العودة   جمهرة العلوم > المنتديات > منتدى جمهرة علوم القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11 ربيع الثاني 1438هـ/9-01-2017م, 10:54 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

مصحف عبد الله بن مسعود *

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كبار قرّاء الصحابة رضي الله عنهم وأفاضلهم، وكان من المعلّمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي معلّماً للقرآن بعده حتى مات رضي الله عنه، وقد تقدّم الحديث في فضله وتقدّمه في القراءة والإقراء.
وقد بعثه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى الكوفة معلّماً ووزيراً، فكان يعلّمهم القرآن، ويفتيهم، ويأخذون من علمه وأدبه وسمته، وربّما أملى عليهم المصاحف فكتبوا.
روى الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات؛ فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلبه!!
فغضب عمر وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شُعبتي الرَّحْل !
فقال: ومن هو ويحك؟!
قال: عبد الله بن مسعود
فما زال يطفأ ويسرَّى عنه الغضب، حتى عاد إلى حاله التي كان عليها، ثم قال: "ويحك والله ما أعلمه بقي من الناس أحد هو أحق بذلك منه"). رواه الإمام أحمد وأبو يعلى وابن خزيمة وغيرهم.
فكان غضبه من خشية أن يكون المتصدّي لهذا الأمر جلل من ليس له بأهل؛ فلمّا علم أنّه ابن مسعود سكن جأشه، وذهب ما في نفسه.
فكان في الكوفة مصاحف كُتبت على ما كان يعلّمهم ابن مسعود من القراءة، وكان
منهم من يعرض عليه المصحف فيقيم له فيه ما يكون من الخطأ في الكتابة.
- قال زرّ بن حبيش: كنا نعرض المصاحف على عبد الله فسأله رجل من ثقيف فقال: يا أبا عبد الرحمن، أي الأعمال أفضل؟
قال: «الصلاة، ومن لم يصلّ فلا دين له» رواه ابن أبي شيبة من طريق شريك عن عاصم عن زرّ، وله متابع يأتي ذكره قريباً.
- وقال سحيم بن نوفل: كنا نعرض المصاحف عند عبد الله؛ فجاءت جارية أعرابية إلى رجلٍ من القوم؛ فقالت: اطلب راقياً فإنَّ فلانا قد لقع فرسك بعينه؛ فتركه يدور كأنه فلك!!
قال: فقال عبد الله لا تطلب راقياً اذهب فانفث في منخره الأيمن أربعا وفي الأيسر ثلاثا ثم قل: "بسم الله، لا باس لا باس، أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا يذهب بالضر إلا أنت"
قال: فذهب الرجل ثم رجع؛ فقال: فعلت الذي أمرتني؛ فأكل وبال وراث). رواه الطبراني في الدعوات والخرائطي في مكارم الأخلاق من طريق سفيان الثوري عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف عن سحيم به.

بل كان في مسجده موضع مخصص لعرض المصاحف، كما دلّ عليه ما رواه محمّد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة من طريق شعبة، عن عاصم ابن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: كان عبد الله رضي الله عنه يعجبه أن يقعد حيث تُعرض المصاحف فجاءه ابن الحضارمة رجل من ثقيف فقال: أي درجات الإسلام أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها من ترك الصلاة فلا دين له».

فلمّا كان الجمع العثماني حصل من ابن مسعود من المعارضة في أوّل الأمر ما تقدّم بيانه، وأنّه خطب في الناس وأمرهم أن يغلّوا مصاحفهم ثمّ إنه رجع إلى ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاجتماع على حرف واحد ومصحف إمام لا تختلف فيه هذه الأمة.

وتقدّم البيان بأنّه أقام مصحفَه على المصحف الإمام الذي بعث به عثمان إلى الكوفة، وأمر أن يقيموا مصاحفهم عليه، وأن تترك القراءة بما خالفه، وأن تسلّم المصاحف المخالفة للرسم العثماني.
قال كثير بن هشام الكلابي: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي قال: أتيت دار أبي موسى الأشعري، فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري فوق إجَّار لهم، فقلت: هؤلاء والله الذين أريد؛ فأخذت أرتقي إليهم؛ فإذا غلام على الدرجة؛ فمنعني فنازعته؛ فالتفت إليَّ بعضهم، قال: خلِّ عن الرجل؛ فأتيتهم حتى جلستُ إليهم؛ فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان، وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه؛ فقال أبو موسى: (ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه)
فقال حذيفة: كيف بما صنعنا؟!! والله ما أحدٌ من أهل هذا البلد يرغَب عن قراءة هذا الشيخ، يعني ابنَ مسعود، ولا أحدٌ من أهل اليمن يرغَب عن قراءة هذا الشيخ، يعني أبا موسى الأشعري).
قال عبد الأعلى: (وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان رضي الله عنه بجمع المصاحف على مصحف واحد، ثم إن الصلاة حضرت؛ فقالوا لأبي موسى الأشعري: تقدم فإنا في دارك، فقال: لا أتقدم بين يدي ابن مسعود، فتنازعوا ساعة، وكان ابن مسعود بين حذيفة وأبي موسى فدفعاه حتى تقدَّم فصلَّى بهم). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.

لكن من الجائز أن يكون بعض تلك المصاحف لم يُتلف فيما أُتلف، وهي مصاحف كتبها أصحابها لم يكن فيها من التوثّق والاحتياط والمراجعة وأَمْنِ الخطأ ما في المصاحف العثمانية.
وهي مصاحف ملغاة إجماعاً، لا يُعتدّ بها في القراءة لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك القراءة بما خالف المصحف الإمام.
وقد بقيت مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود رضي الله عنه لا يوقف لها على إسناد متّصل إلى ابن مسعود، وهي معدودة من الوجادات الضعيفة، ولا يُؤمن أن تكون إنما نسبت إليه على ما يُظنّ أنها على قراءته وتأليفه، لا على أنه أملاها.

أنواع ما يُنسب إلى مصحف ابن مسعود:
وما يُنسب إلى مصحف ابن مسعود مما يُخالف المصاحف العثمانية على أنواع:
النوع الأول: ما صحّ إسناده إلى مَن قرأ على ابن مسعود قبل الجمع العثماني مما يخالف رسم المصاحف العثمانية.
فهذا النوع يُستدلّ به في التفسير واللغة ولا يُقرأ بما فيه، ويستدلّ بما لم يُنسخ منه في الأحكام، ويُعتقد صحته وأنّه مما تركت القراءة به من الأحرف المخالفة للرسم العثماني.
ومن أمثلة ذلك ما في الصحيحين من حديث علقمة بن قيس النخعي قال: قدمت الشأم فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليسا صالحا، فأتيت قوما فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟
قالوا: أبو الدرداء.
فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسا صالحا، فيسَّرَك لي.
قال: ممن أنت؟
قلت: من أهل الكوفة.
قال: أوليس عندكم ابن أمّ عبدٍ صاحب النعلين والوساد والمطهرة؟!! وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان - يعني على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم -؟!! أوليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحد غيره؟!!
ثم قال: كيف يقرأ عبد الله: {والليل إذا يغشى}؟
فقرأتُ عليه: [والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى . والذكر والأنثى]
قال: «والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيه إلى في»
وفي رواية لمسلم: أن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء، فقال: «فيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله؟»
فقلت: نعم، أنا.
قال: " فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية {والليل إذا يغشى}؟
قال: سمعته يقرأ: {والليل إذا يغشى} [والذكر والأنثى]، قال: (وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ {وما خلق} فلا أتابعهم).
يريد بالذي أجاره الله من الشيطان عمّار بن ياسر، وهذه المحاورة بين علقمة وأبي الدرداء كانت في حياة ابن مسعود، وقبل الجمع العثماني، وكان هذا الحرف مما اتفقت فيه قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء، وكانوا يُقرئون الناس به، ولا يبعد أن يكون مكتوباً في مصاحف أصحابهم قبل الجمع العثماني.
وقراءة عثمان بن عفان وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت والعامّة {وما خلق الذكر والأنثى} وهي التي اختيرت في الرسم العثماني.

والنوع الثاني: ما روي عمّن لم يقرأ على ابن مسعود زمن الجمع العثماني، وإنما اطّلع على مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود؛ فهذا النوع لا يُعتمد عليه في الرواية، ولا يُحتجّ به في الأحكام، وقد يُستفاد منه في التفسير واللغة، ولذلك يعتني بذكره بعض المفسّرين، ومن أمثلة ذلك:
1. قول عبد الله بن وهب: أخبرني جرير بن حازم قال: (قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود: {فاذكروا اسم الله عليها} صوافن).
2. قال هشيم بن بشير: أنا داود بن أبي هند، قال: (هي في مصحف عبد الله: [وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بأمهاتهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم]). رواه سعيد بن منصور وابن جرير.
لكن ينبغي أن يُتنبّه إلى أنّ تلك المصاحف غير متحقق صحّة نسبتها إلى ابن مسعود رضي الله عنه، ومن دلائل ذلك ما أضيف إليها من أسماء السور وما وقع بينها من الاختلاف.


ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه
- قال زرّ بن حبيش: قلت لأبي بن كعب: إنَّ ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فقال: "أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني: "أن جبريل قال له: قل أعوذ برب الفلق، فقلتها، فقال: قل أعوذ برب الناس، فقلتها ". فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم). رواه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة قال: أخبرنا عاصم بن بهدلة عن زرّ به.
- وروى الإمام أحمد من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: كان عبد الله يحكّ المعوذتين من مصاحفه، ويقول: (إنهما ليستا من كتاب الله).
- وروى الإمام أحمد أيضاً عن سفيان بن عيينة، عن عبدة، وعاصم، عن زر، قال: قلت لأبي: إن أخاك يحكهما من المصحف، قيل لسفيان: ابن مسعود؟ فلم ينكر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قيل لي، فقلت " فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان: (يحكهما: المعوذتين، وليسا في مصحف ابن مسعود، كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ بهما الحسن والحسين، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته؛ فظن أنهما عوذتان، وأصرَّ على ظنه، وتحقق الباقون كونهما من القرآن، فأودعوهما إياه).
- وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه بالإبهام؛ فقال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عبدة بن أبي لبابة، عن زر بن حبيش، ح وحدثنا عاصم، عن زر، قال: سألت أبي بن كعب، قلت: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال أبيّ: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «قيل لي فقلت» قال: فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم).
- وروى البزار والطبراني من طريق حسان بن إبراهيم، عن الصلت بن بهرام، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يحكّ المعوذتين من المصحف ويقول: «إنما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما» وكان عبد الله لا يقرأ بهما).
قال البزار: (وهذا الكلام لم يتابع عبدَ الله عليه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف).
- وروى الطبراني في الكبير من طريق عبد الحميد بن الحسن، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، أنه: كان يقول: "لا تخلطوا بالقرآن ما ليس فيه، فإنما هما معوذتان تعوذ بهما النبي صلى الله عليه وسلم: {قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس}". وكان عبد الله يمحوهما من المصحف.
- وقال محمد بن سيرين: (كتب أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين، و{اللهم إنا نستعينك}، و{اللهم إياك نعبد}، وتركهنّ ابنُ مسعود، وكتب عثمان منهنَّ فاتحة الكتاب والمعوذتين). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن وعمر بن شبّة في تاريخ المدينة.

وقد اختلف أهل العلم فيما نُسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه في شأن المعوذتين، والصواب ما قاله سفيان بن عيينة والبزار وغيرهما من أهل الحديث من القول بصحّة ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، والتماس العذر له بكونه لم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاته، وأنّه سمعه يعوّذ بهما؛ فظنّهما عوذتين وليستا سورتين من القرآن، ولم يُنكر أنهما وحي من الله.
وقد صحّت الأحاديث بإثبات أنهما سورتين من القرآن، كما في حديث أبيّ بن كعب المتقدّم.
- وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أعلّمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟"
قال: قلت: بلى يا رسول الله !
قال: فأقرأني {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ بربّ الناس} ). رواه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة من طريق الوليد بن مسلم قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني القاسم أبو عبد الرحمن، عن عقبة بن عامر، وهذا إسناد صحيح.
- وفي سنن أبي داوود وشرح مشكل الآثار للطحاوي وسنن البيهقي من طريق محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، ويقول: «يا عقبة ! تعوذ بهما؛ فما تعوذ متعوذ بمثلهما»
قال: وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة).
- وروى الإمام أحمد والطحاوي في شرح مشكل الآثار من طريق شعبة، عن الجريري، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن رجل من قومه أن رسول الله عليه السلام مر به، فقال: (اقرأ في صلاتك بالمعوذتين).
ويزيد بن عبد الله من بني الحريش بطن من بني عامر بن صعصعة، ولذلك فإنّ الصحابيّ الذي روى عنه هذا الحديث غير عقبة بن عامر الجهني.
- وقد روي عن عائشة رضي الله عنها من طرق يشدّ بعضها بعضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث: يقرأ في أول ركعة بـ{سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية: {قل يا أيها الكافرون} وفي الثالثة: {قل هو الله أحد} والمعوذتين».

ففي هذه الأحاديث وما في معناها إثبات أنهما سورتان من القرآن، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في الصلاة وخارجها، وأقرأ بهما، وأمر بقرائتهما في الصلاة وخارجها.
وابن مسعود وإن كان من كبار قرّاء الصحابة فهو غير معصوم من الخطأ، ولم يتابعه على ما صنع أحد من الصحابة ولا التابعين.
ومما ينبغي أن يُعلم أن هذه الروايات عن ابن مسعود في شأن المعوذتين كانت قبل الجمع العثماني، وقبل أن يقيم مصحفه على المصحف الإمام الذي أمر به عثمان بن عفان وأجمع الصحابة على اتخاذه مصحفاً إماماً وتركِ القراءة بما خالفه.
ووقوعُ بعض الخطأ من أفرادٍ من القرّاء قبل انعقاد الإجماع على مصحف إمامٍ مشتهرٍ بين الناس جائز الوقوع، ولا عصمة للأفراد ، وإنما العصمة لإجماعهم، وقد يخطئ المخطئ وهو معذور مأجور، إذا كان هذا هو مبلغ اجتهاده، فلا يعاب بمثل هذا الخطأ ابن مسعود ولا غيره من القرّاء.
قال ابن قتيبة: (ولكنّ عبد الله ذهب - فيما يرى أهل النظر - إلى أن المعوذتين كانتا كالعُوذة والرّقية وغيرها، وكان يرى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعوّذ بهما الحسن والحسين وغيرهما، كما كان يعوّذ بأعوذ بكلمات الله التّامة، وغير ذلك، فظنّ أنهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنّه ومخالفة الصحابة جميعاً كما أقام على التّطبيق، وأقام غيره على الفتيا بالمتعة، والصّرف ورأى آخر أكل البرد وهو صائم، ورآى آخر أكل السّحور بعد طلوع الفجر الثاني. في أشباه لهذا كثيرة)ا.هـ.

وقوله: (أقام على ظنّه) مدفوع برجوع ابن مسعود إلى ما أجمع عليه الصحابة، وثبوت القراءة عنه بالأسانيد التي يروي بها القراء عنه ما يوافق قراءة العامة وفيها المعوذتان.

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى إنكار صحة ما روي عن ابن مسعود كما فعل الكرجيّ القصاب في تفسيره وابن حزم في المحلّى والنووي في المجموع والرازي في تفسيره وغيرهم.
قال ابن حزم: (كل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح؛ وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتين)ا.هـ.
وقال النووي: (وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه).
وقد تعقبهم ابن حجر في الفتح بقوله: (وأما قول النووي في شرح المهذب: "أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منهما شيئا كفر، وما نقل عن بن مسعود باطل ليس بصحيح"؛ ففيه نظر وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل المحلى: "ما نقل عن بن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين فهو كذب باطل" وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: "الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر فهو مخدوش، وإن أراد استقراره فهو مقبول)ا.هـ.

وقد ذهب الكرجي القصاب وأبو بكر الباقلاني إلى أنّ ابن مسعود لم ينكر أنهما من القرآن، وإنما أنكر كتباتهما في المصحف، والروايات الصحيحة تردّ هذا التأويل.
وحكى القرطبي عن بعضهم أنّ ابن مسعود لم يكتب المعوذتين لأنه أمن عليهما من النسيان، ثمّ ردّ عليهم بأنّ ما ذكروه متحقق في سورة الإخلاص والنصر والكافرون وغيرها وكان يكتبها.

والخلاصة أنّ ما روي عن ابن مسعود من أنه كان لا يكتب المعوذتين في المصحف صحيح عنه، لكنّه رجع عنه.
وقد روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنه قال: قال: قلت للأسود: من القرآن هما؟ قال: «نعم»، يعني: المعوذتين
والأسود بن يزيد من خاصّة أصحاب ابن مسعود.


ترتيب السور في مصحف ابن مسعود
- روى الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه قال: قال عبد الله: «لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين، في كل ركعة»
فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان وعم يتساءلون). رواه البخاري ومسلم.

وهذه الرواية مختصرة، وقد استُشكل فيها عدّ حم الدخان من المفصّل، وهذا الإشكال تدفعه الروايات الأخرى.
- قال مهدي بن ميمون: حدثنا واصل الأحدب، عن أبي وائل، قال: غدونا على عبد الله، فقال رجل: قرأت المفصل البارحة!
فقال: «هذّا كهذّ الشِّعْر إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم، ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم» رواه البخاري ومسلم.
فأخرج آل حم من المفصّل، ولذلك فقول بعض أهل العلم في الرواية الأولى: (ظاهرُهُ أن الدخان من المفصل) مدفوع بهذه الرواية المبيّنة.

- وروى أبو داوود في سننه من طريق إسرائيل بن يونس عن جده أبي إسحاق السبيعي عن علقمة والأسود قالا: أتى ابنَ مسعود رجلٌ، فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: أهذا كهذ الشعر، ونثرا كنثر الدقل، «لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة، الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة».
قال أبو داود: «هذا تأليف ابن مسعود رحمه الله»
قال ابن رجب: (وليس في هذه الرواية من آل حم سوى سورة الدخان، وهذا يخالف رواية مسلم المتقدمة: وسورتين من آل حم).
ورواية إسرائيل عن جدّه بعد الاختلاط، فلذلك ضعّف بعضُ أهل الحديث ما في هذه الرواية من سرد أسماء السور، لكن روى ابن خزيمة هذا الخبر من طريق أبي خالد عن الأعمش عن أبي وائل، وزاد فيه: قال الأعمش: (وهي عشرون سورة على تأليف عبد الله أوَّلهن: الرحمن وآخرتهن الدخان: الرحمن والنجم، والذاريات والطور، هذه النظائر، واقتربت والحاقة، والواقعة ون، والنازعات وسأل سائل، والمدثر والمزمل، وويل للمطففين وعبس، ولا أقسم وهل أتى، والمرسلات وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت والدخان). رواه ابن خزيمة في صحيحه.

- وقال حصين بن عبد الرحمن: حدثني إبراهيم عن نهيك بن سنان السلمي: أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذّاً مثل هذِّ الشِّعْرِ، أو نثراً مثل نثر الدقل؟!، إنما فُصِّلَ لتفصّلوا، لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن عشرين سورة: الرحمن والنجم، على تأليف ابن مسعود، كل سورتين في ركعة، وذكر الدخان وعم يتساءلون في ركعة). رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار وزاد:
فقلت لإبراهيم: أرأيت ما دون ذلك! كيف أصنع؟
قال: ربما قرأتُ أربعاً في ركعة).
قال الطحاوي: (قول ابن مسعود رضي الله عنه بعد ذلك: "إنما سمي المفصل لتفصلوه"؛ فإنَّ ذلك لم يذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يحتمل أن يكون ذلك من رأيه؛ فإن كان ذلك من رأيه؛ فقد خالفه في ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه كان يختم القرآن في ركعة)ا.هـ.
وروى الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة قال: حدثنا عاصم عن زر: أن رجلا قال لابن مسعود: كيف تعرف هذا الحرف: "ماء غير" ياسن أم "آسن"؟ فقال: كل القرآن قد قرأت؟، قال: إني لأقرأ المفصل أجمع في ركعة واحدة!، فقال أهذ الشعر لا أبا لك؟!، قد علمت قرائن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كان يقرن قرينتين قرينتين، من أول المفصل. وكان أول مفصل ابن مسعود. {الرحمن}).
قال بدر الدين العيني: (قوله: (على تأليف ابن مسعود) أراد به أن سورة النجم كان بحذاء سورة الرحمن في مصحف ابن مسعود، بخلاف مصحف عثمان).
- قال منصور بن صقير البغدادي: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم ابن بهدلة عن زر قال: (كان أول مفصل ابن مسعود: الرحمن) رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار، ومنصور هذا قال فيه أبو حاتم الرازي: ليس بقوي، وفي حديثه اضطراب، وقال ابن حبان: لا يحتجّ به إذا انفرد.
وقد تقدّم قول زرّ بن حبيش في ذلك.
وذكر ابن حجر عن الداودي أنّ أوّل مفصّل ابن مسعود الجاثية،
وذكر ابن الملقّن أنّ أوّل مفصّل ابن مسعود القتال.
ولا أعلم لهذين القولين مستندا.
وقال السيوطي: (قال ابن أشتة أيضا: وأخبرنا أبو الحسن بن نافع أن أبا جعفر محمد بن عمرو بن موسى حدثهم قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم حدثنا علي بن مهران الطائي حدثنا جرير بن عبد الحميد قال: تأليف مصحف عبد الله بن مسعود:
طوال البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس.
والمئين: براءة والنحل وهود ويوسف والكهف وبني إسرائيل والأنبياء وطه والمؤمنون والشعراء والصافات.
والمثاني: الأحزاب والحج والقصص وطس النمل والنور والأنفال ومريم والعنكبوت والروم ويس والفرقان والحجر والرعد وسبأ والملائكة وإبراهيم وص والذين كفروا ولقمان والزمر والحواميم حم المؤمن والزخرف والسجدة وحمعسق والأحقاف والجاثية والدخان وإنا فتحنا لك والحشر وتنزيل السجدة والطلاق ون والقلم والحجرات وتبارك والتغابن وإذا جاءك المنافقون والجمعة والصف وقل أوحي وإنا أرسلنا والمجادلة والممتحنة ويا أيها النبي صلى الله عليه وسلم لم تحرم.
والمفصل: الرحمن والنجم والطور والذاريات واقتربت الساعة والواقعة والنازعات وسأل سائل والمدثر والمزمل والمطففين وعبس وهل أتى والمرسلات والقيامة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت والغاشية وسبح والليل والفجر والبروج وإذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك والبلد والضحى والطارق والعاديات وأرأيت والقارعة ولم يكن والشمس وضحاها والتين وويل لكل همزة وألم تر كيف ولإيلاف قريش وألهاكم وإنا أنزلناه وإذا زلزلت والعصر وإذا جاء نصر الله والكوثر وقل يا أيها الكافرون وتبت وقل هو الله أحد وألم نشرح وليس فيه الحمد ولا المعوذتان).
وهذا التأليف كما تقدّم إنما هو في مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود غير متحقق صحّة نسبتها.


* هذا المبحث مستلٌّ من دورة أعددتهافي جمع القرآن وهي ( هنا )


التوقيع :

رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:34 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة