جمع قراءات شتى وروايات مختلفة في مصحف واحد
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (عقد أبو عمرو الداني في المحكم بابا في جامع القول في النقط، وعلى ما يبنى من الوصل والوقف، وما يستعمل له من الألوان، وما يكره من جمع قراءات شتى وروايات مختلفة في مصحف واحد، وما يتصل بذلك من المعاني اللطيفة، والنكت الخفية. ثم مضى في تفصيل جزئيات هذا الباب إلى أن قال: (وأكره من ذلك وأقبح منه ما استعمله ناس من القراء، وجهلة من النقاط في جمع قراءات شتى، وحروف مختلفة في مصحف واحد، وجعلهم لكل قراءة وحرف لونا من الألوان المخالفة للسواد كالحمرة والخضرة والصفرة واللازورد، وتنبيههم على ذلك في أول المصحف، ودلالتهم عليه هناك لكي تعرف القراءات، وتميز الحروف، إذ ذلك من أعظم التخليط وأشد التغيير المرسوم. ومن الدلالة على كراهة ذلك والمنع منه سوى ما قدمناه من الأخبار على ابن مسعود والحسن وغيرهما ما حدثناه خلف بن إبراهيم بن محمد قال: نا أحمد بن محمد قال: نا علي ابن عبد العزيز قال: نا القاسم بن سلام قال: نا هشيم عن أبي بشر بن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ: (عباد الرحمن)، قال سعيد: فقلت لابن عباس: إن في مصحفي" عند الرحمن". فقال: أمحها واكتبها "عباد الرحمن". ألا ترى ابن عباس رحمه الله قد أمر سعيد بن جبير بمحو إحدى القراءتين وإثبات الثانية، مع علمه بصحة القراءتين في ذلك، وأنهما منزلتان من عند الله تعالى، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما جميعا، وأقرأ
[498]
بهما أصحابه، غير أن التي أمره بإثباتها منهما كانت اختياره إما لكثرة القارئين بها من الصحابة، وإما لشيء صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر شاهده من علية الصحابة. فلو كان جمع القراءات وإثبات الروايات والوجوه واللغات في مصحف واحد جائزا لأمر ابن عباس سعيد بإثباتهما معا في مصحفه بنقطة يجعلها فوق الحرف الذي بعد العين، وضمة أمام الدال دون ألف مرسومة بينهما، إذ قد تسقط من الرسم في نحو ذلك كثيرا لخفتها، وتترك النقطة التي فوق ذلك الحرف، والفتحة التي على الدال، فتجتمع بذلك
القراءتان في الكلمة المتقدمة ، ولم يأمره بتغيير إحداهما ومحوها وإثبات الثانية خاصة، فبان بذلك صحة ما قلناه، وما ذهب إليه العلماء من كراهة ذلك، لأجل التخليط على القارئين، والتغيير للمرسوم، على أن أبا الحسين بن المنادي قد أشار إلى اجازة ذلك فقال في كتابه في النقط: "وإذا نقطت ما يقرأ على الوجهين فأكثر فارسم في رقعة غير ملصة بالمصحف أسماء الألوان، وأسماء القراء ليعرف ذلك الذي يقرأ فيه، ولتكن الأصباغ صوافي لامعات، والأقلام بين الشدة واللين". قال: " وإن شئت أن تجعل النقط مدورا فلا بأس بذلك، وإن جعلت بعضه مدورا ، وبعضه بشكل الشعر فغير ضائر بعد أن تعطي الحروف ذوات الاختلاف حقوقها". قال: " وكان بعض الكتاب لا يغير رسم المصحف الأول، وإذا مر بحرف يعلم أن النقط والشكل لا يضبطه كتب ما يريد من القراءات المختلفة تعليقا بألوان مختلفة، وهذا كله موجود في المصاحف".
قال أبو عمرو: وترك استعمال شكل الشعر، وهو الشكل الذي في الكتب الذي اخترعه الخليل في المصاحف الجامعة من الأمهات وغيرها أولى وأحق اقتداء بمن ابتدأ النقط من التابعين ، واتباعا للأئمة السالفين).
[499]