8. معنى موافقة الملائكة في التأمين
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (8. معنى موافقة الملائكة في التأمين
قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا أمَّن الإمام فأمّنوا فإنه من وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه » يفسّره قوله صلى الله عليه وسلم: « إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين؛ فوافقت إحداهما الأخرى غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه ». والحديثان في الصحيحين، وقد تقدّم ذكرهما.
وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الموافقة، وأقرب الأقوال فيها أنّ الملائكة في السماء تؤمّن إذا أمّن الإمام، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدّم من ذنبه؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: « إذا أمّن الإمام فأمّنوا» وفي رواية: « إذا قال: {ولا الضالين} فقولوا: آمين » فيه توقيت بيّنٌ لتأمين المأموم، وأنّ هذا هو وقت تأمين الملائكة، فمن وافقهم في التأمين غفر له ما تقدّم من ذنبه.
قال القاضي عياض: (وقد جاء فيه حديث مفسِّرٌ بيّن لا يحتاج إلى تأويل)ا.هـ.
وقال أبو سليمان الخطابي: (قوله: « فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة» معطوف على مضمر، وهو الخبر عن تأمين الملائكة كأنه قال: إذا قال الإمام: آمين، فقولوا: آمين كما تقوله الملائكة، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، ولولا ذلك لم يصح تعقيبه بما عقبه به من حرف الفاء من قوله « فإنه» )ا.هـ.
وقال أبو زكريا النووي: (وقوله صلى الله عليه وسلم: « من وافق قوله قول الملائكة » ، و« من وافق تأمينه تأمين الملائكة » معناه وافقهم في وقت التأمين؛ فأمَّن مع تأمينهم؛ فهذا هو الصحيح)ا.ه.
وهذا لا يقتضي أنّ جميع الملائكة في السماء تؤمّن خلف كلّ إمام ، بل يصدق هذا الحديث على صنف من الملائكة موكلون بهذا العمل، وأنّ الله تعالى جعل لهم من العلم والقدرة ما يتمكنون به من أداء هذا العمل، فيعرفون كلّ جماعة تقام في الأرض، ويؤمّنون إذا أمّن الإمام.
وهذا نظير ما رواه سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله عز وجل ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام». رواه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي وغيرهم، وإسناده صحيح.
وروي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: « أكثروا الصلاة علي، فإن الله وكل بي ملكا عند قبري، فإذا صلّى عليَّ رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة». وقد حسّنه بعض أهل العلم.
فهؤلاء ملائكة موكّلون بأمر السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله ملائكة سَيَّاحين في الأرض، فُضُلاً عن كُتَّاب الناس؛ فإذا وجدوا أقواما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى بغيتكم فيجيئون فيحفون بهم إلى السماء الدنيا فيقول الله على أي شيء تركتم عبادي يصنعون فيقولون تركناهم يحمدونك ويمجدونك ويذكرونك..» الحديث.
وقوله: « فُضلاً عن كُتّاب الناس » أي غير الملائكة الكاتبين.
ولهذا قال النووي: (واختلفوا في هؤلاء الملائكة فقيل: هم الحفظة، وقيل: غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم: « فوافق قوله قول أهل السماء» وأجاب الأولون عنه بأنه إذا قالها الحاضرون من الحفظة قالها من فوقهم حتى ينتهي إلى أهل السماء)ا.هـ.
والله تعالى أعلم بحقيقة الحال في شأن التأمين، وهل هو كالشأن في الملائكة السيّاحين لطلب الذكر أو يختلف الأمر فيهم، فهذا من أمر الغيب، لكن الأقرب لدلالة النصوص أنّهم ملائكة موكلون بهذا العمل، وقد دلّ نصّ الحديث على أنّ ملائكة في السماء تؤمّن إذا أمّن الإمام، فنُجْري الخبرَ على ظاهره ، ونعتقد صحّته، ولا نجاوز في تفسيره ما دلّ عليه ظاهر النصّ.
قال القاضي عياض: (وكما أن الله تعالى جعل من ملائكته مستغفرين لمن فى الأرض، ومصلّين على من صلى على النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وداعين لمن ينتظر الصلاة، وكذلك يختصّ منهم من يؤمّن عند تأمين المؤمنين أو عند دعائهم، كما جعل منهم لعّانين لقوم من أهل المعاصى، وما منهم إِلا له مقام معلوم)ا.هـ.
وقد أشكل هذا الحديث على جماعة من أهل العلم فأوّلوه إلى معنى آخر؛ كما قال أبو حاتم ابن حبّان (ت:354هـ) في صحيحه: (معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة» أنَّ الملائكة تقول: آمين، من غير علةٍ من رياء وسمعة أو إعجاب، بل تأمينها يكون خالصا لله، فإذا أمن القارئ لله من غير أن يكون فيه علةٌ من إعجاب أو رياء أو سمعة، كان موافقا تأمينُه في الإخلاصِ تأمينَ الملائكة، غفر له حينئذ ما تقدم من ذنبه)ا.هـ..
وقد تعقّبه ابن حجر في كتاب "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" بقوله: (وفي رواية للشيخين: « إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه»... وفيها دفع لقول ابن حبان إن المراد بقوله: « فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة» أي من غير إعجاب ولا رياء خالصاً لله تعالى، والله أعلم)ا.هـ.
ومن المعلوم أنّ المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «من وافق تأمينُه» إنما هو التأمينُ المعتبر شرعاً، وهو ما تحقق فيه شرطا قبول العمل من الإخلاص والمتابعة؛ فإن من أمّن غير مخلص لله تعالى في تأمينه أو غير متّبع لسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم فهو غير مؤمّن شرعاً، وإن نطق لسانُه بالتأمين.
وهذا راجع إلى أصل كبير، وهو أنّ الأعمال التي علّق عليها الإجزاء والثواب إنما هي الأعمال الصحيحة شرعاً، وأمّا ما تخلفت عنه شروط الصحة من العمل فلا يعدّ صاحبه قائماً بذلك العمل وإن أدّى صورته في الظاهر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته : « ارجع فصلّ فإنّك لم تصلّ».
وكذلك فإنّ التأمين دعاء، وقد رُوي من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله لا يستجيب لعبد دَعَاه عن ظهر قلب غافل ».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ما منع الفهمَ وشهودَ القلب بحيث يصير الرجل غافلاً فهذا لا ريب أنه يمنع الثواب كما روى أبو داود في سننه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها؛ إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها حتى قال: إلا عشرها » فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه قد لا يكتب له منها إلا العشر، وقال ابن عباس: « ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها»)ا.هـ.
وما ذكره شيخ الإسلام عن ابن عباس لم أجده مسنداً عنه، وقد روي عن جماعة من السلف، وذكره بعض المتأخرين مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصل له، وإنما المحفوظ أنّه من كلام بعض السلف.
قال قاسم الجرمي: سمعت سفيان الثوري يقول: « يكتب للرجل من صلاته ما عقل منها» رواه أبو نعيم في الحلية.
وقال ابن القيّم رحمه الله: (إذا استشعر [أي: المصلّي] بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره؛ فلا يكون موفيا لمعنى "الله أكبر" ولا مؤديا لحق هذا اللفظ ولا أتى البيت من بابه، بل الباب عنه مسدود، وهذا بإجماع السلف أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضره بقلبه)ا.هـ.
وقد سبقه إلى نقل هذا الإجماع عبد الواحد بن زيد البصري (ت: بعد 150هـ) وهو من تلاميذ الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح.
والمقصود أنّ ما ذكره ابن حبان وإن كان صحيحاً من جهة أنّ من شروط صحة التأمين أن يكون خالصاً لله تعالى من غير رياء ولا عجب ولا تسميع، إلا أنّه يقصر عن تفسير معنى موافقة تأمين المأموم لتأمين الملائكة.
وقد عدّ بعض شُرّاح الأحاديث كلامَ ابن حبّان قولاً في تفسير معنى الموافقة، ثم تناقله بعض المفسّرين من غير نسبة إلى ابن حبان، ثمّ ذكرت أقوال أخرى في هذه المسألة، والصحيح فيها ما تقدّم شرحه.
والخلاصة أنّ الأقوال التي قيلت في هذه المسألة أربعة:
القول الأول: الموافقة في وقت تأمينهم، وهو قول أبي سليمان الخطابي والنووي والباجي والقاضي عياض وغيرهم من شراح الأحاديث.
والقول الثاني: الموافقة في صفة الأداء من الخشية والإخلاص، وهو قول ابن حبان، وذكره القاضي عياض وابن عطية وابن كثير وغيرهم.
والقول الثالث: الموافقة في الإجابة، أي: من اسْتُجِيبَ له كما يُستجابُ للملائكةِ غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه، ذكره ابن العربي والقاضي عياض من غير نسبة لمعيّن، وهو قول بعيد عن ظاهر النص.
والقول الرابع: الموافقة في الغرض بأن يقصد الدعاء لنفسه وللمسلمين، ذكره ابن عبد البرّ، وابن العربي والقاضي عياض، وهو بعيد أيضاً عن ظاهر النصّ.
والراجح: أن المراد بموافقة تأمين الملائكة أن يوافقهم في وقت تأمينهم بأنْ يؤمّن تأمينا صحيحاً مع تأمين الملائكة، وذلك إذا قال الإمام: {ولا الضالّين}.
قال ابن عطية: (واختلف الناس في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة» فقيل: في الإجابة، وقيل: في خلوص النية، وقيل: في الوقت، والذي يترجح أن المعنى فمن وافق في الوقت مع خلوص النية، والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم، والإجابة تتبع حينئذ، لأنّ من هذه حاله فهو على الصراط المستقيم)ا.هـ.
فائدة:
قال محمد بن عمران الضبّي: سمعت محمد بن سماعة القاضي يقول: (مكثت أربعين سنة لم تفتني التكبيرة الأولى إلا يوما واحدا مَاتت فيه أمي، ففاتني فيه صلاة واحدة فِي جمَاعة، فقمت فصليت خمسا وعشرين صلاة أريد بذلك التضعيف فغلبتني عيني، فأتاني آت فَقَالَ: يَا محمد قد صليت خمسا وعشرين صلاة ولكن كيف لك بتأمين الملائكة؟). رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وابن الجوزي في المنتظم.
ومحمد بن سماعة من كبار فقهاء الحنفية، كان قاضياً في خلافة هارون الرشيد ثمّ في خلافة أبنائه إلى أن عزله المعتصم لكبر سنّه وضعف بصره، وعمّر حتى جاوز المائة، وتوفي سنة 233هـ، وهو تلميذ القاضي أبي يوسف، أثنى عليه يحيى بن معين في الصدق). [تفسير سورة الفاتحة:272 -- 279]