تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)}
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (قال ابن عبّاسٍ: ... {من جنّةٍ}: «من جنونٍ). [صحيح البخاري: 6/ 59]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله: {من جنّةٍ}؛ من جنون قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {ما بصاحبهم من جنّة}؛ أي جنونٍ وقيل المراد بالجنّة الجنّ كقوله: {من الجنّة والنّاس} وعلى هذا فيقدّر محذوفٌ أي مسّ جنّةٍ). [فتح الباري: 8/ 301]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ({من جنّةٍ}؛ من جنونٍ.
أشار به إلى قوله تعالى: {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنّة} ثمّ قال: من جنون، وكانوا يقولون: محمّد شاعر أو مجنون، والمراد بالصاحب هو محمّد عليه الصّلاة والسّلام). [عمدة القاري: 18/ 237]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (وقوله: {أو لم يتفكّروا ما بصاحبهم} {من جنة} [ أي (من جنون) والاستفهام بمعنى التقريع أو التحريض أي أولم ينظروا بعقولهم لأن الفكر طلب المعنى بالقلب، وذلك أنه كما يتقدم رؤية البصر بقلب الحدقة نحو المرئي تتقدم رؤية البصيرة بقلب حدقة العقل إلى الجوانب أي أنه كيف يتصور منه -صلّى اللّه عليه وسلّم- الجنون وهو يدعوهم إلى الله تعالى، ويقيم على ذلك الدلائل القاطعة بألفاظ بلغت في الفصاحة إلى حقيقة يعجز عنها الأوّلون والآخرون). [إرشاد الساري: 7/ 126]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أولم يتفكّروا ما بصاحبهم من جنّةٍ إن هو إلاّ نذيرٌ مّبينٌ}.
يقول تعالى ذكره: أولم يتفكّر هؤلاء الّذين كذّبوا بآياتنا فيتدبّروا بعقولهم، ويعلموا أنّ رسولنا الّذي أرسلناه إليهم، لا جنّة به ولا خبل، وأنّ الّذي دعاهم إليه هو الدّين الصّحيح القويم والحقّ المبين. ولذا نزلت هذه الآية فيما قبل.
- كما حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان على الصّفا، فدعا قريشًا، فجعل يفخّذهم فخذًا فخذًا: يا بني فلانٍ يا بني فلانٍ، فحذّرهم بأس اللّه، ووقائع اللّه، فقال قائلهم: إنّ صاحبكم هذا لمجنونٌ بات يصوّت إلى الصّبّاح، أو حتّى أصبح. فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {أولم يتفكّروا ما بصاحبهم من جنّةٍ إن هو إلاّ نذيرٌ مبينٌ}.
ويعني بقوله: {إن هو إلاّ نذيرٌ} ما هو إلاّ نذيرٌ منذركم عقاب اللّه على كفركم به إن لم تنيبوا إلى الإيمان به.
ويعني بقوله: {مبينٌ} قد أبان لكم أيّها النّاس إنذاره ما أنذركم به من بأس اللّه على كفركم به). [جامع البيان: 10/ 602-603]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({أولم يتفكّروا ما بصاحبهم من جنّةٍ إن هو إلّا نذيرٌ مبينٌ (184)}
قوله تعالى: {أولم يتفكّروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبينٌ}
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد بصاحبهم ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- كان على الصّفا فدعا قريشًا فجعل بفخذهم فخذًا فخذًا يا بني فلانٍ، يحذّرهم بأس اللّه ووقائع اللّه فقال قائلهم إنّ صاحبكم هذا لمجنونٌ بات يصوّت إلى الصّباح أو حتّى أصبح فأنزل اللّه: أولم يتفكّروا ما بصاحبهم من جنّةٍ إن هو إلّا نذيرٌ مبينٌ). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1624]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا: «يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهوت حتى أصبح فأنزل الله: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين}»). [الدر المنثور: 6/ 691-692]
تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السّموات والأرض وما خلق اللّه من شيءٍ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأيّ حديثٍ بعده يؤمنون}.
يقول تعالى ذكره: أولم ينظر هؤلاء المكذّبون بآيات اللّه في ملك اللّه وسلطانه في السّموات وفي الأرض وفيما خلق جلّ ثناؤه من شيءٍ فيهما، فيتدبّروا ذلك ويعتبروا به ويعلموا أنّ ذلك ممّن لا نظير له ولا شبيه، ومن فعل من لا ينبغي أن تكون العبادة والدّين الخالص إلاّ له، فيؤمنوا به ويصدّقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته ويخلعوا الأنداد والأوثان ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ويصيروا إلى عذاب اللّه وأليم عقابه.
وقوله: {فبأيّ حديثٍ بعده يؤمنون}؛ يقول: فبأيّ تخويفٍ وتحذيرٍ وترهيبٍ بعد تحذير محمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم- وترهيبه الّذي أتاهم به من عند اللّه في آي كتابه يصدّقون، إن لم يصدّقوا بهذا الكتاب الّذي جاءهم به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم من عند اللّه تعالى). [جامع البيان: 10/ 603]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({أولم ينظروا في ملكوت السّماوات والأرض وما خلق اللّه من شيءٍ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأيّ حديثٍ بعده يؤمنون (185)}
قوله تعالى: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض}
الوجه الأول:
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ حدّثني أبي حدّثني عمّي عن أبيه، عن جدّه عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ملكوت السماوات والأرض}؛ يعني خلق السّموات والأرض، وروي عن الضّحّاك نحو ذلك. في إحدى الرّوايات.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا أبو خالدٍ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك في قوله: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض}؛ قال: الشّمس والقمر والنّجوم وروي عن مجاهدٍ وسفيان نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1624]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة في المصنف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:«رأيت ليلة أسري بي فلما انتهينا إلى السماء السابعة نظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق، قال: وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم قلت: من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا فلما نزلت إلى السماء
الدنيا فنظرت إلى أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات فقلت: ما هذا يا جبريل قال: هذه الشياطين يحرجون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السموات والأرض ولولا ذلك لرأوا العجائب»). [الدر المنثور: 6/ 692]
تفسير قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {من يضلل اللّه فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون}.
يقول تعالى ذكره: إنّ إعراض هؤلاء الّذين كذّبوا بآياتنا، التّاركي النّظر في حجج اللّه والفكر فيها، لإضلال اللّه إيّاهم، ولو هداهم اللّه لاعتبروا وتدبّروا فأبصروا رشدهم، ولكنّ اللّه أضلّهم فلا يبصرون رشدًا ولا يهتدون سبيلاً، ومن أضلّه عن الرّشاد فلا هادي له. ولكنّ اللّه يدعهم في تماديهم في كفرهم وتمرّدهم في شركهم يتردّدون، ليستوجبوا الغاية الّتي كتبها اللّه لهم من عقوبته وأليم نكاله). [جامع البيان: 10/ 603]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({من يضلل اللّه فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون (186)}
قوله تعالى: {من يضلل اللّه فلا هادي له}؛
- حدثنا عمروا الأوديّ ثنا وكيعٌ عن سفيان عن خالدٍ الحذا عن عبد الأعلى عن عبد اللّه بن الحارث أنّ عمر خطب بالجابية فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال:«من يهده اللّه فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له» فقال له قسٌّ وهو جالسٌ بين يديه كلمةً بالفارسيّة بركست بركست، ونفض ثوبه عن صدره، فعاد عمر، فخطب فقال القسّ: مثل ذلك، حتّى كان في الثّالثة، ومترجمٌ يترجم لعمر ما يقول بالعربيّة فقال عمر: «ما يقول؟» قال: يزعم أنّ اللّه لا يضلّ أحدًا، فقال عمر: «كذبت يا عدوّ اللّه بل اللّه خلقك وهو يدخلك النّار إن شاء اللّه، ولولا ولث عقدٍ لضربت عنقك»، قال: فتفرّق النّاس وما يختلفون في القدر.
قوله تعالى: {ويذرهم}؛
- حدّثنا أبو بكر بن أبي موسى الأنصاريّ، ثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ عن أسباطٍ عن السّدّيّ عن أبي مالكٍ قوله: {ويذرهم}؛ يعني خلّ عنهم.
قوله تعالى: {في طغيانهم}؛
الوجه الأول:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث أنبأ بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ {في طغيانهم}؛ قال: في كفرهم وروي عن السّدّيّ نحو ذلك.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع عن أبي العالية في قوله: {في طغيانهم}؛ يعني في ضلالتهم- وروي عن قتادة والرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك.
قوله تعالى: {يعمهون}؛
الوجه الأول:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث أنبأ بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ في قوله: {يعمهون}؛ قال: في كفرهم يتردّدون، وروي عن مجاهدٍ وأبي مالكٍ وأبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ {يعمهون}؛ قال: يتمادون، وروي عن السّدّيّ نحو ذلك.
والوجه الثّالث:
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا معاوية بن هشامٍ عن سفيان عن الأعمش {في طغيانهم يعمهون}؛ قال: يلعبون). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1625-1626]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب، أنه خطب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:«من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له»، فقال له فتى بين يديه كلمة بالفارسية فقال عمر لمترجم يترجم له: «ما يقول؟» قال: يزعم أن الله لا يضل أحدا، فقال عمر: «كذبت يا عدو الله بل الله خلقك وهو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء الله ولولا ولث عقد لضربت عنقك» فتفرق الناس وما يختلفون في القدر، والله أعلم). [الدر المنثور: 6/ 692-693]