تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ويوم يجمع اللّه الرّسل ذهب قوم من المفسرين إلى أن العامل في يوم ما تقدم من قوله لا يهدي، وذلك ضعيف، ورصف الآية وبراعتها، إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفا، والعامل مقدر إما اذكروا وإما تذكروا وإما احذروا ونحو هذا مما حسن اختصاره لعلم السامع، والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة، وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق، وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق وهم المكلمون أولا وماذا أجبتم معناه ماذا أجابت به الأمم من إيمان أو كفر وطاعة أو عصيان، وهذا السؤال للأنبياء الرسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم ويبتدأ حسابهم على الواضح المستبين لكل مفطور، واختلف الناس في معنى قولهم عليهم السلام لا علم لنا فقال الطبري ذهلوا عن الجواب لهول المطلع، وذكر عن الحسن أنه قال: لا علم لنا من هول ذلك اليوم. وعن السدي أنه قال: نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول فقالوا لا علم لنا. ثم نزلوا منزلا آخر شهدوا على قومهم، وعن مجاهد أنه قال: يفزعون فيقولون لا علم لنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وضعّف بعض الناس هذا المنزع بقوله تعالى: لا يحزنهم الفزع الأكبر [الأنبياء: 103] والأنبياء في أشد أهوال يوم القيامة وحالة جواز الصراط يقولون سلم سلم وحالهم أعظم وفضل الله عليهم أكثر من أن تذهل عقولهم حتى يقولوا ما ليس بحق في نفسه، وقال ابن عباس رضي الله عنه: معنى الآية لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا حسن، كأن المعنى لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية، وقال ابن جريج: معنى ماذا أجبتم؟ ماذا عملوا بعدكم وما أحدثوا؟ فلذلك قالوا لا علم لنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا معنى حسن في نفسه، ويؤيده قوله تعالى: إنّك أنت علّام الغيوب لكن لفظة أجبتم لا تساعد قول ابن جريج إلا على كره، وقول ابن عباس أصوب هذه المناحي لأنه يتخرج على التسليم لله تعالى ورد الأمر إليه، إذ قوله ماذا أجبتم لا علم عندهم في جوابه إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم، وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق ونحوه، وما ينقصهم ما كان بعدهم من أمتهم والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل والكمال. فرأوا التسليم له والخضوع لعلمه المحيط وقرأ أبو حيوة «ماذا أجبتم» بفتح الهمزة). [المحرر الوجيز: 3/293-294]
تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عزّ وجلّ: إذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك بروح القدس تكلّم النّاس في المهد وكهلاً وإذ علّمتك الكتاب والحكمة والتّوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبيّنات فقال الّذين كفروا منهم إن هذا إلاّ سحرٌ مبينٌ (110)
يحتمل أن يكون العامل في إذ فعلا مضمرا تقديره اذكر يا محمد إذ جئتهم بالبينات وقال هنا بمعنى يقول، لأن ظاهر هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله أنت قلت للناس، وذلك كله أحكام لتوبيخ الذين يتحصلون كافرين بالله في ادعائهم ألوهية عيسى، ويحتمل أن تكون إذ بدلا من قوله يوم يجمع اللّه [المائدة: 109] ونعمة الله على عيسى هي بالنبوءة وسائر ما ذكر وما علم مما لا يحصى، وعددت عليه النعمة على أن أمه إذ هي نعمة صائرة إليه وبسببه كانت، وقرأ جمهور الناس «أيّدتك» بتشديد الياء، وقرأ مجاهد وابن محيصن «آيدتك» على وزن فاعلتك ويظهر أن الأصل في القراءتين «أيدتك» على وزن أفعلتك، ثم اختلف الإعلال، والمعنى فيهما قويتك من الأيد، وقال عبد المطلب:
الحمد لله الأعز الأكرم = أيدنا يوم زحوف الأشرم
و «روح القدس» هو جبريل عليه السلام، وقوله في المهد حال كأنه قال صغيرا وكهلًا حال أيضا معطوفة على الأول. ومثله قوله تعالى: دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً [يونس: 12] والكهولة من الأربعين إلى الخمسين. وقيل هي من ثلاثة وثلاثين، والكتاب في هذه الآية: مصدر كتب يكتب أي علمتك الخط. ويحتمل أن يريد اسم جنس في صحف إبراهيم وغير ذلك. ثم خص بعد ذلك التوراة والإنجيل بالذكر تشريفا، والحكمة: هي الفهم والإدراك في أمور الشرع. وقد وهب الله الأنبياء منها ما
هم به مختصون معصومون لا ينطقون عن هوى. قوله تعالى: وإذ في هذه الآية حيث ما تكررت فهي عطف على الأولى التي عملت فيها نعمتي، وتخلق معناه: تقدر وتهيئ تقديره مستويا، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبع = ض القوم يخلق ثم لا يفري
أي يهيئ ويقدر ليعمل ويكمل ثم لا يفعل. ومنه قول الآخر:
من كان يخلق ما يقو = ل فحيلتي فيه قليله
وكان عيسى عليه السلام يصور من الطين أمثال الخفافيش ثم ينفخ فيها أمام الناس فتحيا وتطير بإذن الله. وقد تقدم هذا القصص في آل عمران. وقرأ جمهور الناس «كهيئة» بالهمز، وهو مصدر من قولهم هاء الشيء يهاء إذا ثبت واستقر على أمر حسن، قال اللحياني: ويقال «يهيء» وقرأ الزهري «كهيّة» بتشديد الياء من غير همز وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «كهيئة الطائر». والإذن في هذه الآية كيف تكرر معناه التمكين مع العلم بما يصنع وما يقصد من دعاء الناس إلى الإيمان. وقوله تعالى: فتنفخ فيها هو النفخ المعروف من البشر وإن جعل الله الأمر هكذا ليظهر تلبس عيسى بالمعجزة وصدورها عنه. وهذا كطرح موسى العصا. وكإيراد محمد عليه السلام القرآن. وهذا أحد شروط المعجزات. وقوله فيها بضمير مؤنث مع مجيء ذلك في آل عمران فأنفخ فيه [آل عمران: 49] بضمير مذكر موضع قد اضطرب المفسرون فيه.
قال مكي: هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة، قال ويصح عكس هذا، قال غيره الضمير المذكر عائد على الطين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة لأن الطين والطائر الذي يجيء على الطين على هيئة لا نفخ فيه البتة، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة بجسده وهي المذكورة في الآية، وكذلك الطّين المذكور في الآية إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك. وإنما النفخ في الصور المخصوصة منه التي رتبتها يد عيسى عليه السلام، فالوجه أن يقال في عود الضمير المؤنث إنه عائد على ما تقتضيه الآية ضرورة، وذلك أن قوله وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير يقتضي صورا أو أجساما أو أشكالا، وكذلك الضمير المذكر يعود على المخلوق الذي يقتضيه تخلق، ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة، ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه فيمن يجوّز أن يكون اسما في غير الشعر، وتكون الكاف في موضع نصب صفة للمصدر المراد تقديره وإذ تخلق خلقا من الطين كهيئة الطير وقرأ عبد الله بن عباس كهيئة الطير فتنفخها فيكون وقرأ الجمهور «فتكون» بالتاء من فوق وقرأ عيسى بن عمر فيها «فيكون» بالياء من تحت، وقرأ نافع وحده «فتكون طائرا»، وقرأ الباقون «طيرا» بغير ألف والقراءتان مستفيضتان في الناس.
فالطير جمع طائر كتاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب. والطائر اسم مفرد والمعنى على قراءة نافع فتكون كل قطعة من تلك المخلوقات طائرا قال أبو علي: ولو قال قائل إن الطائر قد يكون جمعا كالجامل والباقر فيكون على هذا معنى القراءتين واحدا لكان قياسا، ويقوي ذلك ما حكاه أبو الحسن من قولهم طائرة فيكون من باب شعيرة وشعير، وتمرة وتمر وقد تقدم القول في الأكمه والأبرص وفي قصص إحيائه الموتى في آل عمران، وتخرج الموتى معناه من قبورهم، وكف بني إسرائيل عنه عليه السلام هو رفعه حين أحاطوا به في البيت مع الحواريين ومن أول ما منعه الله منهم هو الكف إلى تلك النازلة الآخرة فهنالك ظهر عظم الكف و «البينات» هي معجزاته وإنجيله وجميع ما جاء به، وقرأ ابن كثير وعاصم هنا وفي هود والصف «إلا سحر» بغير ألف، وقرأ حمزة والكسائي في المواضع الأربعة «ساحر» بألف فمن قرأ سحرا جعل الإشارة إلى البينات والحديث وما جاء به، ومن قرأ ساحرا جعل الإشارة إلى الشخص إذ هو ذو سحر عندهم وهذا مطرد في القرآن كله حيثما ورد هذا الخلاف). [المحرر الوجيز: 3/294-297]