بسم الله الرحمن الرحيم
عشريات ابن القيم
مقدّمة وتعريف
الحمد لله الذي هدى المؤمنين بآياته، وأنار للسالكين سبيل مرضاته، وأفاض عليهم من فضله وبركاته، فهداهم الصراط المستقيم، وأنزل عليهم الكتاب العظيم، وأرسل إليهم الرسول الكريم، الذي علَّمهم وزكَّاهم، وهَداهم لما فيه هُداهم {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فإنَّ علم السلوك من أجلّ العلوم وأنفعها، إذ به يعرف المؤمن معنى سلوك الصراط المستقيم، المفضي إلى رضوان الله تعالى وجنات النعيم.
وبه يعرف السالكُ كيف يُحسن عبادة ربّه سبحانه، وكيف يتقرَّب إليه ويعظّم شأنه، وكيف يصلح قلبه ويداوي علله، وكيف يجاهد نفسه ويزكيها، وكيف ينجو من كيد الشيطان الرجيم، وكيف يجاهد أعداءه من سائر الشياطين، وكيف يدافع العوارض والعوائق، وكيف يصنع في حال الابتلاء، وما سبيل خلاصه من آثار الذنوب وأخطارها، إلى غير ذلك من المباحث القيّمة النافعة التي يحتاج السالكُ إلى بيانها بما دلَّ عليه القرآن العظيم، وهدي النبي الكريم، وبما بيَّنه أئمة الهدى من العلماء العاملين فيما أُثِرَ عنهم من الآثار، وما ألَّفوه من الكتب والرسائل النافعة.
فلهذا العلم أئمّتُه وهُداة طريقه الذين أحسنوا بيان الهدى فيه، وعرَّفوا الناس بما تحسن معرفته منه؛ فعلّموهم وذكَّروهم، وقرَّبوا للطلاب والمتعلّمين أقوال أئمة الدين فصنفوها ورتَّبوها.
وكان من أحسن العلماء عناية بهذا العلم وتأصيلاً لمسائله وبيانا لفوائده الإمام الجليل شمس الدين محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي المعروف بابن القيم رحمه الله تعالى ورفع درجته.
فكانت كتبه في علم السلوك من أنفع ما يقرأ القارئ، وأولى ما ينبغي أن يُعتنى به، لما تضمنته من بيان بديع جامع، وتفصيل حسن رائع، يلحظ منه القارئ اللبيب عنايته بالدراسة الشاملة المستفيضة لكلِّ باب من أبوابه، وحسن تلخيصه لأقسامه ومسائله، وحلّ مشكلاته ومعضلاته؛ فيبيّن ويفصّل، ويصنّف ويقسّم، ويجمع أطراف المسائل وأدلتها، ويسبر أغوارها، ويستخرج كنوزها حتى يدعها واضحة المعالم، بيّنة الدلائل، شيّقة المعاني، مع سلامة منهجه في الاعتقاد، وتحرّيه العدل والإنصاف، ونصحه البيّن الرفيق، وأسلوبه العذب الرفيع؛ فكان إذا خاطب القلب خالط كلامه شغافه؛ فرغَّبه ورهَّبه وأخذ بمجامعه وطوالعه، وإذا خاطب العقل بيَّن له الحجة وألزمه المحجة وأوضح له السبيل، بما وهبه الله من حسن فهم وقوّة استدلال.
وكان رحمه الله تعالى واسع الاطلاع كثير القراءة -ولا سيما في علم السلوك-، وليس أدلَّ على ذلك من ذِكْرِه ثلاثين تعريفاً للمحبَّة من أقوال علماء السلوك سوى أقوال علماء اللغة وبيانه اشتقاقها وأصولها؛ فجمع تلك الفوائد ونظّمها، وأحسن نقدها وتصنيفها، في مبحث مهم من مباحث كتابه مدارج السالكين.
وكان رحمه الله مع سعة اطلاعه المبهرة صاحبَ نقد وتمحيص يجلّي به الأقوال الحسنة فتزداد حسنا، ويبيّن به علل الأقوال الخاطئة فيُعرَف خطؤها.
وقد لحظت من قراءات متعددة في كتبه - رحمه الله - تكرار ذكره الأسباب العشرة ؛ فكان كثيراً ما يقسّم إلى عشرة؛ ويعدّد إلى عشرة؛ فأردت أن أستكشف عشريّاته هذه، وأضمّ بعضها إلى بعض؛ فإذا هي في مسائل مهمة في أبواب علم السلوك، نحتاج كثيراً إلى قراءتها وتأمّلها لعلنا ننتفع بها.
وهذه العشريات المباركة جديرة بأن تكون من أوّل ما يقرؤه الطالب في علم السلوك؛ لجمعها أبوابا متفرقة فيه، جمع في كل باب منها خلاصة ما قيل فيه وما فَتح الله له به.
وقد جمعتها في كتاب رجاء أن أنتفع بها، وينتفع بها من يطّلع عليها، والله تعالى المسؤول أن يمنّ علينا بالقبول، وأن يبارك فيها إنه حميد مجيد.
حفظ نسخة من الكتاب: