلِ النَّاسِ يُكَلِّمُ خَلْقَهُ، وهؤلاء يَردُّونَ عَلَى الْخَلْقِيَّة الذين يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مَخلوقٌ .
ويَقُولُونَ عَن أَنْفُسِهم: إِنَّهم أَهْلُ السُّنَّةِ المُوافِقونَ للسَّلفِ الذين قالوا: الْقُرْآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مَخْلوقٍ ولَيْسَ قَولُهم قولَ السَّلفِ لَكِنْ قَولُهم أقربُ إلى قولِ السَّلَفِ مِن وَجهٍ، وهم يَقُولُونَ: الْكَلاَمُ عِندنا صِفةُ ذاتٍ لا صِفةُ فِعْلٍ والخَلْقِيَّةُ يَقُولُونَ صِفَةُ فِعْلٍ لا صِفَةُ ذَاتٍ، ومَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّه صِفَةُ فِعْلٍ وصِفَةُ ذاتٍ مَعًا فكُلٌّ منهما مُوافِقٌ للسَّلَفِ مِن وَجْهٍ دونَ وَجْهٍ .
فكُلٌّ مِن الْمُعْتَزِلَةِ والأشْعَريَّةِ فِي جِنْسِ مَسائلِ الْكَلاَمِ وأفعالِ اللهِ وافَقُوا السَّلَفَ والأئمَّةَ مِن وَجْهٍ وخالَفُوهم مِن وَجْهٍ، ولَيْسَ قولُ أحدِهم قولَ السَّلَفِ دونَ الآخَرِ؛ لكِنَّ الأشْعَرِيَّةَ فِي جِنْسِ الصِّفاتِ والقَدَرِ أقْربُ إلى قَوْلِ السَّلَفِ والأئمَّةِ مِن الْمُعْتَزِلَةِ.
فإِنْ قِيلَ: فقد قَالَ تَعَالَى :{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُول َ أحْدثَ الْكَلاَمَ العَرَبِيَّ؛ قِيلَ: هَذَا بَاطِلٌ وذَلِكَ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ هَذَا فِي مَوْضِعَينِ؛ والرَّسُول ُفِي أحدِ المَوضِعينِ مُحَمَّدٌ، والرَّسُول ُفِي الآْيَةِ الأُخْرى جِبْريلُ، قَالَ تَعَالَى فِي سورةِ الحاقَّةِ :{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْل شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } الآْيَةَ؛ فالرَّسُول ُ هنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ فِي سورةِ التَّكويرِ :{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فالرَّسُول هُنا جِبْريلُ، فلو كَانَ إضافةً إلى الرَّسُول لِكَوْنِه أحْدَثَ حُروفَهُ أو أحْدَثَ منه شَيئاً لكَانَ الخَبَرانِ مُتَناقضَيْنِ، فإِنَّه إِنْ كَانَ أحدُهما الَّذِي أحْدَثَها امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الآخَرُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَها. وأيضاً فإِنَّه قَالَ :{ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } ولم يَقَلْ: لقَوْلُ مَلكٍ ولا نَبِيٍّ، ولفظُ الرَّسُول ِ يَستلزمُ مُرسلاً له؛ فدلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الرَّسُول َ مُبَلِّغٌ له عَن مُرْسلِهِ، لا أَنَّه أَنْشَأَ منه شيئاً مِن جهةِ نَفْسِه، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّه أَضَافَهُ إلى الرَّسُول ِلأَنَّه بَلَّغَه وأَدَّاه لا أَنَّه أَنْشَأ منه شيئاً وَابْتَدَأَهُ .
وأيضاً فإِنَّ اللهَ قد كَفَّرَ مَن جَعَلَه قَوْلَ البَشَرِ؛ ومُحَمَّدٌ بَشرٌ، فمَن قَالَ: إِنَّه قَوْلُ مُحَمَّدٍ فقد كَفَرَ ومَعَ هَذَا فقد قَالَ :{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } فجَعَلَهُ قَوْلَ الرَّسُول ِ البَشَرِيِّ مَعَ تكْفيرِه مَنْ يَقُولُ: إِنَّه قَوْلُ البَشَرِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَاد بذَلِكَ أَنَّ الرَّسُول َ بَلَّغَه عَن مُرسِلِهِ – لا أَنَّه قَوْلُه مِن تِلقاءِ نَفْسِه – وهُوَ كلامُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أرْسَلَهُ .
ولهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بالمَوْقِفِ ويَقُولُ: ((أَلا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلِى قَوْمِه لاِبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي ، فإِنَّ قُرَيْشاً قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي)). رواه أَبُو دَاوُدَ وغيرُهُ.
والنَّاسُ يَعلمونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا تَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَكَلَّمَ بِحُروفِه وَمَعانِيهِ بِصَوْتِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ المْبُلِّغُونَ عنه يُبلِّغونَ كَلاَمَه بِحَرَكَاتِهِمْ وأصْواتِهم كما قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَضَّرَ اللهُ امْرأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَبَلَّغَهُ كَما سَمِعَهُ" فالمُسْتمِعُ منه مُبَلِّغٌ حَدِيثَه كما سَمِعَهُ لكن بصوتِ نَفْسِه لا بصوتِ الرَّسُولِ، فالْكَلاَمُ هُوَ كلامُ الرَّسُول ِ تَكلَّمَ به بِصَوتِه والْمُبَلِّغُ بَلَّغَ كلامَ رسولِ اللهِ بصوتِ نَفْسِه، وإذا كَانَ هَذَا مَعلوماً فِي تَبليغِ كلامِ المَخلوقِ فكلامُ الخالِقِ أوْلَى بذَلِكَ، ولهَذَا قَالَ تَعَالَى :{ وَإِنْ أَحَدٌ مِن الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ } وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ)) . فجَعَلَ الْكَلاَمَ كلامَ البَارِي وجَعَلَ الصَّوتَ الَّذِي يَقْرَؤُه العَبْدُ صوتَ القَارِئِ، وأصواتُ العِبادِ ليست هِيَ الصَّوتَ الَّذِي يُنادِي اللهُ به ويَتكَلَّمُ به، كما نَطَقَت النُّصُوصُ بذَلِكَ، بل ولا ومِثلَه.
فمَن قَالَ عَن الْقُرْآنِ الَّذِي يَقْرؤه المُسْلِمونَ لَيْسَ هُوَ كلامَ اللهِ أو هُوَ كَلاَمُ غيرِ اللهِ فهُوَ مُلحِدٌ مُبتدِعٌ ضَالٌّ .
ومَنْ قَالَ: إِنَّ أصواتَ الْعِبَادِ أو المِدَادَ الَّذِي يُكتبُ به الْقُرْآنُ قَدِيمٌ أزَلِيٌّ فهُوَ مُلْحِدٌ مُبتدِعٌ . بل هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ كَلاَمُ اللهِ ، وهُوَ مُثبَتٌ فِي المصَاحفِ وكَلاَمُ اللهِ مُبلَّغٌ عنه مَسموعٌ مِن القُرَّاءِ . لَيْسَ مَسموعاً منه . فالإِنْسَانُ يَرَى الشَّمسَ والقَمرَ والكواكبَ بطريقِ المُباشِرِ ، ويَراها فِي ماءٍ أو مِرآةٍ فهَذِهِ رؤيةٌ مُقَيَّدةٌ بِالواسِطةِ ، وتلك مُطلقةٌ بطريقِ المُباشِرِ . ويُسمَعُ مِن المُبَلِّغِ عنه بِواسطةٍ . والمقصودُ بالسَّماعِ هُوَ كلامُهُ فِي المَوْضِعينِ كما أَنَّ المقصودَ بالرُّؤيةِ هُوَ المَرئِيُّ فِي المَوْضِعينِ .
وإذا قِيلَ لِلمسموعِ إِنَّه كَلاَمُ اللهِ فهُوَ كَلاَمُ اللهِ مَسْموعاً مِن المُبَلِّغِ عنه، لا مَسموعاً منه، فهُوَ مسموعٌ بِواسطةِ صوتِ العبدِ ، وصوتُ العبدِ مخلوقٌ، وأما كَلاَمُ اللهِ منه فهُوَ غيرُ مخلوقٍ حيثما تَصرَّفَ.). [الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية: ؟؟] (م)
قال أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني (ت:728هـ): ( (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأمَنهُ)، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمُعونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمونَ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ )، (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ )، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّ هَذا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَني إِسْرَائيلَ أَكْثَرَ الَّذي هُمْ فيهِ مخْتَلِفونَ )، ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ )، ( لَوْ أَنْزَلْنَا هذا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ )، (وَإِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكانَ آيَةٍ واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ ).). [العقيدة الواسطية:؟؟]
- قال عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408) : ( قَولُهُ: (وَإِنْ أَحَدٌ)
ش: أحدٌ مرفوعٌ بفعلٍ يفسِّرهُ استجاركَ.
وقَولُهُ: (فَأَجِرْهُ)
ش: أي أَمِّنْهُ.
وقَولُهُ: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)
ش: أي حتَّى يسمعَ القرآنَ مبلَّغًا إليه مِن قارئِه، كما قالَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ حين قرأ على قريشٍ: (الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ ): فقالوا: هذا كلامُك أو كلامُ صاحبِك، فقال: ليس بكلامي ولا بكلامِ صاحبي ولكنَّهُ كلامُ اللهِ.
وفي سُننِ أبي داودَ أنَّ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كان يَعْرِضُ نفسَه على النَّاسِ بالموسمِ فيقَولُ: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلى قَوْمِهِ لأُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبَّي)) فبيَّن أَنَّ ما يُبلغُه ويتلوه هو كلامُ اللهِ لا كلامُه، وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّه إذا استَأْمَن مشركٌ ليسمعَ القرآنَ وجب تأمينُه ليُعَلَّمَ دينَ اللهِ وتنتشرَ الدَّعوةُ، ومنها أنَّ رسولَ اللهِ كان يُعطيِ الأمانَ لمَن جاءَه مُسترشدًا أو في رسالةٍ كما جاءَ في الحديبيةِ جماعةٌ من قريشٍ وكذلك مَن قدِمَ من دارِ الحربِ إلى دارِ الإسلامِ في أداءِ رسالةٍ أو تجارةٍ أو طلبِ صلحٍ أو مهادنةٍ أو حملِ جزيةٍ أو طلبٍ من الإمامِ أو نائبِه- أُعطيَ أمانًا ما دامَ متردِّدًا في دارِ الإسلامِ حتَّى يرجعَ إلى مأمنِه ووطنِه، وفيها دليلٌ على إثباتِ صفةِ الكلامِ للهِ وأنَّه يتكلَّمُ وأنَّ القرآنَ كلامُهُ، وفيها دليلٌ على أنَّ الكلامَ إنَّما يُنسبُ إلى مَنْ قاله ابتداءً لا إلى مَن قالَه مبلِّغًا مؤدِّيًا، فإنَّ القارئَ يُبلِّغُ كلامَ اللهِ، وكلامُه -سُبْحَانَهُ- صفةٌ من صفاتِه غيرُ مخلوقٍ، وأمَّا صوتُ القارئِ وكذا المِدادُ والورقُ فهي مخلوقةٌ، لهذهِ الآيةِ ولحديثِ: ((بَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ))، فبَيَّنَ أنَّ الأصواتَ الَّتي يُقرأ بها القرآنُ أصواتُنا، والقرآنَ كلامُ اللهِ، فالقرآنُ كلامُ الباري والصَّوتُ صوتُ القارئِ، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ الَّذي هو سُوَرٌ وآياتٌ وحروفٌ وكلماتٌ هو عَيْنُ كلامهِ -سُبْحَانَهُ- حقًّا لا تَأْلِيفُ مَلَكٍ ولا بشرٍ، وأنَّ حروفَه ومعانيَه عَيْنُ كلامِه -سُبْحَانَهُ- الَّذي تَكلَّمَ به -سُبْحَانَهُ- حقًّا، وبَلَّغه جبريلُ إلى محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وَبَلَّغَهُ محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فللرَّسولين منه مجرَّدُ التَّبليغِ والأداءِ لا الوضعِ والإنشاءِ، فإضافتُه إلى الرَّسولِ بقَولِهِ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) إضافةُ تبليغٍ وأداءٍ لا إضافةُ وضعٍ وإنشاءٍ، لا كما يقَولُهُ أهلُ الزَّيغِ والافتراءِ، وفيه الرَّدُّ على مَن زعمَ أن هذا الموجودَ بين أيدِينا هو عبارةٌ عن كلامِ اللهِ أو حكايةٍ له، فإنَّه -سُبْحَانَهُ- أخبرَ أنَّ الَّذي يُسمعُ كلامُ اللهِ، وعندهم أنَّ الَّذي يُسمعُ ليسَ كلامَ اللهِ على الحقيقةِ، وإنَّما هو مخلوقٌ حُكِيَ به كلامُ اللهِ على أحدِ قَولِهِم، وعِبارةٌ عُبِّرَ بها عن كلامِ اللهِ على القولِ الآخرِ، وهي مخلوقةٌ على القوليْنِ، فالمقروءُ، المكتوبُ والمسموعُ والمحفوظُ ليسَ كلامَ اللهِ، وإنَّما هو عبارةٌ عُبِّرَ بها عنه، كما يُعَبَّرُ عن الَّذي لا ينطقُ ولا يتكلَّمُ مِن أخرسَ أو عاجزٍ، تعالى اللهُ عن قَولِهِم عُلوًّا كبيرًا، وفيه دليلٌ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ وأنَّه يُسمعُ وأنَّه غيرُ مخلوقٍ، وفيها الرَّدُّ على مَنْ زعمَ أنَّه مخلوقٌ أو أنَّهُ كلامُ بشرٍ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلك، وفيها أنَّ مَن زعمَ أنَّه كلامُ غيرِ اللهِ فقد كفرَ أو زعمَ أنَّه مخلوقٌ.
قال الشَّيخُ تقيُّ الدِّينِ رحمه اللهُ: ولم يقلْ أحدٌ من السَّلفِ إنَّه مخلوقٌ أو أنَّه قديمٌ، بل الآثارُ متواترةٌ عن السَّلفِ مِن الصَّحابةِ والتَّابعين لهم بإحسانٍ أنَّهم يقولونَ: القرآنُ كلامُ اللهِ، وأوَّلُ مَن عُرفَ عنه أنَّه قال مخلوقٌ الجَعْدُ بِنْ دِرْهَمٍ، وصاحبُه الجهمُ بنُ صفوانَ، وأوَّلُ من عُرِفَ عنه أنه قالَ: هو قَدِيمٌ عبدُ اللهِ بنُ سعيدِ بنِ كلابٍ، أمَّا السَّلفُ فلم يَقُل أحدٌ منهم بواحدٍ من القولينِ، ولم يقلْ أحدٌ مِن السَّلفِ: إنَّ القرآنَ عِبارةٌ عن كلامِ اللهِ وحِكايةٌ له، ولا قالَ منهم أحدٌ إنَّ لَفْظِي بالقرآنِ قديمٌ أو مخلوقٌ، بل كانوا يقولونَ بما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ من أنَّ هذا القرآنَ كلامُ اللهِ، والنَّاسُ يَقْرءُونه بأصواتِهم ويكتبونَه بِمِدَادِهِم وما بينَ اللوحَينِ كلامُ اللهِ وكلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، والمِدَادُ الَّذي يُكتب به القرآنُ مخلوقٌ، والصَّوتُ الَّذي يُقْرأ به هو صوتُ العبدِ، والعبدُ وصوتُه وحركاتُه وسائرُ صفاتِه مخلوقةٌ، فالقرآنُ الَّذي يَقْرؤه المسلمونَ كلامُ الباري، والصَّوتُ صوتُ القارئِ، انتهى.
قال البخاريُّ رحمه اللهُ في كتابِ(خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ) بعد ذكرِ هذه الآيةِ والآيةِ الَّتي بعدَها، أي قَولُهُ سُبْحَانَهُ: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجيد * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) وقَولُهُ: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ ) قال: ذكرَ اللهُ أنَّ القرآنَ يُحفظُ ويُسَطَرُ، والقرآنُ المُوعى في القلوبِ المَسْطورُ في المصاحفِ المَتْلوُّ بالألسنةِ كلامُ اللهِ ليس بمخلوقٍ، وأمَّا المِدادُ والورقُ والجلدُ فإنَّه مخلوقٌ، انتهى. من (فتحِ البارِي).
قَولُهُ: (فَرِيقٌ)
ش: أي طائفةٌ.
(مِنْهُمْ)
ش: أي أَحْبَارِهِم.
(يَسْمُعونَ كَلامَ اللهِ)
ش: أي التـَّوراةَ.
قَولُهُ: (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ)
ش: أي يُغيِّرونه ويَتأوَّلونه على غيرِ تأويلِه.
(مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ)
ش: أي فهمُوه.
(وَهُمْ يَعْلَمونَ) ش: أي أنَّهم مُفترونَ، وإذ كانَ هذا حالُ علمائِهم فكيفَ بِجُهَّالِهِمْ.
في هذه الآيةِ التَّأيِيسُ من إيمانِ اليهودِ الَّذين شاهدَ آباؤُهم ما شاهدُوا، ثمَّ قستْ قلوبُهم ولم ينفعْهُم ما شاهدُوه، وفيها ذمٌّ للمُحَرِّفين للكَلِم عن مواضعِه، وأنَّ التَّحريفَ من صفاتِ اليهودِ، وأفادتْ هذه الآيةُ كغيرِها إثباتَ صفةِ الكلامِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، والرَّدَّ على مَن زعمَ أنَّ اللهَ لا يتكلَّمُ أو أنَّ كلامَه مخلوقٌ، وفيها دليلٌ على أنَّ الكلامَ إنَّما يُنسبُ إلى مَن قاله مُبتدءًا لا إلى من قاله مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا، فإنَّ قَولَهُ: (يَسْمُعونَ كَلاَمَ اللهِ ): أي مِنْ قَارئِه ومُبَلِّغِهِ.
قَولُهُ: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ)
ش: أي مَواعيدَهُ بغنائمِ خَيْبَرَ، أهلُ الحديبيةِ خاصَّةً، لا يشارِكُهم فيها غيرُهم من الأعرابِ والمُتَخلِّفين، فلا يقعُ غيرُ ذلك شرْعا ولا قَدرًا، ولهذا قال: (يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ) وهو الوعدُ الَّذي وعدَ به أهلَ الحديبيةِ، اختاره ابنُ جريرٍ.
قَولُهُ: (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا)
ش: أي في خيبرَ، وهذا خَبرٌ بمعنى النَّهْي.
قَولُهُ: (كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ): أي مِنْ قَبْلِ عَوْدِنا مِن قبلِ انصرافِنا مِن مكَّةَ إلى المدينةِ أنَّ غَنيمةَ خيبرَ لِمَن شهدَ الحديبيةَ خاصَّةً دونَ غيرِهِم.
أفادتْ هذه الآيةُ –كغيرِها- إثباتَ صفةِ الكلامِ، وإثباتَ القولِ للهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى-، وأنَّه قالَ ويقولُ متى شاءَ إذا شاءَ.
قَولُهُ: (وَاتْلُ)
ش: أي اتَّبِعْ، والتِّلاوةُ هي الاتَّباعُ، يُقالُ اتْلُ أَثَرَ فلانٍ وتَلَوْتُ أَثَرَه وقَفَوتُه وقَصَصْتُه بمعنى تَبِعْتُ خَلفهُ، ويُسمَّى تَالي الكلامِ تَالِيًا؛ لأَنَّه يُتبِعُ بعضَ الحروفِ بعضًا لا يُخرجُها جملةً واحدةً، وحقيقةُ التِّلاوةِ في هذا الموضعِ وغيرِه هي التِّلاوةُ المطلقةُ التَّامَّةُ، وهي تلاوةُ اللفظِ والمعنى. انتهى. ملخَّصًا مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ.
قَولُهُ: (مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ)
ش: الوحيُ: لغةً: الإعلامُ في خفاءٍ، وفي الاصطلاحِ إعلامُ اللهِ أنبياءَه بالشَّيءِ، إمَّا بكتابٍ أو رسالةِ مَلَكٍ أو منامٍ أو إِلْهَامٍ.
قَولُهُ: (مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ)
ش: أي القرآنِ بدليلِ قَولِهِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) – إلى قَولِهِ – (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى) الآيةَ والمَسْمُوعُ واحدٌ، والكتابُ في الأصلِ جِنْسٌ، ثمَّ غَلَبَ على القرآنِ من بين الكُتبِ. انتهى، (الكَوْكَبُ المُنيرُ) ملخَّصًا.
قَولُهُ: (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ)
ش: أي لا تُغيَّرُ ولا تُبَدَّلُ، كما قال سُبْحَانَهُ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) في هذه الآيةِ -كغيرِها- دليلٌ على أنَّ الكتابَ هو القرآنُ، خلافًا للكُلاَّبِيَّة فإنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- سمَّى نفسَ مَجْموعِ اللفظِ والمعنى قرآنًا وكتابًا وكلامًا، كما تقدَّمَ في قَولِهِ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) الآيةَ فبيَّنَ أَنَّ الَّذي سَمِعوه هو القرآنُ، وهو الكتابُ، وقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ) وفي الآيةِ المتقدِّمةِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ منَزَّلٌ من عندِ اللهِ، وأنَّه كلامُه، وفيها الحثُّ على تلاوتِه، وأنَّه -سُبْحَانَهُ- ضَمِنَ حفظَه من التَّغييرِ والتَّبديلِ.
قَولُهُ: (إِنَّ هَذا القُرْآنَ)
ش: مصدرُ قرأَ، أي جمعَ لِجِمْعِهِ السُّورَ أو ما في الكتبِ السَّابقةِ.
قَولُهُ (يَقُصُّ)
ش: أي يُبيِّنُ.
(عَلى بَني إِسْرَائيلَ)
ش: وهم حَمَلَةُ التَّوراةِ.
(أَكْثَرَ الَّذي هُمْ فيهِ مُخْتَلِفونَ)
ش: وذلك كاختلافِهم في أمرِ عيسى وَتَبَايُنِهم فيه، فجاءَ القرآنُ بالقولِ العَدْلِ الحقِّ أنَّه عبدٌ من عبادِ اللهِ ونبيٌّ مِن أنبيائِه، وفي الآيةِ دليلٌ على عظمةِ هذا الكتابِ وَهَيْمَنَتِه على الكتبِ السَّابقةِ، وتَوْضيحِه لما وَقَعَ فيها من اشتباهٍ، وإضافةِ القصصِ والتَّوضيحِ إليه وتضمُّنِ وجوبِ الرُّجوعِ إليه واتَّباعِه.
قَولُهُ: (وَهَذَا كِتَابٌ)
ش: أي القرآنُ
(مُبَارَكٌ)
ش: أي كثيرُ المنافعِ والخيرِ.
قَولُهُ: (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا)
ش: أي مُتَذِلِّلاً.
(مُتَصَدِّعًا)
ش: أي مُتَشَقِّقًا، فإذا كان القرآنُ لو أُنْزلَ على جبلٍ لَخشع وتَصدَّعَ من خوفِ اللهِ فكيفَ يليقُ بكم أيُّها النَّاسُ أنْ لا تَلينَ قلوبُكُم وتخشعَ من خوفِ اللهِ، وقد فَهِمتم عن اللهِ أمرَه ونهيَهُ وتَدَبَّرتُم كتابَه، وفي الآيةِ دليلٌ على عَظَمةِ القرآنِ وأنَّه لو أُنزلَ على جبلٍ لخشعَ وتَصدَّعَ مِن خشيةِ اللهِ، وفيها دليلٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- خلقَ في الجماداتِ إدراكًا بحيثُ تخشعُ وتُسبِّحُ، وهذا حقيقةٌ كما دلَّتْ على ذلك الأدلَّـةُ ولا يَعلمُ كيفيَّةُ ذلك إلا هوَ سُبْحَانَهُ، وفيها حَثٌّ على الخوفِ من اللهِ والخشوعِ عندَ سماعِ كلامِه، وأنَّه ينبغي أن يُقرأ بتدبُّرٍ وخشوعٍ وإقبالِ قلبٍ وأنَّه ينبغي الرِّقَّـةُ عند سماعِ كلامِ الله والبُكاءِ وتلاوتِه بحزنٍ.
قَولُهُ: (وَإِذا بَدَّلْنَا آيَةً مَكانَ آيَةٍ)
ش: أي نسخنَاها وأنزلنَا غيرَها لمصلحةِ العبادِ.
قَولُهُ: ( واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ)
ش: أي هو -سُبْحَانَهُ وتعالَى- أعلمُ بما هو أصلحُ لخلقِه فيما يُغَيِّرُ ويَنْسَخُ من أَحكامِه، وفي الآيةِ دليلٌ على وقوعِ النَّسخِ في القرآنِ، وأنَّه لحكمةٍ ومصلحةٍ يعلمُها سُبْحَانَهُ، فهو أعلمُ بمصلحةِ عبادِه، وفيها دليلٌ على إحاطةِ علمِه -سُبْحَانَهُ- بكلِّ معلومٍ.
قَولُهُ: (قَالُوا)
ش: أي الكفَّارُ.
(إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)
ش: أي كذَّابٌ.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمونَ)
ش: أي لا يعلمونَ الحكمةَ في ذلك.
قَولُهُ: (قُلْ نَزَّلَهُ)
ش: أي القرآنَ، والتَّنزيلُ والإنزالُ هو مجيءُ الشَّيءِ من أعلى إلى أسفلَ.
(رُوحُ القُدُسِ)
ش: أي جبريلُ عليه السَّلامُ، فجبريلُ سمعَهُ من اللهِ والنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعه من جبريلَ، وهو الَّذي نَزَل بالقرآنِ على محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كما نصَّ على ذلك أحمدُ وغيرُه من الأئمَّةِ، وجبريلُ هو الرُّوحُ الأمينُ المذكورُ في قَولِهِ سُبْحَانَهُ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ) الآيةَ.
ولم يقلْ أحدٌ من السَّلفِ: إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعَهُ من اللهِ، وإنَّما قال ذلك بعضُ المتأخِّرين، والآيةُ تَرُدُّ عليه. قال ابنُ حجرٍ رحمه اللهُ في شرحِ (البخاريِّ): والمنقولُ عن السَّلفِ اتَّفاقُهم أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، تلقَّاهُ جبريلُ عن اللهِ، وبلَّغَه جبريلُ إلى محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وبلَّغه محمَّدٌ إلى أمَّتِه. انتهى.
ففي هذه الآياتِ دليلٌ على أنَّ القرآنَ منَزَّلٌ من عندِ اللهِ، وأنَّه كلامُه، بدأَ منه وظهرَ لا من غيرِه، وأنَّه الَّذي تكلَّم به لا غيرَه، وأمَّا إضافتُه إلى الرَّسولِ في قَولِهِ: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) فإضافةُ تبليغٍ لا إضافةُ إنشاءٍ، والرِّسالةُ تبليغُ كلامِ المُرْسِلِ، ولو لم يكنْ للمُرسلِ كلام يبلِّغُه الرَّسولُ لم يكنْ رسولاً، ولهذا قال غيرُ واحدٍ مِن السَّلفِ: مَن أَنْكرَ أن يكونَ اللهُ مُتكلِّمًا فقد أنكرَ رسالةَ رسلِهِ، فإنَّ حقيقةَ رسالتِهم: تبليغُ كلامِ المرسِلِ، وفيها دليلٌ على علوِّ اللهِ على خلقِه، والتَّنـزيلُ والإنزالُ المذكورُ في القرآنِ ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
إنزالٍ مُطلقٍ كقَولِهِ: (وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ).
الثَّاني: إنزالٍ مِن السَّماءِ كقَولِهِ: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُورًا).
الثَّالثِ: إنزالٍ منه -سُبْحَانَهُ- كقَولِهِ: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ).
فأخبرَ أَنَّ القرآنَ منَزَّلٌ منه، والمطرَ مُنَزَّلٌ من السَّماءِ، والحديدَ منَزَّلٌ نزولاً مطلقًا، ففرَّقَ -سُبْحَانَهُ- بين النُّزولِ منه والنُّزولِ من السَّماءِ، وحُكمُ المجرورِ بِمِنْ في هذا البابِ حكمُ المضافِ، والمضافُ ينقسمُ إلى قِسمين:
إضافةِ أَعْيَانٍ
وإضافةِ معانٍ،
فإضافةُ الأعيانِ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه، كبيتِ اللهِ وناقةِ اللهِ ونحوِ ذلك،
أمَّا إضافةُ المعاني إلى اللهِ -سُبْحَانَهُ وتعالَى- فهي من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، كسمعِ اللهِ وبصرِه وعلمِه وقُدرتِه، فهذا يمتنعُ أنْ يكونَ المضافُ مخلوقًا، بل هو صفةٌ قائمةٌ به وهكذا حُكمُ المجرورِ بمن، فإضافةُ القرآنِ إليه -سُبْحَانَهُ- من بابِ إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، لا من بابِ إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِه خلافًا للمبتدعةِ من المعتزلةِ والجهميَّةِ وأشباههِم، وفي هذه الآيةِ الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، أو أنَّه كلامُ بشرٍ وغيرِه، فمَن زعمَ ذلك فهو كافرٌ باللهِ العظيمِ، كما رُوِيَ ذلك عن السَّلفِ، وفيها دليلٌ على أنَّ جبريلَ نَزَل به من عندِ الله، فإنَّه (رُوحُ الْقُدُسِ) وهو أيضا الرُّوحُ الأمينُ، وفي قَولِهِ: (الأَمِينُ) دليلٌ على أنَّه مُؤْتمنٌ على ما أُرْسلَ به، فلا يَزيدُ عليه ولا يُنقِصُ، وفيها دليلٌ على أنَّ الرَّسولَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سَمِعَهُ من جبريلَ وهو الَّذي نَزَل به عليه من عندِ اللهِ، وجبريلُ سمعَه من اللهِ، والصَّحابةُ سمعُوه من النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وفيها الرَّدُّ على مَن قالَ إنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- سمعَ القرآنَ من اللهِ، وفيها الدَّلالةُ على بُطلانِ قولِ مَن قالَ إنَّه مخلوقٌ خلقَهُ اللهُ في جسمٍ من الأجسامِ المخلوقةِ، كما هو قولُ الجهميَّةِ القائِلين بخلقِ القرآنِ، وفيها الدَّلالةُ على بُطلانِ قولِ مَن قال إنَّه فَاضَ على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- من العقلِ الفَعَّالِ أو غيرِه، كما يقَولُهُ طَوَائِفُ من الفلاسفةِ والصَّابئةِ، وهذا القولُ أشدُّ كفرًا من الَّذي قبلَه، وفيها الدَّليلُ على بُطلانِ قولِ مَن يقولُ: إنَّ القرآنَ العربيَّ ليس مُنزَّلاً مِن اللهِ بل مَخلوق، إمَّا في جبريلَ أو محمَّدٍ أو جُرْمٍ آخرَ كالهواءِ، كما يقولُ ذلك الكُلاَّبيَّةُ والأَشعريَّةُ القائلونَ بأنَّ القرآنَ العربيَّ ليسَ هو كلامَ اللهِ، وإنَّما كلامُه المعنى القائمُ بذاتِه، والقرآنُ العربيُّ خُلقَ ليدلَّ على ذلك المَعنى، وهذا يُوافقُ قولَ المعتزلةِ ونحوِهم في إثباتِ خلقِ القرآنِ، وفيها أنَّ السَّفيرَ بينَ اللهِ ورسولِه محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- هو جبريلُ عليه السَّلامُ، وفيها الرَّدُّ على مَن زعم أنَّ كلامَ اللهِ هو المعنى النَّفْسيُّ، فإنَّ جبريلَ سَمِعه مِن اللهِ والمعنى المُجَرَّدُ لا يُسْمعُ، وفيها دليلٌ أنَّ القرآنَ نزلَ باللغةِ العربيَّةِ وتكلَّم اللهُ -سُبْحَانَهُ- بالقرآنِ بها، وفيها الرَّدُّ على مَن زعمَ أنَّه يجوزُ ترجمةُ القرآنِ باللغاتِ الأعجميَّةِ؛ لأنَّ القرآنَ مُعجزٌ بلفظِه ومعناه. ).[التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية: ؟؟]
قال أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني (ت:728هـ) : (ومِن الإِيمانِ باللهِ وكُتُبِهِ الإِيمانُ بأَنَّ القرآنَ: كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلوقٍ، منهُ بَدَأَ، وإِليهِ يَعودُ، وأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقيقةً، وأَنَّ هذا القرآنَ الَّذي أَنْزَلَهُ على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُو كلامُ اللهِ حقيقةً، لا كَلامَ غيرِهِ.
ولا يجوزُ إِطلاقُ القَوْلِ بأَنَّهُ حِكايةٌ عَنْ كلامِ اللهِ، أَو عِبارَةٌ، بلْ إِذا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ في المصاحِفِ؛ لمْ يخْرُجْ بذلك عنْ أَنْ يَكونَ كَلامَ اللهِ تعالى حَقيقةً، فإِنَّ الكلامَ إِنَّما يُضَافُ حقيقةً إِلى مَنْ قالَهُ مُبْتَدِئاً، لا إِلى مَن قالَهُ مُبَلِّغاً مُؤدِّياً.
وهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُروفُهُ، ومَعانيهِ، ليسَ كَلامُ اللهِ الحُروفَ دُونَ المَعاني، ولا المَعانِيَ دُونَ الحُروفِ). [العقيدة الواسطية:؟؟]
- قال عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ت: 1408): ( قولُه: (وإنَّ اللَّهَ تكلَّمَ به حقيقةً)
ش: قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) والآياتُ والأحاديثُ - في إثباتِ كلامِه -سُبْحَانَهُ- وأنَّه تكلَّمَ بالقرآنِ - كثيرةٌ جِداًّ، وكُلُّها دالَّةٌ على أنَّه -سُبْحَانَهُ- تكلَّمَ حقيقةً لا مجازًا، بل حقيقةُ الإرسالِ تَبليغُ كلامِ المُرسَلِ، وإذا انْتَفَتْ عنه حقيقةُ الكلامِ، انْتَفَتْ عنه حقيقةُ الرِّسالةِ والنُّبوَّةِ، والرَّبُّ يَخلُقُ بقولِه وكلامِه، فإذا انتفَتْ عنه حقيقةُ الكلامِ انتفى عنه الخلقُ، وقد عابَ اللَّهُ آلهةَ المشركِين بأنَّها لا تتكلَّمُ ولا تُكلِّمُ عابدِيها، والجهميَّةُ وَصَفوا الرَّبَ بصفةِ هَذِهِ الآلهةِ، وقد تكاثَرَت الأدلَّةُ على أنَّ اللَّهَ نادَى وناجَى وأمَرَ ونَهى، وكُلُّ هَذَا دالٌّ أنَّه تكلَّمَ حقيقةً لا مجازًا، فاتَّضح بما ذكرناه أنَّ اللَّهَ يتكلَّمُ حقيقةً، وأمَّا مَن ادَّعى المجازَ بعدَ هَذَا البيانِ فقد شاقَّ اللَّهَ ورسولَه والمؤمنين، فالقرآنُ كلامُ اللَّهِ حُروفُه ومعانيه، هَذَا قولُ السَّلَفِ.
=وفي قولِه: (حقيقةً)
ش: رَدٌّ على مَن زعم أنَّ كلامَه -سُبْحَانَهُ- معنى واحدٌ قام بذاتِ الباري لم يُسمَعْ منه، وإنَّما هُوَ الكلامُ النَّفْسانِيُّ ولم يتكلَّمْ بِهِ حقيقةً؛ لأنْ لا يُقالَ لمَن قامَ بِهِ الكلامُ النَّفْسانيُّ ولم يَتكلَّمْ بِهِ إنَّ هَذَا كلامٌ حقيقةً، وإلاَّ يلْزَمُ أنْ يكونَ الأخرسُ متكلِّما، ولَزِمَ أنْ لا يكونَ الذي في المصحَفِ عندَ الإطلاقِ هُوَ القرآنُ، ولا كلامُ اللَّهِ، ولكنَّه عبارةٌ عنه، ليست كلامَ اللَّهِ، كما لو أشار إلى شخصٍ بإشارةٍ مفهومةٍ فكَتَب ذَلِكَ الشَّخصُ عبارةً عن المعنى الذي أَوحاهُ إليه ذَلِكَ الأخرسُ، فالمكتوبُ هُوَ عبارةُ ذَلِكَ الشَّخصِ عن ذَلِكَ المعنى، فعندهم أنَّ المَلَكَ فَهِمَ منه معنى قائِماً بنَفْسِه، لم يَسمَعْ منه حرفاً ولا صوتاً، بل فَهِمَ معنًى مجرَّدا ثم عبَّرَ عنه، فهُوَ الذي أحْدَثَ نَظْمَ القرآنِ وتأليفَه، وقد تَقدَّمَ الكلامُ في الرَّدِّ على مَن زَعَم أنَّ كلامَ اللَّهِ المعنى النَّفْسيُّ، وأنَّ الشَّيخَ تقيَّ الدِّينِ ردَّ ذَلِكَ مِن تِسعين وجهًا، كُلُّ واحدٍ يَدلُّ على بطلانِه بأدلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ وعقليَّةٍ، وقال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ)
تِسعونَ وَجْهًا بَيَّنَتْ بُطلانَه أَعْنِي كلامَ النَّفْسِ ذا البُطلانِ
قولُه:(وأنَّ هَذَا القرآنَ) إلخ
ش: قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) الآيةَ. وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) وقال: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) والأدلَّةُ على إثباتِ صفةِ الكلامِ كثيرةٌ لا تَنحصِرُ، والوصفُ بالتكلُّمِ مِن أوصافِ الكمالِ، وضِدُّهُ مِن أوصافِ النَّقْصِ، قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) الآيةَ. فعُلمَ أنَّ عَدمَ التَّكلُّم نقصٌ يُستدلُّ بِهِ على عَدمِ ألوهيةِ العِجلِ.
قال البخاريُّ في صحيحِه: ((بابُ كلامِ الرَّبِّ تبارَك وتعالى مع أهلِ الجَنَّةِ)) وساقَ فيه عدَّةَ أحاديثَ، فأفضلُ نعيمِ الجَنَّةِ رُؤيةُ وجْهِه -سُبْحَانَهُ- وتكليمُه، وكم في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن دليلٍ على تكلُّمِ اللَّهِ لأهلِ الجَنَّةِ وغيرِهم، قال تعالى: (سَلاَمٌ قَوْلاً مَّن رَّبَّ رَّحِيمٍ) وعن جابرٍ -رضي اللَّهُ عنه- قال: قال رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ-: ((بَيْنَمَا أَهْلُ الجَنَّة فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ -جَلَّ جَلاَلُهُ- قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ)). وهُوَ قولُه -سُبْحَانَهُ-: (سَلاَمٌ قَوْلاً مَّن رَّبَّ رَّحِيمٍ) الحديثَ، ويأتي إنْ شاءَ اللَّهُ.
... قال اللَّهُ -سُبْحَانَهُ-: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) ولم يَقُلْ ما هُوَ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ والأصلُ الحقيقةُ، ومَن قال إنَّ المكتوبَ في الصُّحفِ عبارةٌ عن كلامِ اللَّهِ أو حكايةٌ عن كلامِ اللَّهِ وليس فيها كلامُ اللَّهِ، فقد خالَفَ الكِتابَ والسُّنَّةَ وسلَفَ الأمَّةِ، وكفى بِذَلِكَ ضلالاً.
قال ابنُ القيِّمِ في (النُّونيَّةِ):
زَعَمُوا القُرآنَ عبارةً وحكايةً قُلنا كما زَعَموه قرآنانِ
هَذَا الذي نَتلُوه مخلوقٌ كما قال الوليدُ وبعدَه الفِئَتانِ
والآخرُ المعنى القديمُ فقائمٌ بالنَّفسِ لم يُسمعْ مِن الدَّيَّانِ
ودَليلُهم في ذَاكَ بيتٌ قالَه فيما يُقالُ الأخطلُ النَّصراني.
ولو كان ما في المصحفِ عبارةً عن كلامِ اللَّهِ، وليس هُوَ كلامَ اللَّهِ لِمَا حُرِّمَ على الجُنُبِ والمُحْدِثِ مَسُّهُ؟ ولو كان ما يَقرأُ القارئُ ليس هُوَ كلامَ اللَّهِ لَمَا حُرِّمَ على الجُنُبِ؟ بل القرآنُ كلامُ اللَّهِ محفوظٌ في الصُّدورِ، ومقروءٌ بالألسُنِ، مكتوبٌ في المصاحِفِ كما قال أبو حنيفةَ في "الفِقهِ الأكبرِ" وغيرُه: وهُوَ في هَذِهِ المواضِع كُلِّها حقيقةٌ لا يَصِحُّ نفيُه، والمجازُ يَصِحُّ نفْيُه، فلا يجوزُ أنْ يُقالَ ليس في المصحفِ كلامُ اللَّهِ ولا ما قَرأَ القارئُ كلامَ اللَّهِ.
قولُه:(بل إذا قرأه النَّاسُ) إلخ.
ش: قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ)، وقال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ) وقال تعالى: (يَتْلُو صُحُفًا مَّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) وفي حديثِ ابنِ عمرَ قال: نَهى رسولُ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أنْ يُسافَرَ بالقرآنِ إلى أرضِ العدوِّ مخافةَ أنْ يُنالَ بِسُوءٍ، وهَذَا الحديثُ رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ، إلى غيرِ ذَلِكَ مِن الأدلَّةِ الدَّالَّةِ على أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ حقاًّ حَيْثُ تَلاهُ التَّالُونَ أو حَفِظَهُ الحافِظون أو كتَبَه الكاتِبونَ، وهُوَ المعجزةُ بلَفْظِه ومعناه.
قولُه: (فانَّ الكلامَ إنما يُضافُ) إلخ.
ش: قال تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) أي: مِن مُبَلِّغِه، فسماعُ كلامِ الرَّبِ وغيرِه يَنقسِمُ إلى قسمَيْنِ: مُطلَقٌ ومَقيَّدٌ. فالمُطلَقُ ما كان بغيرِ واسطةٍ، كما سَمِعَ موسى بنُ عِمرانَ كلامَ الرَّبِّ، وكما يَسمعُ جبريلُ وغيرُه كلامَه -سُبْحَانَهُ- وتكلِيمَه، ومنه قولُ الرَّسولِ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ)).
وأمَّا المُقيَّدُ: فالسَّمعُ بواسطةِ المبلِّغِ كسَماعِ الصَّحابةِ، وسماعِنا لكلامِ اللَّهِ حقيقةً بواسطةِ المبلِّغِ عنه، ومنه قولُه: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ) وكما في الحديثِ المتقدِّمِ أنَّ رسولَ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- قال: ((أَلاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي)) وكما قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ لَمَّا خَرجَ على قريشٍ فقرأَ: (الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ) الآيةَ، فقالوا: هَذَا كلامُكَ أو كلامُ صاحبِكَ، فقال: ليس بكلامِي ولا بكلامِ صاحِبي، وإنما هُوَ كلامُ اللَّهِ، فبَيَّنَ أنَّ ما يُبلِّغُه ويتلوهُ هُوَ كلامُ اللَّهِ، وإنْ كان يبلِّغُه بأفعالِه وصَوتِه، والنَّاسُ إذا سمعوا مَن يروي قصيدةً أو كلاماً أو قرآناً قالوا: هَذَا كلامُ فلانٍ.
قولُه: (وهُوَ كلامُ اللَّهِ)
ش: لأنَّه هُوَ الذي ألَّفَه وأنشأَهُ، وأمَّا قولُه: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الآيةَ، فإضافَتُه إليه إضافةُ تبليغٍ لا إضافةُ إنشاءٍ وابتداءٍ، فإنَّه قال: قولُ رَسولٍ، ولم يَقُلْ: قَولُ مَلَكٍ ولا نَبيٍّ، فإنَّ الرَّسولَ يُبلِّغُ كلامَ مُرسِلِه، وأيضًا فقولُه: أمينٌ دليلٌ على أنَّه لا يَزيدُ ولا يُنقِصُ، بل هُوَ أمينٌ على ما أُرِسلَ بِهِ يبلِّغُه عن مُرسِلِه، وأيضًا فإنَّ اللَّهَ كفَّرَ مَن جعَلَه قولَ البَشَرِ، ومُحَمَّدٌ بَشرٌ، فمَن جعَلَه قولَ مُحَمَّدٍ بمعنى أنَّ مُحَمَّداً أو غيرَه أنشأَهُ فقد كفَرَ، وما ذَكَرَ اللَّهُ في القرآنِ عن موسى -عليه السَّلامُ- وغيرِه وعن فرعونَ وإبليسَ، فإنَّ ذَلِكَ الكلامَ كلامُ اللَّهِ إخباراً عنهم، وكلامُ موسى وغيرِه مِن المخلوقينَ مخلوقٌ، والقرآنُ كلامُ اللَّهِ لا كلامُهم.). [التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية: ؟؟] (م)