تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقًا لما بين يديه من التّوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدًى ونورٌ ومصدّقًا لما بين يديه من التّوراة وهدًى وموعظةً للمتّقين}
يعني تعالى ذكره بقوله: {وقفّينا على آثارهم} أتبعنا، يقول: أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النّبيّين الّذين أسلموا من قبلك يا محمّد، فبعثناه نبيًّا مصدّقًا لكتابنا الّذي أنزلناه إلى موسى من قبله أنّه حقٌّ وأنّ العمل بما لم ينسخه الإنجيل منه فرضٌ واجبٌ {وآتيناه الإنجيل} يقول: وأنزلنا إليه كتابنا الّذي اسمه الإنجيل {فيه هدًى ونورٌ} يقول: في الإنجيل هدًى، وهو بيان ما جهله النّاس من حكم اللّه في زمانه {ونورٌ} يقول: وضياءٌ من عمى الجهالة {ومصدّقًا لما بين يديه} يقول: أوحينا إليه ذلك، وأنزلناه إليه بتصديق ما كان قبله من كتب اللّه الّتي كان أنزلها على كلّ أمّةٍ أنزل إلى نبيّها كتابٌ للعمل بما أنزل إلى نبيّهم في ذلك الكتاب من تحليل ما حلّل وتحريم ما حرّم {وهدًى وموعظةً} يقول: أنزلنا الإنجيل إلى عيسى مصدّقًا للكتب الّتي قبله، وبيانًا لحكم اللّه الّذي ارتضاه لعباده المتّقين في زمان عيسى وموعظةً لهم، يقول: وزجرًا لهم عمّا يكرهه اللّه إلى ما يحبّه من الأعمال، وتنبيهًا لهم عليه.
والمتّقون: هم الّذين خافوا اللّه وحذروا عقابه، فاتّقوه بطاعته فيما أمرهم وحذروه بترك ما نهاهم عن فعله.
وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل فأغنى ذلك عن إعادته). [جامع البيان: 8/482-483]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقًا لما بين يديه من التّوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدًى ونورٌ ومصدّقًا لما بين يديه من التّوراة وهدًى وموعظةً للمتّقين (46)
قوله وقفينا
[الوجه الأول]
- حدّثنا موسى بن أبي موسى الكوفيّ ثنا هارون بن حاتمٍ ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ عن أسباط بن نصرٍ عن السّدّيّ عن أبي مالكٍ قوله: وقفّينا أتبعنا
الوجه الثّاني:
قرأت على محمّد بن الفضل حدّثنا محمّد بن عليٍّ ثنا محمّد بن مزاحمٍ ثنا بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: وقفّينا يقول: بعثنا.
قوله تعالى على آثارهم
- وبه عن مقاتل بن حيّان قوله: وقفّينا على آثارهم يقول من بعدهم
قوله: بعيسى ابن مريم مصدّقًا لما بين يديه من التّوراة
قوله تعالى: وآتيناه الإنجيل
- حدّثنا أبي ثنا عبد اللّه بن رجا أنبأ عمران القطّان أبو العوّام عن قتادة عن أبي المليح عن وائلة أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: أنزل الإنجيل لثلاث عشر خلت من رمضان.
قوله تعالى: فيه هدى ونور
قد تقدّم تفسيره.
قوله تعالى: ومصدّقًا لما بين يديه من التوراة الآية
- حدّثنا أبي ثنا سهل بن عثمان ثنا المحاربيّ عن محمّد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن بن عبّاسٍ: وموعظةً للمتّقين الّذين من بعدهم إلى يوم القيامة
- حدّثنا الحسن بن أحمد ثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ ثنا سرور بن المغيرة عن عبّاد بن منصورٍ عن الحسن وموعظةٌ للمتّقين بعدهم فيتّقوا نعمة اللّه تعالى ويحذرونها). [تفسير القرآن العظيم: 4/1147]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين * وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.
أخرج أبو الشيخ في قوله {وقفينا على آثارهم} يقول: بعثنا من بعدهم عيسى ابن مريم.
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قول الله {وقفينا على آثارهم} قال: اتبعنا آثار الأنبياء أي بعثنا على آثارهم قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت عدي بن زيد وهو يقول:
يوم قفت عيرهم من عيرنا * واحتمال الحي في الصبح فلق). [الدر المنثور: 5/339]
تفسير قوله تعالى: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فأولئك هم الظالمون فأولئك هم الفاسقون قال فقيل ذلك في بني إسرائيل قال نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لهم كل مرة ولكم كل حلوة فلا والله لتسألن طريقهم قد الشراك.
عن الثوري عن منصور عن إبراهيم قال نزلت هؤلاء الآيات في بني إسرائيل ورضي لهذه الأمة بها.
نا الثوري عن زكريا عن الشعبي قال الأولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى). [تفسير عبد الرزاق: 1/191] (م)
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن منصورٍ عن إبراهيم: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} قال: نزلت في بني إسرائيل ورضي بها لهذه الأمة [الآية: 47]). [تفسير الثوري: 102]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون}
اختلفت القرّاء في قراءة قوله: {وليحكم أهل الإنجيل} فقرأ قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيّين: {وليحكم} بتسكين اللام على وجه الأمر من اللّه لأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل اللّه فيه من أحكامه. وكأنّ من قرأ ذلك كذلك أراد: وآتيناه الإنجيل فيه هدًى ونورٌ، ومصدّقًا لما بين يديه من التّوراة، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل اللّه فيه. فيكون في الكلام محذوفٌ ترك استغناءً بما ذكر عمّا حذف.
وقرأ ذلك جماعةٌ من أهل الكوفة: وليحكم أهل الإنجيل بكسر اللاّم من ليحكم، بمعنى: كي يحكم أهل الإنجيل. وكأنّ معنى من قرأ ذلك كذلك: وآتيناه الإنجيل فيه هدًى ونورٌ، ومصدّقًا لما بين يديه من التّوراة، وكي يحكم أهله بما فيه من حكم اللّه.
والّذي يتراءى في ذلك أنّهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيّ ذلك قرأ قارئٌ فمصيبٌ فيه الصّواب؛ وذلك أنّ اللّه تعالى لم ينزل كتابًا على نبيٍّ من أنبيائه إلاّ ليعمل بما فيه أهله الّذين أمروا بالعمل بما فيه، ولم ينزّله عليهم إلاّ وقد أمرهم بالعمل بما فيه، فللعمل بما فيه أنزله، وأمر بالعمل بما فيه أهله. فكذلك الإنجيل، إذ كان من كتب اللّه الّتي أنزلها على أنبيائه، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى، وأمر بالعمل به أهله. فسواءٌ قرئ على وجه الأمر بتسكين اللاّم أو قرئ على وجه الخبر بكسرها لاتّفاق معنييهما.
وأمّا ما ذكر عن أبيّ بن كعبٍ من قراءته ذلك: وأن ليحكم على وجه الأمر، فذلك ممّا لم يصحّ به النّقل عنه، ولو صحّ أيضًا لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورةً، إذ كان معناها صحيحًا، وكان المتقدّمون من أئمّة القرّاء قد قرءوا بها.
وإذا كان الأمر في ذلك ما بيّنّا، فتأويل الكلام إذا قرئ بكسر اللاّم من ليحكم: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل، فيه هدًى ونورٌ، ومصدّقًا لما بين يديه من التّوراة، وهدى وموعظةً للمتّقين، وكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزلنا فيه؛ فبدّلوا حكمه وخالفوه، فضلّوا بخلافهم إيّاه، إذ لم يحكموا بما أنزل اللّه فيه وخالفوه. {فأولئك هم الفاسقون} يعني: الخارجين عن أمر اللّه فيه المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه.
فأمّا إذا قرئ بتسكين اللاّم، فتأويله: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل، فيه هدًى ونورٌ، ومصدّقًا لما بين يديه من التّوراة، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزلنا فيه، فلم يطيعونا في أمرنا إيّاهم بما أمرناهم به فيه، ولكنّهم خالفوا أمرنا، فالّذين خالفوا أمرنا الّذي أمرناهم به فيه هم الفاسقون.
وكان ابن زيدٍ يقول: الفاسقون في هذا الموضع وفي غيره: هم الكاذبون.
- حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون} قال: ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضًا بذلك، فأولئك هم الفاسقون؛ قال: الكاذبون هنا. قال: وقال ابن زيدٍ: كلّ شيءٍ في القرآن إلاّ قليلاً فاسقٌ فهو كاذبٌ؛ وقرأ قول اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ} قال: الفاسق ههنا: كاذبٌ.
وقد بيّنّا معنى الفسق بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع). [جامع البيان: 8/483-485]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون (47)
قوله تعالى: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه
- قرأت على محمّد بن الفضل ثنا محمّد بن عليٍّ ثنا محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان قوله: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه قال: فأمر القسّيسين والرّهبان أن يحكموا بما أنزل اللّه في التّوراة قبل أن ينزل الإنجيل فكفر من كفر من أهل التّوراة والإنجيل، فكذبهم محمدا صلى الله عليه وسلم بقولهم أن عزير ابن اللّه والمسيح ابن مريم ابن اللّه وأنّ اللّه ثالث ثلاثةٍ وأنّ عيسى هو اللّه وأنّ يد اللّه مغلولةٌ وأنّ اللّه فقيرٌ وهم أغنياء، ولو أنّهم حكموا بالرّجم والقصاص والجراحات لكانوا كفّارًا باللّه بتكذيبهم محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وقولهم على اللّه الكذب والبهتان.
قوله تعالى: بما أنزل اللّه
- وبه عن مقاتل بن حيّان قوله: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه قال: في الإنجيل.
قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله
[الوجه الأول]
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ ثنا أصبغ بن الفرج قال:
سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم يقول في قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله قال: هذا الحكم لكتابه قال: ومن لم يحكم أيضًا في أهل الإنجيل بذلك فأولئك هم الفاسقون.
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن البراء قال: فأنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون في الكفّار كلّها.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي ثنا أبو زيادٍ القطّان ثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ ثنا خبيب بن سليمٍ قال: سمعت الحسن يقول أنزلت في أهل الكتاب أنّهم تركوا أحكام اللّه كلّها في هذه الآية ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون
الوجه الثّالث:
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع أنبأ عبد الرّزّاق ثنا الثّوريّ عن زكريّا عن الشّعبيّ ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون قال: أنزلت في النّصارى.
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ ثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن سفيان عن ابن جريجٍ عن عطاءٍ في قوله: فأولئك هم الفاسقون قال: فسقٌ دون فسقٍ وروي عن ابن طاوس مثل ذلك.
[الوجه الرابع]
- ذكر سليمان بن حربٍ عن حمّاد بن زيدٍ عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون العاصون.
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ ثنا أصبغ بن الفرج قال: سمعت عبد اللّه بن زيد بن أسلم يقول في قوله: فأولئك هم الفاسقون قال: الكاذبون.
الوجه الخامس:
- حدّثني أحمد بن سنانٍ ثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ عن سفيان عن منصورٍ عن إبراهيم ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون الآيات. قال: نزلت في بني إسرائيل ورضي بها لهؤلاء). [تفسير القرآن العظيم: 4/1147-1149]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (د) ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} إلى قوله: {الفاسقون} ؛ هذه الآيات الثلاث نزلت في اليهود خاصة: قريظة، والنضير. أخرجه أبو داود). [جامع الأصول: 2/117] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} قال: من أهل الإنجيل {فأولئك هم الفاسقون} قال: الكاذبون، قال ابن زيد: كل شيء في القرآن فاسق فهو كاذب إلا قليلا وقرأ قول الله {إن جاءكم فاسق بنبأ} الحجرات الآية 6 فهو كاذب، قال: الفاسق ههنا كاذب). [الدر المنثور: 5/339-340]