قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("لا" "لا": على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون نافية، وهذه على خمسة أوجه:
أحدها: أن تكون عاملة عمل "إن"، وذلك إن أريد بها نفي الجنس على سبيل التّنصيص، وتسمى حينئذٍ تبرئة، وإنّما يظهر نصب اسمها إذا كان خافضًا، نحو: "لا" صاحب جود ممقوت، وقول أبي الطّيب:
فلا ثوب مجد غير ثوب ابن أحمد ... على أحد إلّا بلؤم مرقع
أو رافعا، نحو: "لا" حسنا فعله مذموم، أو ناصبا، نحو: "لا" طالعا جبلا حاضر، ومنه: "لا" خيرا من زيد عندنا، وقول أبي الطّيب:
قفا قليلا بها عليّ فلا ... أقل من نظرة أزودها
ويجوز رفع أقل على أن تكون عاملة عمل "ليس".
وتحالف "لا" هذه "إن" من سبعة أوجه:
أحدها: أنّها لا تعمل إلّا في النكرات.
الثّاني: أن اسمها إذا لم يكن عاملا فإنّه يبنى، قيل لتضمّنه معنى من الاستغراقية، وقيل لتركيبه مع "لا" تركيب خمسة عشر، وبناؤه على ما ينصب به لو كان معربا فيبنى على الفتح، في نحو: "لا" رجل و"لا" رجال.
ومنه:{لا تثريب عليكم اليوم}،{قالوا لا ضير}،{يا أهل يثرب لا مقام لكم}، وعلى "الياء" في نحو: "لا" رجلين و"لا" قائمين.
وعن المبرد أن هذا معرب لبعده بالتثنية والجمع عن مشابهة الحرف، ولو صحّ هذا للزم الإعراب في: "يا" زيدان و"يا" زيدون، ولا قائل به، وعلى الكسرة في نحو: "لا" مسلمات، وكان القياس وجوبها، ولكنه جاء بالفتح وهو الأرجح؛ لأنّها الحركة الّتي يستحقها المركب، وفيه رد على السيرافي والزجاج إذ زعما أن اسم "لا" غير العامل معرب، وأن ترك تنوينه تخفيف، ومثل: "لا" رجل عند الفراء "لا" جرم، نحو:{لا جرم أن لهم النّار}، والمعنى عنده "لا" بد من كذا، أو "لا" محالة في كذا، فحذفت "من"، أو "في".
وقال قطرب" "لا" رد لما قبلها، أي: ليس الأمر كما وصفوا ثمّ ابتدئ ما بعده، وجرم فعل "لا" اسم، ومعناه: وجب وما بعده فاعل، وقال قوم: "لا" زائدة، وجرم وما بعدها فعل وفاعل، كما قال قطرب، ورده الفراء بأن "لا" لا تزاد في أول الكلام، وسيأتي البحث في ذلك.
والثّالث: أن ارتفاع خبرها عند إفراد اسمها، نحو: "لا" رجل قائم بما كان مرفوعا به قبل دخولها "لا" بها، وهذا القول لسيبويه، وخالفه الأخفش والأكثرون، ولا خلاف بين البصريين في أن ارتفاعه بها إذا كان اسمها عاملا.
الرّابع: أن خبرها لا يتقدّم على اسمها، ولو كان ظرفا أو مجرورا.
الخامس: أنه يجوز مراعاة محلها مع اسمها قبل مضيّ الخبر وبعده، فيجوز رفع النّعت والمعطوف عليه، نحو: "لا" رجل ظريف فيها، و"لا" رجل وامرأة فيها.
السّادس: أنه يجوز إلغاؤها إذا تكرّرت، نحو: "لا" حول و"لا" قوّة إلّا باللّه، فلك فتح الاسمين، ورفعهما والمغايرة بينهما بخلاف، نحو قوله:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السّفر إذ مضوا مهلا
"فلا" محيد عن النصب.
والسّابع: أنه يكثر حذف خبرها إذا علم، نحو:{قالوا لا ضير}،{فلا فوت}، وتميم "لا" تذكره حينئذٍ.
الثّاني: أن تكون عاملة عمل "ليس"، كقوله:
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح
وإنّما لم يقدروها مهملة، والرّفع بالابتداء لأنّها حينئذٍ واجبة التّكرار، وفيه نظر لجواز تركه في الشّعر.
و"لا" هذه تخالف "ليس" من ثلاث جهات:
إحداها: أن عملها قليل، حتّى ادعي أنه ليس بموجود.
الثّانية: أن ذكر خبرها قليل، حتّى إن الزّجاج لم يظفر به فادّعى أنّها تعمل في الاسم خاصّة، وأن خبرها مرفوع، ويرده قوله:
تعز فلا شيء على الأرض باقيا ... ولا وزر ممّا قضى الله واقيا
وأما قوله:
نصرتك إذ لا صاحب غير خاذل ... فبوئت حصنا بالكماة حصينا
فلا دليل فيه كما توهم بعضهم لاحتمال أن يكون الخبر محذوفا، وغير استثناء.
الثّالثة: أنّها لا تعمل إلّا في النكرات خلافًا لابن جني وابن الشجري، وعلى ظاهر قولهما جاء قول النّابغة:
وحلت سواد القلب لا أنا باغيا ... سواها ولا عن حبها متراخيا
وعليه بنى المتنبي قوله:
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
تنبيه
إذا قيل: "لا" رجل في الدّار، بالفتح تعين كونها نافية للجنس، ويقال في توكيده بل امرأة، وإن قيل بالرّفع تعين كونها عاملة عمل "ليس"، وامتنع أن تكون مهملة، وإلّا تكرّرت كما سيأتي، واحتمل أن تكون لنفي الجنس، وأن تكون لنفي الوحدة، ويقال في توكيده على الأول بل امرأة، وعلى الثّاني بل رجلان أو رجال، وغلط كثير من النّاس، فرعموا أن العاملة عمل "ليس" لا تكون إلّا نافية للوحدة لا غير، ويرد عليهم نحو قوله:
تعز فلا شيء على الأرض باقيا ... البيت
وإذا قيل: "لا" رجل و"لا" امرأة في الدّار برفعهما، احتمل كون "لا" الأولى عاملة في الأصل عمل "إن"، ثمّ ألغيت لتكرارها، فيكون ما بعدها مرفوعا بالابتداء، وأن تكون عاملة عمل "ليس" فيكون ما بعدها مرفوعا بها، وعلى الوجهين فالظرف خبر عن الاسمين إن قدرت "لا" الثّانية تكرارا للأولى، وما بعدها معطوفًا، فإن قدرت الأولى مهملة، والثّانية عاملة عمل "ليس"، أو بالعكس فالظرف خبر عن أحدهما، وخبر الآخر محذوف كما في قولك: زيد وعمرو قائم، ولا يكون خبرا عنهما، لئلّا يلزم محذوران كون الخبر الواحد مرفوعا ومنصوبا، وتوارد عاملين على معمول واحد.
وإذا قيل: "ما" فيها من زيت و"لا" مصابيح بالفتح، احتمل كون الفتحة بناء مثلها في "لا" رجال، وكونها علامة للخفض بالعطف، و"لا" مهملة، فإن قلته بالرّفع احتمل كون "لا" عاملة "ليس"، وكونها مهملة، والرّفع بالعطف على المحل.
وأما قوله تعالى:{وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر}، فظاهر الأمر جواز كون أصغر وأكبر معطوفين على لفظ مثقال، أو على محله، وجواز كون "لا" مع الفتح تبرئة، ومع الرّفع مهملة، أو عاملة عمل "ليس"،
ويقوّي العطف أنه لم يقرأ في سورة سبأ في قوله سبحانه:{عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة} الآية إلّا بالرّفع لما لم يوجد الخفض في لفظ مثقال، ولكن يشكل عليه أنه يفيد ثبوت العزوب عند ثبوت الكتاب، كما أنّك إذا قلت: "ما" مررت برجل "إلّا" في الدّار، كان إخبارًا بثبوت مرورك برجل في الدّار، وإذا امتنع هذا تعين أن الوقف على {في السّماء}، وأن ما بعدها مستأنف.
وإذا ثبت ذلك في سورة يونس قلنا به في سورة سبأ، وأن الوقف على {الأرض}، وأنه إنّما لم يجيء فيه الفتح اتباعا للنّقل، وجوز بعضهم العطف فيهما، على ألا يكون معنى يعزب: يخفى، بل يخرج إلى الوجود.
الوجه الثّالث: أن تكون عاطفة ولها ثلاثة شروط
أحدها: أن يتقدمها إثبات، كجاء زيد "لا" عمرو، أو أمر، كاضرب زيدا "لا" عمرا.
قال سيبويه: أو نداء، نحو: يابن أخي "لا" ابن عمي، وزعم ابن سعدان أن هذا ليس من كلامهم.
الثّاني: ألا تقترن بعاطف، فإذا قيل: جاءني زيد "لا" "بل" عمرو، فالعاطف "بل"، و"لا" رد لما قبلها وليست عاطفة، وإذا قلت: ما جاءني زيد "و" "لا" عمرو، فالعاطف "الواو"، و"لا" توكيد للنّفي.
وفي هذا المثال مانع آخر من العطف "بلا"، وهو تقدم النّفي، وقد اجتمعا أيضا في:{ولا الضّالّين}.
والثّالث: أن يتعاند متعاطفاها، فلا يجوز جاءني رجل "لا" زيد؛ لأنّه يصدق على زيد اسم الرجل، بخلاف جاءني رجل "لا" امرأة، ولا يمتنع العطف بها على معمول الفعل الماضي، خلافًا للزجاجي أجاز يقوم زيد "لا" عمرو، ومنع قام زيد "لا" عمرو، وما منعه مسموع، فمنعه مدفوع، قال امرؤ القيس:
كأن دثارا حلقت بلبونه ... عقاب تنوفى لا عقاب القواعل
دثار: اسم راع، وحلقت: ذهبت، اللّبون: نوق ذوات لبن، وتنوفى: جبل عال، والقواعل: جبال صغار.
وقوله إن العامل مقدّر بعد العاطف، ولا يقال: "لا" قام عمرو إلّا على الدّعاء، مردود بأنّه لو توقفت صحة العطف على صحة تقدير العامل بعد العاطف لامتنع، ليس زيد قائما و"لا" قاعدا.
الوجه الرّابع: أن تكون جوابا مناقضا "لنعم"، وهذه تحذف الجمل بعدها كثيرا، يقال: أجاءك زيد؟ فتقول: "لا"، والأصل: "لا" لم يجئ.
والخامس: أن تكون على غير ذلك، فإن كان ما بعدها جملة اسمية صدرها معرفة أو نكرة، ولم تعمل فيها، أو فعلا ماضيا لفظا وتقديرا وجب تكرارها.
مثال المعرفة:{لا الشّمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اللّيل سابق النّهار}، وإنّما لم تكرر في "لا" نولك أن تفعل؛ لأنّه بمعنى "لا" ينبغي لك، فحملوه على ما هو بمعناه، كما فتحوا في يذر حملا على يدع؛ لأنّهما بمعنى، ولولا أن الأصل في يذر الكسر لما حذفت "الواو"، كما لم تحذف في يوجل.
ومثال النكرة الّتي لم تعمل فيها "لا": {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون}، فالتكرار هنا واجب، بخلافه في:{لا لغو فيها ولا تأثيم}.
ومثال الفعل الماضي: {فلا صدق ولا صلى}، وفي الحديث: فإن المنبت "لا" أرضًا قطع و"لا" ظهرا أبقى.
وقول الهذليّ: كيف أغرم من "لا" شرب، و"لا" أكل، و"لا" نطق، و"لا" استهلّ، وإنّما ترك التّكرار في: "لا" شكّ يداك، و"لا" فض الله فاك.
وقوله:
... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وقوله:
لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلّا لهنّ مطلب
لأن المراد الدّعاء، فالفعل مستقبل في المعنى، ومثله في عدم وجوب التّكرار بعدم قصد المضيّ إلّا أنه ليس دعاء، قولك: والله "لا" فعلت كذا.
وقول الشّاعر:
حسب المحبين في الدّنيا عذابهم ... تالله لا عذبتهم بعدها سقر
وشذ ترك التّكرار في قوله:
لا هم إن الحارث بن جبلة ... زنا على أبيه ثمّ قتله
وكان في جاراته لا عهد له ... وأي أمر سيء لا فعله
زنا بتخفيف "النّون" كذا رواه يعقوب، وأصله: زنا "بالهمز" بمعنى ضيق، وروي بتشديدها، والأصل: زنى بامرأة أبيه: فحذف المضاف، وأناب "على" عن "الباء"، وقال أبو خراش الهذليّ وهو يطوف بالبيت:
إن تغفر اللّهمّ تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
وأما قوله سبحانه وتعالى:{فلا اقتحم العقبة}، فإن "لا" فيه مكررة في المعنى؛ لأن المعنى: "فلا" فك رقبة، و"لا" أطعم مسكينا؛ لأن ذلك تفسير للعقبة قاله الزّمخشريّ.
وقال الزّجاج: إنّما جاز لأن {ثمّ كان من الّذين آمنوا} معطوف عليه، وداخل في النّفي، فكأنّه قيل: "فلا" اقتحم، و"لا" آمن انتهى، ولو صحّ لجاز "لا" أكل زيد وشرب، وقال بعضهم: "لا" دعائية دعاء عليه ألا يفعل خيرا، وقال آخر: تحضيض، والأصل: "فألا" اقتحم،
ثمّ حذفت "الهمزة"، وهو ضعيف.
وكذلك يجب تكرارها إذا دخلت على مفرد خبر، أو صفة، أو حال، نحو: زيد "لا" شاعر، و"لا" كاتب، وجاء زيد "لا" ضاحكا و"لا" باكيا، ونحو: {إنّها بقرة لا فارض ولا بكر}،{وظل من يحموم لا بارد ولا كريم}،{وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة}،{من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية}.
وإن كان ما دخلت عليه فعلا مضارعا لم يجب تكرارها، نحو: {لا يحب الله الجهر بالسوء}،{قل لا أسألكم عليه أجرا}، وإذا لم يجب أن تكرر في: "لا" نولك أن تفعل، لكون الاسم المعرفة في تأويل المضارع، "فألا" يجب في المضارع أحق، ويتخلص المضارع بها للاستقبال عند الأكثرين.
وخالفهم ابن مالك لصحّة قولك: جاء زيد "لا" يتكلّم بالاتّفاق، مع الاتّفاق على أن الجملة الحالية لا تصدر بدليل استقبال.
تنبيه
من أقسام "لا" النافية المعترضة بين الخافض والمخفوض، نحو: جئت "بلا" زاد، وغضبت من "لا" شيء.
وعن الكوفيّين أنّها اسم، وأن الجار دخل عليها نفسها، وأن ما بعدها خفض بالإضافة.
وغيرهم يراها حرفا ويسميها زائدة، كما يسمون "كان" في نحو: زيد "كان" فاضل زائدة، وإن كانت مفيدة لمعنى وهو المضيّ والانقطاع،
فعلم أنهم قد يريدون بالزّائد المعترض بين شيئين متطالبين، وإن لم يصح أصل المعنى بإسقاطه، كما في مسألة "لا" في نحو: غضبت من "لا" شيء، وكذلك إذا كان يفوت بفواته معنى، كما مسألة "كان"، وكذلك "لا" المقترنة بالعاطف، في نحو: ما جاءني زيد و"لا" عمرو، ويسمونها زائدة، وليست بزائدة البتّة، ألا ترى أنه إذا قيل: ما جاءني زيد وعمرو، احتمل أن المراد نفي مجيء كل منهما على كل حال، وأن يراد نفي اجتماعهما في وقت المجيء، فإذا جيء "بلا" صار الكلام نصا في المعنى الأول "نعم"، هي في قوله سبحانه: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات}، لمجرّد التوكيد، وكذا إذا قيل: "لا" يستوي زيد و"لا" عمرو.
تنبيه
اعتراض "لا" بين الجار والمجرور، في نحو: غضبت من "لا" شيء، وبين الناصب والمنصوب، في نحو:{لئلّا يكون للنّاس}، وبين الجازم والمجزوم، في نحو:{إلّا تفعلوه}، وتقدم معمول ما بعدها عليها، في نحو:{يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها}، الآية دليل على أنّها ليس لها الصّدر، بخلاف "ما" اللّهمّ إلّا أن تقع في جواب القسم، فان الحروف الّتي يتلقّى بها القسم كلها لها الصّدر، ولهذا قال سيبويه في قوله:
آليت حب العراق الدّهر أطعمه ...
إن التّقدير على حب العراق، فحذف الخافض، ونصب ما بعده بوصول الفعل إليه، ولم يجعله من باب زيدا ضربته؛ لأن التّقدير: "لا" أطعمه، وهذه الجملة جواب لآليت، فإن معناه حلفت، وقيل لها الصّدر مطلقًا، وقيل "لا" مطلقًا، والصّواب الأول.
الثّاني من أوجه"لا": أن تكون موضوعة لطلب التّرك، وتختص بالدّخول على المضارع، وتقتضي جزمه واستقباله، سواء كان المطلوب منه مخاطبا، نحو:{لا تتّخذوا عدوي وعدوكم أولياء}، أو غائبا، نحو: {لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء}، أو متكلما، نحو: "لا" أرينك هاهنا.
وقوله:
لا أعرفن ربربا حورا مدامعها ...
وهذا النّوع ممّا أقيم فيه المسبّب مقام السّبب والاصل لا تكن ها هنا فأراك، ومثله في الأمر:{وليجدوا فيكم غلظة}، أي: وأغلظوا عليهم ليجدوا ذلك، وإنّما عدل إلى الأمر بالوجدان تنبيها على أنه المقصود لذاته، وأما الإغلاظ فلم يقصد لذاته بل ليجدوه وعكسه، {لا يفتننكم الشّيطان}، أي: "لا" تفتتنوا بفتنة الشّيطان.
واختلف في "لا" من قوله تعالى:{واتّقوا فتنة لا تصيبن الّذين ظلموا منكم خاصّة}، على قولين:
أحدهما: أنّها ناهية، فتكون من هذا، والأصل: "لا" تتعرضوا للفتنة فتصيبكم، ثمّ عدل عن النّهي عن التّعرّض إلى النّهي عن الإصابة، لأن الإصابة مسببة عن التّعرّض، وأسند هذا المسبّب إلى فاعله، وعلى هذا فالإصابة خاصّة بالمتعرضين، وتوكيد الفعل "بالنّون" واضح لاقترانه بحرف الطّلب، مثل:{ولا تحسبن الله غافلا}، ولكن وقوع الطّلب صفة للنكرة ممتنع، فوجب إضمار القول، أي: واتّقوا فتنة مقولا فيها ذلك، كما قيل في قوله:
حتّى إذا جن الظلام واختلط ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذّئب قطّ
الثّاني: أنّها نافية، واختلف القائلون بذلك على قولين:
أحدهما: أن الجملة صفة لفتنة، ولا حاجة إلى إضمار قول؛ لأن الجملة خبرية، وعلى هذا فيكون دخول "النّون" شاذا، مثله في قوله:
فلا الجارة الدّنيا بها تلحينها ...
بل هو في الآية أسهل لعدم الفصل، وهو فيهما سماعي، والّذي جوزه تشبيه "لا" النافية "بلا" الناهية، وعلى هذا الوجه تكون الإصابة عامّة للظالم وغيره، لا خاصّة بالظالمين كما ذكره الزّمخشريّ؛ لأنّها قد وصفت بأنّها لا تصيب الظّالمين خاصّة، فكيف تكون مع هذا خاصّة بهم.
والثّاني: أن الفعل جواب الأمر، وعلى هذا فيكون التوكيد أيضا خارجا عن القياس شاذا.
وممّن ذكر هذا الوجه الزّمخشريّ، وهو فاسد؛ لأن المعنى حينئذٍ فإنّكم إن تتقوها "لا" تصيب الّذين ظلموا منكم خاصّة، وقوله إن التّقدير: إن أصابتكم "لا" تصيب الظّالم خاصّة مردود؛ لأن الشّرط إنّما يقدر من جنس الأمر، لا من جنس الجواب، ألا ترى أنّك تقدر في: ائتني أكرمك، إن تأتني أكرمك.
نعم يصح الجواب في قوله تعالى:{ادخلوا مساكنكم}، الآية إذ يصح إن تدخلوا "لا" يحطمنكم، ويصح أيضا النّهي على حد "لا" أرينك هاهنا.
وأما الوصف فيأتي مكانه هنا أن تكون الجملة حالا، أي: ادخلوها غير محطومين، والتوكيد "بالنّون" على هذا الوجه، وعلى الوجه الأول سماعي، وعلى النّهي قياسي، ولا فرق في اقتضاء "لا" الطلبية للجزم، بين كونها مفيدة للنّهي، سواء كان للتّحريم كما تقدم، أو للتنزيه،
نحو:{ولا تنسوا الفضل بينكم}، وكونها للدّعاء، كقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا}، وقول الشّاعر:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلّا مكانيا
وقول الآخر:
فلا تشلل يد فتكت بعمرو ... فإنّك لن تذل ولن تضاما
ويحتمل النّهي والدّعاء قول الفرزدق:
إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد ... لها أبدا ما دام فيها الجراضم
أي: العظيم البطن.
وكونها للالتماس، كقولك لنظيرك غير مستعل عليه: "لا" تفعل كذا، وكذا الحكم إذا خرجت عن الطّلب إلى غيره كالتهديد في قولك لولدك أو عبدك: "لا" تطعني، وليس أصل "لا" الّتي يجزم الفعل بعدها "لام" الأمر، فزيدت عليها "ألف" خلاف لبعضهم، و"لا" هي النافية، والجزم "بلام" أمر مقدرة خلاف للسّهيلي.
والثّالث: "لا" الزّائدة الدّاخلة في الكلام لمجرّد تقويته وتوكيده، نحو:{ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن}،{ما منعك ألا تسجد}،
ويوضحه الآية الأخرى:{ما منعك أن تسجد}، ومنه:{لئلّا يعلم أهل الكتاب}، أي: ليعلموا، وقوله:
ويلحينني في اللّهو أن لا أحبه ... وللهو داع دائب غير غافل
وقوله:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
وذلك في رواية من نصب البخل.
فأما من خفض فـ "لا" حينئذٍ اسم مضاف؛ لأنّه أريد به اللّفظ.
وشرح هذا المعنى أن كلمة "لا" تكون للبخل وتكون للكرم، وذلك أنّها إذا وقعت بعد قول القائل أعطني أو هل تعطيني كانت للبخل، فإن وقعت بعد قوله أتمنعني عطاءك أو أتحرمني نوالك كانت للكرم، وقيل هي غير زائدة أيضا في رواية النصب، وذلك على أن تجعل اسما مفعولا، والبخل بدلا منها قاله الزّجاج.
وقال آخر: "لا" مفعول به، والبخل مفعول لأجله، أي: كراهية البخل، مثل:{يبين الله لكم أن تضلوا}، أي: كراهية أن تضلوا.
وقال أبو عليّ في الحجّة قال أبو الحسن فسرته العرب أبى جوده البخل، وجعلوا "لا" حشوًا انتهى.
وكما اختلف في "لا" في هذا البيت أنافية أم زائدة، كذلك اختلف فيها في مواضع من التّنزيل.
أحدها: قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة}، فقيل هي نافية، واختلف هؤلاء في منفيها على قولين:
أحدهما: أنه شيء تقدم، وهو ما حكي عنهم كثيرا من إنكار البعث، فقيل لهم ليس الأمر كذلك، ثمّ استؤنف القسم، قالوا وإنّما صحّ ذلك؛ لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشّيء في سورة، وجوابه في سورة أخرى، نحو: {وقالوا يا أيها الّذي نزل عليه الذّكر إنّك لمجنون}، وجوابه:{ما أنت بنعمة ربك بمجنون}.
والثّاني: أن منفيها أقسم، وذلك على أن يكون إخبارًا لا إنشاء، واختاره الزّمخشريّ قال: والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشّيء إلّا إعظاما له، بدليل:{فلا أقسم بمواقع النّجوم وإنّه لقسم لو تعلمون عظيم}، فكأنّه قيل: إن إعظامه بالإقسام به كلا إعظام، أي: إنّه يستحق إعظاما فوق ذلك.
وقيل هي زائدة: واختلف هؤلاء في فائدتها على قولين:
أحدهما: أنّها زيدت توطئة وتمهيدا لنفي الجواب، والتّقدير: "لا" أقسم بيوم القيامة "لا" يتركون سدى، ومثله:{فلا وربك لا يؤمنون حتّى يحكّموك}.
وقوله:
فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أنّي أفر
ورد بقوله تعالى:{لا أقسم بهذا البلد} الآيات، فإن جوابه مثبت، وهو:{لقد خلقنا الإنسان في كبد}، ومثله:{فلا أقسم بمواقع النّجوم} الآية.
والثّاني: أنّها زيدت لمجرّد التوكيد وتقوية الكلام، كما في:{لئلّا يعلم أهل الكتاب}، ورد بأنّها لا تزاد لذلك صدرا، بل حشوًا، كما أن زيادة "ما" و"كان" كذلك، نحو:{فبما رحمة من الله}،{أينما تكونوا يدرككم الموت}، ونحو: زيد "كان" فاضل، وذلك لأن زيادة الشّيء تفيد اطراحه، وكونه أول الكلام يفيد الاعتناء به، قالوا ولهذا نقول بزيادتها في نحو:{فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب}،{فلا أقسم بمواقع النّجوم}، لوقوعها بين "الفاء" ومعطوفها بخلاف هذه، وأجاب أبو عليّ بما تقدم من أن القرآن كالسورة الواحدة.
الموضع الثّاني: قوله تعالى:{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا}، فقيل إن "لا" نافية، وقيل ناهية، وقيل زائدة، والجميع محتمل.
وحاصل القول في الآية أن "ما" خبرية بمعنى "الّذي" منصوبة بأتل، و{حرم ربكم} صلة، و{عليكم} متعلقة بحرم هذا هو الظّاهر، وأجاز الزّجاج كون "ما" استفهامية منصوبة بحرم، والجملة محكية بأتل، لأنّه بمعنى أقول، ويجوز أن يعلق {عليكم} بأتل، ومن رجح إعمال أول المتنازعين وهم الكوفيّون رجحه على تعلقه بحرم.
وفي "أن" وما بعدها أوجه:
أحدها: أن يكونا في موضع نصب بدلا من "ما"، وذلك على أنّها موصولة لا استفهامية، إذ لم يقترن البدل "بهمزة" الاستفهام.
الثّاني: أن يكونا في موضع رفع خبرا لـ هو محذوفا أجازهما بعض المعربينـ وعليهما فـ "لا" زائدة قاله ابن الشجري، والصّواب أنّها نافية على الأول، وزائدة على الثّاني.
والثّالث: أن يكون الأصل أبين لكم ذلك لئلّا تشركوا، وذلك لأنهم إذا حرم عليهم رؤساؤهم ما أحله الله سبحانه وتعالى، فأطاعوهم أشركوا لأنهم جعلوا غير الله بمنزلته.
والرّابع: أن الأصل أوصيكم "بألا" تشركوا، بدليل أن:{وبالوالدين إحسانا}، معناه: وأوصيكم بالوالدين، وأن في آخر الاية:{ذلكم وصّاكم به}، وعلى هذين الوجهين فحذفت الجملة، وحرف الجرّ.
والخامس: أن التّقدير: أتل عليكم "ألا" تشركوا، فحذف مدلولا عليه بما تقدم، وأجاز هذه الأوجه الثّلاثة الزّجاج.
والسّادس: أن الكلام تمّ عند {حرم ربكم}، ثمّ ابتدئ عليكم "ألا" تشركوا، و"أن" تحسنوا بالوالدين إحسانا، و"ألا" تقتلوا، و"لا" تقربوا، فـ {عليكم} على هذا اسم فعل بمعنى الزموا، و"أن" في الأوجه السّتّة مصدريّة، و"لا" في الأوجه الأربعة الأخيرة نافية.
والسّابع: أن "أن" مفسرة بمعنى "أي"، و"لا" ناهية، والفعل مجزوم لا منصوب، وكأنّه قيل: أقول لكم "لا" تشركوا به شيئا، وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذان الوجهان الأخيران أجازهما ابن الشجري.
الموضع الثّالث: قوله سبحانه وتعالى:{وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون}، فيمن فتح "الهمزة".
فقال قوم منهم الخليل والفارسي: "لا" زائدة، وإلّا لكان عذرا للكفّار، ورده الزّجاج بأنّها نافية في قراءة الكسر، فيجب ذلك في قراءة الفتح.
وقيل نافية، واختلف القائلون بذلك، فقال النّحاس: حذف المعطوف: أي: أو أنهم يؤمنون، وقال الخليل في قوله له آخر،"أن" بمعنى "لعلّ"، مثل ائت السّوق أنّك تشتري لنا شيئا، ورجحه الزّجاج، وقال إنّهم أجمعوا عليه، ورده الفارسي فقال التوقع الّذي في "لعلّ" ينافيه الحكم بعدم إيمانهم، يعني في قراءة الكسر، وهذا نظير ما رجح به الزّجاج كون "لا" غير زائدة.
وقد انتصروا لقول الخليل بأن قالوا يؤيّده "أن" {يشعركم} ويدريكم بمعنى، وكثيرًا ما تأتي "لعلّ" بعد فعل الدّراية، نحو:{وما يدريك لعلّه يزكّى}، وأن في مصحف أبي (وما أدراكم لعلها}.
وقال قوم: "أن" مؤكدة، والكلام فيمن حكم بكفرهم ويئس من إيمانهم، والآية عذر للمؤمنين، أي: إنّكم معذورون لأنكم لا تعلمون ما سبق لهم به القضاء من أنهم لا يؤمنون حينئذٍ، ونظيره:{إن الّذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية}.
وقيل التّقدير؛ لأنهم و"اللّام" متعلقة بمحذوف، أي: لأنهم "لا" يؤمنون امتنعنا من الإتيان بها، ونظيره:{وما منعنا أن نرسل بالآيات إلّا أن كذب بها الأولون}، واختاره الفارسي.
واعلم أن مفعول {يشعركم} الثّاني على هذا القول، وعلى القول بأنّها بمعنى"لعلّ" محذوف، أي: إيمانهم، وعلى بقيّة الأقوال "أن" وصلتها.
الموضع الرّابع: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون}، فقيل "لا" زائدة، والمعنى ممتنع على أهل قرية قدرنا إهلاكهم أنهم يرجعون عن الكفر إلى قيام السّاعة، وعلى هذا فـ (حرام) خبر مقدم وجوبا؛ لأن المخبر عنه "أن" وصلتها، ومثله:{وآية لهم أنا حملنا ذرّيتهم}، "لا" مبتدأ، و"أن" وصلتها فاعل أغنى عن الخبر، كما جوز أبو البقاء؛ لأنّه ليس بوصف صريح؛ ولأنّه لم يعتمد على نفي ولا استفهام.
وقيل "لا" نافية، والإعراب إمّا على ما تقدم، والمعنى ممتنع عليهم أنهم "لا" يرجعون إلى الآخرة، وإمّا على أن {حرام} مبتدأ حذف خبره، أي: قبول أعمالهم، وابتدئ بالنكرة لتقييدها بالمعمول، وإمّا على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: والعمل الصّالح حرام عليهم.
وعلى الوجهين فـ {أنهم لا يرجعون} تعليل على إضمار "اللّام"، والمعنى: "لا" يرجعون عمّا هم فيه، ودليل المحذوف ما تقدم من قوله تعالى: {فمن يعمل من الصّالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه}، ويؤيدهما تمام الكلام قبل مجيء "إن" في قراءة بعضهم بالكسر.
الموضع الخامس: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثمّ يقول للنّاس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيين أربابًا}.
قرئ في السّبع برفع {يأمركم} ونصبه، فمن رفعه قطعه عمّا قبله، وفاعله ضميره تعالى، أو ضمير الرّسول، ويؤيّد الاستئناف قراءة بعضهم (ولن يأمركم)، ولا على هذه القراءة نافية لا غير.
ومن نصبه فهو معطوف على {يؤتيه}، كما أن {يقول} كذلك، و"لا" على هذه زائدة مؤكدة لمعنى النّفي السّابق، وقيل على {يقول}، ولم يذكر الزّمخشريّ غيره، ثمّ جوز في "لا" وجهين:
أحدهما: الزّيادة، فالمعنى ما كان لبشر أن ينصبه الله للدّعاء إلى عبادته، وترك الأنداد، ثمّ يأمر النّاس بأن يكونوا عبادا له، ويأمركم أن تتّخذوا الملائكة والنبيين أربابًا.
والثّاني: أن تكون غير زائدة، ووجهه بأن النّبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشًا عن عبادة الملائكة، وأهل الكتاب عن عبادة عزير وعيسى، فلمّا قالوا له أنتخذك ربًّا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله، ثمّ يأمر النّاس بعبادته، وينهاهم عن عبادة الملائكة، والأنبياء هذا ملخص كلامه.
وإنّما فسر "لا" يأمر بينهى لأنّها حالته عليه الصّلاة والسّلام، وإلّا فانتفاء الأمر أعم من النّهي.
والسّكوت والمراد الأول، وهي الحالة الّتي يكون بها البشر متناقضا؛ لأن نهيه عن عبادتهم لكونهم مخلوقين لا يستحقّون أن يعبدوا، وهو شريكهم في كونه مخلوقا، فكيف يأمرهم بعبادته، والخطاب في:{ولا يأمركم} على القراءتين التفات.
تنبيه
قرأ جماعة:{واتّقوا فتنة لا تصيبن الّذين ظلموا}، وخرجها أبو الفتح على حذف "ألف" لا تخفيفًا، كما قالوا: أم والله، ولم يجمع بين القراءتين بأن تقدر "لا" في قراءة الجماعة زائدة؛ لأن التوكيد "بالنّون" يأبى ذلك).[مغني اللبيب: 3 / 283 - 355]