حرف "الباء"
"الباء" المفردة قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): (حرف "الباء" "الباء" المفردة
"الباء" المفردة: حرف جر لأربعة عشر معنى:
أولها الإلصاق: قيل وهو معنى لا يفارقها فلهذا اقتصر عليه سيبويه:
ثمّ الإلصاق حقيقيّ: كـ أمسكت بزيد إذا قبضت على شيء من جسمه أو على ما يحبسه من يد أو ثوب ونحوه، ولو قلت أمسكته احتمل ذلك وأن تكون منعته من التّصرّف.
ومجازي: نحو مررت بزيد، أي: ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد، وعن الأخفش أن المعنى مررت على زيد، بدليل: {وإنّكم لتمرون عليهم مصبحين}.
وأقول إن كلا من الإلصاق والاستعلاء إنّما يكون حقيقيًّا إذا كان مفضيا إلى نفس المجرور كـ أمسكت بزيد وصعدت على السّطح، فإن أفضى إلى ما يقرب منه فمجاز كـ مررت بزيد في تأويل الجماعة، وكقوله:
... وبات على النّار الندى والمحلق
فإذا استوى التقديران في المجازية فالأكثر استعمالا أولى بالتخريج عليه، كـ مررت بزيد ومررت عليه، وإن كان قد جاء كما في: {لتمرون
عليهم}،{يمرون عليها}.
ولقد أمر على اللّئيم يسبني ...
إلّا أن مررت به أكثر فكان أولى بتقديره أصلا، ويتخرّج على هذا الخلاف خلاف في المقدر في قوله:
تمرون الديار ولم تعوجوا ...
أهو "الباء" أم "على"
الثّاني التّعدية:
وتسمى "باء" النّقل أيضا وهي المعاقبة "للهمزة" في تصيير الفاعل مفعولا، وأكثر ما تعدي الفعل القاصر تقول في ذهب زيد ذهبت بزيد وأذهبته، ومنه: {ذهب الله بنورهم}، وقرئ (أذهب الله نورهم) وهي بمعنى القراءة المشهورة.
وقول المبرد والسهيلي إن بين التعديتين فرقا، وإنّك إذا قلت ذهبت بزيد كنت مصاحبا له في الذّهاب مردود بالآية.
وأما قوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم}، فيحتمل أن الفاعل ضمير البرق، ولأن "الهمزة" و"الباء" متعاقبتان لم يجز أقمت بزيد، وأما {تنبت بالدهن} فيمن ضم أوله وكسر ثالثه، فخرج على زيادة "الباء" أو "على" أنّها للمصاحبة، فالظرف حال من الفاعل، أي: مصاحبة للدهن أو المفعول، أي: تنبت الثّمر مصاحبا للدهن أو أن أنبت يأتي بمعنى نبت، كقول زهير:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لها حتّى إذا أنبت البقل
ومن ورودها مع المتعدّي قوله تعالى: {دفع الله النّاس بعضهم ببعض}، و: صككت الحجر بالحجر والأصل دفع بعض النّاس بعضًا وصك الحجر الحجر.
الثّالث الاستعانة:
وهي الدّاخلة على آلة الفعل، نحو: كتبت بالقلم ونجرت بالقدوم، قيل ومنه البسملة لأن الفعل لا يتأتّى على الوجه الأكمل إلّا بها.
الرّابع السّببيّة:
نحو: {إنّكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل}،{فكلا أخذنا بذنبه}، ومنه: لقيت بزيد الأسد، أي: بسبب لقائي إيّاه، وقوله:
قد سقيت آبالهم بالنّار ...
أي: أنّها بسبب"ما"، وسمت به من أسماء أصحابها يخلى بينها وبين الماء.
الخامس المصاحبة:
نحو: {اهبط بسلام}، أي: "معه"، {وقد دخلوا بالكفر} الآية، وقد اختلف في "الباء" من قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك} فقيل للمصاحبة، والحمد مضاف إلى المفعول، أي: فسبحه حامدا له، أي: نزهه عمّا لا يليق به، وأثبت له ما يليق به، وقيل للاستعانة والحمد مضاف إلى الفاعل، أي: سبحه بما حمد به نفسه، إذ ليس كل تنزيه بمحمود ألا ترى أن تسبيح المعتزلة اقتضى تعطيل كثير من الصّفات
واختلف في سبحانك اللّهمّ وبحمدك، فقيل جملة واحدة على أن "الواو" زائدة، وقيل جملتان على أنّها عاطفة ومتعلق "الباء" محذوف، أي: وبحمدك سبحتك، وقال الخطابيّ: المعنى وبمعونتك الّتي هي نعمة توجب عليّ حمدك سبحتك لا بحولي وقوتي، يريد أنه ممّا أقيم فيه المسبّب مقام السّبب.
وقال ابن الشجري في: {فتستجيبون بحمده} هو كقولك أجبته بالتّلبية، أي: فتجيبونه بالثناء إذ الحمد الثّناء أو "الباء" للمصاحبة متعلقة بحال محذوفة أي معلنين بحمده والوجهان في {فسبح بحمد ربك}.
والسّادس الظّرفيّة:
نحو: {ولقد نصركم الله ببدر}،{نجيناهم بسحر}.
والسّابع البدل:
كقول الحماسي:
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانًا وركبانا
وانتصاب الإغارة على أنه مفعول لأجله.
والثّامن المقابلة:
وهي الدّاخلة على الأعواض، نحو: اشتريته بألف وكافأت إحسانه بضعف، وقولهم هذا بذاك، ومنه: {ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون}،
وإنّما لم نقدرها "باء" السّببيّة كما قالت المعتزلة، وكما قال الجميع في لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله؛ لأن المعطي بعوض قد يعطي مجّانا، وأما المسبّب فلا يوجد بدون السّبب، وقد تبين أنه لا تعارض بين الحديث والآية لاختلاف محملي "الباءين" جمعا بين الأدلّة.
والتّاسع المجاوزة:
"كعن"، فقيل تختص بالسؤال نحو: {فاسأل به خبيرا} بدليل {يسألون عن أنبائكم}، وقيل لا تختص به بدليل قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم}،{ويوم تشقق السّماء بالغمام}.
وجعل الزّمخشريّ هذه "الباء" بمنزلتها في شققت السنام بالشفرة على أن الغمام جعل كالآلة الّتي يشق بها، قال ونظيره: {السّماء منفطر به}، وتأول البصريون {فاسأل به خبيرا} على أن "الباء" للسّببيّة، وزعموا أنّها لا تكون بمعنى عن أصلا، وفيه بعد لأنّه لا يقتضي قولك سألت بسببه أن المجرور هو المسؤول عنه.
العاشر الاستعلاء:
نحو: {من إن تأمنه بقنطار} الآية بدليل {هل آمنكم عليه إلّا كما أمنتكم على أخيه من قبل}، ونحو: {وإذا مروا بهم يتغامزون} بدليل {وإنّكم لتمرون عليهم}، وقد مضى البحث فيه، وقوله:
أرب يبول الثعلبان برأسه ...
بدليل تمامه:
... لقد هان من بالت عليه الثعالب
الحادي عشر التّبعيض:
أثبت ذلك الأصمعي والفارسي والقتبي وابن مالك قيل والكوفيون وجعلوا منه: {عينا يشرب بها عباد الله}.
وقوله:
شربن بماء البحر ثمّ ترفعت ... متى لجج خضر لهنّ نئيج
وقوله:
... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
قيل ومنه: {وامسحوا برؤوسكم}، والظّاهر أن "الباء" فيهنّ للإلصاق، وقيل هي في آية الوضوء للاستعانة، وإن في الكلام حذفا وقلبًا فإن مسح يتعدّى إلى المزال عنه بنفسه، وإلى المزيل "بالباء"، فالأصل امسحوا رؤوسكم بالماء، ونظيره بيت الكتاب:
كنواح ريش حمامة نجدية ... ومسحت باللثتين عصف الإثمد
يقول إن لثاتك تضرب إلى سمرة مسحتها بمسحوق الإثمد فقلب معمولي مسح، وقيل في شربن إنّه ضمن معنى روين، ويصح ذلك في {يشرب بها} ونحوه، وقال الزّمخشريّ في: {يشرب بها}، المعنى: يشرب بها الخمر، كما تقول شربت الماء بالعسل.
الثّاني عشر القسم:
وهو أصل أحرفه، ولذلك خصت بجواز ذكر الفعل معها، نحو: أقسم باللّه لتفعلن، ودخولها على الضّمير، نحو: بك لأفعلنّ، واستعمالها في القسم الاستعطافي، نحو: باللّه هل قام زيد؟ أي: أسألك باللّه مستحلفا.
الثّالث عشر الغاية:
نحو: {وقد أحسن بي}، أي: إليّ، وقيل ضمن أحسن معنى لطف.
الرّابع عشر التوكيد:
وهي الزّائدة، وزيادتها في ستّة مواضع:
أحدها الفاعل: وزيادتها فيه واجبة وغالبة وضرورة.
فالواجبة: في نحو أحسن بزيد في قول الجمهور إن الأصل أحسن زيد بمعنى صار ذا حسن، ثمّ غيرت صيغة الخبر إلى الطّلب وزيدت "الباء" إصلاحا للفظ، وأما إذا قيل بأنّه أمر لفظا ومعنى وإن فيه ضمير المخاطب مستترا "فالباء" معدية مثلها في امرر بزيد.
والغالبة: في فاعل كفى، نحو: {كفى باللّه شهيدا}، وقال الزّجاج دخلت لتضمن "كفى" معنى اكتف وهو من الحسن بمكان، ويصححه قولهم أتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه، أي: ليتق وليفعل بدليل جزم يثب، ويوجبه قولهم كفى بهند بترك "التّاء"، فإن احتج بالفاصل فهو مجوز لا موجب، بدليل: {وما تسقط من ورقة}،{وما تخرج من ثمرات}.
فإن عورض بقولك أحسن بهند، "فالتّاء" لا تلحق صيغ الأمر وإن كان معناها الخبر، وقال ابن السراج الفاعل ضمير الاكتفاء، وصحّة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر، وهو قول الفارسي والرماني أجازا مروري بزيد حسن، وهو بعمرو قبيح.
وأجاز الكوفيّون إعماله في الظّرف وغيره، ومنع جمهور البصريين إعماله مطلقًا، قالوا: ومن مجيء فاعل كفى هذه مجردا عن "الباء" قول سحيم:
... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
ووجه ذلك على ما اخترناه أنه لم يستعمل كفى هنا بمعنى اكتف، ولا تزاد "الباء" في فاعل "كفى" الّتي بمعنى أجزأ وأغنى، ولا الّتي بمعنى وقى، والأولى متعدية لواحد، كقوله:
قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل
والثّانية متعدية: لاثنين كقوله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال}،{فسيكفيكهم الله}، ووقع في شعر المتنبي زيادة "الباء" في فاعل كفى المتعدية لواحد قال:
كفى ثعلا فخرا بأنك منهم ... ودهر لأن أمسيت من أهله أهل
ولم أر من انتقد عليه ذلك فهذا إمّا لسهو عن شرط الزّيادة، أو لجعلهم هذه الزّيادة من قبيل الضّرورة كما سيأتي، أو لتقدير الفاعل غير مجرور "بالباء".
وثعل رهط الممدوح وهم بطن من طيئ وصرفه للضّرورة إذ فيه العدل، والعلمية كعمر ودهر مرفوع عند ابن جني بتقدير وليفخر دهر، وأهل صفة له بمعنى مستحقّ، و"اللاّم" متعلقة بأهل.
وجوز ابن الشجري في دهر ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ حذف خبره، أي: يفتخر بك، وصحّ الابتداء بالنكرة لأنّه قد وصف بأهل.
والثّاني: كونه معطوفًا على فاعل كفى، أي: انهم فخروا بكونه منهم، وفخروا بزمانه لنضارة أيّامه، وهذا وجه لا حذف فيه.
والثّالث: أن تجره بعد أن ترفع فخرا على تقدير كونه فاعل كفى، و"الباء" متعلقة بفخر لا زائدة، وحينئذٍ تجر الدّهر بالعطف، وتقدر أهلا خبرا لهو محذوفا، وزعم المعري أن الصّواب نصب دهر بالعطف على ثعلا، أي: و"كفى" دهرا هو أهل؛ لأن أمسيت من أهله أنه أهل لكونك من أهله، ولا يخفى ما فيه التعسف، وشرحه أنه عطف على المفعول المتقدّم، وهو ثعلا، والفاعل المتأخر وهو أنّك منهم منصوبًا ومرفوعًا، وهما دهرا، وأن ومعمولاها وما تعلق بخبرها ثمّ حذف المرفوع المعطوف اكتفاء بدلالة المعنى.
وزعم الربعي أن النصب بالعطف على اسم "أن"، و"أن" أهل عطف على خبرها، ولا معنى للبيت على تقديره،
والضرورة كقوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
وقوله:
مهما لي اللّيلة مهما ليه ... أودى بنعلي وسرباليه
وقال ابن الضائع في الأول: إن "الباء" متعلقة بتنمي، وإن فاعل يأتي مضمر، فالمسألة من باب الإعمال.
وقال ابن الحاجب في الثّاني: "الباء" معدية، كما تقول: ذهب بنعلي، ولم يتعرّض لشرح الفاعل، وعلام يعود إذا قدر ضميرا في أودى،
ويصح أن يكون التّقدير أودى هو، أي: مود، أي: ذهب ذاهب، كما جاء في الحديث: ((لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))، أي: ولا يشرب هو، أي: الشّارب إذ ليس المراد، ولا يشرب الزّاني، والثّاني ممّا تزاد فيه "الباء" المفعول، نحو: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة}،{وهزي إليك بجذع النّخلة}،{فليمدد بسبب إلى السّماء}،{ومن يرد فيه بإلحاد}،{فطفق مسحا بالسوق}، أي: يمسح السّوق مسحا، ويجوز أن يكون صفة، أي: مسحا واقعا بالسوق.
وقوله:
... نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج
الشّاهد في الثّانية "فأما" الأولى فللاستعانة، وقوله:
... سود المحاجر لا يقرأن بالسور
وقيل ضمن تلقوا معنى تفضوا، ويريد معنى يهم، ونرجو معنى نطمع، ويقرأن معنى يرقين، ويتبركن، وأنه يقال قرأت بالسورة على هذا المعنى، ولا يقال قرأت بكتابك لفوات معنى التّبرّك فيه قاله السّهيلي، وقيل المراد لا تلقوا أنفسكم إلى التّهلكة بأيديكم، فحذف المفعول به، و"الباء" للآلة، كما في قولك كتبت بالقلم، أو المراد بسبب أيديكم، كما يقال لا تفسد أمرك برأيك، وكثرت زيادتها في مفعول عرفت ونحوه، وقلت في مفعول ما يتعدّى إلى اثنين، كقولك:
تبلت فؤادك في المنام خريدة ... تسقي الضجيع ببارد بسام
وقد زيدت في مفعول كفى المتعدية لواحد، ومنه الحديث: ((كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع)).
وقوله:
فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حب النّبي محمّد إيانا
وقيل إنّما هي في البيت زائدة في الفاعل، وحب بدل اشتمال على المحل.
وقال المتنبي:
كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
والثّالث المبتدأ:
وذلك في قولهم: بحسبك درهم، وخرجت فإذا بزيد، وكيف بك إذا كان كذا، ومنه عند سيبويه: {بأيكم المفتون}، وقال أبو الحسن: بأيكم متعلق باستقرار محذوف مخبر به عن المفتون، ثمّ اختلف فقيل المفتون مصدر بمعنى الفتنة، وقيل "الباء" ظرفية، أي: في أي طائفة منكم المفتون؟
تنبيه
من الغريب أنّها زيدت فيما أصله المبتدأ، وهو اسم ليس بشرط أن يتأخّر إلى موضع الخبر، كقراءة بعضهم: {ليس البر أن تولّوا} بنصب البر، وقوله:
أليس عجيبا بأن الفتى ... يصاب ببعض الاذى في يديه
والرّابع الخبر:
وهو ضربان غير موجب فينقاس، نحو: ليس زيد بقائم، {وما الله بغافل}، وقولهم: لا خير بخير بعده النّار إذا لم تحمل على الظّرفيّة، وموجب فيتوقّف على السماع، وهو قول الأخفش ومن تابعه، وجعلوا منه قوله تعالى: {جزاء سيّئة بمثلها}.
وقول الحماسي:
... ومنعكها بشيء يستطاع
والأولى تعليق {بمثلها} باستقرار محذوف هو الخبر وبشيء بمنعكها، والمعنى: ومنعكها بشيء ما يستطاع.
وقال ابن مالك: في بحسبك زيد، إن زيدا مبتدأ مؤخر لأنّه وحسبك نكرة.
والخامس الحال المنفيّ عاملها، كقوله: فما رجعت بخائبة ركاب ... حكيم بن المسيب منتهاها
وقوله:
... فما انبعثت بمزؤود ولا وكل
ذكر ذلك ابن مالك وخالفه أبو حيّان، وخرج البيتين على أن التّقدير بحاجة خائبة وبشخص مزؤود، أي: مذعور، ويريد بالمزؤود نفسه على حد قولهم رأيت منه أسدا.
وهذا التّخريج ظاهر في البيت الأول دون الثّاني؛ لأن صفات الذّم إذا نفيت على سبيل المبالغة لم ينتف أصلها، ولهذا قيل في: {وما ربك بظلام للعبيد}، إن فعالا ليس للمبالغة وإنما هو للنسب.
كقوله:
... وليس بذي سيف وليس بنبالٍ
أي: و"ما" ربك بذي ظلم؛ لأن الله تعالى لا يظلم النّاس شيئا، ولا يقال لقيت منه أسدا أو بحرا أو نحو ذلك إلّا عند قصد المبالغة في الوصف بالإقدام أو الكرم.
والسّادس التوكيد بالنّفس والعين: وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {يتربّصن بأنفسهنّ}، وفيه نظر إذا حق الضّمير المرفوع المتّصل المؤكّد بالنّفس أو بالعين أن يؤكد أولا بالمنفصل كـ: قمتم أنتم أنفسكم، ولأن التوكيد هنا ضائع، إذ المأمورات بالتربص لا يذهب الوهم إلى أن المأمور غيرهنّ، بخلاف قولك زارني الخليفة نفسه، وإنّما ذكر الأنفس هنا لزيادة البعث على التّربّص لإشعاره بما يستنكفن منه من طموح أنفسهنّ إلى الرّجال.
تنبيه
مذهب البصريين أن أحرف الجرّ لا ينوب بعضها عن بعض، بقياس كما أن أحرف الجزم وأحرف النصب كذلك، وما أوهم ذلك فهو عندهم إمّا مؤول تأويلا يقبله اللّفظ كما قيل في: {ولأصلبنكم في جذوع النّخل}، إن "في" ليست بمعنى "على"، ولكن شبه المصلوب لتمكنه من الجذع بالحال في الشّيء، وإمّا على تضمين الفعل معنى فعل يتعدّى بذلك الحرف كما ضمن بعضهم شربن في قوله:
شربن بماء البحر ...
معنى روين وأحسن في: {وقد أحسن بي} معنى لطف، وإمّا على شذوذ إنابة كلمة عن أخرى، وهذا الأخير هو مجمل الباب كله عند أكثر الكوفيّين وبعض المتأخّرين، ولا يجعلون ذلك شاذا ومذهبهم أقل تعسفا). [مغني اللبيب: 2 / 115 - 181]