المثال الثاني: معنى {مسنون}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المثال الثاني: معنى {مسنون}
قول ابن عطية الأندلسي(ت:546هـ) في تفسير قول الله تعالى: {من حمأ مسنون} قال: (قال معمر: هو المنتن، وهو من أسن الماء إذا تغير).
ثمّ تعقّبه بقوله: (والتصريف يردّ هذا القول).
يريد أنّه لا يقال في اسم المفعول من "أسن": "مسنون"؛ لأن "أسن" فعل ثلاثي لازم؛ فلا يصاغ منه اسم مفعول، وإذا عدَّيته بالهمزة فاسم المفعول منه: "مُؤسَن".
ثمّ قال ابن عطية: (والذي يترتَّب في "مَسْنُونٍ":
- إما أن يكون بمعنى محكوك؛ محكَم العمل أملس السطح، فيكون من معنى المُسَنّ والسنان، وقولهم: سَنَنْتُ السّكينَ وسننت الحجر: إذا أحكمت تمليسه، ومن ذلك قول الشاعر:
ثم دافعتها إلى القبة الخضرا ... ء تمشي في مرمر مسنون
أي محكم الإملاس بالسَّنّ
- وإما أن يكون بمعنى المصبوب، تقول: سننت التراب والماء إذا صببته شيئا بعد شيء، ومنه قول عمرو بن العاصي لمن حضر دفنه: إذا أدخلتموني في قبري فسنوا علي التراب سنا، ومن هذا: هو سن الغارة. وقال الزجاج: هو مأخوذ من كونه على سنة الطريق، لأنه إنما يتغير إذا فارق الماء، فمعنى الآية- على هذا- من حمأ مصبوب موضوع بعضه فوق بعض على مثال وصورة)ا.هـ.
فذكر قولين صحيحين من جهة التصريف، ويضاف إليهما قول ثالث ذكره الخليل بن أحمد، وهو أن "المسنون" بمعنَى "المصوَّر" من قول العرب: سنَّ الشيء إذا صوَّره، والمصوَّر: مسنون.
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
سحرتني بجيدها ، وشتيتٍ ، ** وبوجهٍ ذي بهجةٍ مسنونِ
وقول ذي الرمة:
ترِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاَء لَيْسَ بها خَالٌ ولا نَدَبُ
وقال أبو عبيدة (المسنون: المصبوب على صورة).
فجمع القولين الثاني والثالث.
وقال المبرّد: (المسنون: المصبوب على استواء).
فهذه أقوال أهل اللغة، وللسلف في معنى "مسنون" قولان آخران:
أحدهما: أن المسنون: الرطب، وهذا القول رواه ابن جرير من طريق معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وتخريج هذا القول أن يكون المسنون هنا بمعنى الذي سُنَّ عليه الماء؛ فهو رطب لذلك.
والآخر: أنّ المسنون المتغيّر، وهذا قول ابن جرير، استخرجه من أثر رواه عن قتادة، واختلف أهل اللغة في تخريج هذا القول:
فذهب الفراء إلى أنّ المسنون لا يكون إلا متغيّراً؛ فتفسير المسنون بالمتغيّر تفسير بلازم المعنى لا بدلالته اللفظية.
وذهب أبو عمرو الشيباني إلى أنّه مأخوذ من تَسَنَّنَ الطعامُ إذا تغيّر، ومنه قوله تعالى: {لم يتسنّه} والهاء مبدلة من النون.
قال أبو عبيدة: (وليستْ من الأَسِن المتغير، ولو كانت منها لكانت ولم يتأسن).
وذهب أبو منصور الأزهري إلى أنّه مأخوذ من السَّنَة، أي: مضت عليه سنون حتى تغيّر.
فانظر في هذه المفردة كيف اتّسع النظر فيها بسبب بحث تصاريفها.
والتحقيق: أنّ الأقوال الثلاثة الأولى صحيحة، واللفظ يحتملها من غير تعارض، وقول الفراء أقرب الأقوال في تخريج القول المروي عن بعض السلف). [طرق التفسير:211 - 213]