وقوله «ثم للناس أقسطوا» شروع في بيان مشبه الفواصل المتروك والمعدود للجميع والمعنى أن الجميع لا يعدون قوله تعالى في أول السورة {هدى للناس} وقوله {وعن كل القيوم} الخ معناه أن جميع علماء العدد يعدون قوله تعالى في أول السورة {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.
ووجه التنبيه عليه عدم مساواته لآي السورة مع وجود الخلاف في نظيره في سورة البقرة والله أعلم.
وأسقط شديد وانتقام فعد والسما...... ء الحكيم قبل الألباب ذا خبر
وبعد الرجيم اعدد حساب مع الدعا ...... مع الصالحين أعدد يشاء على الإثر
اللغة: الخبر بضم الخاء وسكون الباء العلم. والأثر بكسر الهمزة وسكون الثاء العقب.
الإعراب: واسقط شديد: أمرية ومفعولها المحكي. وانتقام مفعول مقدم لعد والفاء زائدة. و(السماء) و(الحكيم) عطف على المفعول بإسقاط العاطف في الثاني. و(قبل الألباب) حال من الحكيم. وذا خبر حال من فاعل عد. (وبعد الرجيم) متعلق بمحذوف حال من حساب الواقع مفعولاً لا عدد.
(مع الدعاء) حال من حساب أيضًا «مع الصالحين» حال من يشاء الواقع مفعولاً لا عدد الثاني. على الأثر حال من يشاء.
المعنى: أمر الناظم بترك عد {إن الذين كفروا لهم عذاب شديد} للكل كما يعلم ذلك من الإطلاق وقوله وانتقام فعد الخ أمر بعد جميع ما ذكره وهو {والله عزيز ذو انتقام} و{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} و{لا إله إلا هو العزيز الحكيم} الذي بعده هو الذي أنزل عليك الكتاب الآية.
وهذا معنى قوله قبل الألباب، وفيه إشارة إلى أن رأس الآية التي بعد الحكيم {وما يذكر إلا أولوا الألباب} وقوله ذا خبر أي عد ذلك حال كونك ذا علم ومعرفة بمبادئ الآيات ومقاطعها، وفيه إشارة أيضًا إلى ما ذكر فيه رأس الآية الأخيرة فإنه ورد مدحًا من الله تعالى للراسخين في العلم، وقوله وبعد الرجيم اعدد الخ أمر بعد {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} الذي وقع بعد {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} وكذا {إنك سميع الدعاء} وأيضًا {ونبيا من الصالحين} وكذلك {الله يفعل ما يشاء} الذي جاء عقبه فهذه كلها معدودة بالاتفاق كما علم ذلك من الإطلاق ونبه عليها الناظم لما قد يتوهم فيها من عدم عدها. فإن {ذو انتقام} مبني على الألف فقد يظن فيه كونه ليس برأس آية نظرًا لفقده الموازنة لما قبله، وكذا السماء والحكيم الذي قبل الألباب فقد يتوهم إسقاطها أيضًا لذلك، ولعدم المساواة في الطول والقصر، وأيضًا {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} و{إنك سميع الدعاء} و{ونبيا من الصالحين} و{الله يفعل ما يشاء} نبه عليها لدفع هذا التوهم أيضًا لعدم الموازنة وعدم المساواة وقوله «على الإثر» احتراز من يشاء الثاني وهو {الله يخلق ما يشاء} فإنه متروك للجميع.
والإنجيل إسرائيل غير الثلاث دع ....... في الأعراف مع طه مع الشعرا الغر
اللغة: النمر جمع غراء بمعنى المضيئة وهو وصف للسور الثلاث.
الإعراب: والإنجيل مفعول مقدم لدع. وإسرائيل عطف عليه بإسقاط العاطف، وغير حال من إسرائيل، وإن كان مضافًا ولكنه لتوغله في الإبهام لا يتعرف بالإضافة فكان نكرة فصح وقوعه حالاً، وقوله في الأعراف بدل من الثلاث على المعنى إذ الأصل غير ذات الثلاث والإضافة على معنى في، أي غير إسرائيل الواقعة في الثلاث، ومع طه حال من الأعراف ومع الشعراء حال من الأعراف أيضًا.
المعنى: أمر بترك عد لفظ إنجيل الواقع في القرآن غير ما سبق من الموضعين السابقين وغير ما يأتي في سورة الحديد وعلم هذا الاستثناء بقرينة ما تقدم في السورة وما يأتي في الحديد. وبترك عد إسرائيل في جميع القرآن كذلك إلا ما سبق أيضًا، وما سيأتي التنبيه عليه في السجدة والزخرف وإلا ما وقع في السور الثلاث التي ذكرها، وعلم هذا التقييد من قرينة ما ذكره في هذه السورة وما سيذكره في السجدة والزخرف وما صرح به هنا من استثناء السور الثلاث.
وإنما ارتكبنا ذلك التأويل في البيت لئلا يرد ما في الحديد من لفظ إنجيل فإنه مختلف فيه وليس بمتروك إجماعًا. ولئلا يرد كذلك ما في الأعراف {يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} فكان ظاهر الكلام يقتضي عده ولو للبعض مع أنه متروك إجماعًا. ويرد على لفظ إسرائيل نقضًا ما في سورتي السجدة والزخرف لأنه وقع في غير الثلاث المستثناة. وهو معدود بالإجماع فيهما كما نص عليه في السورتين. فلهذا أولنا البيت هذا التأويل. وجعلنا الاستثناء وهو غير قيدًا للكلمة الثانية تعويلاً على ما ذكره وما سيذكره. وتصحيحًا للكلام. والحاصل أن لفظ إنجيل مختلف فيه في الموضعين السابقين. وكذا في موضع الحديد وما عدا هذه المواضع الثلاث متروك بالاتفاق في هذه السورة وغيرها في جميع القرآن وأن لفظ إسرائيل مختلف فيه في الموضع الذي ذكره في هذه السورة وفي الموضع الثالث في الأعراف، وفي موضع طه الذي سيذكره ومتفق على عده في الموضع الأول والثاني في الأعراف. وكذا متفق على عده كيف وقع في سورة الشعراء وأيضًا في السجدة والزخرف وما عدا هذه المواضع كلها فمتفق على تركه. وهذا معنى قوله «إسرائيل غير الثلاث دع» أي فما في هذه السور الثلاث من لفظ إسرائيل معدود باختلاف أو اتفاق. وقد ينقض هذا بأن يقال إن ما استثناه غير صحيح بعد هذا التأويل فإنه ينقض بقوله تعالى في الأعراف {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} وفي طه {يا بني إسرائيل قد أنجيناكم} الآية فهما متروكان اتفاقًا.
والاستثناء يعطي أن كل ما في السور الثلاث معدود اتفاقًا أو اختلافًا. ويجاب عن هذا بأنه لا يتوهم فيما ذكرناه في الأعراف وطه كونهما فاصلتين لعدم تمام الكلام وعدم المساواة. مع فقد ما في طه المشاكلة لفواصل سورتها. وإنما خص السور الثلاث بالذكر لكثرة وقوع لفظ إسرائيل فيها.
سبيل فدع يبغون الإسلام ما يشاء ....... تحبون ثانٍ مع أليم حذا النصر
اللغة: حذاء الشيء جهته.
الإعراب: سبيل مفعول مقدم لدع والفاء فيه زائدة. ويبغون وما بعده عطف عليه بإسقاط العاطف. وثان حال من تحبون وحذفت منه الياء للضرورة ومع أليم حال من المفعول وقوله «حذا النصر» ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من أليم.
المعنى: أمر الناظم بعدم عد الكلمات المذكورة وإن توهم كونها رؤوس آيات. وهي {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} {أفغير دين الله يبغون} {إن الدين عند الله الإسلام} {الله يخلق ما يشاء} في قصة مريم، وإنما حملناها على ذلك لأن الأولى تقدم الكلام عليها. {وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} وهو الموضع الثاني المراد بقوله ثان المحترز به عن الأول وقد سبق الكلام عليه {أولئك لهم عذاب أليم} الذي بعده {وما لهم من ناصرين} وهذا معنى قوله حذا النصر. وقيد بذلك احترازا عن غيره من المواضع المعدودة بالإجماع.
بذات الصدور قبله تعملون للعبيد ....... يليه صادقين لدي النهر
ولا تخلف الميعاد قبل الثواب في ....... البلاد المهاد بعده غير مغتر
اللغة: النهر بفتح النون وسكون الهاء الزجر. ومغتر من الاغترار وهو الانخداع بما لا يبقى.
الإعراب: بذات الصدور من ألفاظ القرآن مبتدأ. وقبله تعملون اسمية مقدمة الخبر وهي خبر المبتدأ الأول. وللعبيد مبتدأ وجملة يليه صادقين خبره. ولدي النهر ظرف متعلق بمحذوف حال من صادقين. ولا تخلف الميعاد مبتدأ قبل الثواب خبره. في البلاد مبتدأ. والمهاد بعده مبتدأ وخبر خبر الأول.
وقوله غير مغتر. حال من فاعل فعل محذوف أي افهم ذلك حال كونك بعيدًا عن الغرور وفيه مناسبة للآية التي ذكر فيها النهي عن الغرور وهي قوله تعالى {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد}.
المعنى: بين المصنف في هذين البيتين أن بعض الآيات قد يكون أطول من بعض فيتوهم أن الآية الطويلة آيتان أو أكثر فرفع هذا الوهم بالنص على أواخرها ورءوسها وتلك عادته فقال «بذات الصدور الخ» معناه أن الآية التي رأسها {والله عليم بذات الصدور} رأس الآية التي قبلها {والله خبير بما تعملون} وبذلك تعين مبدأ الآية التي آخرها بذات الصدور وهو {ثم أنزل عليكم}. فهي آية واحدة وإن كانت أطول مما قبلها وما بعدها. وكذلك قوله تعالى {وأن الله ليس بظلام للعبيد} رأس الآية التي بعدها {إن كنتم صادقين} فيكون مبدؤها {الذين قالوا إن الله عهد إلينا} - الآية: هي آية واحدة وإن كانت أطول مما قبلها وما بعدها وعلم من هذا أن هذه الآيات الطويلة ليس في أثنائها فواصل وإن كان فيها ما يشبه الفواصل وقوله لدي النهر زيادة بيان في المراد من الآية وإشارة إلى ما ورد فيها من الزجر والتوبيخ لليهود على قولهم {إن الله عهد إلينا} – الآية.
وقوله {ولا تخلف الميعاد} - الخ. معناه أن قوله تعالى {إنك لا تخلف الميعاد} رأس آية ورأس الآية بعده {والله عنده حسن الثواب}. ولا يضر تفاوتهما طولا وقصرًا وعلم من هذا أن قوله تعالى {جنات تجري من تحتها الأنهار} ليس برأس عند الجميع وإن كان يشبه الفواصل. ثم بين أن الآية التي بعد قوله تعالى {والله عنده حسن الثواب}. رأسها في البلاد. وهي آية قصيرة فربما يتوهم أنها ليست فاصلة مع كونها معدودة بالإجماع. وكذلك الآية التي بعد في البلاد آية قصيرة أيضًا ورأسها وبئس المهاد. – والله أعلم). [معالم اليسر:77-84]