ما لا يصحّ من دعاوى النسخ
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (اعلم أن أكثر القرآن في أحكامه وأوامره ونواهيه ناسخٌ لما كان عليه من كان قبلنا من الأمم، إلا ما أقرّنا الله عليه مما كانوا عليه. فالواجب ألا يذكر في الناسخ والمنسوخ آية نسخت ما كانوا عليه من دينهم وفعلهم. ولو لزم ذكر ذلك لوجب إدخال أكثر القرآن في الناسخ لأنه ناسخٌ لما كانوا عليه من شركهم وما أحدثوا من أحكامهم ولكثير مما فرض عليهم.
وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية.
وقد أدخل أكثر المؤلفين في الناسخ والمنسوخ آيًا كثيرةً، وقالوا: نسخت ما كانوا عليه من شرائعهم، وما اخترعوه من دينهم وأحكامهم، وآيًا كثيرة ذكروا أنها نسخت ما كانوا عليه مما افترض عليهم.
وكان حقّ هذا ألا يضاف إلى الناسخ والمنسوخ؛ لأنا لو اتّبعنا هذا النوع لذكرنا القرآن كله في الناسخ والمنسوخ، ولكنَّا نقول:{الحمد لله} ناسخٌ لما كانوا عليه من امتناعهم من إضافة الحمد إلى الله، وإن قوله: {رب العالمين} ناسخٌ لما كانوا عليه من ادّعائهم أربابًا من دون الله، وكذلك كلّ القرآن، وهذا خروج عما نقصد إليه من هذا العلم.
ونحن نذكر من ذلك ما ذكروا اتباعًا لهم لا نظرًا، وننبه على ما أمكن من ذلك، ونخبر أنّ حق هذا أن لا يذكر في الناسخ والمنسوخ على ما بينا في هذا الباب.
فافهم هذا إذا مرّ بك شيء منه، وقد ذكرناه اتباعًا لهم. وليس ذكرنا له من وجه النظر والتحقيق، إنما هو من جهة الاتباع والمسامحة، إذ يلزم أن يذكر كل شيء مثله، فيجب ذكر كل القرآن). [الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 107-108]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (قال: وكل ما في القرآن: {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} الآية [الأنعام: 15، يونس: 15، الزمر: 13] نسخه: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} الآية [الفتح: 2].
قلت: أفترى أنه زال خوفه من الله وقد قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: (أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟) فقال: ((أفلا أكون عبدا شكورا)) وقال: ((والله إني لأخوفكم لله)) وكان (يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل).
قال: وكل ما في القرآن من خبر الذين أوتوا الكتاب والصفح عنهم نسخه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} الآية [التوبة: 29]، وقد قدمت القول في ذلك.
قال: وكل ما في القرآن من الأمر بالشهادة نسخه: {فإن أمن بعضكم بعضا} الآية [البقرة: 283].
قال: وكل ما في القرآن من التشديد والتهديد نسخه بقوله عز وجل: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} الآية [البقرة: 185] وقد قدمت القول في جميع ذلك.
قال رحمه الله: وهذه الجملة – يعني ما ذكره في كتاب الناسخ والمنسوخ له – استخرجتها من كتب المحدثين وشيوخ المفسرين وعلمائهم: من كتاب أبي صالح، ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد البزوري، ثنا أبو جعفر أحمد بن الفرج بن جبريل المفسر، ثنا أبو عمر حفص بن عمر الدوري عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي عليه السلام عن ابن عباس.
قال: ومن كتاب مقاتل بن سليمان، أخبرنا به عبد الخالق بن الحسين السقطي، ثنا عبد الله بن ثابت عن أبيه عن الهذيل بن حبيب عن مقاتل.
ومن كتاب مجاهد بن جبر، ثنا به أبو بكر محمد بن الخضر بن زكريا عن مجاهد.
ومن كتاب النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس، ثنا به عمر بن أحمد الدوري، وأبو بكر بن إبراهيم البزار قالا: ثنا عمر بن أحمد الدوري عن محمد بن إسماعيل الحساني عن وكيع بن الجراح عن النضر بن عربي عن عكرمة.
ومن كتاب محمد بن سعد العوفي عن أبيه عن جده عن عطية عن ابن عباس، ثنا به المظفر بن نظيف، قال: ثنا به ابن كامل القاضي، ثنا محمد بن سعد العوفي عن أبيه عن جده عن ابن عباس.
ومن كتاب سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، ثنا به أبو القاسم عبيد الله بن جنيقا الدقاق، ثنا أبو الحسن علي بن محمد المصري الواعظ، ثنا الحسين بن عبد الله بن محمد عن محمد بن يحيى عن سعيد عن قتادة.
قال: فهذه الجملة كافية.
قلت: وهِبَة الله هذا رجل صالح، وقد سمعت كتابه هذا من أبي محمد القاسم بن علي بن الحسن بن هبة الله الحافظ رحمه الله، وأنا به عن أبي الكرم يحيى بن عبد الغفار بن عبد المنعم، عن أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز التميمي عن هبة الله المصنف ). [جمال القراء:393-394]