سورة آل عمران
[من الآية (81) إلى الآية (83) ]
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ... (81)
قرأ حمزة: (لما) كسر، وكذلك روى هبيرة عن حفص عن عاصم: (لما) بكسر اللام.
وقرأ الباقون: (لما) بفتح اللام.
وقرأ نافع وحده: (ءاتيناكم).
وقرأ الباقون: (آتيتكم) بلا نون.
قال أبو منصور: من قرأ (لما آتيتكم) بفتح اللام فإن (ما) للشرط والجزاء. ودخلت اللام على (ما) كما تدخل في (إن) الجزاء إذا كان في جوابها القسم، كما قال الله جلّ وعزّ: (ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي)
[معاني القراءات وعللها: 1/265]
وكقوله: (قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ) فاللام في (إن) دخلت مؤكدة للام القسم، كقولك: (لئن جئتني لأكرمنّك). وكذلك قوله: (لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقٌ لما معكم لتؤمننّ به).
ومن قرأ (لما آتيتكم) جعلها لام خفض، وجعل اليمين مستأنفا.
وأجود القراءتين فتح اللام.
وأخبرني المنذري عن أبي طالب النحوي أنه قال: معنى (لما آتيتكم): لمهما آتيتكم)، أي: أي كتاب آتيتكم لتؤمننّ به.
وهذا يقرب من التفسير الأول). [معاني القراءات وعللها: 1/266]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (على ذلكم إصري... (81)
اتفق القراء على كسر ألف (إصري)، إلا رواية شاذة رواها ابن واصل عن سعدان عن معلى عن أبي بكر عن عاصم: (أصرى) بضم الألف.
قال أبو منصور: ولا يعرج على هذه الرواية؛ لأن ضم (أصرى) وهمٌ.
والقراءة (إصري) بالكسر، وهو العهد.
وقوله جلّ وعزّ: (أفغير دين اللّه يبغون وله أسلم من في السّماوات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون (83).
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر: (تبغون) و(وإليه ترجعون) بالتاء، وقرأهما حفص ويعقوب بالياء جميعا، إلا أن الحضرمي فتح الياء، وضمها حفص من قوله: (وإليه ترجعون).
وقرأ حمزة والكسائي بالتاء فيهما.
وقرأ أبو عمرو: (يبغون) بالياء، و: (إليه ترجعون) بالتاء.
[معاني القراءات وعللها: 1/267]
قال أبو منصور: كل ما قرئ به من هذه الوجوه فهو جائز في العربية.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال: الاختيار في كله التاء؛ ليكون على الخطاب الأول، وكل جائز؛ لأن الحكاية تخرج على الخطاب كله، وعلى الغيبة كلها، وبعضها على الخطاب وبعضٌ على الغيبة، وهذا منها إن شاء الله). [معاني القراءات وعللها: 1/268]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (43- وقوله تعالى: {لما آتيتكم} [81]
قرأ حمزة وحده {لما} بكسر اللام وجعل «ما» بمعنى الذي، والمعنى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لهذا.
وقرأ الباقون: {لما} بفتح اللام، فاللام لام التأكيد، و«ما» صلة، كما قال الله تعالى: {إن كل نفس لما عليها حافظ} أي: لعليها حافظ.
واتفق القراء على (آتيتكم) بالتاء، الله تعالى يُخبر عن نفسه بلفظ الواحد إلا نافعًا فإنه قرأ {آتيناكم} بلفظ الجماعة، وذلك أن الملك يُخبر عن نفسه بلفظ الجماعة فعلنا، وصنعنا، قال الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر} والله تعالى وحده لا شريك له). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/116]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في فتح اللام وكسرها من قوله: لما آتيتكم [آل عمران/ 81].
فقرأ حمزة وحده: (لما) مكسورة اللّام.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: لما مفتوحة اللام.
وروى هبيرة عن حفص عن عاصم (لما) بكسر اللام، وذلك غير محفوظ عن حفص عن عاصم، والمعروف عن عاصم في رواية حفص وغيره فتح اللام.
قال أبو علي: وجه قراءة حمزة (لما آتيتكم) بكسر اللّام أنّه يتعلق بالأخذ كأنّ المعنى: أخذ ميثاقهم لهذا، لأنّ من يؤتى الكتاب والحكمة يؤخذ عليهم الميثاق لما أوتوه من الحكمة، وأنّهم الأفاضل وأماثل الناس. فإن قلت: أرأيت الجملة التي هي قسم هل يفصل بينها وبين المقسم عليه بالجارّ؟. قيل: قد قالوا: «بالله» والجارّ والمجرور متعلقان بالفعل والفاعل المضمرين وكذلك قوله:
ألم ترني عاهدت ربي.........
على حلفة لا أشتم الدهر............
[الحجة للقراء السبعة: 3/62]
فيمن جعل لا أشتم يتلقى قسما. وهو قول الأكثر، علّق قوله: على حلفة بعاهدت، فكذلك قوله: (لما آتيتكم) في قراءة حمزة. فإن قال إنّ (ما) في قوله: (لما) موصولة، فلا يجوز أن تكون غير موصولة، كما جاز ذلك في قول من فتح اللام، فإذا كان كذلك، لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلّا لم يجز. ألا ترى أنّك لو قلت: الذي قام أبوه ثم انطلق زيد، ذاهب، لم يجز، إذا لم يكن راجع مذكور، وليس يقدّر محذوف؟.
قيل: يجوز أن يكون المظهر بمنزلة المضمر، ألا ترى أنّ قوله: ما معكم هو في المعنى: ما أوتوه من الكتاب والحكمة، فهذا يكون على قياس قول أبي الحسن مثل قوله: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [يوسف/ 90] والمعنى كأنّه قال: لا يضيع أجرهم لأنّ المحسنين هو من يتقي ويصبر، وكذلك قوله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا [الكهف/ 30] المعنى عنده إنّا لا نضيع
[الحجة للقراء السبعة: 3/63]
أجرهم لأنّ من أحسن عملا هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فكذلك قوله: لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم تقديره: مصدّق له: أي: مصدق لما آتيتكم من كتاب وحكمة. ألا ترى أنّ ما معهم هو ما أوتوه من كتاب وحكمة؟
فهذا وجه. ويجوز فيه شيء آخر، وهو: أن يكون: (لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول [مصدق لما معكم لتؤمنن] به) أي: بتصديقه، أي: بتصديق ما آتيتكموه، فحذف من الصلة، وحسن الحذف للطّول، كما حسن الحذف للطول فيما حكاه الخليل من قولهم: «ما أنا بالذي قائل لك شيئا».
فأمّا من فتح اللام فقال: لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم فإنّ ما فيه تحتمل تأويلين: أحدهما: أن تكون موصولة، والآخر: أن تكون للجزاء. فمن قدّرها موصولة، كان القول فيما يقتضيه قوله: ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم [آل عمران/ 81] من الراجع إلى الموصول، ما تقدّم ذكره في وجه قراءة حمزة. فأمّا الراجع إلى الموصول من الجملة الأولى فالضمير المحذوف من الصلة تقديره: لما آتيتكموه، فحذف الراجع كما حذف من قوله: أهذا الذي بعث الله رسولا [الفرقان/ 41] ونحو ذلك. واللّام في لما فيمن قدّر ما موصولة لام الابتداء وهي المتلقية لما أجري مجرى القسم من قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 3/64]
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين [آل عمران/ 81] وموضع ما رفع بالابتداء، والخبر: لتؤمنن به [آل عمران/ 81] ولتؤمننّ: متعلق بقسم محذوف، المعنى: والله لتؤمننّ به. فإذا قدرت (ما) للجزاء كانت (ما) في موضع نصب بآتيتكم وجاءكم في موضع جزم بالعطف على آتيتكم، واللّام الداخلة على (ما) لا تكون المتلقية للقسم، ولكن تكون بمنزلة اللّام في قوله: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض [الأحزاب/ 60]. والمتلقية للقسم قوله:
لتؤمنن به كما أنّها في قوله: لئن لم ينته المنافقون قوله لنغرينك بهم [الأحزاب/ 60]. وهذه اللّام الداخلة على إن في لئن لا يعتمد القسم عليها، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة كما قال: وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا [المائدة/ 73] فتلحق هذه اللّام مرة (إن) ولا تلحق أخرى، كما أنّ (أن) كذلك في قوله: والله أن لو فعلت لفعلت، وو الله لو فعلت لفعلت.
فهذه اللام بمنزلة (أن) الواقعة بعد لو. قال سيبويه: سألته- يعني الخليل- عن قوله: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه [آل عمران/ 81] فقال: (ما) هاهنا بمنزلة الذي، ودخلتها اللام كما دخلت على (إن) حين قلت: لئن فعلت لأفعلنّ، فاللّام التي في (ما) مثل هذه التي في (إن) واللّام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هاهنا.
[الحجة للقراء السبعة: 3/65]
قال أبو عثمان: فيما حكى عنه أبو يعلى [ابن أبي زرعة]: زعم سيبويه أنّ (ما) هاهنا بمنزلة الذي، ثمّ فسّر تفسير الجزاء.
والقول فيما قاله من أنّ لما بمنزلة الذي، أنّه أراد أنّه اسم كما أنّ الذي اسم، وليس بحرف كما كان حرفا في قوله: وإن كلا لما ليوفينهم [هود/ 111] وإن كل ذلك لما متاع
الحياة الدنيا
[الزخرف/ 35] فهذا المعنى أراد بقوله: أنّه بمنزلة الذي ولم يرد أنّها موصولة كالذي. وإنّما لم يحمله سيبويه على أنّ (ما) موصولة بمنزلة الذي لأنّه لو حمله على ذلك للزم أن يكون في الجملة المعطوفة على الصّلة، ذكر يعود إلى الموصول فلمّا لم ير ذلك مظهرا، ولم ير أن يضع المظهر موضع المضمر كما يراه أبو الحسن، عدل عن القول بأنّ (ما) موصولة إلى أنّها للجزاء، ولا يجيز سيبويه:
لعمرك ما معن بتارك حقّه ولا منسئ أبو زيد...
[الحجة للقراء السبعة: 3/66]
إذا كان أبو زيد كنيته لأنّه ليس باسمه الظاهر ولا المضمر، وأبو الحسن يجيز ذلك فلم يحمل الآية على ما لا يراه، ولم يحملها على الحذف من المعطوف على الصلة أيضا، لأنّه ليس بالكثير، ولا بموضع يليق به الحذف، ألا ترى أنّها إنّما تذكر للإيضاح. فإن قلت فمن جعل (ما) موصولة في قوله: لما آتيتكم من كتاب وحكمة [آل عمران/ 81] وجب أن تكون على قوله ابتداء، وإذا كانت ابتداء اقتضت خبرا، فما خبر هذا المبتدأ؟.
قيل: خبره قوله: لتؤمنن به، والذكر الذي في به يعود على الذي آتيتكموه، والذكر الذي في لتنصرنه يعود على رسول المتقدم ذكره، ولا يجوز أن يعود الذكر الأول أيضا على رسول لبقاء الموصول حينئذ غير عائد إليه من خبره ذكر. فأمّا من جعله جزاء فإنّه لا يمتنع على رأيه أن يكون الذكر في لتؤمننّ به عائدا أيضا على رسول المتقدّم ذكره، لأنّ (ما) إذا كانت للجزاء لا تحتاج إلى عائد ذكر، كما تحتاج إليه (ما) التي بمنزلة الذي في أنّها موصولة لأنّ (ما) إذا كانت جزاء مفعول بها، والمفعول لا يحتاج إلى عائد ذكر. فإن قلت: فما وجه قوله: ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم
[الحجة للقراء السبعة: 3/67]
والنبيّون لم يأتهم الرسول؟ ألا ترى أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يكن في وقته رسول ولا نبي، وإنّما الذين [كانوا في زمانه أهل الكتاب]. قيل: يجوز أن يعنى بذلك أهل الكتاب في المعنى، لأنّ الميثاق إذا أخذ على النبيّين، فقد أخذ على الذين أوتوا كتبهم من أممهم، وعامّة ما شرع للأنبياء قد شرع لأممهم وأتباعهم، من ذلك أن الفروض التي تلزمنا تلزم نبينا صلى الله عليه وسلم، وإذا كان كذلك، فأخذ الميثاق على النبيّين كأخذ ميثاق الذين أوتوا كتبهم من أممهم. ومن ثم جاء نحو: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء [الطلاق/ 1] فجمع النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه في الخطاب الواحد. فهذا من جهة المعنى. ويجوز من جهة اللفظ أن يكون المراد: وإذ أخذ الله ميثاق أمم النبيّين أو أتباع النبيّين. وأهل الكتاب إنّما يأخذ عليهم الميثاق الأنبياء الذين أتوهم بالكتب، كما أخذه نبيّنا، عليه السلام، على أمّته فيما جاء من قوله: وما لكم لا تؤمنون. بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين [الحديد/ 8]). [الحجة للقراء السبعة: 3/68]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في التاء والنون من قوله تعالى: آتيتكم [آل عمران/ 81].
[الحجة للقراء السبعة: 3/68]
فقرأ نافع وحده: (آتيناكم) بالنون. وقرأ الباقون: آتيتكم بالتاء.
[قال أبو علي]: الحجة لنافع في قراءته: (لما آتيناكم)، قوله تعالى: وآتينا داود زبورا [الإسراء/ 55] وآتيناه الحكم صبيا [مريم/ 12] وآتيناهما الكتاب المستبين [الصافات/ 17] ونحو ذلك.
وحجة من قال: آتيتكم، قوله: هو الذي ينزل على عبده آيات بينات [الحديد/ 9] ونزل عليك الكتاب بالحق [آل عمران/ 3] والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [الكهف/ 1] ). [الحجة للقراء السبعة: 3/69]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): ( [قوله: إصري آل عمران/ 81].
قال: كلهم قرأ إصري بكسر الألف إلّا ما حدّثني به محمد بن أحمد بن واصل قال: حدثنا محمد بن سعدان عن معلّى [ابن منصور] عن أبي بكر عن عاصم أنّه قرأ:
أصري بضم الألف.
قال أبو علي: يشبه أن يكون الضمّ في «الأصر» لغة في «الإصر»). [الحجة للقراء السبعة: 3/70]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعرج فيما يُروى عنه: [لَمَّا آتيناكم] بفتح اللام وتشديد الميم، [آتيناكم] بألف قبل الكاف.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة إغراب، وليست [لَمَّا] هاهنا بمعروفة في اللغة؛ وذلك أنها على أوجه:
تكون حرفًا جازمًا كقوله الله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}.
وتكون ظرفًا في نحو قوله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}.
وتكون بمعنى إلا في نحو قولهم: أقسمت عليك لَمَّا فعلت؛ أي: إلا فعلت.
ولا وجه لواحدة منهن في هذه الآية.
وأقرب ما فيه أن يكون أراد: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمِنْ ما آتيناكم، وهو يريد القراءة العامة: {لَمَا آتيناكم}، فزاد مِن على مذهب أبي الحسن في الواجب؛ فصارت "لَمِمَّا"، فلما التقت ثلاث ميمات فثقلن حذفت الأولى منهن، فبقي {لَمَّا} مشددًا كما ترى، ولو فُكت لصارت لَنْما، غير أن النون أُدغمت في الميم كما يجب في ذلك فصارت {لَمَّا}. هذا أوجه ما فيها إن صحت الرواية بها.
وأما {آتيناكم} بالجمع فطريقه أنه لما ورد مع لفظ الجماعة من النبيين جاء أيضًا مجموعًا تعاليًا في اللفظ؛ كقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا}، وقال سبحانه: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}، ولو كانت: وضربت لكم الأمثال، لم تبلغ في سمو اللفظ وتعاليه في قوله: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ}، فتفهَّم معناه). [المحتسب: 1/164]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ أخذ الله ميثاق النّبيين لما آتيتكم من كتاب} {فمن تولى} 81 و82
قرأ حمزة {وإذ أخذ الله ميثاق النّبيين لما آتيتكم} بكسر اللّام جعل ما بمعنى الّذي المعنى وإذ أخذ الله ميثاق النّبيين للّذي آتيتكم أي لهذا هذه اللّام لام الإضافة واللّام متعلقة ب أخذ الميثاق المعنى أخذ الميثاق لإتيانه الكتاب والحكمة أخذ الميثاق قال الفراء من كسر اللّام يريد أخذ الميثاق للّذي آتاهم من الحكمة قال الزّجاج ويكون الكلام يؤول إلى الجزاء كما تقول لما جئتني أكرمتك
وقرأ الباقون {لما آتيتكم} بفتح اللّام كان الكسائي يقول معناه مهما آتيتكم على تأويل الجزاء قال وجوابه {فمن تولى} وهذه اللّام تدخل في ما وفي من على وجد الجزاء
قال الزّجاج ما ها هنا على ضربين يصلح أن تكون للشّرط
[حجة القراءات: 168]
والجزاء وهو أجود الوجهين لأن الشّرط يوجب أن كل ما وقع من أمر الرّسل فهذه طريقته واللّام دخلت في ما كما تدخل في إن الجزاء إذا كان في جوابها القسم قال الله {ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك} وقال {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ} فاللّام في إن دخلت مؤكدة موطئة للام القسم ولام القسم هي اللّام الّتي لليمين لأن قولك والله لئن جئتني لأكرمنك إنّما حلفك على فعلك إلّا أن الشّرط معلّق به فلذلك دخلت اللّام على الشّرط فإذا كانت ما في معنى الجزاء موضعها نصب بقوله {آتيتكم} وتقدير الكلام أي شيء آتيتكم فتكون اللّام الأولى على ما فسره دخلت للتوكيد أي توكيد الجزاء واللّام الثّانية في قوله {لتؤمنن به} لام القسم قال ويجوز أن تكون ما في معنى الّذي ويكون موضعها الرّفع المعنى أخذ الله ميثاقهم أي استحلفهم للّذي آتيتيكم المعنى آتيتكموه لتؤمنن به وحذف الهاء من قوله آتيتكموه لطول الاسم
قرأ نافع (لما آتيناكم) بالنّون والألف وحجته قوله {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب} و{خذوا ما آتيناكم} فهذه اللّفظ تكون للتعظيم كما قال {نحن قسمنا بينهم}
وقرأ الباقون {آتيتكم} وجحتهم قوله {فخذ ما آتيتك} ). [حجة القراءات: 169]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (56- قوله: {ما آتيتكم} قرأه حمزة بكسر اللام، وفتح الباقون، وقرأ نافع «آتيناكم» بلفظ الجمع، وقرأ الباقون بلفظ التوحيد.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/351]
57- وحجة من كسر اللام أنه جعلها لام جر، وعلّق اللام بالأخذ، أي: أخذ الله الميثاق لهذا الأمر؛ لأن من أوتي الحكمة يؤخذ عليه الميثاق، لما أوتوه من الحكمة؛ لأنهم الخيار من الناس، و{ما} بمعنى الذي.
58- وحجة من فتح اللام أنه جعل اللام لام الابتداء وما بمعنى الابتداء وجعل اللام جوابًا لما هو في معنى القسم؛ لأن أخذ الميثاق بالأيمان يكون فهو في معنى القسم، فاللام جوابه، كما تقول: والله لزيدٌ خير من عمرو، وخبر الابتداء {لتؤمنن به} والعائد على {ما} هاء محذوفة من {آتيتكم}، أي: آتيتكموه، أي: أخذ الله الميثاق على النبيين للذي آتيتكموه، من كتاب وحكمة، ويجوز أن تكون {ما} في هذه القراءة للشرط، فتكون في موضع نصب بـ {آتيتكم} و{جاءكم} في موضع جزم عطف على {آتيتكم}، وتكون اللام لام التوطئة للقسم، ويجوز حذفها وإثباتها، كما قال: {وإن لم ينتهوا} «المائدة 73» و{لئن لم ينته المنافقون} «الأحزاب 60» وتأتي لام القسم بعدها أبدًا، فإنما هي تنبه أن جواب القسم قوله: {لتؤمنن به}، وقد فسرت هذه المسألة في «تفسير مشكل الإعراب» بأشبع من هذا، وفتح اللام هو الاختيار، لأن عليه الجماعة، وكذلك {آتيتكم} بلفظ التوحيد؛ لأن عليه الجماعة.
59- وحجة من قرأ: {أتيتكم} على لفظ التوحيد أن قبله اسم الله جل ذكره بلفظ التوحيد، وكذلك إذا أظهر اسم الله لم يأت إلا بلفظ التوحيد، لأنه واحد، لا إله غيره، فلما كان قبله لفظ التوحيد أتى الفعل على ذلك بالمضمر، عقيب الظاهر، يأتي مثله في توحيده وجمعه.
60- وحجة من قرأ بلفظ الجمع أنه حمله على معنى التعظيم والتفخيم وله نظائر في القرآن، نحو قوله: {وآتينا موسى الكتاب} «الإسراء 2»، و{آتيناه الحكمة} «ص 20» و{آتيناهما الكتاب} «الصافات 117»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/352]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (24- {لِمَا} [آية/ 81]:-
بكسر اللام، قرأها حمزة وحده.
ووجه ذلك أن اللام لام الجر، والمعنى أخذ الله ميثاق النبيين لهذا، وهو ما أعطاكم من الكتاب والحكمة؛ لأن من أوتي الكتاب والحكمة أخذ عليه الميثاق، وما بمعنى الذي، وهو موصول، والعائد إليه محذوف، والتقدير: للذي آتيتكموه من كتابٍ وحكمةٍ.
وقرأ الباقون {لَمَا} بفتح اللام.
ووجهه أنها لام الابتداء، وما موصولة كما تقدم، وموضعها رفع بالابتداء، وخبره {لَتُؤْمِنُنَّ}، ولتؤمنن متعلق بقسم محذوفٍ، والتقدير: والله لتؤمنن.
ويجوز أن تكون ما شرطية كما في قولك: ما تفعل أفعل، وموضعها نصب بآتيتكم، واللام فيها لام توطئة القسم يدخل في الشرط فيأتي جوابه جوابًا للقسم، كما في قوله تعالى {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} الآية، و{لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ} الآية). [الموضح: 378]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (25- {آتَيْنَاكُمْ} [آية/ 81]:-
بالنون والألف، قرأها نافع وحده.
وذلك أنه قد جاء في التنزيل مثله كثيرًا نحو {وآتَيْنَا دَاوُدَ} {وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ}؛ لأن من شأن الملوك إذا أخبروا عن أنفسهم أن يأتوا بلفظ الجمع إيذانًا بأن من تحت أمرهم يفعلون كفعلهم، فخاطبهم سبحانه بالمتعارف فيما بينهم.
وقرأ الباقون {آتَيْتُكُمْ} بالتاء من غير ألف؛ لأن المؤتي هو الله تعالى، وقد جاء مثله نحو {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} و{الحَمْدُ لله الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ} ). [الموضح: 379]
قوله تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}
قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (45- وقوله تعالى: {أفغير دين الله يبغون} [83] {وإليه يرجعون} [83].
قرأهما حفص، عن عاصم بالياء جميعًا.
وقرأ الباقون بالتاء، غير أبي عمرو فإنه قرأ {يبغون} بالياء {ترجعون} بالتاء، فمن قرأ بالتاء فمعناه: يا محمد أفغير دين الله تبغون: وإليه ترجعون، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومن قرأهما بالياء فإن معناه الإخبار عن الكفار، وكان أبو عمرو أحذق القراء، ففرق بين اللفظين لاختلاف المعنيين، فقرأ: {أفغير دين الله يبغون} يعني الكفار {وإليه ترجعون} أنتم والكفار). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/117]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: يبغون، و(ترجعون) [آل عمران/ 83].
فقرأ أبو عمرو وحده: يبغون، بالياء مفتوحة (وإليه ترجعون) بالتاء مضمومة. وقرأهما الباقون: (تبغون وإليه ترجعون) بالتاء جميعا.
وروى حفص عن عاصم: يبغون، ويرجعون بالياء جميعا.
قال أبو علي: هذا مخاطبة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، بدلالة قوله: قل آمنا بالله [آل عمران/ 84] فإذا كان كذلك كان هذا حجة لمن قرأ
[الحجة للقراء السبعة: 3/69]
بالتاء على تقدير: قل لهم: (أفغير دين الله تبغون وإليه ترجعون) [آل عمران/ 83] ليكون مثل (تبغون) في أنّه خطاب. ويؤكّد التاء في (ترجعون) أنّهم كانوا منكرين للبعث، ويدل على ترجعون إلي مرجعكم [آل عمران/ 55].
وحجة من قرأ بالياء: يبغون أنّه على تقدير: قل: كأنّه قل لهم: أفغير دين الله يبغون، وإليه يرجعون؟! فهذا: لأنّهم غيب فجاء على لفظ الغيبة وكذلك: وإليه يرجعون. وقد تقدّم القول في ترجعون ويرجعون. والمعنى على الوعيد، أي: أيبغون غير دين الله، ويزيغون عن دينه مع أنّ مرجعهم إليه فيجازيهم على رفضهم له.
وأخذهم ما سواه ؟). [الحجة للقراء السبعة: 3/70]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({أفغير دين الله يبغون} {وإليه يرجعون} 83
قرأ أبو عمرو {يبغون} بالياء وحجته أن الخطاب قد انقضى بالفصل بينه وبين ذلك بقوله {فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} 82 ثمّ قال {أفغير دين الله يبغي الفاسقون} فيكون الكلام نسقا واحدًا
وقرأ الباقون بالتّاء وحجتهم قول قبلها {أأقررتم وأخذتم} فيكون نسقوا مخاطبة على مخاطبة وقال قوم يجوز أن يكون ابتدأ خطابا مجددا على تأويل قل لهم يا محمّد أفغير دين الله تبغون أيها المخاطبون فكان خطابا عاما لليهود وغيرهم من النّاس
وقرأ حفص {يبغون} بالياء جعله خبرا عن اليهود {وإليه يرجعون} بالياء أيضا يعني اليهود وقرأ الباقون بالتّاء أي أنتم وهم). [حجة القراءات: 170]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (61- قوله: {يبغون}، {وإليه يرجعون} قرأ أبو عمرو وحفص {يبغون} بالياء، وقرأ حفص وحده {يرجعون} بالياء، وقرأهما الباقون بالتاء.
62- وحجة من قرأ بالتاء أنه أجراه على الخطاب لهم، أمر الله نبيه أن يقول لهم: أفغير دين الله تبغون أيها الكافرون، وإليه ترجعون؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، وينتحلون غير دين الله، فخوطبوا بذلك على لسان النبي عليه السلام، ويؤكد القراءة بالتاء في «ترجعون» قوله: {إليه مرجعكم} «الأنعام 60» فالتاء كالكاف، ولذلك عدل أبو عمرو إلى التاء في «ترجعون»، وخالف فيها {يبغون}.
63- وحجة من قرأ بالياء أنه جعله إخبارًا عن غيب؛ لأنهم لم يكونوا بالحضرة، وأيضًا فإن قبله ذكر غيب، في قوله: {فأولئك هم الفاسقون} «82» وقوله: {فمن تولى بعد ذلك} فجرى الكلام الذي بعده على أوله في الغيبة، وفي الكلام على القراءتين معنى التهديد والوعيد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/353]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (26- {يَبْغُونَ} [آية/ 83]:-
بالياء، قرأها أبو عمرو وعاصم ويعقوب. وذلك لأن المخبر عنهم غيب، فجاء الخبر على لفظ الغيبة.
وقرأ الباقون «تبغون» بالتاء على الخطاب؛ لأن التقدير: قل لهم يا محمد
[الموضح: 379]
أفغير دين الله تبغون، ويدل على ذلك قوله {قُلْ آمَنَّا بِاللهِ} ). [الموضح: 380]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين