العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة البقرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 09:44 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي تفسير سورة البقرة [من الآية (17) إلى الآية (20) ]

تفسير سورة البقرة
[من الآية (17) إلى الآية (20) ]

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17 ربيع الثاني 1434هـ/27-02-2013م, 02:18 AM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي جمهرة تفاسير السلف

تفسير السلف


تفسير قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر عن قتادة: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله} «هي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا بها دماءهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركوا في ظلمات لا يبصرون».). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 39]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون}
قال أبو جعفرٍ: فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} وقد علمت أنّ الهاء والميم من قوله: {مثلهم} كناية جماع من الرّجال أو الرّجال والنّساء، والّذي دلالةٌ على واحدٍ من الذّكور؟ فكيف جعل الخبر عن واحدٍ مثلاً لجماعةٍ؟ وهلاّ قيل: مثلهم كمثل الّذين استوقدوا نارًا، وإن جاز عندك أن تمثّل الجماعة بالواحد فتجيز لقائل رأي جماعةٍ من الرّجال فأعجبته صورهم وتمام خلقهم وأجسامهم أن يقول: كأنّ هؤلاء، أو كأنّ أجسام هؤلاء، نخلةٌ.
قيل: أمّا في الموضع الّذي مثّل ربّنا جلّ ثناؤه جماعةً من المنافقين بالواحد الّذي جعله لأفعالهم مثلاً فجائزٌ حسنٌ، وفي نظائره كما قال جلّ ثناؤه في نظير ذلك: {تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} يعني كدور أعين الّذي يغشى عليهم من الموت، وكقوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدةٍ} بمعنى إلاّ كبعث نفسٍ واحدةٍ.
وأمّا في تمثيل أجسام الجماعة من الرّجال في طولٍ وتمام الخلق بالواحدة من النّخيل، فغير جائزٍ ولا في نظائره لفرقٍ بينهما.
فأمّا تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد، فإنّما جاز لأنّ المراد من الخبر عن مثل المنافقين الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرّديئة، وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظّاهر، والاستضاءة وإن اختلفت أشخاص أهلها معنى واحدٌ لا معانٍ مختلفةٌ، فالمثل لها في معنى المثل للشّخص الواحد من الأشياء المختلفة الأشخاص.
وتأويل ذلك: مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار باللّه وبمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وبما جاء به قولاً وهم به مكذّبون اعتقادًا، كمثل استضاءة الموقد نارًا، ثمّ أسقط ذكر الاستضاءة وأضيف المثل إليهم، كما قال نابغة بني جعدة:

وكيف تواصل من أصبحت ....... خلالته كأبي مرحب

يريد كخلالة أبي مرحبٍ، فأسقط خلالةً، إذ كان فيما أظهر من الكلام دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه.
فكذلك القول في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} لمّا كان معلومًا عند سامعيه بما ظهر من الكلام أنّ المثل إنّما ضرب لاستضاءة القوم بالإقراردون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة وإضافة المثل إلى أهله، والمقصود بالمثل ما ذكرنا، فلمّا وصفنا جاز وحسن قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} وتشبّيه مثل الجماعة في اللّفظ بالواحد، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى، وأمّا إذا أريد تشبيه الجماعة من أعيان بني آدم أو أعيان ذوي الصّور والأجسام بشيءٍ، فالصّواب من الكلام تشبيه الجماعة بالجماعة والواحد بالواحد، لأنّ عين كلّ واحدٍ منهم غير أعيان الآخرين، ولذلك من المعنى افترق القول في تشبيه الأفعال والأسماء، فجاز تشبيه أفعال الجماعة من النّاس وغيرهم إذا كانت بمعنى واحدٍ بفعل الواحد، ثمّ حذف أسماء الأفعال، وإضافة المثل والتّشبيه إلى الّذين لهم الفعل، فيقال: ما أفعالكم إلاّ كفعل الكلب، ثمّ يحذف فيقال: ما أفعالكم إلاّ كالكلب أو كالكلب، وأنت تعني: إلاّ كفعل الكلب، وإلاّ كفعل الكلاب، ولم يجز أن تقول: ما هم إلاّ نخلةً، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنّخل في الطّول والتّمام.
وأمّا قوله: {استوقد نارًا} فإنّه في تأويل أوقد كما قال الشّاعر:

وداعٍ دعا يا من يجيب إلى النّدى ....... فلم يستجبه عند ذاك مجيب

يريد: فلم يجبه.
فكان معنى الكلام إذًا مثل استضاءة هؤلاء المنافقين، في إظهارهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين بألسنتهم من قولهم: {آمنّا باللّه وباليوم الآخر} وصدّقنا بمحمّدٍ، وبما جاء به، وهم للكفر مستبطنون، فيما اللّه فاعلٌ بهم، مثل استضاءة موقد نارٍ بناره حتّى أضاءت له النّار ما حوله، يعني ما حول المستوقد.
وقد زعم بعض أهل العربيّة من أهل البصرة أنّ الّذي في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} بمعنى الّذين كما قال جلّ ثناؤه: {والّذي جاء بالصّدق وصدّق به أولئك هم المتّقون} وكما قال الشّاعر:

فإنّ الّذي حانت بفلجٍ دماؤهم ....... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

قال أبو جعفرٍ: والقول الأوّل هو القول لما وصفنا من العلّة، وقد أغفل قائل ذلك فرق ما بين الّذي في الآيتين وفي البيت، لأنّ الّذي في قوله: {والّذي جاء بالصّدق} قد جاءت الدّلالة على أنّ معناها الجمع، وهو قوله: {أولئك هم المتّقون} وكذلك الّذي في البيت، وهو قوله: دماؤهم، وليست هذه الدّلالة في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} فذلك فرق ما بين الّذي في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} وسائر شواهده الّتي استشهد بها على أنّ معنى الّذي في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} بمعنى الجماع، وغير جائزٍ لأحدٍ نقل الكلمة الّتي الأغلب في استعمال العرب على معنى إلى غيره إلاّ بحجّةٍ يجب التّسليم لها.
ثمّ اختلفت أهل التّأويل في تأويل ذلك، فروي عن ابن عبّاسٍ فيه أقوالٌ.
أحدها ما حدّثنا به، محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «ضرب اللّه للمنافقين مثلاً فقال: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} أي يبصرون الحقّ ويقولون به، حتّى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدًى ولا يستقيمون على حقٍّ».
والآخر ما حدّثنا به المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثنا معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} إلى آخر الآية «هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يعتزّون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ كما سلب صاحب النّار ضوءه {وتركهم في ظلماتٍ}، يقول: في عذابٍ».
والثّالث ما حدّثني به، موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « زعم أنّ أناسًا دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، ثمّ إنّهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجلٍ كان في ظلمةٍ فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قذًى أو أذًى، فأبصره حتّى عرف ما يتّقي، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذًى، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشّرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشّرّ. فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشّرّ. وأمّا النّور فالإيمان بما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، وكانت الظّلمة نفاقهم».
والآخر ما حدّثني به، محمّد بن سعيدٍ قال: حدّثني أبي سعيد بن محمّدٍ، قال: حدّثني عمّي، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} إلى: {فهم لا يرجعون} «ضربه اللّه مثلاً للمنافق»، وقوله: {ذهب اللّه بنورهم} قال: «أمّا النّور فهو إيمانهم الّذي يتكلّمون به. وأمّا الظّلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الذى يتكلّمون به وهم قومٌ كانوا على هدًى ثمّ نزع منهم فعتوا بعد ذلك».
وقال آخرون بما؛ حدّثني به، بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « وإنّ المنافق تكلّم بلا إله إلاّ اللّه فأضاءت له في الدّنيا فناكح بها المسلمين وعاد بها المسلمين ووارث بها المسلمين وحقن بها دمه وماله. فلمّا كان عند الموت سلبها المنافق لأنّه لم يكن لها أصلٌ في قلبه ولا حقيقةٌ في علمه».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} «
هي لا إله إلاّ اللّه أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدّنيا ونكحوا النّساء وحقنوا دماءهم حتّى إذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ، قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} قال: «أمّا النّور فهو إيمانهم الّذي يتكلّمون به؛ وأمّا الظّلمات، فهي ضلالتهم وكفرهم».
وقال آخرون بما حدّثني به، محمّد بن عمرٍو الباهليّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى بن ميمونٍ، قال: حدّثنا ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} قال: « أمّا إضاءة النّار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى؛ وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضّلالة».
- وحدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو حذيفة، عن شبلٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} «أمّا إضاءة النّار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى؛ وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضّلالة».
- حدّثني القاسم، قال: حدّثني الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، عن عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال: «ضرب مثل أهل النّفاق فقال: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} قال: إنّما ضوء النّار ونورها ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، كذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
- وحدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني عبد الرّحمن بن زيدٍ، في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} إلى آخر الآية. قال: « هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتّى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النّار لهؤلاء الّذين استوقدوا ثمّ كفروا، فذهب اللّه بنورهم، فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النّار فتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
وأولى التّأويلات بالآية ما قاله قتادة والضّحّاك، وما رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ؛ وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه إنّما ضرب هذا المثل للمنافقين الّذين وصف صفتهم وقصّ قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} لا المعلنين بالكفر المجاهدين بالشّرك، ولو كان المثل لمن آمن إيمانًا صحيحًا ثمّ أعلن بالكفر إعلانًا صحيحًا على ما ظنّ المتأوّل قول اللّه جلّ ثناؤه: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} أنّ ضوء النّار مثلٌ لإيمانهم الّذي كان منهم عنده على صحّةٍ، وأنّ ذهاب نوره مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحّةٍ؛ لم يكن هنالك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ، وأنّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممّن لم يبد لك قولاً ولا فعلاً إلاّ ما أوجب لك العلم بحاله الّتي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه الّتي هو مقيمٌ عليها؟
إنّ هذا لغير شكٍّ من النّفاق بعيدٌ ومن الخداع بريءٌ، وإن كان القوم لم تكن لهم إلاّ حالتان: حال إيمانٍ ظاهرٍ وحال كفرٍ ظاهرٍ، فقد سقط عن القوم اسم النّفاق؛ لأنّهم في حال إيمانهم الصّحيح كانوا مؤمنين، وفي حال كفرهم الصّحيح كانوا كافرين، ولا حالة هناك ثالثةٌ كانوا بها منافقين، وفي وصف اللّه جلّ ثناؤه إيّاهم بصفة النّفاق ما ينبئ عن أنّ القول غير القول الّذي زعمه من زعم أنّ القوم كانوا مؤمنين ثمّ ارتدّوا إلى الكفر فأقاموا عليه، إلاّ أن يكون قائل ذلك أراد أنّهم انتقلوا من إيمانهم الّذي كانوا عليه إلى الكفر الّذي هو نفاقٌ، وذلك قولٌ إن قاله لم تدرك صحّته إلاّ بخبرٍ مستفيضٍ أو ببعض المعاني الموجبة صحّته، فأمّا في ظاهر الكتاب، فلا دلالة على صحّته لاحتماله من التّأويل ما هو أولى به منه.
فإذ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من الإقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمنّا باللّه وكتبه ورسله واليوم الآخر، حتّى حكم لهم بذلك في عاجل الدّنيا بحكم المسلمين في حقن الدّماء والأموال والأمن على الذّرّيّة من السّباء، وفي المناكحة والموارثة؛ كمثل استضاءة الموقد النّار بالنّار، حتّى ارتفق بضيائها وأبصر به ما حوله مستضيئًا بنوره من الظّلمة، خمدت النّار وانطفأت، فذهب نوره، وعاد المستضيء به في ظلمةٍ وحيرةٍ.
وذلك أنّ المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الّذي دافع عنه في حياته القتل والسّباء مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه، تخيّل إليه بذلك نفسه أنّه باللّه ورسوله والمؤمنين مستهزئٌ مخادعٌ، حتّى سوّلت له نفسه، إذ ورد على ربّه في الآخرة، أنّه ناجٍ منه بمثل الّذي نجا به في الدّنيا من الكذب والنّفاق.
أوما تسمع اللّه جلّ ثناؤه يقول إذ نعتهم ثمّ أخبرخبرهم عند ورودهم عليه: {يوم يبعثهم اللّه جميعًا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنّهم على شيءٍ ألا إنّهم هم الكاذبون} ظنًّا من القوم أنّ نجاءهم من عذاب اللّه في الآخرة في مثل الّذي كان به نجاؤهم من القتل والسّباء وسلب المال في الدّنيا من الكذب والإفك وأنّ خداعهم نافعهم هنالك نفعه إيّاهم في الدّنيا، حتّى عاينوا من أمر اللّه ما أيقنوا به أنّهم كانوا من ظنونهم في غرورٍ وضلالٍ، واستهزاءٍ بأنفسهم وخداعٍ، إذ أطفأ اللّه نورهم يوم القيامة فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم، فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوا سعيرًا، فذلك حين ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون، كما انطفأت نار المستوقد النّار بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمه حيران تائهًا؛ يقول اللّه جلّ ثناؤه: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرّحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنّكم فتنتم أنفسكم وتربّصتم وارتبتم وغرّتكم الأمانيّ حتّى جاء أمر اللّه وغرّكم باللّه الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فديةٌ ولا من الّذين كفروا مأواكم النّار هي مولاكم وبئس المصير}.
فإن قال لنا قائلٌ: إنّك ذكرت أنّ معنى قول اللّه تعالى ذكره: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} خمدت وانطفأت، وليس ذلك بموجودٍ في القرآن، فما دلالتك على أنّ ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار إذا كان فيما نطقت به الدّلالة الكافية على ما حذفت وتركت، كما قال أبو ذؤيبٍ الهذليّ:

عصيت إليها القلب إنّي لأمرها ....... سميعٌ فما أدري أرشدٌ طلابها

يعني بذلك: فما أدري أرشدٌ طلابها أم غيٌّ، فحذف ذكر أم غيٌّ، إذ كان فيما نطق به الدّلالة عليها. وكما قال ذو الرّمّة في نعت حمير:

فلمّا لبسن اللّيل أو حين نصّبت ....... له من خذا آذانها وهو جانح

يعني: أو حين أقبل اللّيل، في نظائر لذلك كثيرةٍ كرهنا إطالة الكتاب بذكرها، فكذلك قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} لمّا كان فيه وفيما بعده من قوله: {ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره اختصر الكلام طلب الإيجاز.
وكذلك حذف ما حذف واختصار ما اختصر من الخبر عن مثل المنافقين بعده، نظير ما اختصر من الخبر عن مثل المستوقد النّار؛ لأنّ معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون بعد الضّياء الّذي كانوا فيه في الدّنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون، كما ذهب ضوء نار هذا المستوقد بانطفاء ناره وخمودها فبقي في ظلمةٍ لا يبصر.
والهاء والميم في قوله: {ذهب اللّه بنورهم} عائدةٌ على الهاء والميم في قوله: {مثلهم}). [جامع البيان: 1/ 332 - 345]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17)}
قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} قال: «هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يتعزون بالإسلام فينا المسلمين ويقاسمونهم الفيء فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ كما سلب صاحب النّار ضوءه».
- حدّثنا عصام بن الرّوّاد، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} « فإنّما ضوء النّار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص- بلا إله إلا اللّه- أضاء له فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
- حدّثنا عصام بن الرّوّاد، ثنا آدم، ثنا أبو شيبة- يعني شعيب- بن رزيقٍ عن عطاءٍ الخراسانيّ، في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} قال: «هذا مثل المنافق يبصر أحيانًا ثمّ يدركه عمى القلب»، وروي عن عكرمة والحسن والسّدّيّ والرّبيع بن أنسٍ نحو قول عطاءٍ الخراسانيّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 50 - 51]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله}
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {فلمّا أضاءت ما حوله}«أمّا إضاءة النّار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {فلمّا أضاءت ما حوله} زعم أنّ أناسًا دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- المدينة ثمّ إنّهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمةٍ فأوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله من قذًى أو أذًى فأبصره حتّى عرف ما يتّقي منها فبينما هو كذلك إذ أطفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذًى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشّرك فأسلم فعرف الحلال والحرام، والخير من الشّرّ، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشّرّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 51]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ذهب اللّه بنورهم}
[الوجه الأول]
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {ذهب اللّه بنورهم} «وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكفّار والضّلالة».
والوجه الثّاني:
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أنبأ عبد الرّزّاق، أنا معمرٌ عن قتادة: «حتّى إذا ماتوا- يعني- المنافقين، ذهب بنورهم.».
الوجه الثّالث:
- أخبرنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النّيسابوريّ فيما كتب إليّ، ثنا وهيب ابن جريرٍ، ثنا أبي، عن عليّ بن الحكم، عن الضّحّاك، في قوله: {ذهب اللّه بنورهم} «فهو إيمانهم الذي تكلموا به». ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 51]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وتركهم في ظلمات}
[الوجه الأول]
- ذكر أبو زرعة، ثنا سعيد بن محمّدٍ الجرميّ، ثنا يحيى بن واضحٍ أبو تميلة، ثنا أبو الحارث عبيد بن سليمان عن الضّحّاك بن مزاحمٍ: {وتركهم في ظلماتٍ} قال: «هم أهل النّار».
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ {وتركهم في ظلماتٍ} يقول: «في عذابٍ إذا ماتوا».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ محمّد بن عمرٍو ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: «وتركهم في ظلماتٍ حتّى خرجوا به من ظلمة الكفر بكفرهم ونفقاتهم فيه فتركهم اللّه في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدًى ولا يستقيمون على حقٍّ».
- أخبرنا أبو الأزهر فيما كتب إليّ ثنا وهب بن جريرٍ ثنا أبي عن عليّ ابن الحكم عن الضّحّاك في قوله: «أمّا الظّلمة فهي ضلالتهم وكفرهم».
- حدّثنا الحسن بن أحمد أبو فاطمة ثنا، إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ الواسطيّ ثنا سرور بن المغيرة بن زاذان بن أخي منصور بن زاذان عن عبّاد بن منصورٍ عن الحسن في قوله: {وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} «فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السّوء، فلا يجد له عملا من خيرٍ عمل به يصدّق به قول لا إله إلا هو». ). [تفسير القرآن العظيم: 1/52]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لا يبصرون}
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ محمّد بن عمرٍو زنيجٌ ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: {لا يبصرون} «أي لا يبصرون الحقّ يقولون».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 52]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {اشتروا الضلالة بالهدى} يقول: « آمنوا ثم كفروا فلما أضاءت ما حوله قال أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين وإلى الهدي وأما ذهاب نورهم فإقبالهم إلى الكافرين وإلى الضلالة». ). [تفسير مجاهد: 70] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير}
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين عن ابن عباس في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} الآية، قال: « هذا ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثوهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه {وتركهم في ظلمات} يقول: في عذاب {صم بكم عمي} لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه {أو كصيب} هو المطر، ضرب مثله في القرآن {فيه ظلمات} يقول: ابتلاء {ورعد وبرق} تخويف {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين {كلما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام اطمأنوا فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج الآية 11] الآية».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} الآية، قال: إن ناس دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقدا نارا {أضاءت ما حوله} من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقى، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر بينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر فهم {صم بكم} فهم الخرس {فهم لا يرجعون} إلى الإسلام، وفي قوله {أو كصيب} الآية، قال: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا، قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان، ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمد فنضع أيدينا في يده فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام
النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكر بشيء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما {كلما أضاء لهم مشوا فيه} فإذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة وفتحا {مشوا فيه} وقالوا: إن دين محمد حينئذ صدق: واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء بهما البرق {وإذا أظلم عليهم قاموا} فكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد وارتدوا كفارا كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {كمثل الذي استوقد}
قال: «ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله {ذهب الله بنورهم} أما {النور} فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالهم وكفرهم، وفي قوله {أو كصيب} الآية، قال: الصيب المطر، وهو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل مراءاة للناس فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك وأما {الظلمات} فالضلالة وأما {البرق} فالإيمان، وهم أهل الكتاب {وإذا أظلم عليهم} فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {مثلهم} الآية، قال: «ضرب الله مثلا للمنافقين يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق {صم بكم عمي} عن الخير {فهم لا يرجعون} إلى هدى ولا إلى خير، وفي قوله: {أو كصيب} الآية، يقول: هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم على مثل ما وصف من الذي هم في ظلمة الصيب فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق {حذر الموت والله محيط بالكافرين} منزل ذلك بهم من النقمة {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدة ضوء الحق {كلما أضاء لهم مشوا فيه} أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر {قاموا} أي متحيرين {ولو شاء الله لذهب بسمعهم} أي لما سمعوا تركوا من الحق بعد معرفته».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال: «أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة وإضاءة البرق على نحو المثل {والله محيط بالكافرين} قال: جامعهم في جهنم».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافقين، إن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فناكح بها المسلمين ووارث بها المسلمين وغازى بها المسلمين وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله فسلبها المنافق عند الموت فترك في ظلمات وعمى يتسكع فيها، كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته صم عن الحق فلا يبصرونه {فهم لا يرجعون} عن ضلالتهم ولا يتوبون ولا يتذكرون {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} قال: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجنبه لا يسمع صوتا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه ميت، أجبن قوم وأخذله للحق، وقال الله في آية أخرى {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون الآية 4] {يكاد البرق يخطف أبصارهم} الآية، قال: {البرق} هو الإسلام والظلمة هو البلاء والفتنة، فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة من عيش {قالوا إنا معكم} ومنكم وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء فقحقح عند الشدة فلا يصبر لبلائها ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها، إنما هو صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى وهو كما هو نعته الله». ). [الدر المنثور: 1/ 170 - 176]

تفسير قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}
قال أبو جعفرٍ: وإذ كان تأويل قول اللّه جلّ ثناؤه: {ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} هو ما وصفنا من أنّ ذلك خبرٌ من اللّه جلّ ثناؤه عمّا هو فاعلٌ بالمنافقين في الآخرة، عند هتك أستارهم، وإظهاره فضائح أسرارهم، وسلبه ضياء أنوارهم من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يتردّدون، وفي حنادسها لا يبصرون؛ فبيّن أنّ قوله جلّ ثناؤه: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} من المؤخّر الّذي معناه التّقديم، وأنّ معنى الكلام: أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون؛ مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون، أو كمثل صيّبٍ من السّماء.
وإذ كان ذلك معنى الكلام، فمعلومٌ أنّ قوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} يأتيه الرّفع من وجهين، والنّصب من وجهين.
فأمّا أحد وجهي الرّفع، فعلى الاستئناف لما فيه من الذّمّ، وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذّمّ، فتنصب وترفع وإن كان خبرًا عن معرفةٍ، كما قال الشّاعر:

لا يبعدن قومي الّذين هم ....... سمّ العداة وآفة الجزر.
النّازلين بكلّ معتركٍ ....... والطّيّبين معاقد الأزر

فيروى: النّازلون والنّازلين؛ وكذلك الطّيّبون والطّيّبين، على ما وصفت من المدح.
والوجه الآخر على نيّة التّكرير من أولئك، فيكون المعنيّ حينئذٍ: {أولئك الّذين اشتروا الضّلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} أولئك {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}.
وأمّا أحد وجهي النّصب، فأن يكون قطعًا ممّا في مهتدين، من ذكر أولئك، لأنّ الّذي فيه من ذكرهم معرفةٌ، والصّمّ نكرةٌ.
والآخر أن يكون قطعًا من الّذين، لأنّ الّذين معرفةٌ والصّمّ نكرةٌ.
وقد يجوز النّصب فيه أيضًا على وجه الذّمّ فيكون ذلك وجهًا من النّصب ثالثًا.
فأمّا على تأويل ما روّينا عن ابن عبّاسٍ من غير وجهٍ رواية عليّ بن أبي طلحة عنه، فإنّه لا يجوز فيه الرّفع إلاّ من وجهٍ واحدٍ وهو الاستئناف.
وأمّا النّصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما الذّمّ، والآخر القطع من الهاء والميم اللّتين في {وتركهم} أو من ذكرهم في لا يبصرون. وقد بيّنّا القول الّذي هو أولى بالصّواب في تأويل ذلك.
والقراءة الّتي هي القراءة الرّفع دون النّصب لأنّه ليس لأحدٍ خلاف رسوم مصاحف المسلمين، وإذا قرئ نصبًا كانت قراءةً مخالفةً رسم مصاحفهم.
قال أبو جعفرٍ: وهذا خبرٌ من اللّه جلّ ثناؤه عن المنافقين، أنّهم باشترائهم الضّلالة بالهدى، لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين، بل هم صمٌّ عنهما فلا يسمعونهما لغلبة خذلان اللّه عليهم، بكمٌ عن القيل بهما، فلا ينطقون بهما، والبكم: الخرس، وهو جماع أبكم عميٌ عن أن يبصروهما فيعقلوهما؛ لأنّ اللّه قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} «عن الخير».
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} يقول: «لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه».
- وحدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {بكمٌ} «هم الخرس».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، قوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} «صمٌّ عن الحقّ فلا يسمعونه، عميٌ عن الحقّ فلا يبصرونه، بكمٌ عن الحقّ فلا ينطقون به». ). [جامع البيان: 1/ 345 - 348]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فهم لا يرجعون}.
قال أبو جعفرٍ: وقوله: {فهم لا يرجعون} إخبارٌ من اللّه جلّ ثناؤه عن هؤلاء المنافقين الّذين نعتهم اللّه باشترائهم الضّلالة بالهدى، وصممهم عن سماع الخير والحقّ، وبكمهم عن القيل بهما، وعماهم عن إبصارهما؛ أنّهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم، ولا يثوبون إلى الإنابة من نفاقهم، فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدًا، ويقولوا حقًّا، أو يسمعوا داعيًا إلى الهدى، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من توبة قادة كفّار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم الّذين وصفهم بأنّه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشّى على أبصارهم.
وبمثل الّذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة: {فهم لا يرجعون} «أي لا يتوبون ولا يذكرون».
- وحدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {فهم لا يرجعون} « إلى الإسلام».
وقد روي عن ابن عبّاسٍ قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر.
وهو ما حدّثنا به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {فهم لا يرجعون} «أي فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خيرٍ، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه.».
وهذا تأويلٌ ظاهر التّلاوة بخلافه، وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبر عن القوم أنّهم لا يرجعون عن اشترائهم الضّلالة بالهدى إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحقّ من غير حصرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقتٍ دون وقتٍ وحالٍ دون حالٍ. وهذا الخبر الّذي ذكرناه عن ابن عبّاسٍ ينبئ عن أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقتٍ وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين، وأنّ لهم السّبيل إلى الرّجوع عنه. وذلك من التّأويل دعوى باطلةٌ لا دلالة عليها من ظاهرٍ ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجّة فيسلّم لها). [جامع البيان: 1/ 348 - 350]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18)}
قوله تعالى: {صمٌّ بكمٌ عميٌ}
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ {صمٌّ بكمٌ عميٌ} يقول: «لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه».
- حدّثنا أبو زرعة ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ {صمٌّ بكمٌ} قال: «فهم الخرس عميٌ».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة: « صمٌّ عن الحقّ فهم لا يسمعونه، بكمٌ عنه فهم لا ينطقون به، عميٌ عنه فهم لا يبصرونه».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 52 - 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {بكمٌ}
- حدّثنا موسى بن أبي موسى الأنصاريّ، ثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ، عن أسباط بن نصرٍ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، قوله: {بكمٌ} «يعني خرسًا عن الكلام بالإيمان فلا يستطيعون الكلام. {صمٌّ} يعني صمّ الآذان».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {عميٌ}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، قوله: {عميٌ} قال: «عميٌ عن الحقّ فهم لا يبصرونه».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فهم لا يرجعون}
[الوجه الأول]
- حدّثنا محمّد بن يحيى ثنا أبو غسّان، ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق، فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} «أي لا يرجعون إلى هدًى». وكذلك فسّره الرّبيع بن أنسٍ.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} «إلى الإسلام».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ عن قتادة يقول اللّه: {فهم لا يرجعون} «أي لا يتوبون ولا يذّكّرون».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير}
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين عن ابن عباس في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} الآية، قال: «هذا ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثوهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه {وتركهم في ظلمات} يقول: في عذاب {صم بكم عمي} لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه {أو كصيب} هو المطر، ضرب مثله في القرآن {فيه ظلمات} يقول: ابتلاء {ورعد وبرق} تخويف {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين {كلما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام اطمأنوا فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج الآية 11] الآية».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} الآية، قال: إن ناس دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقدا نارا {أضاءت ما حوله} من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقى، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر بينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر فهم {صم بكم} فهم الخرس {فهم لا يرجعون} إلى الإسلام، وفي قوله {أو كصيب} الآية، قال: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا، قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان، ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمد فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام
النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكر بشيء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما {كلما أضاء لهم مشوا فيه} فإذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة وفتحا {مشوا فيه} وقالوا: إن دين محمد حينئذ صدق: واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء بهما البرق {وإذا أظلم عليهم قاموا} فكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد وارتدوا كفارا كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله {كمثل الذي استوقد}
قال: «ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله: {ذهب الله بنورهم} أما {النور} فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالهم وكفرهم»، وفي قوله {أو كصيب} الآية، قال: «الصيب المطر، وهو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل مراءاة للناس فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك وأما {الظلمات} فالضلالة وأما {البرق} فالإيمان، وهم أهل الكتاب {وإذا أظلم عليهم} فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {مثلهم} الآية، قال: «ضرب الله مثلا للمنافقين يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق {صم بكم عمي} عن الخير {فهم لا يرجعون} إلى هدى ولا إلى خير»، وفي قوله: {أو كصيب} الآية، يقول: «هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم على مثل ما وصف من الذي هم في ظلمة الصيب فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق {حذر الموت والله محيط بالكافرين} منزل ذلك بهم من النقمة {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدة ضوء الحق {كلما أضاء لهم مشوا فيه} أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر {قاموا} أي متحيرين {ولو شاء الله لذهب بسمعهم} أي لما سمعوا تركوا من الحق بعد معرفته.».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال: «أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة وإضاءة البرق على نحو المثل {والله محيط بالكافرين} قال: جامعهم في جهنم.».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافقين، إن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فناكح بها المسلمين ووارث بها المسلمين وغازى بها المسلمين وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله فسلبها المنافق عند الموت فترك في ظلمات وعمى يتسكع فيها، كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته صم عن الحق فلا يبصرونه {فهم لا يرجعون} عن ضلالتهم ولا يتوبون ولا يتذكرون»، {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت} قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافق لجنبه لا يسمع صوتا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه ميت، أجبن قوم وأخذله للحق، وقال الله في آية أخرى {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون الآية 4] »، {يكاد البرق يخطف أبصارهم} الآية، قال: «{البرق} هو الإسلام والظلمة هو البلاء والفتنة، فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة من عيش {قالوا إنا معكم} ومنكم وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء فقحقح عند الشدة فلا يصبر لبلائها ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها، إنما هو صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى وهو كما هو نعته الله». ). [الدر المنثور: 1/ 170 - 176] (م)

تفسير قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنبأنا معمر عن قتادة: {أو كصيب} قال: «المطر». ). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 39]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر عن قتادة {فيه ظلمات ورعد وبرق} يقول: «أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت والله محيط بالكافرين ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال {يكاد البرق يخطف أبصرهم كلما أضاء لهم مشوا فيه} يقول هذا المنافق إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافية قال لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير {وإذا أظلم عليهم قاموا} يقول إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيرين».
وقد روي عن قتادة أنه كان يتأول قوله: {حذر الموت} «حذرا من الموت».). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 40]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن أبي الهيثم عن سعيد بن جبيرٍ في قوله جل وعز: {أو كصيب من السماء} قال: «السحاب فيه المطر». ). [تفسير الثوري: 41]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أو كصيّبٍ من السّماء}
قال أبو جعفرٍ: والصّيّب الفيعل، من قولك: صاب المطر يصوب صوبًا: إذا انحدر ونزل، كما قال الشّاعر:

فلست لإنسيٍّ ولكن لملأكٍ ....... تنزل من جوّ السّماء يصوب

وكما قال علقمة بن عبدة:

كأنّهم صاب عليهم سحابةٌ ....... صواعقها لطيرهنّ دبيب.
فلا تعدلي بيني وبين مغمّر ....... سقيت روايا المزن حين تصوب

يعني: حين تنحدر.
وهو في الأصل: صيوبٌ، ولكنّ الواو لمّا سبقتها ياءٌ ساكنةٌ صيّرتا جميعًا ياءً مشدّدةً، كما قيل: سيّدٌ من ساد يسود، وجيّدٌ من جاد يجود. وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحرّكةً وقبلها ياءٌ ساكنةٌ تصيّرهما جميعًا ياءً مشدّدةً.
وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن إسماعيل الأحمسيّ، قال: حدّثنا محمّد بن عبيدٍ، قال: حدّثنا هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «القطر».
- وحدّثني عبّاس بن محمّدٍ قال: حدّثنا حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ، قال لي عطاءٌ: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي سعدٌ، قال: حدّثني عمّي الحسين، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ مثله.
- وحدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، عن سعيدٍ، عن قتادة: {أو كصيّبٍ} يقول: «المطر».
- وحدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أنبأنا معمرٌ، عن قتادة مثله.
- وحدّثني محمّد بن عمرٍو الباهليّ، وعمرو بن عليٍّ، قالا: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى بن ميمونٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «الصّيّب: المطر».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثت عن المنجاب، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الصّيّب: المطر».
- وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال عبد الرّحمن بن زيدٍ: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «أو كغيثٍ من السّماء».
- وحدّثنا سوّار بن عبد اللّه العنبريّ، قال: قال سفيان: «الصّيّب: الّذي فيه المطر».
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا معاوية، قال: حدّثنا ابن جريجٍ، عن عطاءٍ في قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «المطر».
قال أبو جعفرٍ: وتأويل ذلك: مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر، مثل إستضاءة موقد النّار بضوء ناره على ما وصف جلّ ثناؤه من صفته، أو كمثل مطرٍ مظلمٍ ودقه تحدّر من السّماء تحمله مزنةٌ ظلماء في ليلةٍ مظلمةٍ، وذلك هو الظّلمات الّتي أخبر اللّه جلّ ثناؤه أنّها فيه.
فإن قال لنا قائلٌ: أخبرنا عن هذين المثلين، أهما مثلان للمنافقين أو أحدهما؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين فكيف قيل: {أو كصيّبٍ} وأو تأتي بمعنى الشّكّ في الكلام، ولم يقل: وكصيّبٍ، بالواو الّتي تلحق المثل الثّاني بالمثل الأوّل؟ أو يكون مثل القوم أحدهما، فما وجه ذكر الآخر بأو، وقد علمت أنّ أو إذا كانت في الكلام فإنّما تدخل فيه على وجه الشّكّ من المخبر فيما أخبر عنه، كقول القائل: لقيني أخوك أو أبوك، وإنّما لقيه أحدهما، ولكنّه جهل عين الّذي لقيه منهما، مع علمه أنّ أحدهما قد لقيه؛ وغير جائزٍ في اللّه جلّ ثناؤه أن يضاف إليه الشّكّ في شيءٍ أو عزوب علم شيءٍ عنه فيما أخبر أو ترك الخبر عنه.
قيل له: إنّ الأمر في ذلك بخلاف الّذي ذهبت إليه، وأو وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشّكّ، فإنّها قد تأتي دالّةً على مثل ما تدلّ عليه الواو إمّا بسابقٍ من الكلام قبلها، وإمّا بما يأتي بعدها كقول توبة بن الحميّر:

وقد زعمت ليلى بأنّي فاجرٌ ....... لنفسي تقاها أو عليها فجورها

ومعلومٌ أنّ ذلك من توبة على غير وجه الشّكّ فيما قال، ولكن لمّا كانت أو في هذا الموضع دالّةً على مثل الّذي كانت تدلّ عليه الواو لو كانت مكانها، وضعها موضعها. وكذلك قول جريرٍ:

نال الخلافة أو كانت له قدرًا ....... كما أتى ربّه موسى على قدر

وكما قال الآخر:

فلو كان البكاء يردّ شيئًا ...... بكيت على بجيرٍ أو عفاق.
على المرأين إذ مضيا جميعًا ....... لشأنهما بحزنٍ واشتياق

فقد دلّ بقوله: على المرأين إذ مضيا جميعًا، أنّ بكاءه الّذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر، بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول اللّه جلّ ثناؤه: {أو كصيّبٍ من السّماء} لمّا كان معلومًا أنّ {أو} دالّةٌ في ذلك على مثل الّذي كانت تدلّ عليه الواو، لو كانت مكانها كان سواءً نطق فيه بأو أو بالواو. وكذلك وجه حذف المثل من قوله: {أو كصيّبٍ} لمّا كان قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} دالًّا على أنّ معناه: كمثل صيّبٍ، حذف المثل واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله: {كمثل الّذي استوقد نارًا} على أنّ معناه: أو كمثل صيّبٍ، من إعادة ذكر المثل طلب الإيجاز والاختصار). [جامع البيان: 1/ 350 - 356]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت والله محيطٌ بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا}.
قال أبو جعفرٍ: فأمّا الظّلمات فجمعٌ، واحدها ظلمةٌ؛
وأمّا الرّعد فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه؛ فقال بعضهم: هو ملكٌ يزجر السّحاب.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهدٍ، قال: «الرّعد ملكٌ يزجر السّحاب بصوته.».
- وحدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن شعبة عن الحكم عن مجاهدٍ مثله.
- وحدّثني يحيى بن طلحة اليربوعيّ، قال: حدّثنا فضيل بن عياضٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- وحدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أنبأنا إسماعيل بن سالمٍ، عن أبي صالحٍ، قالا: «الرّعد ملكٌ من الملائكة يسبّح».
- وحدّثني نصر بن عبد الرّحمن الأوديّ، قال: حدّثنا محمّد بن يعلى، عن أبي الخطّاب البصريّ، عن شهر بن حوشبٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ موكّلٌ بالسّحاب، يسوقه كما يسوق الحادي الإبل، يسبّح كلّما خالفت سحابةٌ سحابةً صاح بها، فإذا اشتدّ غضبه طارت النّار من فيه فهي الصّواعق الّتي رأيتم».
- وحدّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ من الملائكة اسمه الرّعد، وهو الّذي تسمعون صوته».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا عبد الملك بن حسينٍ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ يزجر السّحاب بالتّسبيح والتّكبير».
- حدّثنا الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا عليّ بن عاصمٍ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: « الرّعد: اسم ملكٍ، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتدّ زجره السّحاب اضطرب السّحاب واحتكّ فتخرج الصّواعق من بينه».
- حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا عفّان، قال: حدّثنا أبو عوانة، عن موسى البزّاز، عن شهر بن حوشبٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ يسوق السّحاب بالتّسبيح، كما يسوق الحادي الإبل بحدائه».
- حدّثنا الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن عبّادٍ وشبابة قالا: حدّثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهدٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ يزجر السّحاب.».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا عتّاب بن زيادٍ، عن عكرمة، قال: «الرّعد: ملكٌ في السّماء يجمع السّحاب كما يجمع الرّاعي الإبل».
- وحدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: «الرّعد: خلقٌ من خلق اللّه جلّ وعزّ سامعٌ مطيعٌ للّه جلّ وعزّ».
- حدّثنا القاسم بن الحسن، قال: حدّثنا الحسين بن داود، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عكرمة، قال: «إنّ الرّعد ملكٌ يؤمر بإزجاء السّحاب فيؤلّف بينه، فذلك الصّوت تسبيحه».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: «الرّعد: ملكٌ».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج بن المنهال، قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن المغيرة بن سالمٍ، عن أبيه، أو غيره، أنّ عليّ بن أبي طالبٍ قال: «الرّعد: ملكٌ».
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا حجّاجٌ، قال: حدّثنا حمّادٌ، قال: أخبرنا موسى بن سالمٍ أبو جهضمٍ، مولى ابن عبّاسٍ قال كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد يسأله عن الرّعد؟ فقال: « الرّعد: ملكٌ».
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدّثنا عمر بن الوليد الشنّيّ، عن عكرمة، قال: «الرّعد: ملكٌ يسوق السّحاب كما يسوق الرّاعي الإبل».
- حدّثني سعد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، قال: حدّثنا حفص بن عمر، قال: حدّثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، قال: كان ابن عبّاسٍ إذا سمع الرّعد قال: «سبحان الّذي سبّحت له»، قال: وكان يقول: «إنّ الرّعد ملكٌ ينعق بالغيث كما ينعق الرّاعي بغنمه».
وقال آخرون: إنّ الرّعد: ريحٌ تختنق تحت السّحاب، فتصاعد فيكون منه ذلك الصّوت.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا بشر أبو إسماعيل، عن أبي كثيرٍ، قال: كنت عند أبي الجلد، إذ جاءه رسول ابن عبّاسٍ بكتابٍ إليه، فكتب إليه: «كتبت تسألني عن الرّعد، فالرّعد: الرّيح».
- حدّثني إبراهيم بن عبد اللّه، قال: حدّثنا عمران بن ميسرة، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، قال كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد يسأله عن الرّعد، فقال: «الرّعد: ريحٌ».
قال أبو جعفرٍ: فإن كان الرّعد ما ذكره ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ، فمعنى الآية: أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ وصوت رعدٍ؛ لأنّ الرّعد إن كان ملكًا يسوق السّحاب، فغير كائنٍ في الصّيّب؛ لأنّ الصّيّب إنّما هو ما تحدّر من صوب السّحاب؛ والرّعد: إنّما هو في جوّ السّماء يسوق السّحاب، على أنّه لو كان فيه ثم لم يكن له صوتٌ مسموعٌ، لم يكن هنالك رعبٌ يرعب به أحدٌ؛ لأنّه قد قيل: إنّ مع كلّ قطرةٍ من قطر المطر ملكًا، فلا يعدو الملك الّذي اسمه الرّعد لو كان مع الصّيّب إذا لم يكن مسموعًا صوته أن يكون كبعض تلك الملائكة الّتي تنزل مع القطر إلى الأرض في أن لا رعب على أحدٍ بكونه فيه. فقد علم إذ كان الأمر كما وصفنا من قول ابن عبّاسٍ أنّ معنى الآية: أو كمثل غيثٍ تحدّر من السّماء فيه ظلماتٌ وصوت رعدٍ؛ إن كان الرّعد هو ما قاله ابن عبّاسٍ، وإنّه استغنى بدلالة ذكر الرّعد باسمه على المراد في الكلام من ذكر صوته. وإن كان الرّعد ما قاله أبو الجلد فلا شيء في قوله: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ} متروكٌ لأنّ معنى الكلام حينئذٍ: فيه ظلماتٌ ورعدٌ الّذي هو وما وصفنا صفته.
وأمّا البرق، فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه.
- فقال بعضهم بما حدّثنا مطر بن محمّدٍ الضّبّيّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، ح وحدّثني محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثني عبد الرّحمن بن مهديٍّ، ح وحدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قالوا جميعًا: حدّثنا سفيان الثّوريّ، عن سلمة بن كهيلٍ، عن سعيد بن أشوع، عن ربيعة بن الأبيض، عن عليٍّ، قال: «البرق: مخاريق الملائكة».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا عبد الملك بن الحسين، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ: «البرق مخاريق بأيدي الملائكة يزجرون بها السّحاب».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن عميرة بن سالمٍ، عن أبيه أو غيره أنّ عليّ بن أبي طالبٍ قال: «الرّعد: الملك، والبرق: ضربه السّحاب بمخراقٍ من حديدٍ».
وقال آخرون: «هو سوطٌ من نورٍ يزجّ به الملك السّحاب».
ذكر من قال ذلك:
- حدّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، بذلك.
وقال آخرون: «هو ماءٌ».
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا بشير أبو إسماعيل، عن أبي كثيرٍ، قال: كنت عند أبي الجلد إذ جاءه رسول ابن عبّاسٍ بكتابٍ إليه، فكتب إليه: «كتب إلي تسألني عن البرق، فالبرق: الماء».
- حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه، قال: حدّثنا عمران بن ميسرة، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن الحسن بن الفرات، عن أبيه، قال كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد يسأله عن البرق، فقال: «البرق ماءٌ».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن عطاءٍ، عن رجلٍ من أهل البصرة من قرّائهم، قال: كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد، رجلٌ من أهل هجر، يسأله عن البرق، فكتب إليه: «كتبت إليّ تسألني عن البرق: وإنّه من الماء.».
وقال آخرون: هو مصع ملكٍ.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، قال: حدّثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهدٍ، قال: «البرق: مصع ملكٍ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا هشامٌ، عن محمّد بن مسلمٍ الطّائفيّ، قال: بلغني أنّ البرق، ملكٌ له أربعة أوجهٍ: وجه إنسانٍ، ووجه ثورٍ، ووجه نسرٍ، ووجه أسدٍ، فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن وهب بن سليمان، عن شعيبٍ الجبائيّ، قال: في كتاب اللّه الملائكة حملة العرش، لكلّ ملكٍ منهم وجه إنسانٍ، وثورٍ، وأسدٍ، فإذا حرّكوا أجنحتهم فهو البرق وقال أميّة بن أبي الصّلت:

زحلٌ وثورٌ تحت رجل يمينه ....... والنّسر للأخرى وليثٌ مرصد.

- حدّثنا الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا عليّ بن عاصمٍ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: «البرق: ملكٌ».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: «الصّواعق ملكٌ يضرب السّحاب بالمطارق يصيب منه من يشاء».
قال أبو جعفرٍ: وقد يحتمل أن يكون ما قاله عليّ بن أبي طالبٍ وابن عبّاسٍ ومجاهدٌ بمعنى واحدٍ؛ وذلك أن تكون المخاريق الّتي ذكر عليٌّ رضي اللّه عنه أنّها هي البرق هي السّياط الّتي هي من نورٍ الّتي يزجي بها الملك السّحاب، كما قال ابن عبّاسٍ. ويكون إزجاء الملك السّحاب: مصعه إيّاه بها، وذاك أنّ المصاع عند العرب أصله المجالدة بالسّيوف، ثمّ تستعمله في كلّ شيءٍ جولد به في حربٍ وغير حربٍ، كما قال أعشى بني ثعلبة وهو يصف جواري يلعبن بحليّهنّ ويجالدن به:


إذا هنّ نازلن أقرانهنّ ....... وكان المصاع بما في الجون


يقال منه: ماصعه مصاعًا. وكأنّ مجاهدًا إنّما قال: مصع ملكٍ، إذ كان السّحاب لا يماصع الملك، وإنّما الرّعد هو الماصع له، فجعله مصدرًا من مصعه يمصعه مصعًا.
وقد ذكرنا ما في معنى الصّاعقة ما قال شهر بن حوشبٍ فيما مضى.
وأمّا تأويل الآية، فإنّ أهل التّأويل مختلفون فيه. فروي عن ابن عبّاسٍ في ذلك أقوالٌ.
أحدها ما حدّثنا به، محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} « أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل، على الّذي هم عليه من الخلاف والتّخوف منكم، على مثل ما وصف من الّذى هو في ظلمة الصّيّب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصّواعق حذر الموت {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدّة ضوء الحقّ {كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} أي يعرفون الحقّ ويتكلّمون به، فهم من قولهم به على استقامةٍ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيّرين».
والآخر ما حدّثني به، موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} إلى: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} أمّا الصّيّب فالمطر كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الّذي ذكر اللّه فيه رعدٌ شديدٌ وصواعق وبرقٌ، فجعلا كلّما أصابهما الصّواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصّواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذ لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا وقاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمّدًا فنضع أيدينا في يده. فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما. فضرب اللّه شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الّذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقًا من كلام النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينزل فيهم شيءٌ أو يذكروا بشيءٍ فيقتلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان وأصابوا غنيمةً أو فتحًا مشوا فيه، وقالوا: إنّ دين محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم دين صدقٍ فاستقاموا عليه،كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا. فكانوا إذا هلكت أموالهم، وولد لهم الجواري، وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمّدٍ، فارتدّوا كفّارًا كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
والثّالث ما حدّثني به، محمّد بن سعدٍ؛ قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ: {أو كصيّبٍ من السّماء} «كمطرٍ»، {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} إلى آخر الآية، «هو مثل المنافق في ضوء ما تكلّم بما معه من كتاب اللّه وعمل، مراءاةً للنّاس، فإذا خلا وحده عمل بغيره. فهو في ظلمةٍ ما أقام على ذلك. وأمّا الظّلمات فالضّلالة، وأمّا البرق فالإيمان، وهم أهل الكتاب. وإذا أظلم عليهم، فهو رجلٌ يأخذ بطرف الحقّ لا يستطيع أن يجاوزه».
والرّابع ما حدّثني به المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {أو كصيّبٍ من السّماء} «وهو المطر، ضرب مثله في القرآن»، يقول: {فيه ظلماتٌ} يقول: «ابتلاءٌ» {ورعدٌ} يقول: «فيه تخويفٌ»، وبرقٌ {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: «يكاد محكم القرآن يدلّ على عورات المنافقين»، {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: «كلّما أصاب المنافقون من الإسلام عزًّا اطمأنّوا، وإن أصابوا الإسلام نكبةً، قاموا ليرجعوا إلى الكفر»، يقول: {وإذا أظلم عليهم قاموا} «كقوله: {ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به وإن أصابته فتنةٌ} إلى آخر الآية.».
قال أبو جعفرٍ: ثمّ اختلف سائر أهل التّأويل بعد ذلك في نظير ما روي عن ابن عبّاسٍ من الاختلاف.
- فحدّثني محمّد بن عمرٍو الباهليّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى بن ميمونٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: « إضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ مثله.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة، في قول اللّه: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} إلى قوله: {وإذا أظلم عليهم قاموا} «فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينةً أو سلوةً من عيشٍ، قال: أنا معكم وأنا منكم؛ وإذا أصابته شدّةٌ حقحق واللّه عندها فانقطع به فلم يصبر على بلائها، ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها».
- وحدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} يقول: «أجبن قومٍ لا يسمعون شيئًا إلاّ ظنّوا أنّهم هالكون فيه حذرًا من الموت، واللّه محيطٌ بالكافرين. ثمّ ضرب لهم مثلاً آخر فقال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: هذا المنافق، إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافيةٌ قال: لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلاّ خيرٌ {وإذا أظلم عليهم قاموا} يقول: إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيّرين».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، عن عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} قال: « مثلهم كمثل قومٍ ساروا في ليلةٍ مظلمةٍ ولها مطرٌ ورعدٌ وبرقٌ على جادّةٍ، فلمّا أبرقت أبصروا الجادّة فمضوا فيها، وإذا ذهب البرق تحيّروا. وكذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شكّ تحيّر ووقع في الظّلمة، فكذلك قوله: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} ثمّ قال: في أسماعهم وأبصارهم الّتي عاشوا بها في النّاس {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم}».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان الباهليّ، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ: {فيه ظلماتٌ} قال: أمّا الظّلمات فالضّلالة، والبرق: الإيمان.
- وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني عبد الرّحمن بن زيدٍ في قوله: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} فقرأ حتّى بلغ: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} قال: «هذا أيضًا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين، كانوا قد استناروا بالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق.».
- وحدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: «ليس شيءٌ في الأرض سمعه المنافق، إلاّ ظنّ أنّه يراد به وأنّه الموت كراهيةً له، والمنافق أكره خلق اللّه للموت، كما إذا كانوا بالبرارى في المطر فرّوا من الصّواعق».
- حدّثنا عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا أبو معاوية، قال: حدّثنا ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، في قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} قال:«مثلٌ ضرب للكافّرين.».
قال أبو جعفرٍ: وهذه الأخبار الّتي ذكرنا عمّن روّيناها عنه، فإنّها وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها متقاربات المعاني لأنّها جميعًا تنبئ عن أنّ اللّه ضرب الصّيّب لظاهر إيمان المنافق مثلاً ومثّل ما فيه من ظلماتٍ بضلالته، وما فيه من ضياء برقٍ بنور إيمانه، واتّقاءه من الصّواعق بتصيير أصابعه في أذنيه لضعف جنانه ونخب فؤاده من حلول عقوبة اللّه بساحته، ومشيه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه، وقيامه في الظّلام بحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه.
فتأويل الآية إذًن إذ كان الأمر على ما وصفنا: أو مثل ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنّا باللّه وباليوم الآخر وبمحمّدٍ وما جاء به، حتّى صار لهم بذلك في الدّنيا أحكام المؤمنين، وهم مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون باللّه وبرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وما جاء به من عند اللّه وباليوم الآخر، مكذّبون، ولخلاف ما يظهرون بالألسن في قلوبهم معتقدون، على عمًى منهم وجهالةٍ بما هم عليه من الضّلالة لا يدرون فى أيّ الأمرين اللّذين قد شرّعا لهم فيه الهداية في الكفر الّذي كانوا عليه قبل إرسال اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم بما أرسله به إليهم، أم في الّذي أتاهم به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم من عند ربّهم؟ فهم من وعيد اللّه إيّاهم على لسان محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وجلون، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللّه مرضًا. كمثل غيثٍ سرى ليلاً في مزنةٍ ظلماء وليلةٍ مظلمةٍ يحدوها رعدٌ ويستطير في حافاتها برقٌ شديدٌ لمعانه كثيرٌ خطرانه، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، ويختطفها من شدّة ضيائه ونور شعاعه وينهبط منها تاراتٌ صواعق تكاد تدع النّفوس من شدّة أهوالها زواهق.
فالصّيّب مثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتّصديق، والظّلمات الّتي هي فيه لظلمات ما هم مستبطنوه من الشّكّ والتّكذيب ومرض القلوب. وأمّا الرّعد والصّواعق فلما هم عليه من الوجل من وعيد اللّه إيّاهم على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم في آي كتابه، إمّا في العاجل وإمّا في الآجل، أي يحلّ بهم مع شكّهم في ذلك: هل هو كائنٌ، أم غير كائنٍ، وهل له حقيقةٌ أم ذلك كذبٌ وباطلٌ؟ مثلٌ.
فهم من وجلهم أن يكون ذلك حقًّا يتّقونه بالإقرار بما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم بألسنتهم مخافةً على أنفسهم من الهلاك ونزول النّقمات وذلك تأويل قوله جلّ ثناؤه: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} يعني بذلك يتّقون وعيد اللّه الّذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتّقي الخائف أصوات الصّواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها حذرًا على نفسه منها.
وقد ذكرنا الخبر الّذي روي عن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ أنّهما كانا يقولان: «إنّ المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فرقًا من كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينزل فيهم شيءٌ، أو يذكروا بشيءٍ فيقتلوا.».
فإن كان ذلك صريحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا؛ فإنّ القول الّذي روي عنهما هو القول وإن يكن غير صحيحٍ، فأولى بتأويل الآية ما قلنا؛ لأنّ اللّه إنّما قصّ علينا من خبرهم في أوّل مبتدأ قصصهم أنّهم يخادعون اللّه ورسوله والمؤمنين بقولهم آمنّا باللّه وباليوم الآخر مع شكّ قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنّهم به مؤمنون ممّا جاءهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من عند ربّهم، وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن الّتي ذكر فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية.
وإنّما جعل اللّه إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلاً لاتّقائهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين بما ذكرنا أنّهم يتّقونهم به كما يتّقي سامع صوت الصّاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثل نظير تمثيل اللّه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصّواعق، وكذلك قوله: {حذر الموت} جعله جلّ ثناؤه مثلاً لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلكهم الّذي توعّده بساحتهم، كما يجعل سامع أصوات الصّواعق أصابعه في أذنيه حذر العطب والموت على نفسه أن تزهق من شدّتها.
وإنّما نصب قوله: {حذر الموت} على نحو ما تنصب به التّكرمة في قولك: زرتك تكرمةً لك، تريد بذلك: زرتك من أجل تكرمتك، وكما قال جلّ ثناؤه: {ويدعوننا رغبًا ورهبًا} على التّفسير للفعل.
وقد روي عن قتادة: أنّه كان يتأوّل قوله: {حذر الموت} حذرًا من الموت.
- حدّثنا بذلك الحسن بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، قال: أنبأنا معمرٌ، عنه.
وذلك مذهبٌ من التّأويل ضعيفٌ لأنّ القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرًا من الموت فيكون معناه ما قال إنّه يرادٌ به حذرًا من الموت، وإنّما جعلوها من حذار الموت في آذانهم.
وكان قتادة وابن جريجٍ يتأوّلان قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} أنّ ذلك من اللّه جلّ ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع، وضعف القلوب، وكراهة الموت، ويتأوّلان في ذلك قوله: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم}.
وليس الأمر في ذلك عندي كالّذي قالا، وذلك أنّه قد كان فيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته كقزمان الّذي لم يقم مقامه أحدٌ من المؤمنين يوم أحدٍ ودونه. وإنّما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتركهم معاونته على أعدائه؛ لأنّهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين ولا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مصدّقين، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين، إلاّ بالتّخذيل عنه. ولكنّ ذلك وصفٌ من اللّه جلّ ثناؤه لهم بالإشفاق من حلول عقوبة اللّه بهم على نفاقهم، إمّا عاجلاً، وإمّا آجلاً.
ثمّ أخبر جلّ ثناؤه أنّ المنافقين الّذين نعتهم النّعت الّذي ذكر وضرب لهم الأمثال الّتي وصف وإن اتّقوا عقابه وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الّذي توعّدهم به في آي كتابه، غير منجيهم ذلك من نزوله بعقوتهم وحلوله بساحتهم، إمّا عاجلاً في الدّنيا، وإمّا آجلاً في الآخرة، للّذي في قلوبهم من مرضها والشّكّ في اعتقادها، فقال: {واللّه محيطٌ بالكافرين} يعنى جامعهم فمحلٌّ بهم عقوبته.
وكان مجاهدٌ يتأوّل ذلك كما حدّثني محمّد بن عمرٍو الباهليّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى بن ميمونٍ، عن عبد اللّه بن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول اللّه: {واللّه محيطٌ بالكافرين} قال: «جامعهم في جهنّم.».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ في قوله: {واللّه محيطٌ بالكافرين} قال: «جامعهم.».
وأمّا ابن عبّاسٍ فروي عنه في ذلك ما حدّثني به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {واللّه محيطٌ بالكافرين} يقول: «اللّه منزلٌ ذلك بهم من النّقمة.».). [جامع البيان: 1/ 356 - 378]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت واللّه محيطٌ بالكافرين (19) }
قوله: {أو كصيب من السماء}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ ثنا أحمد بن بشيرٍ، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «المطر.». قال أبو محمّدٍ: وكذلك فسّره أبو العالية والحسن وسعيد بن جبيرٍ ومجاهدٌ ، وعطاءٌ وعطيّة العوفيّ، وقتادة وعطاءٌ الخراسانيّ والسّدّيّ والرّبيع بن أنسٍ.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا مروان، عن جويبرٍ عن الضّحّاك: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «هو السحاب.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 54]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فيه ظلمات}
[الوجه الأول]
- ثنا أبى، ثنا أبي صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {فيه ظلماتٌ} يقول: «ابتلاءٌ.».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنا أبو غسّان: ثنا سلمة بن الفضل، عن محمد ابن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٌ مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو سعيد ابن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {فيه ظلماتٌ} «أي هم في ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل- على الّذي هم عليه من الخلاف والتخوف لكم، على مثل ما وصف من الّذي هو في ظلمة الصّيّب.».
الوجه الثّالث:
- أخبرنا أبو الأزهر فيما كتب إليّ ثنا وهب بن جريرٍ، ثنا أبي، عن عليّ بن الحكم، عن الضحاك: {فيه ظلماتٌ} «أمّا الظّلمة، فالضّلالة.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 54]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {ورعد}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ أحمد بن محمّد بن يحيى بن سعيدٍ القطّان، ثنا أبو أحمد الزّبيريّ، ثنا عبد اللّه بن الوليد- يعني من ولد معقل بن مقرّنٍ- حدّثني بكير بن شهابٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: أقبلت يهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا ما هذا الرّعد؟ قال: «ملكٌ من ملائكة اللّه موكّلٌ بالسّحاب بيده، أو في يده مخاريق من نارٍ يزجر به السّحاب ويسوقه حيث أمره اللّه.»قالوا: فما هذا الصّوت الّذي يسمع؟ قال: «صوته». قالوا: صدقت
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، {ورعدٌ} يقول: «تخويفٌ.».
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا ابن إدريس، عن الحسن بن فراتٍ، عن أبيه، عن أبي الجلد قال: كتب إليه ابن عبّاسٍ يسأله عن الرّعد، فكتب إليه: إنّ الرّعد ريحٌ.). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 54 - 55]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وبرقٌ}
[الوجه الأول]
- وبه عن أبي الجلد قال: كتب إليه ابن عبّاسٍ يسأله عن البرق، فكتب إليه أنّ البرق ماءٌ.
- حدّثنا عليّ بن المنذر الطّريقيّ، ثنا ابن فضيلٍ، ثنا عطاء بن السّائب، عن الشّعبيّ قال: كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد يسأله عن البرق- وكان عالمًا يقرأ الكتب- فكتب إليه. البرق من تلالؤ الماء.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا أبو نعيمٍ، ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن ابن أشيء، عن ربيعة بن الأبيض، عن عليٍّ قال: «البرق مخاريق الملائكة.».
- حدّثنا أبي، ثنا سليمان بن حربٍ وأبو الرّبيع- واللّفظ لسليمان قالا: ثنا حمّاد بن زيدٍ، عن عبد الجليل، عن شهر بن حوشبٍ، عن أبي هريرة أنّه سئل عن البرق، فقال: «اصطفق البرد.».
- وقال أبو الرّبيعٍ في حديثه: «البرق: اصطفق البرد.».
- حدّثنا أبي، ثنا أبو سلمة، ثنا حمّادٌ- يعني ابن سلمة- عن عبد الجليل، عن شهر ابن حوشبٍ: قال عبد اللّه بن عمرٍو لرجلٍ: سل كعبًا عن البرق: فقال كعبٌ: «البرق تصفيق ملك البرد. وحكى حمّادٌ بيده، لو ظهر لأهل الأرض لصعقوا.
- حدّثنا أبي، ثنا عبيد اللّه بن موسى أنبأ عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال: «البرق مصنع ملكٍ يسوق به السّحاب.».
الوجه الثّالث:
- أخبرنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر فيما كتب إليّ ثنا وهب بن جريرٍ، ثنا أبي، عن عليّ بن الحكم، عن الضّحّاك في قوله: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ} «فأمّا البرق فالإيمان. عني بذلك أهل الكتاب.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 55 - 56]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ، قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق} قال: «كان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقًا من كلام النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- أن ينزل فيهم شيءٌ أو يذكروا بشيءٍ فيقتلوا.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 56]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {من الصّواعق}
- حدّثنا عليّ بن المنذر الطّريقيّ، ثنا ابن فضيلٍ، ثنا عطاء بن السّائب، عن الشّعبيّ قال: كتب ابن عبّاسٍ إلى أبي الجلد يسأله عن الصّواعق. فكتب إليه أنّ الصّواعق مخاريق يزجر بها السّحاب). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 56]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {حذر الموت}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة بن الفضل، عن محمد ابن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} «والحذر من القتل على الّذي هم عليه من الخلاف والتخوف لكم على مثل ما وصف من الّذي هو في ظلمة الصّيّب.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 56 - 57]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {والله محيط بالكافرين}
[الوجه الأول]
- وبه عن ابن عبّاسٍ: {واللّه محيطٌ بالكافرين} «يقول اللّه: واللّه منزلٌ ذلك بهم من النّقمة- أي محيطٌ بالكافرين.».
- أخبرنا عليّ بن المبارك فيما كتب إليّ، ثنا زيد بن المبارك، ثنا ابن ثورٍ، عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ، في قوله: {واللّه محيطٌ بالكافرين} قال: «جامعهم يوم القيامة في جهنّم.».
الوجه الثّاني
- حدّثنا الحسن بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: {واللّه محيطٌ بالكافرين} قال: «جامعهم- يعني: يوم القيامة.».
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن عبد الرّحمن الدّشتكيّ، ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: {واللّه محيطٌ بالكافرين}«يبعثهم اللّه من بعد الموت، فيبعث أولياءه أعداءه فينبّئهم بأعمالهم، فذلك قوله: {واللّه محيطٌ بالكافرين}».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 57]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل: { والله محيط بالكافرين} يقول: «جامعهم في جهنم.».). [تفسير مجاهد: 70 - 71]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {أو كصيّبٍ}.
- عن ابن عبّاسٍ في قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء} قال: «الصّيّب: المطر.».
رواه أبو يعلى، وفيه أبو جنابٍ وهو مدلّسٌ). [مجمع الزوائد: 6/313]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال أبو يعلى الموصليّ: ثنا أحمد الأخنسيّ، ثنا محمّد بن فضيلٍ، ثنا الكلبيّ، عن أبي صالحٍ عن ابن عبّاسٍ- رضي اللّه عنهما- "في قوله: {أو كصيّبٍ من السّماء} هو قال: الصيب: المطر"). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/ 177]
قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (وقال أبو يعلى: حدثنا أحمد الأخنسيّ، ثنا محمّد بن فضيلٍ، ثنا الكلبيّ عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {إعصارٌ فيه نارٌ}، (فقال): «الإعصار، الرّيح الشديد.»
- وبه في قوله تعالى: {كصيّبٍ من السّماء} قال: «الصّيّب: المطر».). [المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/ 461 - 462] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج وكيع، وعبد بن حميد وأبو يعلى في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة من طرق عن ابن عباس في قوله {أو كصيب من السماء} قال: «المطر».
وأخرج ابن جرير عن مجاهد والربيع وعطاء، مثله.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الصيب من ههنا»، وأشار بيده إلى السماء). [الدر المنثور: 1/ 176]

تفسير قوله تعالى: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر عن قتادة: {فيه ظلمات ورعد وبرق} يقول: «أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت والله محيط بالكافرين ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال: {يكاد البرق يخطف أبصرهم كلما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: هذا المنافق إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافية قال لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير {وإذا أظلم عليهم قاموا} يقول: إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيرين».). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 40] (م)
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا عبّاد بن راشدٍ قال: سمعت الحسن يقول: {يكاد البرق يخطف أبصارهم}). [سنن سعيد بن منصور: 2/ 547]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (ثمّ عاد جلّ ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم، وإتمام المثل الّذي ابتدأ ضربه لهم ولشكّهم ومرض قلوبهم، فقال: {يكاد البرق} يعني بالبرق: الإقرار الّذي أظهروه بألسنتهم باللّه وبرسوله وما جاء به من عند ربّهم، فجعل البرق له مثلاً على ما قدّمنا صفته.
{يخطف أبصارهم} يعني: يذهب بها ويستلبها ويلتمعها من شدّة ضيائه ونور شعاعه.
- كما حدّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدّثنا بشر بن عمّارٍ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} قال: «يلتمع أبصارهم ولمّا يفعل».
والخطف: السّلب ومنه الخبر الّذي روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنّه نهى عن الخطفة. يعني بها النّهبة؛ ومنه قيل للخطّاف الّذي يخرج به الدّلو من البئر خطّافٌ لاختطافه واستلابه ما علق به. ومنه قول نابغة بني ذبيان:

خطاطيف حجنٌ في حبالٍ متينةٍ ....... تمدّ بها أيدٍ إليك نوازع

فجعل ضوء البرق وشدّة شعاع نوره لضوء إقرارهم بألسنتهم وبرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به من عند اللّه واليوم الآخر وشعاع نوره، مثلاً.
ثمّ قال تعالى ذكره: {كلّما أضاء لهم} يعني أنّ البرق كلّما أضاء لهم، وجعل البرق لإيمانهم مثلاً. وإنّما أراد بذلك أنّهم كلّما أضاء لهم الإيمان وإضاءتهم لهم أن يروا فيه ما يعجبهم في عاجل دنياهم من النّصرة على الأعداء، وإصابة الغنائم في المغازي، وكثرة الفتوح، وتتابعها، والثّراء في الأموال، والسّلامة في الأبدان والأهل والأولاد، فذلك إضاءته لهم؛ لأنّهم إنّما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الإقرار ابتغاء ذلك، ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريّهم، وهم كما وصفهم اللّه جلّ ثناؤه بقوله: {ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه}.
ويعني بقوله: {مشوا فيه} مشوا في ضوء البرق. وإنّما ذلك مثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلّما رأوا في الإيمان ما يعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه، كما يمشي السّائر في ظلمة اللّيل وظلمة الصّيّب الّذي وصفه جلّ ثناؤه، إذا برقت فيها بارقةٌ أبصر طريقه فيها.
{وإذا أظلم} يعني ذهب ضوء البرق عنهم.
ويعني بقوله: {عليهم} على السّائرين في الصّيّب الّذي وصف جلّ ذكره، وذلك للمنافقين مثلٌ.
ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلّما لم يروا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم عند ابتلاء اللّه مؤمني عباده بالضّرّاء وتمحيصه إيّاهم بالشّدائد والبلاء من إخفاقهم في مغزاهم أو إدالة عدوّهم منهم، أو إدبارٍ من دنياهم عنهم؛ أقاموا على نفاقهم وثبتوا على ضلالتهم كما قام السّائر في الصّيّب الّذي وصف جلّ ذكره إذا أظلم وخبت ضوء البرق، فحار في طريقه فلم يعرف منهجه). [جامع البيان: 1/ 378 - 381]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم}.
قال أبو جعفرٍ: وإنّما خصّ جلّ ذكره السّمع والأبصار بأنّه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم للّذي جرى من ذكرها في الآيتين، أعني قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق} وقوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه} فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثمّ عقّب جلّ ثناؤه ذكر ذلك بأنّه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم، وعيدًا من اللّه لهم، كما توعّدهم في الآية الّتي قبلها بقوله: {واللّه محيطٌ بالكافرين} واصفًا بذلك جلّ ذكره نفسه أنّه المقتدر عليهم وعلى جمعهم، لإحلال سخطه بهم، وإنزال نقمته عليهم، ومحذّرهم بذلك سطوته، ومخوّفهم به عقوبته، ليتّقوا بأسه، ويسارعوا إليه بالتّوبة.
- كما حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم} «لما تركوا من الحقّ بعد معرفته».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال: «ثمّ قال، يعني قال اللّه، في أسماعهم يعني أسماع المنافقين وأبصارهم الّتي عاشوا بها في النّاس: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم}».
وإنّما معنى قوله: {لذهب بسمعهم وأبصارهم} لأذهب سمعهم وأبصارهم، ولكنّ العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبت ببصره، وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبت بصره، كما قال جلّ ثناؤه: {آتنا غداءنا} ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدائنا.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قيل: {لذهب بسمعهم} فوحّد، وقال: {وأبصارهم} فجمع؟ وقد علمت أنّ الخبر في السّمع خبرٌ عن سمع جماعةٍ، كما الخبر في الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعةٍ؟
قيل: قد اختلف أهل العربيّة في ذلك، فقال بعض نحويّي الكوفة: وحّد السّمع لأنّه عنى به المصدر وقصد به الخرق، وجمع الأبصار لأنّه عنى بها الأعين.
وكان بعض نحويّي البصرة يزعم أنّ السّمع وإن كان في لفظٍ واحدٍ فإنّه بمعنى جماعةٍ، ويحتجّ في ذلك بقول اللّه: {لا يرتدّ إليهم طرفهم} يراد لا ترتدّ إليهم أطرافهم، وبقوله: {ويولّون الدّبر} يراد به أدبارهم.
قال أبو جعفرٍ: وإنّما جاز ذلك عندي لأنّ في الكلام ما يدلّ على أنّه مرادٌ به الجمع، فكان فيه دلالةٌ على المراد منه، وأداء معنى الواحد من السّمع عن معنى جماعةٍ مغنيًا عن جماعةٍ، ولو فعل بالبصر نظير الّذي فعل بالسّمع، أو فعل بالسّمع نظير الّذي فعل بالأبصار من الجمع والتّوحيد، كان فصيحًا صحيحًا لما ذكرنا من العلّة؛ كما قال الشّاعر:


كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ....... فإنّ زماننا زمنٌ خميص


فوحّد البطن، والمراد منه البطون لما وصفنا من العلّة). [جامع البيان: 1/ 381 - 383]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}.
قال أبو جعفرٍ: وإنّما وصف اللّه نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كلّ شيءٍ في هذا الموضع، لأنّه حذّر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنّه بهم محيطٌ وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قديرٌ، ثمّ قال: فاتّقوني أيّها المنافقون واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الإيمان بي لا أحلّ بكم نقمتي فإنّي على ذلك وعلى غيره من الأشياء قادرٌ. ومعنى قديرٍ: قادرٌ، كما معنى عليمٌ: عالمٌ، على ما وصفت فيما تقدّم من نظائره من زيادة معنى فعيلٍ على فاعلٍ في المدح والذّمّ). [جامع البيان: 1/ 384]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (20)}
قوله: {يكاد البرق}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: «يكاد محكم القرآن يدلّ على عورات المنافقين».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 57]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {يخطف أبصارهم}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} «يلتمع أبصارهم ولمّا يخطف».
- حدّثنا أبي، ثنا محمّد بن أبي عمر العدنيّ، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ قال: «لم أسمع بأحدٍ ذهب البرق ببصره لقول اللّه: {يكاد البرق يخطف أبصارهم}».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} «أي لشدّة ضوء الحقّ».
الوجه الثّالث:
- أخبرنا عليّ بن المبارك فيما كتب إليّ ثنا زيد بن المبارك، ثنا ابن ثورٍ عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} قال: «هذا مثلٌ آخر، كما إذا كانوا في البرّ في المطر فرقوا من الصّواعق. قال: هذا قول اللّه لمن شكّ من الكفّار فيما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 57 - 58]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: «كلّما أصاب المنافقون من الإسلام خيرًا اطمأنّوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر. ثمّ إذا أظلم عليهم قاموا، كقوله:{ ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به} إلى آخر الآية.».
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة: عن محمّد بن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد، بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ {كلّما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا} «أي يعرفون الحقّ ويتكلّمون به فهم من قولهم به على استقامةٍ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ العسقلانيّ بها، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قوله: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} «فمثله كمثل قومٍ ساروا في ليلةٍ مظلمةٍ لها مطرٌ ورعدٌ وبرقٌ على جادّةٍ كلّما أبرقت أبصروا الجادّة فمضوا فيها، فإذا ذهب البرق تحيّروا، فكذلك المنافق كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاء له، وكلّما شكّ تحيّر ووقع في الظّلمة»، قال أبو محمّدٍ: وروي عن الحسن، وقتادة، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 58 - 59]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وإذا أظلم عليهم قاموا}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أبو غسّان، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد، بن أبي محمّدٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وإذا أظلم عليهم قاموا} «أي متحيّرين».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 59]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ عن الرّبيع، عن أبي العالية. {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم} قال: «ذكر أسماعهم وأبصارهم الّتي عاثوا بها في النّاس.».
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة بن الفضل، عن محمد ابن إسحاق قال: فيما حدّثنا محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم} «أي لما تركوا من الحقّ بعد معرفته، إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 59]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
- حدّثنا محمّد بن العبّاس، ثنا محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، قال محمّد بن إسحاق: {إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} « أي إنّ اللّه على كلّ ما أراد بعباده من نقمةٍ أو عفوٍ قديرٌ.».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 59]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {يكاد البرق}
قال: «يلتمع {يخطف أبصارهم} ولما يخطف، وكل شيء في القرآن يكاد وأكاد وكادوا فإنه لا يكون أبدا».
وأخرج وكيع عن المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسين يقرؤها {يكاد البرق يخطف أبصارهم} ). [الدر المنثور: 1/ 176 - 177]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 02:41 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً...} فإنما ضرب المثل - والله أعلم - للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مثل للنفاق؛ فقال: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} ولم يقل: "الذين استوقدوا"، وهو كما قال الله {تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} وقوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفسٍ واحدةٍ} فالمعنى - والله أعلم -: إلا كبعث نفس واحدة.
ولو كان التشبيه للرجال؛ لكان مجموعاً كما قال: {كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ} أراد: القيم والأجسام، وقال: {كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ} فكان مجموعاً إذا أراد تشبيه أعيان الرجال؛ فأجر الكلام على هذا، وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّداً في شعر فأجزه، وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعاً في شعر فهو أيضاً يراد به الفعل فأجزه؛ كقولك: ما فعلك إلا كفعل الحمير، وما أفعالكم إلا كفعل الذّئب؛ فابن على هذا، ثم تلقي الفعل فتقول: ما فعلك إلا كالحمير وكالذّئب.
وإنما قال الله عزّ وجلّ: {ذهب اللّه بنورهم}؛ لأن المعنى ذهب إلى المنافقين، فجمع لذلك، ولو وحّد لكان صواباً كقوله: {إنّ شجرة الزّقّوم * طعام الأثيم * كالمهل تغلي في البطون} و"يغلي"؛ فمن أنّث: ذهب إلى الشجرة، ومن ذكّر: ذهب إلى المهل، ومثله قوله عز وجل: {أمنةً نعاساً تغشى طائفةً منكم} للأمنة، "ويغشى": للنعاس). [معاني القرآن: 1/ 15-16]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} ثم انقطع النصب، وجاء الاستئناف: {صمّ بكمٌ}،
قال النابغة:

توهّمـت آيـاتٍ لهـا فعرفهـالستّة أعوامٍ وذا العام سابع

ثم استأنف فرفع، فقال:

رمـــادٌ كـكـحـل الـعـيــن لأيــــا أبـيـنــهونؤىٌ كجذم الحوض أثلم خاشع

). [مجاز القرآن: 1/32-33]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}
قوله: {كمثل الّذي استوقد ناراً} فهو في معنى "أوقد"، مثل قوله: "فلم يستجبه" أي: "فلم يجبه"، وقال الشاعر:

وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى فـلــم يستـجـبـه عـنــد ذاك مـجـيـب

أي: "فلم يجبه".
وقال: {وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون} فجعل "الذي" جميعاً، فقال: {وتركهم}؛ لأن "الذي" في معنى الجميع، كما يكون "الإنسان" في معنى "الناس".
وقال: {وتركهم في ظلماتٍ لاّ يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} فرفع على قوله: "هم صمٌّ بكمٌ عميٌ" رفعه على الابتداء، ولو كان على أول الكلام كان النصب فيه حسناً.
وأما {حوله} فانتصب على الظرف، وذلك أن الظرف منصوب، والظرف هو ما يكون فيه الشيء، كما قال الشاعر:

هذا النهار بدا لها من همّهامــا بالـهـا باللـيـل زال زوالـهــا

نصب "النهار" على الظرف، وإن شاء رفعه وأضمر فيه وأما "زوالها"، فإنه كأنه قال: "أزال اللّه الليل زوالها"). [معاني القرآن: 1/ 38-39]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقراءة العامة في {في ظلمات لا يبصرون}، بالتحريك؛ ولا بأس به وسنخبر عن اللغات فيه). [معاني القرآن لقطرب: 242]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و{الّذي استوقد ناراً} أي: أوقدها). [تفسير غريب القرآن: 42]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)}
هذا المثل ضربه اللّه - جلّ وعزّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الإسلام، وحقنهم دماءهم بما أظهروا، فمثل ما تجملوا به من الإسلام كمثل النار التي يستضيء بها المستوقد، وقوله: {ذهب اللّه بنورهم} معناه -واللّه أعلم-: إطلاع اللّه المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهر الله عزّ وجلّ من كفرهم.
ويجوز أن يكون: ذهب الله بنورهم في الآخرة، أي: عذّبهم فلا نور لهم؛ لأن اللّه جلّ وعزّ قد جعل للمؤمنين نوراً في الآخرة، وسلب الكافرين ذلك النور، والدليل على ذلك قوله: {انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً}). [معاني القرآن: 1/ 93]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال ابن كيسان: {استوقد} بمعنى: أوقد، ويجوز أن يكون استوقدها من غيره، أي: طلبها من غيره.
قال الأخفش: هو سعيد الذي في معنى جمع.
قال ابن كيسان: لو كان كذلك؛ لأعاد عليه ضمير الجمع كما قال الشاعر:

وإن الذي حانت يفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يـا أم خالـد

قال : ولكنه واحد شبه به جماعة؛ لأن القصد كان إلى الفعل ولم يكن إلى تشبيه العين بالعين، فصار مثل قوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} فالمعنى إلا كبعث نفس واحدة، وكإيقاد الذي استوقد ناراً). [معاني القرآن: 1/ 101-102]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم}
ويجوز أن يكون "ما" بمعنى "الذي"، وأن تكون زائدة، وأن تكون نكرة، والمعنى: أضاءت له فأبصر الذي حوله). [معاني القرآن: 1/ 102-103]


تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون...} رفعن، وأسماؤهن في أوّل الكلام منصوبة؛ لأن الكلام تمّ وانقضت به آية، ثمّ استؤنفت {صمٌّ بكمٌ عميٌ} في آية أخرى، فكان أقوى للاستئناف، ولو تمّ الكلام ولم تكن آية لجاز -أيضاً- الاستئناف؛ قال الله تبارك تعالى: {جزاءً من ربّك عطاءً حساباً * ربّ السّموات والأرض وما بينهما الرّحمن}، "الرحمن" يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية.
فأما ما جاء في رءوس الآيات مستأنفاً فكثير؛ من ذلك قول الله: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} إلى قوله: {وذلك هو الفوز العظيم} ثم قال -جل وجهه- : {التّائبون العابدون الحامدون} بالرفع في قراءتنا، وفي حرف ابن مسعود: (التائبين العابدين الحامدين)، وقال: {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربّكم} يقرأ بالرفع والنصب على ما فسّرت لك، وفي قراءة عبد الله: (صمّاً بكماً عمياً) بالنصب، ونصبه على جهتين:
إن شئت على معنى: تركهم صمّاً بكماً عمياً، وإن شئت: اكتفيت بأن توقع الترك عليهم في الظلمات، ثم تستأنف (صمّاً) بالذمّ لهم، والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح؛ لأن فيه معنى الأسماء مثل معنى قولهم: ويلاً له، وثواباً له، وبعداً، وسقياً، ورعياً). [معاني القرآن: 1/ 16]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {صم بكم} فالأبكم: الذي لا يبين كلامه، كالأخرس، وقالوا في الفعل: بكم الرجل بكامة، وبكم بكما.
قال الشاعر:
فليت لساني كان نصفين منهما = بكيم ونصف عند مجرى الكواكب). [معاني القرآن لقطرب: 287]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} رفع على خبر الابتداء، كأنه قيل: هؤلاء الذين قصتهم هذه القصة {صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون (18)} ويجوز في الكلام (صماً بكماً عمياً) على: وتركهم صمّاً بكماً عمياً.
ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تروى، والرفع أيضاً أقوى في المعنى وأجزل في اللفظ.
فمعنى (بكم): أنه بمنزلة من ولد أخرس، ويقال: الأبكم: المسلوب الفؤاد.
و"صم" و"بكم" واحدهم: أصم وأبكم، ويجوز أن يقع جمع "أصم": صمّان، وكذلك "أفعل" كله يجوز فيه "فعلان"، نحو: "أَسْود" و"سُودَان"، ومعنى "سود" و"سودان" واحد، كذلك "صمّ" و"صمّان"، و"عُرج" و"عرجان"، و"بكم" و"بكمان"). [معاني القرآن: 1/94]

تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {أو كصيّبٍ مّن السّماء...} مردود على قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً}.
{أو كصيّبٍ}: أو كمثل صيّب، فاستغنى بذكر {الّذي استوقد ناراً} فطرح ما كان ينبغي أن يكون مع "الصيّب" من الأسماء، ودلّ عليه المعنى؛ لأن المثل ضرب للنفاق، فقال: {فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌٌ} فشبّه "الظلمات" بكفرهم، و"البرق إذا أضاء لهم فمشوا فيه" بإيمانهم، والرعد -ما أتى في القرآن- من التخويف، وقد قيل فيه وجه آخر؛
قيل: إن الرعد إنما ذكر مثلاً لخوفهم من القتال إذا دعوا إليه، ألا ترى أنه قد قال في موضع آخر: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم} أي: يظنّون أنهم أبداً مغلوبون.
ثم قال: {يجعلون أصابعهم في آذانهم مّن الصّواعق حذر الموت} فنصب "حذر" على غير وقوعٍ من الفعل عليه؛ لم ترد (يجعلونها حذراً)، إنما هو كقولك: أعطيتك خوفاً وفرقاً، فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف؛ فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز: {يدعوننا رغباً ورهباً} وكقوله: {ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً}، والمعرفة والنكرة تفسّران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح "من"، وهو مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم). [معاني القرآن: 1/ 17]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({كصيّبٍ من السّماء} معناه: كمطر، وتقديره تقدير سَيِّد من صاب يصوب، معناه: ينزل المطر، قال علقمة بن عبدة:

كـأنـهـم صـابــت علـيـهـم سـحـابــة صــواعــقــهـــا لــطــيــرهـــن دبــــيـــــب
فـــلا تـعـدلـي بـيـنــي وبــيــن مـغـمّــرٍ سقتك روايا المزن حيث تصوب

وقال رجل من عبد القيس -جاهليّ- يمدح بعض الملوك:

ولست لانسيّ ولكـن لمـلأكٍ تنزّل من جوّ السماء يصوب

). [مجاز القرآن: 1/ 33]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {أو كصيب من السماء} فهو فيعل، من صاب يصوب، مثل: سيد وميت، وجيد؛ وإنما يريد انصياب المطر.
وقال أبو ذؤيب:
[معاني القرآن لقطرب: 287]
بقرار قيعان سقاها وابل = واه فأثجم برهة لا يقلع
وقال بشر بن أبي خازن الأسدي:
ترجي أن يؤوب لها بنهب = ولم تشعر بأن السهم صابا
وقال عبيد:
حتى سقاه صيب رعده = داني التوالي مسبل وابل
[زاد محمد بن صالح]:
وقال عبده بن الطبيب:
ما كنت أول ضب صاب تلعته = غيث فأمرع واستحلت له الدار
وقوله عز وجل {فيه ظلمات}، و{خطوات}، و{في الغرفات}، و{ما ينفق قربات}، و{في غمرات} و{حسرات عليهم}، فإذا كان الأول مفتوحًا أتبعوه الثاني، وذلك: غمرة وغمرات، وحسرة وحسرات، وتمرة وتمرات؛ وكقول الله عز وجل {من همزات الشياطين}؛ وقال بعض العرب: أعوذ بالله من قطرات الشر، وقال يونس: الطلحات والبكرات والعبلات - أسماء للرجال - بتحريك عين الفعل.
وبعض العرب يسكن هذا فيقول: تمرات وضربات وعبرات؛ وقال بعض قيس: ثلاث ظبيات.
[معاني القرآن لقطرب: 288]
قال لبيد:
رحلن لشقة ونصبن نصبا = لوغرات الهواجر والسموم
وقال ذو الرمة:
أبت ذكر عودن أحشاء قلبه = خفوقًا ورفضات الهوى في المفاصل
فإذا كان أوله مضمومًا مثل: خطوات وظلمات وغرفات، أتبعت الثاني الأول، فقلت: ظلمات وخطوات وغرفات وبسرات وركبات؛ وقد أسكنوا ذلك فقالوا: ظلمات وغرفات؛ فمن قرأها فلا بأس بها.
قال أبو علي قطرب: وسمعت العرب تفتح هذا، فقالوا: الدهمات، في جمع الدهم، والهاء ساكنة؛ وقالوا: العيرات لجمع العير؛ وقال يونس: ركبات، وقالوا: كلية وكليات؛ فلم يضموا للياء التي فيها.
وقال النابغة:
ومقعد أيسار على ركباتهم = ومربط أفراس وناد وملعب
وقراءة أبي جعفر {من وراء الحجرات} على هذه اللغة.
[معاني القرآن لقطرب: 289]
ومثله قول بشر:
حتى سقيتهم بكأس مرة = مكروهة حسواتها كالعلقم
على هذه القراءات.
فإذا كان أوله مكسورًا مثل: سدرة وخرقة وفلقة؛ فإن بني أسد تقول: سدرات، وخرقات؛ فيتبعون الكسرة؛ وقال بعض العرب: سدرات، بفتح الدال؛ قال أبو علي: وحكى ذلك لنا يونس وغيره؛ وخرقات، وقال بعضهم: سدرات؛ فأسكن كما أسكن تمرات؛ وهذا أولى أن يسكن لثقل الكسرة.
قال يونس في جروة: جروات؛ فكسر مع الواو؛ وذلك قبيح شاذ.
وقال الأعشى:
يكر عليهم بالسحيل ابن جحدر = وما مطر فيهم بذي عذرات
فأتبع الكسرة الكسرة.
وإذا كان الثاني ياء أو واوا؛ كان ساكنًا عند العرب، إلا بعض هذيل؛ وذلك قولك: جوزة وجوزات، و{فيهن خيرات حسان} و{روضات الجنات} و{ثلاث عورات}؛ وبعض هذيل يقول: جوزات، وبيضات، وروضات؛ وزعم يونس أن توبة وتوبات بالتثقيل يقولها ناس كثير.
قال الشاعر:
[معاني القرآن لقطرب: 290]
أبو بيضات رائح متأوب = رفيق بمسح المنكبين سبوح
وأما الصفة نحو: عبلة، وضخمة، وفخمة، فالإسكان فيها أكثر، والتحرك أيضًا لغتان، وذلك: عبلات وعبلات، وفخمات وفخمات.
وقال يونس: امرأة عدلة وعدلات فحول؛ وقال قوم: ربعات وربعات؛ وقال يونس: شاة لجبة ولجبات، فحرك الجمع، وقال: لا أعرف لجبة بالتحرك في الواحد.
وقال ذو الرمة؛ فأسكن:
نواعم رخصات كأن حديثها = جنى الشهد في ماء الصفا متشمل
وقوله عز وجل {ورعد وبرق} قالوا في الفعل: رعدت السماء، وبرقت وأرعدت وأبرقت أيضًا؛ وأرعدنا نحن وأبرقنا نحن؛ إذا أصابنا ذلك؛ كقولك: أحررنا وأبردنا، أصابنا الحر والبرد.
وقوله {من الصواعق حذر الموت} وقالوا في الفعل: صعق الرجل، وصعق يصعق؛ وقالوا: صقع الرجل فقلبوا، وعلى هذا بيت أبي النجم:
يحكون بالمصقولة القواطع = تشق البرق عن الصواعق
[وزاد محمد بن صالح في روايته]:
وتميم وبعض ربيعة يقولون: صواقع، والقوم يصقعون.
وقال جرير بن الخطفي:
ترى الشيب في رأس الفرزدق قد علا = لهازم قرد رنحته الصواقع
[معاني القرآن لقطرب: 291]
تعرض حتى أثبتت بين أنفه = وبين مخط الحاجبين القوارع
وقال ابن عباس {فصعق من في السماوات} أي مات؛ وقال: كل صاعقة فهي عذاب.
وأما قوله {أصابعهم في آذانهم} الواحد: إصبع، وأصبع، وأصبع، وإصبع، وأصبع، وأصبع). [معاني القرآن لقطرب: 292]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({أو كصيب من السماء}: أي كمطر من السماء، من: صاب يصوب).
[غريب القرآن وتفسيره: 65]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: (والصيب: المطر، «فيعل» من «صاب يصوب»: إذا نزل من السماء).
[تفسير غريب القرآن: 42]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أو كصيّب من السّماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت واللّه محيط بالكافرين (19)}
الصيّب في اللغة: المطر، وكل نازل من علو إلى أسفل، فقد صاب يصوب، قال الشاعر:

كأنهم صابت عليهم سحابة صـواعـقـهـا لـطـيـرهــن دبــيـــب

وهذا أيضاً مثل يضربه اللّه عزّ وجلّ للمنافقين؛ كان المعنى: أو كأصحاب صيب، فجعل "دين الإسلام" لهم مثلاًَ فيما ينالهم من الشدائد والخوف، وجعل "ما يستضيئون به من البرق" مثلاً لما يستضيئون به من الإسلام، و"ما ينالهم من الخوف في البرق" بمنزلة ما يخافونه من القتل، الدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {يحسبون كل صيحة عليهم}). [معاني القرآن: 1/ 94]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والصيب: المطر). [ياقوتة الصراط: 171]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({كصيب}: كمطر). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 25]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الصَّيِّبُ}: المطر). [العمدة في غريب القرآن: 71]

تفسير قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم...}، والقّراء تقرأ: (يخطّف أبصارهم) بنصب الياء والخاء والتشديد، وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء، فيقول: "يَخَطِّفُ"، وبعضهم يكسر الياء والخاء ويشدّد، فيقول: "يِخِطِّفُ"، وبعضٌ من قرّاء أهل المدينة يسكّن الخاء والطاء، فيجمع بين ساكنين، فيقول: "يَخْطِّف".
فأما من قال: "يَخَطِّف": فإنه نقل إعراب التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة، وأما من كسر الخاء: فإنه طلب كسرة الألف التي في "اختطف" و"الاختطاف"؛ وقد قال فيه بعض النحويين: إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأسكنت التاء بعدها فالتقى ساكنان فخفضت الأوّل؛ كما قال: اضربِ الرجل؛ فخفضت الباء لاستقبالها اللام، وليس الذي قالوا بشيء؛ لأن ذلك لو كان كما قالوا: لقالت العرب في يَمُدّ: "يَمِدّ"؛ لأن الميم كانت ساكنة وسكنت الأولى من الدالين، ولقالوا في يَعَضّ: "يَعِض".
وأما من خفض الياء والخاء: فإنه -أيضاً- من طلبه كسرة الألف؛ لأنها كانت في ابتداء الحرف مكسورة.
وأما من جمع بين الساكنين: فإنه كمن بنى على التبيان؛ إلا أنه إدغام خفي، وفي قوله: {أم مّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى} وفي قوله: {تأخذهم وهم يخصّمون} مثل ذلك التفسير، إلا أن حمزة الزيات قد قرأ: (تأخذهم وهم يخْصمون) بتسكين الخاء، فهذا معنى سوى ذلك .
وقوله: {كلّما أضاء لهم مّشوا فيه...} فيه لغتان: يقال: "أضاء القمر"، و"ضاء القمر"؛ فمن قال: "ضاء القمر" قال: "يضوء ضوءاً"،
والضّوء فيه لغتان: ضم الضاد وفتحها.
{وإذا أظلم عليهم} فيه لغتان: "أظلم الليل" و"ظلم".
وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب...} المعنى -والله أعلم-: ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره؛ بالألف إذا أسقطوا الباء، فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من "أذهبت"، وقد قرأ بعض القرّاء: (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) بضمّ الياء والباء في الكلام، وقرأ بعضهم: {وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدّهن} فترى - والله أعلم - أن الذين ضمّوا على معنى الألف شبّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: "خذ بالخطام"، و"خذ الخطام"، و"تعلّقت بزيدٍ"، و"تعلّقت زيداً" فهو كثير في الكلام والشعر، ولست أستحبّ ذلك لقلّته، ومنه قوله: {آتنا غداءنا} المعنى -والله أعلم-: ايتنا بغدائنا؛ فلما أسقطت الباء زادوا ألفاً في "فعلت"، ومنه قوله عزّ وجلّ: {قال آتوني أفرغ عليه قطراً} المعنى -فيما جاء-: ايتونى بقطر أفرغ عليه، ومنه قوله: {فأجاءها المخاض إلى جذع النّخلة} المعنى -والله أعلم-: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة). [معاني القرآن: 1/ 18-19]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مّشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إن اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
أما {يكاد البرق يخطف أبصارهم} فمنهم من قرأ (يَخْطِفُ) من "خَطَفَ"، وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف، وقد رواها يونس (يَخِطِّفُ) بكسر الخاء لاجتماع الساكنين ومنهم من قرأ (يَخْطَفُ) على "خَطِفَ يَخْطِف"، وهي الجيدة، وهما لغتان، وقال بعضهم (يَخِطِّفُ) وهو قول يونس من "يختطف" فأدغم التاء في الطاء؛ لأن مخرجها قريب من مخرج الطاء، وقال بعضهم: (يَخَطِّفُ) فحول الفتحة على الذي كان قبلها، والذي كسر: كسر لاجتماع الساكنين فقال: (يَخِطِّف)، ومنهم من قال: (يِخِطِّف) كسر الخاء لاجتماع الساكنين، ثم كسر الياء، أتبع الكسرة الكسرة، وهي قبلها، كما أتبعها في كلام العرب كثيراً، يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة يقولون "قِتِلُوا" و"فِتِحُوا" يريدون: "اقتلوا"و "افتحوا"، قال أبو النجم :

.......... تدافع الشيب ولم تقتّل

وسمعناه من العرب مكسوراً كله، فهذا مثل (يِخِطِّفُ) إذا كسرت ياؤها؛ لكسرة خائها، وهي بعدها، فأتبع الآخر الأول.
وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم} فمنهم من يدغم ويسكن الباء الأولى؛ لأنهما حرفان مثلان. ومنهم من يحرك، فيقول (لذهب بِسَمْعِهِم) وجعل "السمع" في لفظ واحد وهو جماعة؛ لأن "السمع" قد يكون جماعة، وقد يكون واحداً، ومثله قوله: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم}، ومثله قوله: {لا يرتدّ إليهم طرفهم}، وقوله: {فإن طبن لكم عن شيءٍ مّنه نفساً}، ومثله: {ويولّون الدّبر}). [معاني القرآن: 1/ 40]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة الحسن "يكاد البرق يخطف".
وأبو عمرو {يخطف} على خطف يخطف، وفيها لغات نذكرها إن شاء الله). [معاني القرآن لقطرب: 242]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {يكاد البرق} والمصدر: كيدا وكيدودة، وقالوا: لا مهمة، ولا مكيدة.
وأما قوله {يكاد البرق يخطف أبصارهم} قال الراعي على قراءة أبي عمرو التي ذكرناها:
وكم عدو خطفناه على عجل = من بين كفه أعداء وأحراس.
وقالوا في اللغة سوى ما ذكرنا في القراءة: خطف، يخطف، خطفًا، وهو يخطف، مثل قراءة الحسن؛ كأنه قال: يختطف، ثم أدغم التاء في الطاء.
وقال بعضهم: يخطف فكسر الياء معها؛ كأنه جعلها معتلة لاعتلال ما بعدها؛ كما قالوا: ييجل، وييجع فكسروا؛ وقال بعضهم: يخطف ففتح الخاء وكسر الطاء؛ كأنه رمى بحركة التاء التي أدغمها في الطاء، على الخاء؛ وقالوا في اختطف: خطف؛ فرمى بألف الوصل، لما تحركت الخاء بحركة التاء المدغمة في الطاء؛ وقال بعضهم أيضًا: خطف فكسر الخاء لسكون الطاء، ولم يلق عليهم حركة.
وكذلك {أمن لا يهدي} و{يهدي} يريد: يهتدي، على مثل ما ذكرنا.
[معاني القرآن لقطرب: 292]
وكان أبو عمرو يقول: احجب عني.
[وقال محمد بن صالح]:
يريد: احتجب عني؛ فيقطع الألف، ويكسر الحاء، وينصب الجيم.
ويقول أيضًا: إخطف بكسر الألف والخاء؛ يريد: اختطف؛ وهذا محجم برفع الميم والحاء، وبكسر الجيم؛ يريد: محتجم.
وقال أبو النجم:
تدافع الشيب ولم تقتل = في لجة أمسك فلانا عن فل
وقال آخر:
لا حطب القوم ولا القوم سقى
يريد: احتطب.
وقوله {كلما أضاء لهم مشوا فيه} فقالوا: أضاءت النار، وضاءت، بغير ألف، ضوءًا، وضوئى، مثل فعلى، وضياءًا، وضواءًا). [معاني القرآن لقطرب: 293]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يخطف أبصارهم}: يذهب بها، وأصل الاختطاف: الاستلاب، يقال: اختطف الذئب الشاة من الغنم، ومنه يقال: لما يخرج به الدّلو "خطّاف"؛ لأنه يختطف ما علق به، قال النابعة:

خطاطيف حجن في حبال متينة تـــمـــدّ بـــهـــا أيــــــد إلـــيـــك نــــــوازع

والحجن: المتعقّفة.
وهذا مثل ضربه اللّه للمنافقين، وقد ذكرته في كتاب «المشكل» وبينته). [تفسير غريب القرآن: 42-43]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيء قدير (20)}
{يخطف أبصارهم} فيه لغتان: يقال: خَطِفَ يخطَفُ، وخطَف يخْطِفُ، واللغة العالية التي عليها القراءة: خَطِفَ يخطَفُ، وهذا الحرف يروى عن العرب والقراء.
وفيه لغات تروى عن الحسن: (يَخَطِّف أبصارهم) بفتح الياء والخاء وكسر الطاء، ويروى أيضاً (يِخِطِّف) بكسر الياء والخاء والطاء، ويروى أيضاً لغة أخرى ليست تسوغ في اللفظ؛ لصعوبتها، وهي إسكان الخاء والطاء، وقد روى سيبويه مثل هذا، رده عليه أصحابه، وزعموا أنه غير سائغ في اللفظ، وأن الشعر لا يجمع في حشوه بين ساكنين، قال:

.......... ومسحه مرّ عقاب كاسر

يبدل من الهاء حاء، ويدغم الحاء الأولى في الثانية، والسين ساكنة؛ فيجمع بين ساكنين، فأما بعد (يَخْطَف) فالجيّد: "يَخَطِّف" و"يخطِّف"، فمن قال "يَخَطِّف" فالأصل (يختطف) فأدغمت التاء في الطاء وألقيت على الحاء فتحة التاء، ومن قال: (يخِطِّف) كسر الخاء؛ لسكونها وسكون الطاء، وزعم بعض النحويين أنّ الكسر لالتقاء الساكنين ههنا خطأ؛ وأنه يلزم من قال هذا أن يقول في يَعَضُّ: "يَعِضُّ" وفي يَمُدُّ: "يَمِدُّ". وهذا خلط غير لازم، لأنه لو كسرها ههنا؛ لالتبس ما أصله "يفعَل" و"يفعُل" بما أصله "يَفْعِل"، ويخطف ليس أصله غير هذا، ولا يكون مرة على (يفتَعِل) ومرة على (يفتَعَلُ) فكسر لالتقاء السّاكنين في موضع غير ملبس، وامتنع في الملبس من الكسر لالتقاء السّاكنين، وألزم حركة الحرف الذي أدغمه؛ لتدل الحركة عليه. ومعنى خطفت الشيء في اللغة واختطفته: أخذته بسرعة.
وقوله عزّ وجلّ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقال: "ضاء الشيء يضوء"، و"أضاء يضيء"، وهذه اللغة الثانية هي المختارة، ويقال: "أظلم" و"ظلم"، و"أظلم" المختار.
وقوله عزّ وجلّ: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم} وقد فسرنا توحيد السمع، ويقال: "أذهبته" و"ذهبت به". ويروى أذهبت به، وهو لغة قليلة.
فأما ذكر "أو" في قوله: {مثلهم كمثل الّذي} إلى {أو كصيب}، فـ"أو" دخلت ههنا لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة "واو الإباحة" فتقول: جالس القراء أو الفقهاء أو أصحاب الحديث أو أصحاب النحو، فالمعنى: أن التمثيل مباح لكم في المنافقين؛ إن مثلتموهم بالذي استوقد ناراً فذاك مثلهم، وإن مثلتموهم بأصحاب الصيب فهذا مثلهم، أو مثلتموهم بهما جميعاً فهما مثلاهم -كما أنك إذا قلت: جالس الحسن أو ابن سيرين، فكلاهما أهل أن يجالس- إن جالست الحسن فأنت مطيع، وإن جمعتهما فأنت مطيع.
وقوله عزّ وجلّ: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت} ويروى أيضاً: (حذار الموت)، والذي عليه قرّاؤنا: {حذر الموت}، وإنما نصت: {حذر الموت}؛ لأنه مفعول له، والمعنى: يفعلون ذلك لحذر الموت، وليس نصبه لسقوط اللام، وإنما نصبه أنه في تأويل المصدر، كأنه قال: "يحذرون حذراً"؛ لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم من الصواعق يدل على حذرهم الموت، وقال الشاعر:

وأغـفـر عــوراء الكـريـم ادّخــاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

والمعنى: لادخاره، وقوله: "وأغفر عوراء الكريم" معناه: وأدخر الكريم). [معاني القرآن: 1/ 95-96]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَخْطَفُ}: يأخذ بسرعة). [العمدة في غريب القرآن: 71]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11 جمادى الأولى 1434هـ/22-03-2013م, 01:54 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) )
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (

ودويـــــــة لا يــهــتـــدى لــفــلاتــهــا بعرفان أعلام ولا ضوء كوكب

...
يقول: لا يهتدى فيها بضوء الكواكب لعمائها. ويقال: هو الضَّوْء والضُّوْء، وقد أضاء الشيء يُضِيء إضَاءَة.
وضَاء يضوء ضَوْءا وضُوْءا). [شرح ديوان امرئ القيس: 372-373]

تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) }
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (

مصالـق بالمقالـة غيـر بكـم إذا أحزى المخيل مقدمينا

(بُكْم) خُرْس). [شرح أشعار الهذليين: 2/543]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقولها: "وصم لا يسمعن"، طريف من كلام العرب، وذلك أنه يقال لكل صحيح البصر ولا يعمل بصره: أعمى، وإنما يراد به أنه قد حل محل من لا يبصر البتة، إذا لم يعمل بصره، وكذلك يقال للسميع الذي لا يقبل: أصم، قال الله جلَّ ذكرهِ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} كما قال جل ثناؤه: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وكذلك: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} وقوله عز وجل: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء} ). [الكامل: 2/ 684]

تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) }
قال محمد بن المستنير البصري (قطرب) (ت: 206هـ): (السماء مؤنثةٌ. وأمّا سماء البيت فزعم يونس أنّه يذكّر ويؤنّث.
وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: السماء سقف البيت.
قال ذو الرّمّة:



(وبـيــتٍ بـمـومـاةٍ خــرقــت ســمــاءه إلى كوكبٍ يزوي له الوجه شاربه)

وقد يجوز أن يكون جمع سماوةٍ. والسماوة: أعلى كلّ شيءٍ، فيصير مذكّراً في لغة من ذكّر جراداً وجرادةً، وتمراً وتمرةً، ويكون قول الله تعالى: {السماء منفطرٌ به} على ذلك. قال رجلٌ من بني سعد:

(زهرٌ تتابع في السماء كأنّماجـلـد السـمـاءة لـؤلـؤٌ مـنـثـور)

فأدخل الهاء فأنّث). [الأزمنة: 1/ 11-12]
قال أبو زكريا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (باب الممدود المفتوح أوله
من ذلك العطاء والثناء والغناء والسماء والبلاء والسواء والبواء). [المقصور والممدود: 86] (م)
قال أبو زكريا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (و«الأصابع» إناث كلهن). [المذكور والمؤنث: 68]
قال أبو عبيدةَ مَعمرُ بنُ المثنَّى التيمي (ت:209هـ): (

فقالا ارجعوا إنـا نخـاف عليكـم يدي كل سام من ربيعة شاغب

سام يعني مرتفع الشأن ومنه سميت السماء لارتفاعها وسموها). [نقائض جرير والفرزدق: 815]
قال أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري (ت:215هـ): (وفيه الصاعقة وجماعها الصواعق وهي نار تسقط من السماء في رعد شديد. ويقال: أصعقت علينا السماء إصعاقا). [كتاب المطر: 11]
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر المنافقين وما في التنزيل من ذكرهم ومن ذكر الكفار.
...
وأما الكافر فيقال - والله أعلم-: إنه إنما سمي كافرا لأنه متكفر بالله كالمتكفر بالسلاح، وهو الذي قد ألبسه السلاح حتى غطى كل شيء منه، وكذلك غطى الكفر قلب الكافر.
ولهذا قيل لليل كافر، لأنه ألبس كل شيء قال لبيد يذكر الشمس:



حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامهـا

الثغور: الخلل.
وقال أيضا:
في ليلة كفر النجوم غمامها
يقال: غطاها السحاب.
وقد يقال في المنافق أيضا: إنما سمي منافقا للنفق، وهو السرب في الأرض، والتفسير الأول أعجب إلي.
ويقال في الكافر: سمي بذلك للجحود، كما يقال: كافرني فلان حقي: إذا جحدني). [غريب الحديث: 2/ 282-286]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (قوله: " ما صائب" يريد قاصدًا، يقال: صاب يصوب إذا قصد، ومن ذلك قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} وقد قالوا: النازل، والقصد أحكم كما قال بشر بن أبي خازم الأسدي:

تـؤمـل أن أؤوب لـهـا بـغـنـمولم تعلم بأن السهم صابا

). [الكامل: 1/ 96]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (

كأنهم صابت عليهم سحابة صـواعـقـهـا لـطـيـرهــن دبــيـــب

قال الضبي: صابت مطرت والصوب المطر. يقول لطير هذه الصواعق خرق من الفزع لا تستطيع أن تنهض فتطير من الفزع. قال الرستمي: قال يعقوب: صابت تدلت وأمطرت والصيب: ما نزل من المطر ويقال صابت السماء تصوب صوبًا وأصاب بمعنى أراد وقصد). [شرح المفضليات: 784]

تفسير قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) }
[لا يوجد]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 06:40 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 06:41 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 06:41 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 06:41 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18)}
«المثل والمثل والمثيل» واحد، معناه الشبه، هكذا نص أهل اللغة والمتماثلان المتشابهان، وقد يكون مثل الشيء جرما مثله، وقد يكون ما تعقل النفس وتتوهمه من الشيء مثلا له، فقوله تعالى: {مثلهم كمثل} معناه: أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد، وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله تعالى: {مثل الجنّة} [الرعد: 35، محمد: 15] وفي تفسير قوله تعالى: {ليس كمثله شيءٌ} [الشورى: 11]؛ لأن ما يتحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء، وذلك المتحصل هو المثل الأعلى الذي في قوله عز وجل: {وللّه المثل الأعلى} [النحل: 6]. وقد جاء في تفسيره أنه لا إله إلا الله ففسر بجهة الوحدانية.
وقوله: مثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، وهي على هذا اسم كما هي في قول الأعشى:

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ....... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

ويجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف، ولا يجوز ذلك في بيت الأعشى لأن المحذوف فاعل تقديره شيء كالطعن، والفاعل لا يجوز حذفه عند جمهور البصريين، ويجوز حذف خبر الابتداء إذا كان الكلام دالا عليه، وجوز الأخفش حذف الفاعل، وأن يكون الكاف في بيت الأعشى حرفا ووحد الذي لأنه لم يقصد تشبيه الجماعة بالجماعة، وإنما المقصد أن كل واحد من المنافقين فعله كفعل المستوقد، والّذي أيضا ليس بإشارة إلى واحد ولا بد، بل إلى هذا الفعل: وقع من واحد أو من جماعة.
قال النحويون: الذي اسم مبهم يقع للواحد والجميع. واستوقد قيل معناه أوقد، فذلك بمنزلة عجب واستعجب بمعنى.
قال أبو علي: وبمنزلة هزىء واستهزأ وسخر واستسخر، وقر واستقر وعلا قرنه واستعلاه، وقد جاء استفعل بمعنى أفعل أجاب واستجاب ومنه قول الشاعر [كعب بن سعد الغنوي]:

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ....... فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وأخلف لأهل واستخلف إذا جلب لهم الماء، ومنه قول الشاعر:

ومستخلفات من بلاد تنوفة ....... لمصفرة الأشداق حمر الحواصل

ومنه قول الآخر:
... ... ... ... ....... سقاها فروّاها من الماء مخلف

ومنه أوقد واستوقد قاله أبو زيد، وقيل استوقد يراد به طلب من غيره أن يوقد له على المشهور من باب استفعل، وذلك يقتضي حاجته إلى النار، فانطفاؤها مع حاجته إليها أنكى له. واختلف في أضاءت فقيل يتعدى لأنه نقل بالهمزة من ضاء، ومنه قول العباس بن عبد المطلب في النبي صلى الله عليه وسلم:

وأنت لما ولدت أشرقت ال ....... أرض وضاءت بنورك الطرق

وعلى هذا، ف (ما) في قوله: ما حوله مفعولة، وقيل (أضاءت) لا تتعدى، لأنه يقال ضاء وأضاء بمعنى، ف (ما) زائدة، وحوله ظرف. واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل (الذي استوقد نارا).
فقالت طائفة: هي فيمن آمن ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار إذا أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها وذهاب النور.
وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: «إن ما يظهر المنافق في الدنيا من الإيمان فيحقن به دمه ويحرز ماله ويناكح ويخالط كالنار التي أضاءت ما حوله، فإذا مات صار إلى العذاب الأليم، فذلك بمنزلة انطفائها وبقائه في الظلمات».
وقالت فرقة: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار وانصرافهم إلى مردتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها.
وقالت فرقة: إن المنافقين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في منزلة بما أظهروه، فلما فضحهم الله وأعلم بنفاقهم سقطت المنزلة، فكان ذلك كله بمنزلة النار وانطفائها.
وقالت فرقة منهم قتادة: نطقهم بــ «لا إله إلا الله» والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها.
قال جمهور النحاة: جواب «لما» ذهب، ويعود الضمير من «نورهم» في هذا القول على (الذي)، ويصح شبه الآية بقول الشاعر: [الأشهب بن رميلة]:

وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم ....... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق على الاختلاف المتقدم.
وقال قوم: جواب «لما» مضمر، وهو طفئت، والضمير في «نورهم» على هذا للمنافقين والإخبار بهذا هو عن حال تكون في الآخرة وهو قوله تعالى: {فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ} [الحديد: 13].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول غير قوي، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو السمال «في ظلمات» بسكون اللام، وقرأ قوم «ظلمات» بفتح اللام.
قال أبو الفتح: في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: اتباع الضم الضم والكسر الكسر أو التخفيف بأن يعدل إلى الفتح في الثاني أو التخفيف بأن يسكن الثاني، وكل ذلك جائز حسن، فأما فعلة بالفتح فلا بد فيه من التثقيل اتباعا فتقول ثمرة وثمرات). [المحرر الوجيز: 1/ 132-136]

تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس، وقيل الأبكم والأخرس واحد، ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك، وإما على إضمار هم.
وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما. «صما، بكما، عميا» بالنصب، ونصبه على الحال من الضمير في مهتدين، وقيل هو نصب على الذم، وفيه ضعف، وأما من جعل الضمير في «نورهم» للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في تركهم.
قال بعض المفسرين قوله تعالى: {فهم لا يرجعون} إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين، وقال غيره: معناه فهم لا يرجعون ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح، لأن الآية لم تعين، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه). [المحرر الوجيز: 1/ 136]

تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت واللّه محيطٌ بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (20)}
{أو} للتخيير، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، وقوله: أو كصيّبٍ معطوف على كمثل الّذي. وقال الطبري: أو بمعنى الواو.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه عجمة، والصيب المطر من صاب يصوب إذا انحط من علو إلى سفل، ومنه قول علقمة بن عبدة:

كأنهم: صابت عليهم سحابة ....... صواعقها لطيرهنّ دبيب

وقول الآخر:

فلست لإنسيّ ولكن لملأك ....... تنّزل من جوّ السماء يصوب

وأصل صيّب صيوب اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعل في سيّد وميّت.
وقال بعض الكوفيين: أصل صيّب صويب على مثال فعيل وكان يلزمه أن لا يعل كما لم يعل طويل، فبهذا يضعف هذا القول.
وقوله تعالى: {ظلماتٌ} بالجمع، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت، وكون الدجن مظلما هول وغم للنفس، بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه، فإنه سارّ جميل، ومنه قول قيس بن الخطيم:

فما روضة من رياض القطا ...... كأنّ المصابيح حوذانها
بأحسن منها ولا مزنة ...... دلوح تكشّف أدجانها

واختلف العلماء في الرعد: فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وغيرهم: هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه، فهي الصّواعق، واسم هذا الملك الرعد، وقيل الرعد ملك، وهذا الصوت تسبيحه، وقيل الرعد اسم الصوت المسموع، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا هو المعلوم في لغة العرب، وقد قال لبيد في جاهليته:

فجعني الرعد والصواعق بال ...... فارس يوم الكريهة النجد

وروي عن ابن عباس أنه قال: «الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت».
وقيل: «الرعد اصطكاك أجرام السحاب». وأكثر العلماء على أن الرعد ملك، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب.
واختلفوا في البرق: فقال علي بن أبي طالب: «هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب».
وقال ابن عباس: «هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب».
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن البرق ملك يتراءى، وقال قوم: «البرق ماء»، وهذا قول ضعيف.
والصاعقة: قال الخليل: «هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحيانا نار، يقال إنها من المخراق الذي بيد الملك، وقيل في قطعة النار إنها ماء يخرج من فم الملك عند غضبه».
وحكى الخليل عن قوم من العرب «الساعقة» بالسين.
وقال النقاش: «يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد».
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من الصواقع» بتقديم القاف. قال أبو عمرو: «وهي لغة تميم».
وقرأ الضحاك بن مزاحم «حذار الموت» بكسر الحاء وبألف. واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق.
فقال جمهور المفسرين: «مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم. والعمى: هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم، وفضح نفاقهم، واشتهار كفرهم، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله صحيح بين.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: «إن رجلين من المنافقين هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله وأيقنا بالهلاك، فقالا: ليتنا أصبحنا فنأتي محمدا ونضع أيدينا في يده، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما، فضرب الله ما نزل بهما مثلا للمنافقين».
وقال أيضا ابن مسعود: «إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن، فضرب الله المثل لهم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه.
وقال قوم: «الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن ووعيده».
و{محيطٌ بالكافرين} معناه: بعقابه وأخذه، يقال أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، ومنه قوله تعالى: {وأحيط بثمره} [الكهف: 42] ففي الكلام حذف مضاف). [المحرر الوجيز: 1/ 136-140]

تفسير قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ويكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخطف الانتزاع بسرعة.
واختلفت القراءة في هذه اللفظة فقرأ جمهور الناس: «يخطف أبصارهم» بفتح الياء والطاء وسكون الخاء، على قولهم في الماضي خطف بكسر الطاء وهي أفصح لغات العرب، وهي القرشية.
وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب: «يخطف» بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء على قول بعض العرب في الماضي «خطف» بفتح الطاء، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك وهم.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وعاصم الجحدري وقتادة: «يخطّف» بفتح الياء وكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء، وهذه أصلها «يختطف» أدغمت التاء في الطاء وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين.
وحكى ابن مجاهد قراءة لم ينسبها إلى أحد «يخطّف» بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة.
قال أبو الفتح: «أصلها يختطف نقلت حركة التاء إلى الخاء وأدغمت التاء في الطاء».
وحكى أبو عمرو الداني عن الحسن أيضا، أنه قرأ «يخطّف» بفتح الياء والخاء والطاء وشدها.
وروي أيضا عن الحسن والأعمش «يخطّف» بكسر الثلاثة وشد الطاء منها. وهذه أيضا أصلها يختطف أدغم وكسرت الخاء للالتقاء وكسرت الياء اتباعا.
وقال عبد الوارث: «رأيتها في مصحف أبي بن كعب «يتخطّف» بالتاء بين الياء والخاء».
وقال الفراء: «قرأ بعض أهل المدينة بفتح الياء وسكون الخاء وشد الطاء مكسورة».
قال أبو الفتح: «إنما هو اختلاس وإخفاء فيلطف عندهم فيرون أنه إدغام، وذلك لا يجوز».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأنه جمع بين ساكنين دون عذر.
وحكى الفراء قراءة عن بعض الناس بضم الياء وفتح الخاء وشد الطاء مكسورة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنه تشديد مبالغة لا تشديد تعدية.
ومعنى: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل البرق في المثل الزجر والوعيد قال يكاد ذلك يصيبهم.
وكلّما ظرف، والعامل فيه مشوا وهو أيضا جواب كلّما، وأضاء صلة ما، ومن جعل أضاء يتعدى قدر له مفعولا، ومن جعله بمنزلة ضاء استغنى عن ذلك.
وقرأ ابن أبي عبلة: «أضا لهم» بغير همز، وهي لغة.
وفي مصحف أبي بن كعب: «مروا فيه».
وفي قراءة ابن مسعود «مضوا فيه».
وقرأ الضحاك: «وإذا أظلم» بضم الهمزة وكسر اللام، وقاموا معناه ثبتوا، لأنهم كانوا قياما، ومنه قول الأعرابي:
«وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره»
يريد أثبت الدهر.
ومعنى الآية فيما روي عن ابن عباس وغيره: كلما سمع المنافقون القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم.
وروي عن ابن مسعود أن معنى الآية: كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت عليهم النعم قالوا دين محمد دين مبارك. وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوه وثبتوا في نفاقهم.
وقال قوم: معنى الآية: كلما خفي عليكم نفاقهم وظهر لكم منهم الإيمان مشوا فيه، فإذا افتضحوا عندكم قاموا، ووحد السمع لأنه مصدر يقع للواحد والجمع.
وحكى النقاش أن من العلماء من قرأ بأسماعهم.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: «ولو شاء الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم» وخص الأسماع والأبصار لتقدم ذكرها في الآية. ويشبه هذا المعنى في حال المنافقين أن الله لو شاء لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد أو لفضحهم عند المؤمنين وسلط المؤمنين عليهم، وبكل مذهب من هذين قال قوم.
وقوله تعالى: {على كلّ شيءٍ} لفظه العموم ومعناه عند المتكلمين على كل شيء يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه و{قديرٌ} بمعنى قادر، وفيه مبالغة، وخص هنا صفته التي هي القدرة بالذكر لأنه قد تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك). [المحرر الوجيز: 1/ 140-142]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 06:41 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 06:41 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18) }
[يقال: مثلٌ ومثلٌ ومثيلٌ -أيضًا-والجمع أمثالٌ، قال اللّه تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43].
وتقدير هذا المثل: أنّ اللّه سبحانه، شبّههم في اشترائهم الضّلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد التّبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلمّا أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنّس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلامٍ شديدٍ، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصمّ لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضّلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرّشد. وفي هذا المثل دلالةٌ على أنّهم آمنوا ثمّ كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، واللّه أعلم.
وقد حكى هذا الّذي قلناه فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره عن السّدّيّ ثمّ قال: والتّشبيه هاهنا في غاية الصّحّة؛ لأنّهم بإيمانهم اكتسبوا أوّلًا نورًا ثمّ بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النّور فوقعوا في حيرةٍ عظيمةٍ فإنّه لا حيرة أعظم من حيرة الدّين.
وزعم ابن جريرٍ أنّ المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقتٍ من الأوقات، واحتجّ بقوله تعالى: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8].
والصّواب: أنّ هذا إخبارٌ عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنّه كان حصل لهم إيمانٌ قبل ذلك، ثمّ سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جريرٍ، رحمه اللّه، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3]؛ فلهذا وجّه [ابن جريرٍ] هذا المثل بأنّهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدّنيا، ثمّ أعقبهم ظلماتٌ يوم القيامة.
قال: وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} [الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الّذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدةٍ} [لقمان: 28] وقال تعالى: {مثل الّذين حمّلوا التّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا} [الجمعة: 5]، وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصّتهم كقصّة الّذي استوقد نارًا. وقال بعضهم: المستوقد واحدٌ لجماعةٍ معه. وقال آخرون: الّذي هاهنا بمعنى الّذين كما قال الشّاعر:

وإنّ الّذي حانت بفلجٍ دماؤهم ....... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون * صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النّظام، وقوله تعالى: {ذهب اللّه بنورهم} أي: ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النّور، وأبقى لهم ما يضرّهم، وهو الإحراق والدّخان {وتركهم في ظلماتٍ} وهو ما هم فيه من الشّكّ والكفر والنّفاق، {لا يبصرون} لا يهتدون إلى سبل خيرٍ ولا يعرفونها، وهم مع ذلك {صمٌّ} لا يسمعون خيرًا {بكمٌ} لا يتكلّمون بما ينفعهم {عميٌ} في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور} [الحجّ: 46] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية الّتي باعوها بالضّلالة.
ذكر أقوال المفسّرين من السّلف بنحو ما ذكرناه:
قال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله} زعم أنّ ناسًا دخلوا في الإسلام مقدم نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، ثمّ إنّهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمةٍ، فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من قذى، أو أذى، فأبصره حتّى عرف ما يتّقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذى، فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشّرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، و [عرف] الخير والشّرّ، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشّرّ.
وقال مجاهدٌ: {فلمّا أضاءت ما حوله} « أمّا إضاءة النّار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى».
وقال عطاء الخرساني في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} قال: «هذا مثل المنافق، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثمّ يدركه عمى القلب».
وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن عكرمة، والحسن والسّدّيّ، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} إلى آخر الآية، قال: «هذه صفة المنافقين». كانوا قد آمنوا حتّى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النّار لهؤلاء الّذين استوقدوا ثمّ كفروا فذهب اللّه بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النّار فتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، في هذه الآية، قال: « أمّا النّور: فهو إيمانهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وأمّا الظّلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وهم قومٌ كانوا على هدًى، ثمّ نزع منهم، فعتوا بعد ذلك».
وأمّا قول ابن جريرٍ فيشبه ما رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} قال: « هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يعتزّون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ، كما سلب صاحب النّار ضوءه».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا} «فإنّما ضوء النّار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص، بلا إله إلّا اللّه، أضاء له، فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
وقال الضّحّاك [في قوله] {ذهب اللّه بنورهم} «أمّا نورهم فهو إيمانهم الّذي تكلّموا به».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله} «فهي لا إله إلّا اللّه؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدّنيا، ونكحوا النّساء، وحقنوا دماءهم، حتّى إذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
وقال سعيدٌ، عن قتادة في هذه الآية: «إنّ المعنى: أنّ المنافق تكلّم بلا إله إلّا اللّه فأضاءت له الدّنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت، سلبها المنافق؛ لأنّه لم يكن لها أصلٌ في قلبه، ولا حقيقةٌ في عمله».
{وتركهم في ظلماتٍ} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ} يقول: «في عذابٍ إذا ماتوا».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ} « أي يبصرون الحقّ ويقولون به، حتّى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم اللّه في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدًى، ولا يستقيمون على حقٍّ».
وقال السّدّيّ في تفسيره بسنده: {وتركهم في ظلماتٍ} فكانت الظّلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصريّ: {وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السّوء، فلا يجد له عملًا من خير عملٍ به يصدّق به قول: لا إله إلّا اللّه». ). [تفسير ابن كثير: 1/ 186 -189]

تفسير قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({صمٌّ بكمٌ عميٌ} قال السّدّيّ بسنده: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} فهم خرسٌ عميٌ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ} يقول: «لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه» ، وكذا قال أبو العالية، وقتادة بن دعامة.
{فهم لا يرجعون} قال ابن عبّاسٍ: «أي لا يرجعون إلى هدًى» ، وكذلك قال الرّبيع بن أنسٍ.
وقال السّدّيّ بسنده: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} إلى الإسلام.
وقال قتادة: {فهم لا يرجعون} «أي لا يتوبون ولا هم يذكرون». ). [تفسير ابن كثير: 1/ 189]

تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {أو كصيّبٍ من السّماء فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت واللّه محيطٌ بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (20) }
وهذا مثلٌ آخر ضربه اللّه تعالى لضربٍ آخر من المنافقين، وهم قومٌ يظهر لهم الحقّ تارةً، ويشكّون تارةً أخرى، فقلوبهم في حال شكّهم وكفرهم وتردّدهم {كصيّبٍ} والصّيّب: المطر، قاله ابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وناسٌ من الصّحابة، وأبو العالية، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصريّ، وقتادة، وعطيّة العوفي، وعطاءٌ الخراسانيّ، والسّدي، والرّبيع بن أنسٍ.
وقال الضّحّاك: هو السّحاب.
والأشهر هو المطر نزل من السّماء في حال ظلماتٍ، وهي الشّكوك والكفر والنّفاق. {ورعدٌ} وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإنّ من شأن المنافقين الخوف الشّديد والفزع، كما قال تعالى: {يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم [هم العدوّ]} [المنافقون: 4] وقال: {ويحلفون باللّه إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنّهم قومٌ يفرقون * لو يجدون ملجأً أو مغاراتٍ أو مدّخلا لولّوا إليه وهم يجمحون} [التّوبة: 56 -57].
والبرق: هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضّرب من المنافقين في بعض الأحيان، من نور الإيمان؛ ولهذا قال: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصّواعق حذر الموت واللّه محيطٌ بالكافرين} أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئًا؛ لأنّ اللّه محيطٌ [بهم] بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال: {هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود * بل الّذين كفروا في تكذيبٍ * واللّه من ورائهم محيطٌ} [البروج: 17-20] .
[والصّواعق: جمع صاعقةٍ، وهي نارٌ تنزل من السّماء وقت الرّعد الشّديد، وحكى الخليل بن أحمد عن بعضهم صاعقةً، وحكى بعضهم صاعقةً وصعقةً وصاقعةً، ونقل عن الحسن البصريّ أنّه: قرأ "من الصّواقع حذر الموت" بتقديم القاف وأنشدوا لأبي النّجم:

يحكوك بالمثقولة القواطع ....... شفق البرق عن الصّواقع

قال النّحّاس: وهي لغة بني تميمٍ وبعض بني ربيعة، حكى ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/ 189 -190]

تفسير قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي: لشدّته وقوّته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} يقول: «يكاد محكم القرآن يدلّ على عورات المنافقين».
وقال ابن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي لشدّة ضوء الحقّ، {كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} أي كلّما ظهر لهم من الإيمان شيءٌ استأنسوا به واتّبعوه، وتارةً تعرض لهم الشّكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه} يقول: «كلّما أصاب المنافقين من عزّ الإسلام اطمأنّوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله: {ومن النّاس من يعبد اللّه على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به [وإن أصابته فتنةٌ]} الآية [الحجّ: 11]».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} أي: يعرفون الحقّ ويتكلّمون به، فهم من قولهم به على استقامةٍ فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر {قاموا} أي: متحيّرين.
وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصريّ، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ بسنده، عن الصّحابة وهو أصحّ وأظهر. واللّه أعلم.
وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى النّاس النّور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النّور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقلّ من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره تارةً ويضيء له أخرى، فيمشي على الصّراط تارةً ويقف أخرى. ومنهم من يطفأ نوره بالكلّيّة وهم الخلّص من المنافقين، الّذين قال تعالى فيهم: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا} [الحديد: 13] وقال في حقّ المؤمنين: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنّاتٌ} الآية [الحديد: 12]، وقال تعالى: {يوم لا يخزي اللّه النّبيّ والّذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنّك على كلّ شيءٍ قديرٌ} [التّحريم: 8].
ذكر الحديث الوارد في ذلك:
قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات} الآية [الحديد: 12]، ذكر لنا أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول: «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن، أو بين صنعاء ودون ذلك، حتّى إنّ من المؤمنين من لا يضيء نوره إلّا موضع قدميه». رواه ابن جريرٍ.
ورواه ابن أبي حاتمٍ من حديث عمران بن داور القطّان، عن قتادة، بنحوه.
وهذا كما قال المنهال بن عمرٍو، عن قيس بن السّكن، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، قال: «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنّخلة، ومنهم من يرى نوره كالرّجل القائم، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويقد مرة».
وهكذا رواه ابن جريرٍ، عن ابن مثنّى، عن ابن إدريس، عن أبيه، عن المنهال.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسي حدّثنا ابن إدريس، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرٍو، عن قيس بن السّكن، عن عبد اللّه بن مسعودٍ: {نورهم يسعى بين أيديهم} [التّحريم: 8] قال: «على قدر أعمالهم يمرّون على الصّراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النّخلة، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتّقد مرّةً ويطفأ أخرى».
وقال ابن أبي حاتمٍ أيضًا: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الأحمسيّ، حدّثنا أبو يحيى الحمّاني، حدّثنا عتبة بن اليقظان، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «ليس أحدٌ من أهل التّوحيد إلّا يعطى نورًا يوم القيامة، فأمّا المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفقٌ ممّا يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون: ربّنا أتمم لنا نورنا».
وقال الضّحّاك بن مزاحمٍ: يعطى كلّ من كان يظهر الإيمان في الدّنيا يوم القيامة نورًا؛ فإذا انتهى إلى الصّراط طفئ نور المنافقين، فلمّا رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا: " ربّنا أتمم لنا نورنا ".
فإذا تقرّر هذا صار النّاس أقسامًا: مؤمنون خلّص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أوّل البقرة، وكفّارٌ خلّصٌ، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم قسمان: خلّصٌ، وهم المضروب لهم المثل النّاريّ، ومنافقون يتردّدون، تارةً يظهر لهم لمعٌ من الإيمان وتارةً يخبو وهم أصحاب المثل المائيّ، وهم أخفّ حالًا من الّذين قبلهم.
وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النّور، من ضرب مثل المؤمن وما جعل اللّه في قلبه من الهدى والنّور، بالمصباح في الزّجاجة الّتي كأنّها كوكبٌ درّي، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشّريعة الخالصة الصّافية الواصلة إليه من غير كدرٍ ولا تخليطٍ، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء اللّه.
ثمّ ضرب مثل العبّاد من الكفّار، الّذين يعتقدون أنّهم على شيءٍ، وليسوا على شيءٍ، وهم أصحاب الجهل المركّب، في قوله: {والّذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظّمآن ماءً حتّى إذا جاءه لم يجده شيئًا} الآية [النّور: 39].
ثمّ ضرب مثل الكفّار الجهّال الجهل البسيط، وهم الّذين قال [اللّه] فيهم: {أو كظلماتٍ في بحرٍ لجّيٍّ يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحابٌ ظلماتٌ بعضها فوق بعضٍ إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل اللّه له نورًا فما له من نورٍ} [النّور: 40] فقسّم الكفّار هاهنا إلى قسمين: داعيةٌ ومقلّدٌ، كما ذكرهما في أوّل سورة الحجّ: {ومن النّاس من يجادل في اللّه بغير علمٍ ويتّبع كلّ شيطانٍ مريدٍ} [الحج: 3]
وقال بعده: {ومن النّاس من يجادل في اللّه بغير علمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ} [الحجّ: 8] وقد قسّم اللّه المؤمنين في أوّل الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان، إلى قسمين: سابقون وهم المقرّبون، وأصحاب يمينٍ وهم الأبرار.
فتلخّص من مجموع هذه الآيات الكريمات: أنّ المؤمنين صنفان: مقرّبون وأبرارٌ، وأنّ الكافرين صنفان: دعاةٌ ومقلّدون، وأنّ المنافقين -أيضًا-صنفان: منافقٌ خالصٌ، ومنافقٌ فيه شعبةٌ من نفاقٍ، كما جاء في الصّحيحين، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:«ثلاثٌ من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه واحدةٌ منهنّ كانت فيه خصلةٌ من النّفاق حتّى يدعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».
استدلّوا به على أنّ الإنسان قد تكون فيه شعبةٌ من إيمانٍ، وشعبةٌ من نفاقٍ. إمّا عملي لهذا الحديث، أو اعتقاديٌّ، كما دلّت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفةٌ من السّلف وبعض العلماء، كما تقدّم، وكما سيأتي، إن شاء اللّه. قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو النّضر، حدّثنا أبو معاوية يعني شيبان، عن ليثٍ، عن عمرو بن مرّة، عن أبي البختريّ، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «القلوب أربعةٌ: قلبٌ أجرد، فيه مثل السّراج يزهر، وقلبٌ أغلف مربوطٌ على غلافه، وقلبٌ منكوسٌ، وقلبٌ مصفّح، فأمّا القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأمّا القلب الأغلف فقلب الكافر، وأمّا القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص، عرف ثمّ أنكر، وأمّا القلب المصفّح فقلبٌ فيه إيمانٌ ونفاقٌ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة، يمدّها الماء الطّيّب، ومثل النّفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح والدّم، فأيّ المدّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه». وهذا إسنادٌ جيّدٌ حسنٌ.
وقوله: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله تعالى: {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم} قال: «لما تركوا من الحقّ بعد معرفته».
{إنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} قال ابن عبّاسٍ: « أي إنّ اللّه على كلّ ما أراد بعباده من نقمةٍ، أو عفوٍ، قديرٌ.».
وقال ابن جريرٍ: إنّما وصف اللّه تعالى نفسه بالقدرة على كلّ شيءٍ في هذا الموضع؛ لأنّه حذّر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنّه بهم محيطٌ، و [أنّه] على إذهاب أسماعهم وأبصارهم قديرٌ، ومعنى {قديرٌ} قادرٌ، كما أنّ معنى {عليمٌ} عالم.
[وذهب ابن جريرٍ الطّبريّ ومن تبعه من كثيرٍ من المفسّرين أنّ هذين المثلين مضروبان لصنفٍ واحدٍ من المنافقين وتكون "أو" في قوله تعالى: {أو كصيّبٍ من السّماء} بمعنى الواو، كقوله تعالى: {ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا} [الإنسان: 24]، أو تكون للتخبير، أي: اضرب لهم مثلًا بهذا وإن شئت بهذا، قاله القرطبيّ. أو للتّساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجّهه الزّمخشريّ: أنّ كلًّا منهما مساوٍ للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله: سواءٌ ضربت لهم مثلًا بهذا أو بهذا فهو مطابقٌ لحالهم.
قلت: وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين، فإنّهم أصنافٌ ولهم أحوالٌ وصفاتٌ كما ذكرها اللّه تعالى في سورة براءةٌ -ومنهم -ومنهم -ومنهم -يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشدّ مطابقةً لأحوالهم وصفاتهم، واللّه أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النّور لصنفي الكفّار الدّعاة والمقلّدين في قوله تعالى: {والّذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ} إلى أن قال: {أو كظلماتٍ في بحرٍ لجّيٍّ يغشاه موجٌ} الآية [النّور: 39 - 40]، فالأوّل للدّعاة الّذين هم في جهلٍ مركّبٍ، والثّاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب] ). [تفسير ابن كثير: 1/ 190 -194]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:27 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة