تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة والكلبي في قوله: {ولقد علمتكم الذين اعتدوا منكم في السبت} قالا: «نهوا عن صيد الحيتان في يوم السبت فكانت تشرع إليهم يوم السبت بلوا بذلك فاصطادوها فجعلهم الله قردة خاسئين».). [تفسير عبد الرزاق: 1 / 47 - 48]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة في قوله: {خاسئين} قال: «صاغرين».). [تفسير عبد الرزاق: 1 / 48]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين}.
يعني بقوله: {ولقد علمتم} ولقد عرفتم، كقولك: قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه، يعني عرفته ولم أكن أعرفه، كما قال جلّ ثناؤه: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم اللّه يعلمهم} يعني: لا تعرفونهم اللّه يعرفهم.
وقوله: {الّذين اعتدوا منكم في السّبت} أي الّذين تجاوزوا حدّي وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السّبت وعصوا أمري.
وقد دلّلت فيما مضى على أنّ الاعتداء أصله تجاوز الحدّ في كلّ شيءٍ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
قال: وهذه الآية وآياتٌ بعدها تتلوها، ممّا عدّد جلّ ثناؤه فيها على بني إسرائيل الّذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الّذين ابتدأ بذكرهم في أوّل هذه السّورة من نكث أسلافهم عهد اللّه وميثاقه ما كانوا يبرمون من العقود، وحذّر المخاطبين بها أن يحلّ بهم بإصرارهم على كفرهم ومقامهم على جحود نبوّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وتركهم اتّباعه والتّصديق بما جاءهم به من عند ربّه مثل الّذي حلّ بأوائلهم من المسخ والرّجف والصّعق، وما لا قبل لهم به من غضب اللّه وسخطه.
- كالّذي حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت}، «يقول: ولقد عرفتم، وهذا تحذيرٌ لهم من المعصية، يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السّبت إذ عصوني، {اعتدوا} يقول: اجترءوا في السّبت».
قال: لم يبعث اللّه نبيًّا إلاّ أمره بالجمعة وأخبره بفضلها وعظمها في السّموات وعند الملائكة، وأنّ السّاعة تقوم فيها، فمن اتّبع الأنبياء فيما مضى كما اتّبعت أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم محمّدًا قبل الجمعة وسمع وأطاع وعرف فضلها وثبت عليها بما أمره اللّه تعالى به ونبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ومن لم يفعل ذلك كان بمنزلة الّذين ذكر اللّه في كتابه فقال: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين}، وذلك أنّ اليهود قالت لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها: يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضّلها على الأيّام كلّها، والسّبت أفضل الأيّام كلّها؛ لأنّ اللّه خلق السّموات والأرض والأقوات في ستّة أيّامٍ، وسبت له كلّ شيءٍ مطيعًا يوم السّبت، وكان آخر السّتّة؟
قال: وكذلك قالت النّصارى لعيسى ابن مريم حين أمرهم بالجمعة، قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة، وأوّل الأيّام أفضلها وسيّدها، والأوّل أفضل، واللّه واحدٌ، والواحد الأوّل أفضل؟ فأوحى اللّه إلى عيسى أن دعهم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا ممّا أمرهم به. فلم يفعلوا، فقصّ اللّه تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم.
قال: وكذلك قال اللّه لموسى حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السّبت: أن دعهم والسّبت فلا يصيدوا فيه سمكًا ولا غيره، ولا يعملون شيئًا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السّبت ظهرت الحيتان على الماء فهو قوله: {إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعًا}، يقول: ظاهرةً على الماء، ذلك لمعصيتهم موسى. وإذا كان غير يوم السّبت صارت صيدًا كسائر الأيّام، فهو قوله: {ويوم لا يسبتون لا تأتيهم}، ففعلت الحيتان ذلك ما شاء اللّه؛ فلمّا رأوها كذلك طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة، فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه، وحذّر العقوبة الّتي حذّرهم موسى من اللّه تعالى.
فلمّا رأوا أنّ العقوبة لا تحلّ بهم عادوا، وأخبر بعضهم بعضًا بأنّهم قد أخذوا السّمك ولم يصبهم شيءٌ، فكثروا في ذلك وظنّوا أنّ ما قال لهم موسى كان باطلاً، وهو قول اللّه جلّ ثناؤه: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين}، يقول لهؤلاء الّذين صادوا السّمك، فمسخهم اللّه قردةً بمعصيتهم، يقول: إذًا لم يحيوا في الأرض إلاّ ثلاثة أيّامٍ، ولم تأكل، ولم تشرب، ولم تنسل، وقد خلق اللّه القردة والخنازير وسائر الخلق في السّتّة الأيّام الّتي ذكر اللّه في كتابه، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن شاء كما يشاء، ويحوّله كما يشاء.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، مولى ابن عبّاسٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: «إنّ اللّه إنّما افترض على بني إسرائيل اليوم الّذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة، فخالفوا إلى السّبت فعظّموه وتركوا ما أمروا به، فلمّا أبوا إلاّ لزوم السّبت ابتلاهم اللّه فيه، فحرّم عليهم ما أحلّ لهم في غيره. وكانوا في قريةٍ بين أيلة والطّور يقال لها مدين، فحرّم اللّه عليهم في السّبت الحيتان صيدها وأكلها، وكانوا إذا كان يوم السّبت أقبلت إليهم شرّعًا إلى ساحل بحرهم، حتّى إذا ذهب السّبت ذهبن، فلم يروا حوتًا صغيرًا ولا كبيرًا. حتّى إذا كان يوم السّبت أتين إليهم شرّعًا، حتّى إذا ذهب السّبت ذهبن. فكانوا كذلك، حتّى إذا طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان، عمد رجلٌ منهم فأخذ حوتًا سرًّا يوم السّبت فخزمه بخيطٍ، ثمّ أرسله في الماء، وأوتد له وتدًا في السّاحل، فأوثقه ثمّ تركه.
حتّى إذا كان الغد جاء فأخذه؛ أي إنّي لم آخذه في يوم السّبت، ثمّ انطلق به فأكله. حتّى إذا كان يوم السّبت الآخر عاد لمثل ذلك. ووجد النّاس ريح الحيتان. فقال أهل القرية: واللّه لقد وجدنا ريح الحيتان. ثمّ عثروا على ما صنع ذلك الرّجل. قال: ففعلوا كما فعل، وأكلوا سرًّا زمانًا طويلاً لم يعجّل اللّه عليهم بعقوبةٍ حتّى صادوها علانيةً وباعوها بالأسواق، وقالت طائفةٌ منهم من أهل البقيّة: ويحكم اتّقوا اللّه. ونهوهم عمّا كانوا يصنعون. وقالت طائفةٌ أخرى لم تأكل الحيتان ولم تنه القوم عمّا صنعوا: {لم تعظون قومًا اللّه مهلكهم أو معذّبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرةً إلى ربّكم} لسخطنا أعمالهم {ولعلّهم يتّقون}».
قال ابن عبّاسٍ: «فبينما هم على ذلك أصبحت تلك البقيّة في أنديتهم ومساجدهم، وفقدوا النّاس فلا يرونهم، فقال بعضهم لبعضٍ: إنّ للنّاس لشأنًا فانظروا ما هو. فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقةً عليهم، قد دخلوا ليلاً فغلّقوها على أنفسهم كما تغلق النّاس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردةً، إنّهم ليعرفون الرّجل بعينه وإنّه لقردٌ، والمرأة بعينها وإنّها لقردةٌ، والصّبيّ بعينه وإنّه لقردٌ».
قال: يقول ابن عبّاسٍ: «فلولا ما ذكر اللّه أنّه أنجى الّذين نهوا عن السّوء لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية الّتي قال اللّه لمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {واسألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر} الآية».
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: قوله: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} «أحلّت لهم الحيتان وحرّمت عليهم يوم السّبت بلاءً من اللّه ليعلم من يطيعه ممّن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصنافٍ: فأمّا صنفٌ فأمسك ونهى عن المعصية، وأمّا صنفٌ فأمسك عن حرمة اللّه. وأمّا صنفٌ فانتهك حرمة اللّه ومرد على المعصية، فلمّا أبوا إلاّ الاعتداء إلى ما نهوا عنه، قال اللّه لهم: {كونوا قردةً خاسئين} فصاروا قردةً لها أذنابٌ، تعاوي بعد ما كانوا رجالاً ونساءً».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أنا معمرٌ، عن قتادة: في قوله: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت} قال: «نهوا عن صيد الحيتان يوم السّبت، فكانت تشرع إليهم يوم السّبت، وبلوا بذلك فاعتدوا فاصطادوها، فجعلهم اللّه قردةً خاسئين».
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} قال: «فهم أهل أيلة، وهي القرية الّتي كانت حاضرة البحر. فكانت الحيتان إذا كان يوم السّبت، وقد حرّم اللّه على اليهود أن يعملوا في السّبت شيئًا، لم يبق في البحر حوتٌ إلاّ خرج حتّى يخرجن خراطيمهنّ من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهنّ شيءٌ حتّى يكون يوم السّبت. فذلك قوله: {واسألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السّبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم}
فاشتهى بعضهم السّمك، فجعل الرّجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرًا إلى البحر، فإذا كان يوم السّبت فتح النّهر، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتّى يلقيها في الحفيرة، ويريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلّة ماء النّهر، فيمكث، فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرّجل يشوي السّمك، فيجد جاره ريحه، فيسأله فيخبره فيصنع مثل ما صنع جاره. حتّى إذا فشا فيهم أكل السّمك قال لهم علماؤهم: ويحكم إنّما تصطادون السّمك يوم السّبت، وهو لا يحلّ لكم. فقالوا: إنّما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء: لا، ولكنّكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل؛ فقالوا: لا. وعتوا أن ينتهوا، فقال بعض الّذين نهوهم لبعضٍ: {لم تعظون قومًا اللّه مهلكهم أو معذّبهم عذابًا شديدًا} يقول: لم تعظونهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: {معذرةً إلى ربّكم ولعلّهم يتّقون} فلمّا أبوا قال المسلمون: واللّه لا نساكنكم في قريةٍ واحدةٍ. فقسموا القرية بجدارٍ، ففتح المسلمون بابًا والمعتدون في السّبت بابًا، ولعنهم داود. فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفّار من بابهم؛ فخرج المسلمون ذات يومٍ ولم يفتح الكفّار بابهم، فلمّا أبطئوا عليهم تسوّر المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردةٌ يثب بعضهم على بعضٍ، ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض. فذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {فلمّا عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} فذلك حين يقول: {لعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} فهم القردة».
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: في قوله: {الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} قال: «لم يمسخوا إنّما هو مثلٌ ضربه اللّه لهم مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارًا».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} قال: «مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردةً، وإنّما هو مثلٌ ضربه اللّه لهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا».
وهذا القول الّذي قاله مجاهدٌ قولٌ لظاهر ما دلّ عليه كتاب اللّه مخالفٌ، وذلك أنّ اللّه أخبر في كتابه أنّه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطّاغوت، كما أخبر عنهم أنّهم قالوا لنبيّهم: {أرنا اللّه جهرةً} وأنّ اللّه تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربّهم وأنّهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنّهم أمروا بدخول الأرض المقدّسة، فقالوا لنبيّهم: {فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون} فابتلاهم بالتّيه. فسواءٌ قال قائلٌ: هم لم يمسخهم قردةً، وقد أخبر جلّ ذكره أنّه جعل منهم قردةً وخنازير، وآخر قال: لم يكن شيءٌ ممّا أخبر اللّه عن بني إسرائيل أنّه كان منهم من الخلاف على أنبيائهم والعقوبات والأنكال الّتي أحلّها اللّه بهم.
ومن أنكر شيئًا من ذلك وأقرّ بآخر منه، سئل البرهان على قوله وعورض فيما أنكر من ذلك بما أقرّ به، ثمّ يسأل الفرق من خبرٍ مستفيضٍ أو أثرٍ صحيحٍ. هذا مع خلاف قول مجاهدٍ قول جميع الحجّة الّتي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعةً عليه، وكفى دليلاً على فساد قول إجماعها على تخطئته). [جامع البيان: 2 / 58 - 66]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين}.
يعني بقوله: {فقلنا لهم} أي فقلنا للّذين اعتدوا في السّبت؛ يعني في يوم السّبت. وأصل السّبت الهدوّ السّكون في راحةٍ ودعةٍ، ولذلك قيل للنّائم مسبوتٌ لهدوّه وسكون جسده واستراحته، كما قال جلّ ثناؤه: {وجعلنا نومكم سباتًا} أي راحةً لأجسادكم. وهو مصدرٌ من قول القائل: سبت فلانٌ يسبت سبتًا.
وقد قيل إنّه سمّي سبتًا لأنّ اللّه جلّ ثناؤه فرغ يوم الجمعة، وهو اليوم الّذي قبله، من خلق جميع خلقه.
وقوله: {كونوا قردةً خاسئين} أي صيروا كذلك.
والخاسئ: المبعد المطرود كما يخسأ الكلب، يقال منه: خسأته أخسؤه خسأً وخسوءًا، وهو يخسأ خسوءًا، قال: ويقال خسأته فخسأ وانخسأ ومنه قول الرّاجز:
كالكلب إن قلت له اخسأ انخسأ
يعني إن طردته انطرد ذليلاً صاغرًا. فكذلك معنى قوله: {كونوا قردةً خاسئين} أي مبعدين من الخير أذلاّء صغراء.
- كما حدّثنا ابن بشّارٌ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال، حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: في قوله: {كونوا قردةً خاسئين} قال: «صاغرين».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا سفيان، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {خاسئين} قال: «صاغرين».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: في قوله: {كونوا قردةً خاسئين} «أي أذلّةً صاغرين».
- وحدّثت عن المنجاب، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «خاسئًا: يعني ذليلاً».). [جامع البيان: 2 / 66 - 67]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين (65)}
قوله: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت}
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع أنبأ عبد الرّزّاق أنبأ معمرٌ عن قتادة في قوله: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت} قال: « نهوا عن صيد الحيتان في السّبت فكانت تشرع إليهم يوم السّبت فبلوا بذلك، فاعتدوا فاصطادوها فجعلهم اللّه قردةً خاسئين».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم ثنا ضمرة عن عثمان بن عطاءٍ عن أبيه قال: «افترقوا ثلاث فرقٍ: فرقةٌ أكلت، وفرقةٌ اعتزلت ولم تنه، وفرقةٌ نهت ولم تعتزل، فنودي الّذين اعتدوا في السّبت ثلاثة أصوابٍ نودوا يا أهل القرية فانتبهت طائفةٌ، ثمّ نودوا يا أهل القرية فانتبهت طائفةٌ أكثر من الأولى. ثمّ نودوا يا أهل القرية فانتبهت الرّجال والنّساء والصّبيان. فقال اللّه لهم: كونوا قردةً خاسئين فجعل الّذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان، ألم أنهكم؟ فيقولون برءوسهم. أي بلى».
- حدّثنا أبو زرعة ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السبت}. الآية قال: «هم أهل أيلياء فكانت الحيتان إذا كانت يوم السّبت- وقد حرّم اللّه على اليهود أن يعملوا في السّبت- لم يبق حوتٌ في البحر إلا خرج حتّى يخرجن خراطيمهنّ من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمن مقلّ البحر فلم ير منهنّ شيءٌ حتّى يكون يوم السّبت». وروي عن قتادة نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 132]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين}
[الوجه الأول]
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا عبد اللّه بن محمّد بن ربيعة بالمصّيصة ثنا محمّد ابن مسلم الطائفي عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ عن ابن عبّاسٍ قال: «إذا كان الّذين اعتدوا في السّبت فجعلوا قردةً فواقًا ثمّ هلكوا ما كان للمسخ نسلا».
- أخبرنا محمد بن عبد اللّه المنادي فيما كتب إليّ ثنا يونس بن محمّدٍ المؤدّب ثنا شيبان النّحويّ عن قتادة: «{فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} فصار القوم قرودًا تعاوى، لها أذنابٌ، بعد ما كانوا رجالا ونساءً».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي ثنا أبو حذيفة ثنا شبلٌ عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ {فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} قال: «مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردةً وخنازير، وإنّما هو مثلٌ ضربه اللّه لهم مثل الحمار يحمل أسفارًا».
الوجه الثّالث:
- أخبرنا محمّد بن سعد بن عطيّة فيما كتب إليّ حدّثني أبي حدّثني عمّي الحسين عن أبيه عن جدّه عن ابن عبّاسٍ: {فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} «فجعل اللّه منهم القردة والخنازير، فزعموا أنّ شباب القوم صاروا قردةً والمشيخة صاروا خنازير».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 132 - 133]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {خاسئين}
- ثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم ثنا أبو جعفرٍ عن الرّبيع عن أبي العالية في قوله:{قردةً خاسئين} قال: «يعني أذلّةً صاغرين». وروي عن مجاهدٍ وقتادة والرّبيع بن أنسٍ وأبي مالكٍ نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 133]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله {كونوا قردة خاسئين} قال: «لم يمسخوا قردة ولكنه كقوله {كمثل الحمار يحمل أسفارا}».). [تفسير مجاهد: 77 - 78]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين * فجعلنها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين}.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس {ولقد علمتم} قال: «عرفتم وهذا تحذير لهم من المعصية يقول: احذورا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت إذ عصوني، {اعتدوا} يقول: اجترؤوا في السبت بصيد السمك فقلنا لهم {كونوا قردة خاسئين} فمسخهم الله قردة بمعصيتهم ولم يعش مسخ فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل».
- وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقا ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل».
- وأخرج ابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس قال: «القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا».
- وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال: «انقطع ذلك النسل».
- وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم في قوله {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} قال: «مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة وإنما هو مثل ضربه الله لهم مثل الحمار يحمل أسفارا».
- وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في الآية قال: «أحلت لهم الحيتان وحرمت عليهم يوم السبت ليعلم من يطيعه ممن يعصيه فكان القوم فيهم ثلاثة أصناف وأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية وأما صنف فأمسك عن حرمة الله وأما صنف فانتهك المعصية ومرن على المعصية فلما أبوا إلا عتوا عما نهاهم الله عنه {قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} وصار القوم قردوا تعاوى لها الذئاب بعد ما كانوا رجالا ونساء».
- وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {خاسئين} قال: «ذليلين».
- وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله {خاسئين} قال: «صاغرين».
وأخرج ابن جرير عن مجاهد، مثله). [الدر المنثور: 1 / 399 - 401]
تفسير قوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة في قوله: {فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة} قال: «لما بين يديها من ذنوبهم وما خلفها من الحيتان وموعظة للمتقين بعدهم».). [تفسير عبد الرزاق: 1 / 48]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (قال سفيان [الثوري] في قوله: {وموعظة للمتقين} قال: «لأمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلم».). [تفسير الثوري: 46]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فجعلناها نكالاً لما بين يديها}.
اختلف أهل التّأويل في تأويل الهاء والألف في قوله: {فجعلناها} وعلام هي عائدةٌ، فروي عن ابن عبّاسٍ فيها قولان.
- أحدهما ما حدّثنا به أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، قال: حدّثنا أبو روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {فجعلناها} «فجعلنا تلك العقوبة وهي المسخة نكالاً».
فالهاء والألف من قوله: {فجعلناها} على قول ابن عبّاسٍ هذا كنايةٌ عن المسخة، وهي فعلةٌ من مسخهم اللّه مسخةً.
فمعنى الكلام على هذا التّأويل: {فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} فصاروا قردةً ممسوخين {فجعلناها} فجعلنا عقوبتنا ومسخنا إيّاهم {نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتّقين}.
- والقول الآخر من قولي ابن عبّاسٍ ما حدّثني به، محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {فجعلناها} «يعني الحيتان».
والهاء والألف على هذا القول من ذكر الحيتان، ولم يجر لها ذكرٌ. ولكن لمّا كان في الخبر دلالةٌ كنّى عن ذكرها، والدّلالة على ذلك قوله: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت}.
وقال آخرون: فجعلنا القرية الّتي اعتدى أهلها في السّبت. فالهاء والألف في قول هؤلاء كنايةٌ عن قرية القوم الّذين مسخوا.
وقال آخرون: معنى ذلك: فجعلنا القردة الّذين مسخوا نكالاً لما بين يديها وما خلفها، فجعلوا الهاء والألف كنايةً عن القردة.
وقال آخرون: {فجعلناها} يعني به: فجعلنا الأمّة الّتي اعتدت في السّبت نكالاً). [جامع البيان: 2 / 68 - 69]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {نكالاً}.
والنّكال مصدرٌ من قول القائل: نكّل فلانٌ بفلانٍ تنكيلاً ونكالاً، وأصل النّكال: العقوبة كما قال عديّ بن زيدٍ العباديّ:
لا يسخطّ المليك ما يسع ال ....... عبد ولا في نكاله تنكير
وبمثل الّذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عبّاسٍ.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، قال: حدّثنا أبو روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {نكالاً} «يقول: عقوبةً».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثني إسحاق، قال: حدّثني ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: في قوله: {فجعلناها نكالاً} «أي عقوبةً».). [جامع البيان: 2 / 69]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {لما بين يديها وما خلفها}
اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك.
- فقال بعضهم بما حدّثنا به أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {لما بين يديها} «يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي {وما خلفها} يقول: الّذين كانوا بقوا معهم».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: {لما بين يديها وما خلفها} «لما خلا لهم من الذّنوب {وما خلفها} أي عبرةً لمن بقي من النّاس».
- وقال آخرون بما حدّثني ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، مولى ابن عبّاسٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: «{فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها} أي من القرى».
- وقال آخرون بما حدّثنا به، بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: «قال اللّه {فجعلناها نكالاً لما بين يديها} من ذنوب القوم {وما خلفها} أي للحيتان الّتي أصابوا».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: في قوله: {لما بين يديها} «من ذنوبها» {وما خلفها} «من الحيتان».
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثني عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: في قول اللّه تعالى: {لما بين يديها} «ما مضى من خطاياهم إلى أن هلكوا به».
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {نكالاً لما بين يديها وما خلفها} «يقول: بين يديها ما مضى من خطاياهم {وما خلفها} خطاياهم الّتي هلكوا بها».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، مثله؛ إلاّ أنّه قال {وما خلفها} «خطيئتهم الّتي هلكوا بها».
- وقال آخرون بما حدّثني به، موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها} قال: «أمّا ما بين يديها: فما سلف من عملهم {وما خلفها} فمن كان بعدهم من الأمم أن يعصوا فيصنع اللّه بهم مثل ذلك».
- وقال آخرون بما حدّثني به ابن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: قوله {فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها} «يعني الحيتان جعلها نكالاً لما بين يديها {وما خلفها} من الذّنوب الّتي عملوا قبل الحيتان، وما عملوا بعد الحيتان، فذلك قوله {لما بين يديها وما خلفها}».
وأولى هذه التّأويلات بتأويل الآية ما رواه الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ؛ وذلك لما وصفنا من أنّ الهاء والألف في قوله: {فجعلناها نكالاً} بأن تكون من ذكر العقوبة والمسخة الّتي مسخها القوم أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها، من أجل أنّ اللّه جلّ ثناؤه إنّما يحذّر خلقه بأسه وسطوته. وبذلك يخوّفهم. وفي إبانته عزّ ذكره بقوله: {نكالاً} أنّه عنى به العقوبة الّتي أحلّها بالقوم ما يعلم أنّه عنى بقوله: {فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها} فجعلنا عقوبتنا الّتي أحللناها بهم عقوبةً لما بين يديها وما خلفها، دون غيره من المعاني. وإذا كانت الهاء والألف بأن تكون من ذكر المسخة والعقوبة أولى منها بأن تكون من ذكر غيرها، فكذلك العائد في قوله: {لما بين يديها وما خلفها} من الهاء والألف أن يكون من ذكر الهاء والألف اللّتين في قوله: {فجعلناها} أولى من أن يكون من غيره.
فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا: فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين، فجعلنا عقوبتنا لهم عقوبةً لما بين يديها من ذنوبهم السّالفة منهم مسخنا إيّاهم وعقوبتنا لهم، ولما خلف عقوبتنا لهم من أمثال ذنوبهم، أن يعمل بها عاملٌ، فيمسخوا مثل ما مسخوا، وأن يحلّ بهم مثل الّذي حلّ بهم؛ تحذيرًا من اللّه تعالى ذكره عباده أن يأتوا من معاصيه مثل الّذي أتى الممسوخون فيعاقبوا عقوبتهم.
وأمّا الّذي قال في تأويل ذلك: {فجعلناها} يعني الحيتان عقوبةً لما بين يدي الحيتان من ذنوب القوم وما بعدها من ذنوبهم، فإنّه أبعد في الانتزاع؛ وذلك أنّ الحيتان لم يجر لها ذكرٌ فيقال: {فجعلناها}.
فإن ظنّ ظانٌّ أنّ ذلك جائزٌ وإن لم يكن جرى للحيتان ذكرٌ، لأنّ العرب قد تكنّي عن الاسم ولم يجر له ذكرٌ، فإنّ ذلك وإن كان كذلك، فغير جائزٍ أن يترك المفهوم من ظاهر الكتاب والمعقول به ظاهرٌ في الخطاب والتّنزيل إلى باطنٍ لا دلالة عليه من ظاهر التّنزيل ولا خبر عن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم منقولٌ ولا فيه من الحجّة إجماعٌ مستفيضٌ.
وأمّا تأويل من تأوّل ذلك: لما بين يديها من القرى وما خلفها، فينظر إلى تأويل من تأوّل ذلك بما بين يدي الحيتان وما خلفها). [جامع البيان: 2 / 70 - 73]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وموعظةً}.
والموعظة مصدرٌ من قول القائل: وعظت الرّجل أعظه وعظًا وموعظةً: إذا ذكرته
فتأويل الآية: فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها، وتذكرةً للمتّقين، ليتّعظوا بها، ويعتبروا، ويتذكّروا بها.
- كما حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {وموعظةً} «يقول: وتذكرةً وعبرةً للمتّقين».). [جامع البيان: 2 / 73]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى {للمتّقين}.
وأمّا المتّقون فهم الّذين اتّقوا بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
- كما حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، قال: حدّثنا أبو روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {وموعظةً للمتّقين} «يقول: للمؤمنين الّذين يتّقون الشّرك. ويعملون بطاعتي».
فجعل تعالى ذكره ما أحلّ بالّذين اعتدوا في السّبت من عقوبته موعظةً للمتّقين خاصّةً وعبرةً للمؤمنين دون الكافرين به إلى يوم القيامة.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، مولى ابن عبّاسٍ، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ: في قوله: {وموعظةً للمتّقين}«إلى يوم القيامة».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {وموعظةً للمتّقين} «أي بعدهم».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، مثله.
- حدّثنا موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «أمّا {وموعظةً للمتّقين} فهم أمّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».
- حدّثني المثنّى، قال، حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: {وموعظةً للمتّقين} قال: «فكانت موعظةً للمتّقين خاصّةً».
- حدّثنا القاسم قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ: في قوله: {وموعظةً للمتّقين} «أي لمن بعدهم».). [جامع البيان: 2 / 73 - 75]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({فجعلناها نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتّقين (66)}
قوله: {فجعلناها نكالا}
- به عن أبي العالية في قوله: {فجعلناها نكالا} «أي عقوبةً».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 133]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لما بين يديها}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي ثنا سهل بن عثمان الكنديّ المحاربيّ عن محمّد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ: «قال اللّه تعالى: {فجعلناها نكالا لما بين يديها} من القرى».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم ثنا أبو جعفرٍ عن الرّبيع عن أبي العالية:{فجعلناها نكالا لما بين يديها} «أي عقوبةً لما خلا من ذنوبهم». وروي عن الربيع ابن أنسٍ نحو ذلك. وروي عن مجاهدٍ والسّدّيّ وقتادة في رواية معمرٍ والحسن وعكرمة نحو ذلك.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبي ثنا شهاب بن عبّادٍ ثنا إبراهيم بن حميدٍ عن إسماعيل بن أبي خالدٍ: {فجعلناها نكالا لما بين يديها} قال: «ما كان قبلها من الماضين في شأن السّبت».
وروي عن قتادة وعطيّة نحو ذلك.
الوجه الرّابع:
- ذكر لي عن سعيد بن أبي مريم أخبرني ابن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {فجعلناها نكالا لما بين يديها} قال: «من بين يديها: من بحضرتها يومئذٍ من النّاس»). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 133 - 134]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وما خلفها}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي ثنا سهل بن عثمان العسكريّ ثنا المحاربي عن محمد ابن إسحاق عن داود بن الحسين عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ: «قال اللّه: {وما خلفها} من القرى».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم ثنا أبو جعفرٍ عن الرّبيع عن أبي العالية في قوله: {وما خلفها} « أي عبرةً لمن بقي بعدهم من النّاس». وروي عن الرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك.
الوجه الثالث:
- حدثنا بن محمّد بن الصّبّاح ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قوله: «وما خلفها الّتي قد أهلكوا بها. يعني خطاياهم».
وروي عن قتادة نحو ذلك.
الوجه الرّابع:
- حدّثنا أبي ثنا الحمّانيّ ثنا يعقوب القمّيّ عن مطرّفٍ عن عطيّة في قوله: {وما خلفها} «لما كان من بعدهم من بني إسرائيل، لا يعملوا فيها بمثل أعمالهم».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 134 - 135]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وموعظة للمتقين}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي ثنا سهل بن عثمان ثنا المحاربيّ عن محمّد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ: «وموعظةً للمتّقين الّذين من بعدهم إلى يوم القيامة».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ عن الرّبيع عن أبي العالية:{وموعظةً للمتّقين} قال: «موعظةً للمتّقين خاصّةً».
- حدّثنا الحسن بن أحمد ثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ ثنا سرور بن المغيرة عن عبّاد بن منصورٍ عن الحسن: «وموعظةً للمتّقين بعدهم فيتّقوا نقمة اللّه ويحذروها». وروي عن قتادة نحو قول الحسن.
الوجه الثّاني:
- حدّثني أبي ثنا يحيى الحمّانيّ ثنا يعقوب القمّيّ عن مطرّفٍ عن عطيّة في قوله: {وموعظةً للمتّقين} قال: «لأمّة محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، لا يلحدوا في حرم اللّه».
- حدّثنا أبو زرعة ثنا عمرو بن حمّادٍ بن طلحة ثنا أسباط عن السّدّيّ:{وموعظةً للمتّقين} قال: «فهم أمّة محمّد- صلّى الله عليه وسلّم».). [تفسير القرآن العظيم: 1 / 135]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال ثنا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل {فجعلناها نكالا لما بين يديها} «يعني لما مضى من خطاياهم». {وما خلفها} «يعني التي أهلكوا بها».). [تفسير مجاهد: 78]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {فجعلناها نكالا لما بين يديها} «من الذنوب». {وما خلفها} «من القرى». {وموعظة للمتقين} «الذين من بعدهم إلى يوم القيامة».
- وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {فجعلناها} «يعني الحيتان». {نكالا لما بين يديها وما خلفها} «من الذنوب التي عملوا قبل وبعد».
- وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {فجعلناها} قال: «فجعلنا تلك العقوبة وهي المسخة {نكالا} عقوبة {لما بين يديها} يقول: ليحذر من بعدهم عقوبتي {وما خلفها} يقول: للذين بقوا معهم !{وموعظة} تذكرة وعبرة للمتقين.».
- وأخرج عبد بن حميد عن سفيان في قوله {نكالا لما بين يديها وما خلفها} قال: «من الذنوب». {وموعظة للمتقين} قال: «لأمة محمد عليه السلام».). [الدر المنثور: 1 / 401 - 402]