التفسير اللغوي
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)}
تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {حملت حملاً خفيفاً...}؛
الماء خفيف على المرأة إذا حملت.
{فمرّت به} فاستمرّت به: قامت به وقعدت.
{فلمّا أثقلت}: دنت ولادتها، أتاها إبليس فقال: ماذا في بطنك؟ فقالت: لا أدري. قال: فلعله بهيمة، فما تصنعين لي إن دعوت الله لك حتى يجعله إنسانا؟ قالت: قل، قال: تسمّينه باسمي. قالت: وما أسمك؟ قال: الحرث. فسّمته عبد الحارث، ولم تعرفه أنه إبليس). [معاني القرآن: 1/ 400]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {حملت حملاً خفيفاً} مفتوح الأول إذا كان في البطن وإذا كان على العنق فهو مكسور الأول وكذلك اختلفوا في حمل النخلة فجعله بعضهم من الجوف ففتحه وجعله بعضهم على العنق فكسره.
(فمرّت به) مجازه: استمرّ بها الحمل فأتمتّه). [مجاز القرآن: 1/ 236]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({هو الّذي خلقكم مّن نّفسٍ واحدةٍ وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلماّ تغشّاها حملت حملاً خفيفاً فمرّت به فلمّا أثقلت دّعوا اللّه ربّهما لئن آتيتنا صالحاً لّنكوننّ من الشّاكرين}
وقال: {حملت حملاً خفيفاً} لأنّ "الحمل" ما كان في الجوف و"الحمل" ما كان على الظهر. وقال: {وتضع كلّ ذات حملٍ حملها} وأما قوله: {أثقلت} فيقول: "صارت ذات ثقلٍ" كما تقول "أتمرنا" أي: "صرنا ذوي تمرٍ" و"ألبنّا" أي: صرنا ذوي لبن و"أعشبت الأرض" و"أكمأت" وقرأ بعضهم {فلمّا أثقلت}). [معاني القرآن: 2/ 22]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {فلما أثقلت} قال: عظم ولدها في بطنها، فهي مثقل إثقالاً). [معاني القرآن لقطرب: 602]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ({حملت حملا}: كل ذات حمل ولد. وحمل نخلة وحمل شجرة. فالحاء مفتوحة. وما كان من حمل: ثقل كان على ظهر أو وزر، فالحاء مكسورة ومنه {وإن تدع مثقلة إلى حملها} إلى ما عليها من يقل). [غريب القرآن وتفسيره: 155]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ({فمرّت به} أي استمرت بالحمل.
{لئن آتيتنا صالحاً} ولدا سويا بشرا، ولم [تجعله بهيمة] مفسر في كتاب «تأويل المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 175-176]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [الفرقان: 47]: أي سترا وحجابا لأبصاركم.
قال ذو الرّمة:
وَدَوِّيَّةٍ مثل السّماء اعتسفتها ....... وقد صبغ اللّيل الحصى بسواد
أي لمّا ألبسه الليل سواده وظلمته، كان كأنّه صبغه.
وقد يكنون باللباس والثوب عما ستر ووقى، لأنّ اللباس والثوب واقيان ساتران.
وقال الشاعر:
كثوب ابن بِيضٍ وَقَاهُم بهِ ....... فَسَدَّ على السَّالِكِينَ السَّبيلا
قال الأصمعي: (ابن بيض) رجل نحر بعيرا له على ثنيّة فسدّها فلم يقدر أحد أن يجوز، فضرب به المثل فقيل: سدّ ابن بيض الطريق.
وقال غير الأصمعي: (ابن بيض) رجل كانت عليه إتاوة فهرب بها فاتّبعه مطالبه، فلما خشي لحاقه وضع ما يطالبه به على الطريق ومضى، فلما أخذ الإتاوة رجع وقال: (سدّ ابن بيض الطريق) أي منعنا من اتباعه حين وفى بما عليه، فكأنه سدّ الطريق.
فكنَى الشاعر عن البعير- إن كان التفسير على ما ذكر الأصمعي.
أو عن الإِتَاوَةِ- إن كان التفسير ما ذكر غيره- بالثوب، لأنهما وقيا كما يقي الثوب.
وكان بعض المفسرين يقول في قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} [الفرقان: 47] أي سكنا، وفي قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} [البقرة: 187] أي سكن لكم.
وإنما اعتبر ذلك من قوله: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ}[يونس: 67] ومن قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}). [تأويل مشكل القرآن: 144-145] (م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (باب الكناية والتّعريض
الكناية أنواع، ولها مواضع: فمنها أن تكنى عن اسم الرجل بالأبوّة، لتزيد في الدّلالة عليه إذا أنت راسلته أو كتبت إليه، إذ كانت الأسماء قد تتّفق.
أو لتعظّمه في المخاطبة بالكنية، لأنها تدلّ على الحنكة وتخبر عن الاكتهال.
وقد ذهب هؤلاء إلى أنّ الكنية كذب ما لم يكن الولد مسمّى بالاسم الذي كني به عن الأب، وتقع للرجل بعد الولادة.
وقالوا: إن كانت الكناية للتعظيم فما باله كنى أبا لهب وهو عدوّه، وسمّي محمدا، صلّى الله عليه وسلم، وهو وليّه ونبيّه.
والجواب عن هذا: أن العرب كانت ربّما جعلت اسم الرجل كنيته، فكانت الكنية هي الاسم.
قال أبو محمد:
خبّرني غير واحد عن الأصمعي: أن أبا عمرو بن العلاء، وأبا سفيان بن العلاء أسماؤها كناهما.
وربما كان للرجل الاسم والكنية، فغلبت الكنية على الاسم، فلم يعرف إلا بها، كأبي سفيان، وأبي طالب، وأبي ذرّ، وأبي هريرة.
ولذلك كانوا يكتبون: علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان، لأن الكنية بكمالها صارت اسما، وحظّ كلّ حرف الرفع ما لم ينصبه أو يجرّه حرف من الأدوات أو الأفعال. فكأنه حين كنّي قيل: أبو طالب، ثم ترك ذلك كهيئته، وجعل الاسمان واحدا.
وقد روي في الحديث أن اسم أبي لهب عبد العزّى، فإن كان هذا
صحيحا فكيف يذكره رسول الله بهذا الاسم، وفيه معنى الشرك والكذب، لأن الناس جميعا عبيد الله؟.
وقال المفسرون في قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}-: إن حوّاء لما أثقلت أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما هذا الذي في بطنك؟ وذلك أول حملها، فقالت: ما أدري، فقال لها: أرأيت إن دعوت ربي فولدته إنسانا أتسمّينه بي؟
فقالت: نعم. وقالت هي وآدم: لئن آتيتنا صالحاً لنكوننّ من الشّاكرين أي: لئن خلقته بشرا مثلنا ولم تجعله بهيمة. فلما ولدته أتاها إبليس ليسألها الوفاء، فقالت: ما اسمك؟ قال: الحارث، فتسمى بغير اسمه، ولو تسمى باسمه لعرفته، فسمته عبد الحارث، فعاش أياما ثم مات، فقال الله تعالى: {فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا}، وإنما جعلا له الشرك بالتسمية لا بالنية والعقد، وانتهى الكلام في قصة آدم وحواء، ثم ذكر من أشرك به بالعقد والنّية من ذرّيتهما، فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ولو كان أراد آدم وحواء لقال: عما يشركان.
فهذا يدلّك على العموم.
وإن كان اسم أبي لهب كنيته فإنما ذكره بما لا يعرف إلا به، والاسم والكنية علمان يميّزان بين الأعيان والأشخاص، ولا يقعان لعلة في المسمى كما تقع الأوصاف، فبأيّ شيء عرف الرجل، جاز أن تذكره به غير أن تكذب في ذلك.
ولو كان من دعا أبا القاسم بأبي القاسم ولا قاسم له، كان كاذبا- لكان من دعا المسمى بكلب وقرد وغراب وذباب- كاذبا، لأنه ليس كما ذكر.
وقد طعنت الشّعوبية على العرب بأمثال هذه الأسماء، ونسبوهم إلى سوء الاختيار، وجهلوا معانيهم فيها.
وكان القوم يتفاءلون ويتطيّرون، فمن تسمى منهم بالأسماء الحسنى أراد أن يكثر له الفأل بالحسن، ومن تسمّى بقبيح الأسماء أراد صرف الشرّ عن نفسه.
وذلك أن العرب كانت إذا خرجت للمغار قالوا: إلى من تقصد؟ فتطيروا من كلب وجعل وقرد ونمر وأسد، وقالوا: ميلوا بنا إلى بني سعد وإلى غنم وما أشبه ذلك). [تأويل مشكل القرآن: 256-260]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (والخلق: الإنشاء والابتداء، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
وأصل الخلق: التقدير، ومنه قيل: خالقة الأديم، قال زهير:
ولأنتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وبـَ ....... ـعضُ القومِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يفري).
[تأويل مشكل القرآن: 507]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : ( {هو الّذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلمّا تغشّاها حملت حملا خفيفا فمرّت به فلمّا أثقلت دعوا اللّه ربّهما لئن آتيتنا صالحا لنكوننّ من الشّاكرين (189)}
{هو الّذي خلقكم من نفس واحدة}؛ يعني آدم.
{وجعل منها زوجها ليسكن إليها}،
{فلمّا تغشّاها}؛
كناية عن الجماع أحسن كناية.
{حملت حملا خفيفا}؛
يعني المني، والحمل ما كان في البطن - بفتح الحاء - أو أخرجته الشجرة، والحمل بكسر الحاء ما يحمل.
وقوله: {فمرّت به}؛
معنى مرت به استمرت، قعدت وقامت لم يثقلها.
{فلمّا أثقلت}؛
أي دنت ولادتها، لأنه أول أمره كان خفيفا، فلما جعل إنسانا ودنت الولادة أثقلت.
وقوله: {دعوا اللّه ربّهما}؛
أي دعا آدم وحواء ربهما).[معاني القرآن: 2/ 394-395]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة}؛
يعني آدم وجعل منها زوجها يعني حواء فلما تغشاها كناية عن الجماع حملت حملا خفيفا فمرت به.
قال الحسن: أي فاستمرت به والمعنى أنها مرت به وجاءت لم يثقلها.
وقرأ ابن يعمر فمرت به خفيف أي شكت في الحمل.
روي عن ابن عباس رحمه الله فاستمرت به.
قال أبو حاتم أي استمر بها الحمل فقلب الكلام كما يقال أدخلت الخف في رجلي فلما أثقلت أي استبان حملها دعوا الله ربهما لئن آتينا صالحا.
قال الحسن أي غلاما.
وقال أبو البختري خافا أن يكون بهيمة). [معاني القرآن: 3/ 113-114]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({فَمَرَّتْ بِهِ}؛ أي استمرت بالحمل.
{لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاًً}؛ أي ولداً سوياً بشراً، ولم تجعله بهيمة).[تفسير المشكل من غريب القرآن: 89]
تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {جعلا له شركاء...}
إذ قالت: عبد الحارث، ولا ينبغي أن يكون عبدا إلا لله. ويقرأ: "شركاً"). [معاني القرآن: 1/ 400]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({فلمّا آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى اللّه عمّا يشركون}
وقال: {جعلا له شركاء فيما آتاهما} وقال بعضهم {شركاً} لأنّ "الشرك" إنما هو: "الشركة" وكان ينبغي في قول من قال هذا أن يقول "فجعلا لغيره شركاً فيما آتاهما"). [معاني القرآن: 2/ 22]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (الحسن وأبو عمرو {جعلا له شركاء}.
وابن عباس {شركا}، وعكرمة والأعرج). [معاني القرآن لقطرب: 582]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وقال المفسرون في قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} : إن حوّاء لما أثقلت أتاها إبليس في صورة
رجل فقال لها: ما هذا الذي في بطنك؟ وذلك أول حملها، فقالت: ما أدري، فقال لها: أرأيت إن دعوت ربي فولدته إنسانا أتسمّينه بي؟
فقالت: نعم. وقالت هي وآدم: لئن آتيتنا صالحاً لنكوننّ من الشّاكرين أي: لئن خلقته بشرا مثلنا ولم تجعله بهيمة. فلما ولدته أتاها إبليس ليسألها الوفاء، فقالت: ما اسمك؟ قال: الحارث، فتسمى بغير اسمه، ولو تسمى باسمه لعرفته، فسمته عبد الحارث، فعاش أياما ثم مات، فقال الله تعالى: {فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا}، وإنما جعلا له الشرك بالتسمية لا بالنية والعقد، وانتهى الكلام في قصة آدم وحواء، ثم ذكر من أشرك به بالعقد والنّية من ذرّيتهما، فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}ولو كان أراد آدم وحواء لقال: عما يشركان.
فهذا يدلّك على العموم.
وإن كان اسم أبي لهب كنيته فإنما ذكره بما لا يعرف إلا به، والاسم والكنية علمان يميّزان بين الأعيان والأشخاص، ولا يقعان لعلة في المسمى كما تقع الأوصاف، فبأيّ شيء عرف الرجل، جاز أن تذكره به غير أن تكذب في ذلك.
ولو كان من دعا أبا القاسم بأبي القاسم ولا قاسم له، كان كاذبا- لكان من دعا المسمى بكلب وقرد وغراب وذباب- كاذبا، لأنه ليس كما ذكر.
وقد طعنت الشّعوبية على العرب بأمثال هذه الأسماء، ونسبوهم إلى سوء الاختيار، وجهلوا معانيهم فيها.
وكان القوم يتفاءلون ويتطيّرون، فمن تسمى منهم بالأسماء الحسنى أراد أن يكثر له الفأل بالحسن، ومن تسمّى بقبيح الأسماء أراد صرف الشرّ عن نفسه.
وذلك أن العرب كانت إذا خرجت للمغار قالوا: إلى من تقصد؟ فتطيروا من كلب وجعل وقرد ونمر وأسد، وقالوا: ميلوا بنا إلى بني سعد وإلى غنم وما أشبه ذلك). [تأويل مشكل القرآن: 258-260] (م)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : ( {لئن آتيتنا صالحا لنكوننّ من الشّاكرين (189) فلمّا آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى اللّه عمّا يشركون (190)}
يروى في التفسير أنّ إبليس - عليه اللعنة - جاء إلى حواء فقال: أتدرين ما في بطنك؟ فقالت لا أدري، قال فلعله بهيمة ثم قال: إن دعوت الله أن يجعله إنسانا أتسمينه باسمي؟: فقالت، نعم فسمته عبد الحارث، وهو الحارث. وهذا يروى في التفسير.
وقيل إن آدم وحواء أصل. فضرب، هذا مثلا لمشركي العرب وعرفوا كيف بدأ الخلق، فقيل فلما آتاهما اللّه - لكل ذكر وأنثى - آتاه اللّه ولدا ذكرا أو أنثى - هو خلقه وصوّره.
{جعلا له شركاء}؛ يعني الذين عبدوا الأصنام.
{فتعالى اللّه عمّا يشركون}؛
الأول هو الذي عليه التفسير، ومن قرأ " شركا "
فهو مصدر شركت الرجل أشركه شركا.
قال بعضهم: كان ينبغي أن يكون على قراءة من قرأ شركا جعلا لغيره شركا، يقول لأنهما لا ينكران أن الأصل الله عزّ وجلّ فالشرك إنما يجعل لغيره، وهذا على معنى جعلا له ذا شرك فحذف ذا مثل (واسأل القرية) ). [معاني القرآن: 2/ 395-396]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( ثم قال جل وعز: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما}
روى خصيف عن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس قال أتاهما إبليس فقال أنا أخرجتكما من الجنة فإن أطعتماني وإلا جعلت له قرنين فشق بطنك أو أخرجته ميتا فقضي أن يخرج ميتا ثم حملت حملا آخر فقال لهما مثل ذلك فقضي أن يخرج ميتا ثم حملت حملا آخر فقال لهما مثل ذلك فقالت له حواء فيم تريد أن أطيعك قال سميه عبد الحارث فسمته فقال الله جل وعز: {جعلا له شركاء فيما آتاهما}
قال غيره يعني في التسمية خاصة وكان اسم إبليس الحارث
178 - ثم قال تعالى: {فتعالى الله عما يشركون}
أي عما يشرك الكفار ويدل على هذا أيشركون ما لا يخلق شيئا يعني الأصنام
وروي عن عكرمة أنه قال لم يخص بهذا آدم وحواء وحدهما والتقدير على هذا الجنس كله أي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل منها أي من جنسها زوجها فلما تغشاها على الجنس كله وكذا دعوا يراد به الجنسان الكافران ثم حمل {فتعالى الله عما يشركون} على معنى الجميع فهذا أولى والله أعلم من أن ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام مثل هذا.
وقال بعض أهل النظر يراد به غير آدم وحواء وإنما ذكرا لأنهما أصل الناس). [معاني القرآن: 3/ 114-117]
تفسير قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {أيشركون ما لا يخلق شيئاً...}
أراد الآلهة بـ (ما)، ولم يقل: من، ثم جعل فعلهم كفعل الرجال. وقل: {وهم يخلقون} ولا يملكون). [معاني القرآن: 1/ 400]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (أبو عبد الرحمن السلمي "أتشركون" بالتاء، وسائر القراء {أيشركون} بالياء). [معاني القرآن لقطرب: 582]
تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {ولا يستطيعون...}؛
فجعل الفعل للرجال). [معاني القرآن: 1/ 400]
تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {وإن تدعوهم إلى الهدى...}؛
يقول: إن يدع المشركون الآلهة إلى الهدى لا يتبعوهم.
وقوله: {سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} ولم يقل: أم صممتّم. وعلى هذا أكثر كلام العرب: أن يقولوا: سواء عليّ أقمت أم قعدت. ويجوز: سواء عليّ أقمت أم أنت قاعد؛ قال الشاعر:
سواء إذا ما أصلح الله أمرهم ....... علينا أدثرٌ ما لهم أم أصارم
وأنشدني الكسائي:
سواء عليك النفر أم بتّ ليلة ....... بأهل القباب من نمير بن عامر
وأنشده بعضهم (أو أنت بائت) وجاز فيها (أو) لقوله: النفر؛ لأنك تقول: سواء عليك الخير والشر، ويجوز مكان الواو (أو) لأن المعنى جزاء؛ كما تقول: اضربه قام أو قعد. فـ (أو) إلى معنى العموم كذهاب الواو). [معاني القرآن: 1/ 401]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (نافع {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم} يخفف.
وسائر القراء {يتبعوكم} مثقل.
أبو جعفر يضم كل ما كان في القرآن من "يبطش".
وسائر القراء، أبو عمرو والحسن بالكسر). [معاني القرآن لقطرب: 582]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قوله عز وجل {أم أنتم صامتون} قالوا: صمت صمتًا وصموتًا وصماتًا، وما زال مصمتًا منذ اليوم مسكنًا، وقد أصمت وأسكت، وسكت سكتًا وسكوتًا وسكاتًا وسكوتًا). [معاني القرآن لقطرب: 602]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
كلّ شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش أو علّة، خلا الكلب، فإنّه يلهث في حال الكلال، وحال الرّاحة، وحال الصحة والمرض، وحال الريّ والعطش.
فضربه الله مثلا لمن كذّب بآياته فقال: إن وعظته فهو ضالّ، وإن لم تعظه فهو ضالّ، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث، أو تركته على حاله أيضا لهث.
ونحوه قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}. [تأويل مشكل القرآن: 369-370] (م)