نشأة علم البديع
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (نشأة علم البديع
كانت أكثر عناية علماء اللغة المتقدمين بالبديع المعنوي؛ فيستملحون ما يؤثر عن العرب من بدائع العبارات التي تجمع لطافة المعنى وحسن اللفظ، ويشتدّ إعجابهم بما يفيد على وجازة لفظه وحلاوته على اللسان معنى يطول شرحه وتقصّيه؛ فكانوا يستعذبون مثل قول طرفة بن العبد:
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن ... مُظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
فشبَّه المرأة بغزال لعوب قد استغنى عن لبن أمّه؛ فهو ينفض ورق الأراك برَوقيه من الأمن والشبع، وجمع في الشطر الثاني في أربع مفردات وَصْف عِقْدين لبستهما تلك المرأة متظاهرين أي أحدهما فوق الآخر، الأول من لؤلؤ والآخر من زبرجد، والسِّمطُ هو الخيط الذي نُظمت فيه الجواهر.
فكان قوله: "مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد" حسناً بديعاً لاختصاره ووفائه ببيان المعنى بما يغنيه عن طول الشرح، ويجنّبه إملال السامع.
ومثله قول امرئ القيس في وصف العُقاب:
كأنَّ قلوبَ الطير رطْباً ويابساً ... لدى وكرها العُنَّاب والحشف البالي
فشبّه في بيت واحد شيئين بشيئين مختلفين على نسق بديع موجز؛ فشبّه قلوب الطير الرطبة الملقاة لدى وكر العُقاب بالعُنَّاب، وشبَّه القلوب التي أيبسها تصرّم الأيام بالحَشف البالي، وهو التمر اليابس المتشقق.
وقد عدّ المبرّدُ هذا البيتَ أحسن ما جاء من التشبيه في الشعر بإجماع الرواة.
وقد حاول جماعة من الشعراء أن يأتوا بمثله فتعسّر عليهم، حتى نُقل عن بشار بن برد أنه لم يزل يحاول أن يأتي بمثله إلى أن قال في قصيدته المشهورة:
كأنَّ مثارَ النَّقع فوقَ رُؤوسنا ... وَأَسيافنا لَيلٌ تهاوى كَواكِبهُ
فشبَّه شيئين بشيئين في بيت واحد، وأحسن في هذا البيت.
وقريب من هذا النوع قول لبيد بن ربيعة العامري:
وجلا السيول عن الطلول كأنّها ... زُبُرٌ تجدُّ متونها أقلامها
فشبَّه تجلية السيول لمعالم الأطلال من بعدما درست من السوافي والرياح بالكتُب التي تجدد الأقلامُ ما في متونها من الكتابة التي انمحى بعضها.
ولم يزل الشعراء والبلغاء يتنافسون في الإتيان بأنواع من البديع لتكون أقرب لبلوغ المأرب، وأعذب في السمع، وأسير في الناس.
فإذا ما أصاب الشاعر منهم معنى لم يسبق إليه سابق، وكساه لفظاً حسنا يروق السامع، عدّ ذلك مفخرة له ومأثرة.
ومن ذلك ما استحسنه رواة الشعر من قول نُصيب بن رباح في مدح الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك:
أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب
قفوا خبّروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودَّان طالب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائبُ
قال المبرّد: (وهذا في باب المدح حسن ومتجاوزٌ ومبتدَع لم يُسبق إليه).
وربما استعذبوا بيتاً من الشعر فلهجوا به زمناً حتى يسمعوا في بابه أحسن منه معنى أو أعذب لفظاً، ومن ذلك قول النابغة الذبياني:
ولست بمستبق أخاً لا تلمّه ... على شعث أي الرجال المهذب
فلم يزل هذا البيتُ يُتمثّل به حتى قال بشار بن برد بائيته المشهورة وفيها:
إذا كنتَ في كلّ الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فكان هذا البيت أعذب وأجود، فسار في الناس وتمثّلوا به، وبعده قوله:
فعش واحداً أو صل أخاك فإنّه ... مقارف ذنب تارة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه
وقد قال قبله الحارث بن ضابئ البرجمي:
وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب
و لستَ بمستبقٍ صديقاً ولا أخاً ... إذا لم تعدَّ الشيء وهو يَريب
لكنّه لم يشتهر كشهرة بيت النابغة ولا بيت بشار بن برد.
ومن بديع التصوير في المدح قول زهير بن أبي سلمى في مدح حصن بن حذيفة الفزاري:
تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنّك تعطيه الذي أنت سائله
فقال الحطيئة في المدح:
كَسوبٌ ومتلاف متى ما سألتَه ... تهلَّل واهتزّ اهتزاز المهنَّدِ
ثم جاء أبو تمام فتمّم هذا المعنى وأوغل فيه إلى مدى بعيد بديع فقال في مدح المعتصم:
ولو لم يكن في كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتّق اللهَ سائله
وفي باب آخر من المدح قال الحطيئة فأحسن:
هم القوم الذين إذا ألمَّت ... من الأيام مُظلمة أضاؤوا
فكان هذا البيت بديعا لما فيه من حسن التشبيه وجودة المقابلة.
ومن البدائع في الوصف قول قيس بن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنّت بحاجب
وقول عديّ بن الرقاع العاملي:
تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
وقد أشاد العلماء بتشبيهه هذا.
ومن البدائع في الحكمة قول عوف بن الأحوص:
وإني لتراك الضغينة قد أرى ... ثراها من المولى فلا أستثيرها
مخافة أن تجني عليّ وإنما ... يهيج كبيرات الأمور صغيرها
ولأجل وجازة ألفاظ الأبيات البديعة، وعذوبتها على اللسان، وحسن دلالتها على المعنى المراد تمثّل بها الناس، وسارت فيهم مسير الأمثال.
وكان البديع في أشعار الشعراء المتقدّمين مطبوعاً غير متكلَّف؛ فربما سُمعت القصيدة الطويلة فيستعذب منها البيت والبيتان، ثم لما كان في القرن الثاني والثالث وما بعدهما أولع الشعراء بالبديع؛ وتكلّفوه حتى كثر في أشعارهم واستسمج بعضَه جماعةٌ من النقّاد لما فيه من التكلّف والتعقيد، وأشادوا ببعضه.
وكان من هؤلاء الشعراء: بشار بن برد مولى بني عُقيل (ت:167هـ)، وأبو نواس الحسن بن هانئ الحكمي (ت:198هـ)، ومسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني (ت:208هـ) ، وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي(ت:231هـ) وإسحاق بن إبراهيم الموصلي (ت:235هـ)، وإبراهيم بن العباس الصولي(ت:243هـ)، ومروان ابن أبي حفصة مولى بني أمية (ت:282هـ)، وأبو الحسن عليّ بن العباس المعروف بابن الرومي(ت:283هـ)، وأبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي المعروف بالبحتري (ت:283هـ) وأضرابهم من الشعراء المولدين.
فكان لهؤلاء من العناية بالبديع والتفنن فيه ما أذاع أشعارهم وأشاعها؛ وبرعوا في الوقوف على المعاني الدقيقة والتعبير عنها بالألفاظ الأنيقة؛ وكشفوا بتفننهم وتنافسهم وجودة قرائحهم عن كثير من أنواع البديع وأدواته وأساليبه.
وكان بعضُهم ربما سُبق إلى معنى لطيف فنسج على منواله وزاده تحبيراً، ولذلك أمثلة كثيرة:
منها: قول إبراهيم الصولي في وصف اجتماع القرب والبعد على حالتين مختلفتين:
دَنَت بأناس عن تَنَاءٍ ديارُهم ... وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها
وإنّ مقيمات بمنعرج اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها
فقال ابن الرومي في رثاء أحد أبنائه:
طواه الرَّدَى عنّي فأضحى مزاره ... بعيداً على قرب قريباً على بُعْدِ
والمقصود من ذكر هذه الأمثلة تقريب تصوّر المراد بالبديع ، وأسباب عناية الشعراء به؛ وكثير من الناس يستغنون بالأمثلة عن كثير من الشرح والتوضيح.
ثمّ شاع في القرن الخامس وما بعده تكلّف البديع وإنهاك الخطاب بكثرته حتى صار اللفظ قائداً للمعنى مستجلباً له، وعاد الكلام أشبه بالألغاز، وأبعد عن صنعة البيان.
وقد عاب علماءُ البلاغة تكلّف البديع، وحذروا منه، وأبانوا عن إضراره ببيان المعنى، وانحرافه بحال الخطاب عن المقصد الأسمى وهو البيان والتفهيم.
قال عبد القاهر الجرجاني (ت:471هـ) : (قد تجد في كلام المتأخرين الآنَ كلاماً حَمَل صاحبَه فرطُ شَغَفِه بأمورٍ ترجع إلى ما له اسمٌ في البديع إلى أن ينسى أنَّه يتكلّم ليُفهِم، ويقول ليُبين، ويُخيَّل إليه أنه إذا جَمَعَ بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عَنَاهُ في عمياء، وأنْ يُوقع السامعَ من طَلَبه في خَبْطِ عَشْوَاءِ، وربَّمَا طَمَسَ بكثرة ما يتكلَّفه على المعنى وأفسده)ا.هـ). [طرق التفسير:246 - 251]