تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخول في السلم، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم» بفتح السين، وقرأ الباقون بكسرها في هذا الموضع، فقيل: هما بمعنى واحد، يقعان للإسلام وللمسالمة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: «السّلم بكسر السين الإسلام، وبالفتح المسالمة»، وأنكر المبرد هذه التفرقة، ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالانتداب إلى الدخول في المسالمة، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها، وأما أن يبتدىء بها فلا.
واختلف بعد حمل اللفظ على الإسلام من المخاطب؟ فقالت فرقة: جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده، ويستغرق كافّةً حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع، فتكون الحال من شيئين، وذلك جائز، نحو قوله تعالى: {فأتت به قومها تحمله} [مريم: 27]، إلى غير ذلك من الأمثلة.
وقال عكرمة: «بل المخاطب من آمن بالنبي من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره». وذلك أنهم ذهبوا إلى تعظيم يوم السبت وكرهوا لحم الجمل وأرادوا استعمال شيء من أحكام التوراة وخلط ذلك بالإسلام فنزلت هذه الآية فيهم، ف كافّةً على هذا لإجزاء الشرع فقط.
وقال ابن عباس: «نزلت الآية في أهل الكتاب»، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد كافة، ف كافّةً على هذا لإجزاء الشرع وللمخاطبين على من يرى السلم الإسلام، ومن يراها المسالمة يقول: أمرهم بالدخول في أن يعطوا الجزية، وكافّةً معناه جميعا، والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفها، وقيل: إن كافّةً نعت لمصدر محذوف، كأن الكلام: دخله كافة، فلما حذف المنعوت بقي النعت حالا، وتقدم القول في خطوات، والألف واللام في الشّيطان للجنس، وعدوٌّ يقع على الواحد والاثنين والجميع، ومبينٌ يحتمل أن يكون بمعنى أبان عداوته وأن يكون بمعنى بان في نفسه أنه عدو، لأن العرب تقول: بان الأمر وأبان بمعنى واحد). [المحرر الوجيز: 1/ 504-506]
تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيّنات فاعلموا أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ (209) هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم اللّه في ظللٍ من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى اللّه ترجع الأمور (210) سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيةٍ بيّنةٍ ومن يبدّل نعمة اللّه من بعد ما جاءته فإنّ اللّه شديد العقاب (211) زيّن للّذين كفروا الحياة الدّنيا ويسخرون من الّذين آمنوا والّذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة واللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ (212)}
قرأ جمهور الناس «زللتم» بفتح اللام، وقرأ أبو السمال «زللتم» بكسرها، وأصل الزلل في القدم ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك، والمعنى ضللتم وعجتم عن الحق، والبيّنات محمد وآياته ومعجزاته إذا كان الخطاب أولا لجماعة المؤمنين، وإذا كان الخطاب لأهل الكتابين، فالبينات ما ورد في شرائعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم والتعريف به، وعزيزٌ صفة مقتضية أنه قادر عليكم لا تعجزونه، ولا تمتنعون منه، وحكيمٌ أي محكم فيما يعاقبكم به لزللكم.
وحكى النقاش أن كعب الأحبار لما أسلم كان يتعلم القرآن، فأقرأه الذي كان يعلمه: فاعلموا أن الله غفور رحيم، فقال كعب: إني لأستنكر أن يكون هكذا، ومر بهما رجل، فقال كعب: كيف تقرأ هذه الآية؟، فقرأ الرجل: فاعلموا أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ، فقال كعب: هكذا ينبغي). [المحرر الوجيز: 1/ 506]
تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {هل ينظرون} الآية، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهل من حروف الابتداء كأما، وينظرون معناه ينتظرون. والمراد هؤلاء الذين يزلون، والظلل جمع ظلة وهي ما أظل من فوق، وقرأ قتادة والضحاك «في ظلال»، وكذلك روى هارون بن حاتم عن أبي بكر عن عاصم هنا، وفي الحرفين في الزمر. وقال عكرمة: «ظللٍ طاقات»، وقرأ الحسن ويزيد بن القعقاع وأبو حيوة «والملائكة» بالخفض عطفا على الغمام، وقرأ جمهور الناس بالرفع عطفا على اللّه، والمعنى يأتيهم حكم الله وأمره ونهيه وعقابه إياهم، وذهب ابن جريج وغيره إلى أن هذا التوعد هو بما يقع في الدنيا.
وقال قوم: بل هو توعد بيوم القيامة، وقال قوم: قوله إلّا أن يأتيهم اللّه وعيد بيوم القيامة، وأما الملائكة فالوعيد هو بإتيانهم عند الموت، والغمام أرق السحاب وأصفاه وأحسنه، وهو الذي ظلل به بنو
وقال النقاش: «هو ضباب أبيض»، وفي قراءة ابن مسعود «إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام»، وقضي الأمر معناه وقع الجزاء وعذب أهل العصيان، وقرأ معاذ بن جبل «وقضاء الأمر»، وقرأ يحيى بن يعمر «وقضى الأمور» بالجمع، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ترجع» على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الباقون «ترجع» على بنائه للمفعول، وهي راجعة إليه تعالى قبل وبعد، وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا). [المحرر الوجيز: 1/ 507]