التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فإن كان له إخوةٌ} أي: أخوان فصاعداً، لأن العرب تجعل لفظ الجميع على معنى الإثنين، قال الراعى:
أخليد إنّ أباك ضاف وساده...... همّان باتا جنبةً ودخيلا
طرقا فتلك هما همى أقريهما.......زز.قلصاً لواقح كالقسيّ وحولا
فجعل الإثنين في لفظ الجميع وجعل الجميع في لفظ الاثنين.
{أقرب لكم نفعاً} أدنى نفعاً لكم). [مجاز القرآن: 1/118]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({يوصيكم اللّه في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ما ترك وإن كانت واحدةً فلها النّصف ولأبويه لكلّ واحدٍ مّنهما السّدس ممّا ترك إن كان له ولدٌ فإن لّم يكن لّه ولدٌ وورثه أبواه فلأمّه الثّلث فإن كان له إخوةٌ فلأمّه السّدس من بعد وصيّةٍ يوصي بها أو دينٍ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيّهم أقرب لكم نفعاً فريضةً مّن اللّه إنّ اللّه كان عليماً حكيماً} .
قال: {يوصيكم اللّه في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين} فالمثل مرفوع على الابتداء وإنما هو تفسير الوصية كما قال: {وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات لهم مّغفرةٌ وأجرٌ عظيمٌ} فسر الوعد يقول: "هكذا وعدهم" أي: قال "لهم مغفرةٌ". قال الشاعر:
عشيّة ما ودّ ابن غرّاء أمّه ...... لها من سوانا إذ دعا أبوان
قال: {فإن كنّ نساءً} فترك الكلام الأول وقال "إذا كان المتروكات نساءً" نصب وكذلك {وإن كانت واحدةً}.
وقال: {ولأبويه لكلّ واحدٍ مّنهما السّدس} فهذه الهاء التي في "أبويه" ضمير الميت لأنه لما قال: {يوصيكم اللّه في أولادكم} كان المعنى: يوصي اللّه الميت قبل موته بأنّ عليه لأبويه كذا ولولده كذا، أي: فلا يأخذنّ إلاّ ماله.
وقال: {فإن كان له إخوةٌ} فيذكرون أن الإخوة اثنان ومثله "إنّا فعلنا" وأنتما اثنان، وقد يشبه ما كان من شيئين وليس مثله، ولكن اثنين قد جعل جماعة في قول الله عز وجل: {إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما} وقال: {والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما} وذلك أن في كلام العرب أن كل شيئين من شيئين فهو جماعة وقد يكون اثنين في الشعر [قال الشاعر]:
بما في فؤادينا من الشوق والهوى ...... فيجبر منهاض الفؤاد المشعّف
وقال الفرزدق:
هما نفثا في فيّ من فمويهما ....... على النّابح العاوي أشدّ لجام
وقد يجعل هذا في الشعر واحدا. قال:
لا ننكر القتل وقد سبينا ........ في حلقكم عظمٌ وقد شجينا
وقال الآخر:
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ...... فإنّ زمانكم زمن خميص
ونظير هذا قوله: "تسع مائة" وإنما هو "تسع مئات" أو"مئين" فجعله واحدا، وذلك أن ما بين العشرة إلى الثلاثة يكون جماعة نحو: "ثلاثة رجال" و"عشرة رجال" ثم جعلوه في "المئين" واحدا.
وقال: {من بعد وصيّةٍ يوصي بها} لأنه ذكر الرجل حين قال: {وورثه أبواه}، وقال بعضهم {يوصى} وكلٌّ حسن. ونظير {يوصي} بالياء). [معاني القرآن: 1/194-196]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لّم يكن لّهنّ ولدٌ فإن كان لهنّ ولدٌ فلكم الرّبع ممّا تركن من بعد وصيّةٍ يوصين بها أو دينٍ ولهنّ الرّبع ممّا تركتم إن لّم يكن لّكم ولدٌ فإن كان لكم ولدٌ فلهنّ الثّمن ممّا تركتم مّن بعد وصيّةٍ توصون بها أو دينٍ وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةٌ وله أخٌ أو أختٌ فلكلّ واحدٍ مّنهما السّدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثّلث من بعد وصيّةٍ يوصى بها أو دينٍ غير مضآرٍّ وصيّةً مّن اللّه واللّه عليمٌ حليمٌ} .
{توصون} و{يوصين} حين ذكرهن، واحتج الذي قال: {يوصي} بالياء بقوله: {غير مضارٍّ وصيّةً مّن اللّه} فـ نصب {وصيّةً} و{فريضةً مّن اللّه} كما نصب {كتاباً مؤجّلاً}. وقال: {وإن كان رجلٌ يورث كلالةً} ولو قرئت {يورث} كان جيدا وتنصب {كلالةً} وقد ذكر عن الحسن، فإن شئت نصبت كلالةً على خبر {كان} وجعلت {يورث} من صفة الرجل، وإن شئت جعلت {كان} تستغني عن الخبر نحو "وقع"، وجعلت نصب {كلالةً} على الحال، أي: "يورث كلالةً" كما تقول: "يضرب قائماً" قال الشاعر في "كان" التي لا خبر لها:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي .......إذا كان يومٌ ذو كواكب أشهب
قال: {وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةٌ وله أخٌ أو أختٌ فلكلّ واحدٍ مّنهما} يريد من المذكورين. ويجوز أن نقول: للرجل إذا قلت "زيدٌ أو عمرٌ منطلقٌ": "هذان رجلا سوء" أي: اللذان ذكرت).[معاني القرآن: 1/196-197]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): (الفرض: وجوب الشيء، ويقال: فرضت عليك كذا، أي: أوجبته...
ومنه قوله في آية الصدقات بعد أن عدّد أهلها: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}وقيل للصلاة المكتوبة: فريضة.
وقيل لسهام الميراث: فريضة). [تأويل مشكل القرآن: 475]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): (ومنه جمع يراد به واحد واثنان كقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} واحد واثنان فما فوق.
وقال قتادة في قوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ}:«كان رجل من القوم لا يمالئهم على أقاويلهم في النبي صلّى الله عليه وسلم، ويسير مجانبا لهم، فسماه الله طائفة وهو واحد ».
وكان «قتادة» يقول في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} هو رجل واحد ناداه: يا محمد، إنّ مدحي زين، وإنّ شتمي شين، فخرج إليه النبي، صلّى الله عليه وسلم فقال: ((ويلك، ذاك الله جل وعز)) ونزلت الآية.
وقوله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}، أي: أخوان فصاعدا). [تأويل مشكل القرآن:282-283] (م)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله - عزّ وجلّ - {يوصيكم اللّه في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النّصف ولأبويه لكلّ واحد منهما السّدس ممّا ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمّه الثّلث فإن كان له إخوة فلأمّه السّدس من بعد وصيّة يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيّهم أقرب لكم نفعا فريضة من اللّه إنّ اللّه كان عليما حكيما}.
معنى {يوصيكم}: يفرض عليكم، لأن الوصية من اللّه - عز وجل - فرض، والدليل على ذلك قوله: {ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ ذلكم وصّاكم به}وهذا من المحكم علينا.
{للذّكر مثل حظّ الأنثيين} المعنى: يستقر للذكر مثل حظ الأنثيين، له الثلثان وللابنة الثلث.
{فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النّصف}
يجوز واحدة وواحدة ههنا، وقد قرئ بهما جميعا إلا أن النصب عندي أجود بكثير، لأن قوله: {فإن كنّ نساء فوق اثنتين} قد بين أن المعنى فإن كان الأولاد نساء، وكذلك، وإن كانت المولودة واحدة فلذلك اخترنا النصب، وعليه أكثر القراءة.
فإن قال قائل إنما ذكر لنا ما فوق الثنتين وذكرت واحدة فلم أعطيت البنتان الثلثين فسوّي بين الثنتين والجماعة؟
فقد قال الناس في هذا غير قول: قال بعضهم: أعطيت البنتان الثلثين بدليل لا تفرض لهما مسمى، والدليل: أهو، قوله: {يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك}، فقد صار للأخت النصف كما أن للابنة النصف، {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان} فأعطيت البنتان الثلثين كما أعطيت الأختان، وأعطي جملة الأخوات الثلثين قياسا على ما ذكر اللّه - عزّ وجلّ - في جملة البنات، وأعلم اللّه في مكان آخر أن حظ الابنتين وما فوقهما حظ واحد في قوله: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكلّ واحد منهما السّدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثّلث}،فدلت هذه الآية: أن حظّ الجماعة إذا كان الميراث مسمى حظ واحدة.
وهذا أيضا في العربية كذا قياسه لأن منزلة الاثنتين من الثلاث كمنزلة الثلاث من الأربع فالاثنان جمع كما أن الثلاث جمع، وصلاة الاثنين وصلاة الاثنتين جماعة، والاثنان يحجبان كما تحجب الجماعة.
فهذا بيّن واضح.
وهذا جعله اللّه في كتابه يدل بعضه على بعض تفقيها للمسلمين وتعليما، ليعلموا فيما يحزبهم من الأمور على هذه الأدلة.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد، وكذا قال إسماعيل بن إسحاق – أنه قال: «في الآية نفسها دليل أن للبنتين الثلثين، لأنه إذا قال: للذكر مثل حظ الأنثيين، وكان أول العدد ذكرا وأنثى، فللذّكر الثلثان وللأنثى الثلث، فقد بأن من هذا أن للبنتين الثلثين، واللّه قد أعلم أن ما فوق الثنثين لهما الثلثان».
وجميع هذه الأقوال التي ذكرنا: حسن جميل بين، فأمّا ما ذكر عن ابن عباس من أن البنتين بمنزلة البنت فهذا لا أحسبه صحيحا عن ابن عباس وهو يستحيل في القياس لأن منزلة الاثنين منزلة الجمع، فالواحد خارج عن الاثنين، ويقال ثلث وربع وسدس، ويجوز تخفيف هذه الأشياء لثقل الضم، فيقال ثلث وربع وسدس.
ومن زعم أن الأصل فيه: التخفيف وأنّه ثقل فخطأ، لأن الكلام موضوع على الإيجاز والتخفيف.
وقوله عزّ وجلّ: {ولأبويه لكلّ واحد منهما السّدس ممّا ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمّه الثّلث فإن كان له إخوة فلأمّه السّدس} فالأم لها في الميراث تسمية من جهتين:
1- تسمية السدس مع الولد.
2- وتسمية السدس مع الإخوة، وتسمية الثلث إن لم يكن له ولد.
والأب يرث: من جهة التسمية السدس، ويرث بعد التسمية على جهة التعصيب.
والأم يحجبها: الإخوة عن الثلث فترث معهم السدس.
قال أبو إسحاق: ونذكر من كل شيء من هذا مسألة، إذ كان أصل الفرائض في الأموال والمواريث في هذه السورة.
فإن مات رجل أو امرأة فخلفا أبوين، فلام الثلث، والثلثان الباقيان للأب، بهذا جاء التنزيل وعليه اجتمعت الأمة، فإن خلّف الميت ولدا وكان ذكرا فللأم السدس وللأب السدس، وما بقي فللابن، فإن خلّف بنتا وأبوين، فللبنت النصف وللأم السدس، وما بقي للأب يأخذ الأب سدسا بحق التسمية، ويأخذ السدس الآخر بحق التعصيب.
فإن خلّف الميت - وكانت امرأة - زوجا وأبوين، فللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي للأب ثلثا ما بقي، وهو ثلث أصل المال.
وقد ذكر عن ابن عباس«إنّه كان يعطي الأمّ الثلث من جميع المال».
ويعطي الأب السدس، فيفضل الأم على الأب في هذا الموضع.
والإجماع: على خلاف ما روي عنه.
وقال الذين احتجوا مع الإجماع: « لو أعلمنا اللّه - عزّ وجلّ - أن المال بين الأب والأم ولم يسم لكل واحد لوجب أن نقسمه بينهما نصفين، فلما أعلمنا اللّه - عزّ وجلّ - أنّ للأم الثلث علمنا أن للأب الثلثين، فلما دخل على الأب والأم داخل أخذ نصف المال، دخل النقص عليهما جميعا، فوجب أن يكون الميراث للأبوين إنّما هو النص، فصار للأم ثلث النصف، وللأب ثلثا النصف»..
وقيل في الاحتجاج في هذا قول آخر:
قال بعضهم: «إنما قيل {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمّه الثّلث} ولم يرثه ههنا أبواه فقط، بل ورثه أبواه وورثه مع الأبوين غير الأبوين، فرجع ميراث الأم إلى ثلث ما بقي».
وقال أصحاب هذا الاحتجاج: «كيف تفضل الأم على الأب والإخوة يمنعون الأم الثلث فيقتصر بها على السدس، ويوفر الباقي على الأب، فيأخذ الأب خمسة أسداس، وتأخذ الأم سدسا».
فإن توفي رجل أو امرأة، وخلّف إخوة ثلاثة فما فوق، وأمّا وأبا أخذت الأم السدس وأخذ الأب الباقي. هذا إجماع.
وقد روي عن ابن عباس في هذا شيء شاذ: «رووا أنّه كان يعطي الإخوة هذا السدس الذي منع الإخوة الأم أن تأخذه، فكان يعطي الأمّ السّدس، والإخوة السّدس. ويعطي الأب الثلثين، وهذا لا يقوله أحد من الفقهاء».
وقد أجمعت فقهاء الأمصار: «أن الإخوة لا يأخذون مع الأبوين».
فإن توفّي رجل وخلف أخوين وأبوين، فقد أجمع الفقهاء أن الأخوين يحجبان الأم عن الثلث، إلا ابن عباس فإنه كان لا يحجب بأخوين، وحجته أن اللّه - عزّ وجلّ - قال: {فإن كان له إخوة فلأمّه السّدس}
وقال جميع أهل اللغة: «إن الأخوين جماعة، كما أن الإخوة جماعة، لأنك إذا جمعت واحدا إلى واحد فهما جماعة، ويقال لهما إخوة».
وحكى سيبويه أن العرب تقول: قد وضعا رحالهما، يريدون رحليهما.
وما كان الشيء منه واحدا فتثنيته جمع، لأنّ الأصل هو الجمع.
قال اللّه تعالى: {إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما}.
وقال: {ولأبويه} لأن كل واحد منهما قد ولده.
والأصل في " أم " أن يقال " أبة "، ولكن استغني عنها بأم. وأبوان تثنية أب، وأبة، وكذلك لو ثنيت ابنا وابنة، - ولم تخف اللبس - قلت: ابنان.
{فلأمّه} تقرأ بضم الهمزة وهي أكثر القراءات.
وتقرأ بالكسر " فلإمّه "، فأما إذا كان قبل الهمزة غير كسر، فالضم لا غير، مثل قوله:{وجعلنا ابن مريم وأمّه آية} لا يجوز وإمّه، وكذلك قوله: {ما هنّ أمّهاتهم}، وإنما جاز " لإمّه " و {في أمّها رسولا} بالكسر، لأن قبل الهمزة كسرة.
فاستثقلوا الضمة بعد الكسرة، وليس في كلام العرب مثل: " فعل " بكسر الفاء وضم العين، فلما اختلطت اللام بالاسم شبه بالكلمة الواحدة، فأبدل من الصفة كسرة،.
ومن قال: فلامه كح - بضم الهمزة. أتى بها على أصلها، على أن اللام تقديرها تقدير الانفصال.
وقوله عزّ وجل: {من بعد وصيّة يوصي بها أو دين} أي: إن هذه الأنصبة إنما تجب بعد قضاء الدين، وإنفاذ وصية الميت في فإن قال قائل: فلم قال أو دين، وهلا كان " من بعد وصية يوصي بها ودين؟
فالجواب في هذا: أن " أو " تأتي للإباحة، فتأتي لواحد واحد على انفراد، وتضم الجماعة فيقال جالس الحسن أو الشعبي، والمعنى كل واحد من هؤلاء أهل أن يجالس، فإن جالست الحسن فأنت مصيب، ولو قلت جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير متبع ما أمرت.
فلو كان " من بعد وصية يوصي بها ودين " احتمل اللفظ أن يكون هذا إذا اجتمعت الوصية والدين، فإذا انفردا كان حكم آخر، فإذا كانت " أو " دلّت على أن أحدهما إن كان فالميراث بعده، وكذلك إن كانا كلاهما وقوله - عزّ وجلّ -: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيّهم أقرب لكم نفعا} في هذا غير قول: أمّا التفسير فإنه يروى أن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة أن يرفع إليه أبوه فيرفع، وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه سأل يرفع ابنه إليه فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا، أي: إن اللّه - عزّ وجلّ - قد فرض الفرائض على ما هي عنده حكمة، ولو ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع في الدنيا، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة.
{إنّ اللّه كان عليما حكيما} أي: عليم بما يصلح خلقه - حكيم فيما فرض من هذه الأموال وغيرها.
وقوله: {فريضة من اللّه} منصوب على التوكيد والحال من.. ولأبويه... أي: ولهؤلاء الورثة ماذكرنا مفروضا، ففريضة مؤكدة لقوله {يوصيكم الله} ومعنى {إن اللّه كان عليما حكيما}فيه ثلاثة أقوال:
1- قال سيبويه: كان القوم شاهدوا علما وحكمة ومغفرة وتفضلا، فقيل لهم إن الله كان كذلك ولم يزل، أي لم يزل على ما شاهدتم.
2- وقال الحسن: كان عليما بالأشياء قبل خلقها، حكيما فيما يقدر تدبيره منها.
3- وقال بعضهم: الخبر عن الله في هذه الأشياء بالمضي، كالخبر بالاستقبال والحال، لأن الأشياء عند الله في حال واحدة، ما مضى وما يكون وما هو كائن.
والقولان الأولان هما الصحيحان: لأن العرب خوطبت بما تعقل، ونزل القرآن بلغتها فما أشبه من التفسير كلامها فهو أصح، إذ كان القرآن بلغتها نزل.
وقال بعضهم: «الأب تجب عليه النفقة للابن إذا كان محتاجا إلى ذلك، وكذلك الأب تجب نفقته على الابن إذا كان محتاجا إلى ذلك، فهما في النفع في هذا الباب لا يدرى أيهما أقرب نفعا».
والقول الأول هو الذي عليه أهل التفسير). [معاني القرآن: 2/18-25]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {يوصيكم الله في أولادكم} أي: يفرض عليكم كما قال {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به}).[معاني القرآن: 2/27]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {للذكر مثل حظ الأنثيين} خلافا على أهل الجاهلية لأنهم كانوا لا يورثون الإناث). [معاني القرآن: 2/27-28]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} ولم يسم للاثنتين شيئا ففي هذا أقوال:
أ- منها أنه قيل إن فوقا ههنا زائدة وأن المعنى فإن كن نساء اثنتين كما قال فاضربوا فوق الأعناق.
ب- وقيل أعطي الاثنتان الثلثين بدليل لا بنص لأن الله عز وجل جعل هذه الأشياء يدل بعضها على بعض ليتفقه لها المسلمون والدليل أنه جعل فرض الأخوات والإخوة للأم إذا كن اثنتين أو أكثر واحدا فقال عز وجل: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}.
ج- ودليل آخر أنه جعل فرض الأخت كفرض البنت فلذلك يجب أن يكون فرض البنتين كفرض الأختين
قال الله عز وجل: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك}
وقال أبو العباس محمد بن يزيد: في الآية نفسها دليل على أن للبنتين الثلثين لأنه قال {للذكر مثل حظ الأنثيين} وأقل العدد ذكر وأنثى فإذا كان للواحدة الثلث دل ذلك على أن للأنثيين الثلثين فهذه أقاويل أهل اللغة.
وقد قيل: ليس للبنات إلا النصف والثلثان فلما وجب أن لا يكون للابنتين وجب أن يكون لهما الثلثان، على أن ابن عباس قال: لهما النصف.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى البنتين الثلثين .
وروى جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن زوجي قتل معك وإنما يتزوج النساء للمال وقد خلفني وخلف ابنتين وأخا وأخذ الأخ المال فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ادفع إليها الثمن وإلى البنتين الثلثين ولك ما بقي)).). [معاني القرآن: 2/28-31]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {فإن كان له إخوة فلامه السدس} أجمعت الفقهاء أن: الإخوة اثنان فصاعدا، إلا ابن عباس فإنه قال: لا يكون الإخوة أقل من ثلاثة والدليل على أن الاثنين يقال لهما إخوة قوله: {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء}، فلا اختلاف بين أهل العلم أن هذا يكون للاثنين فصاعدا والاثنان جماعة لأنه واحد جمعته إلى آخر.
وقال {وأطراف النهار} يعني: طرفيه والله أعلم وصلاة الاثنين جماعة). [معاني القرآن: 2/31-32]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إنكم تقرؤون {من بعد وصية يوصي بها أو دين} وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية.
قال أبو جعفر: كأن هذا على التقديم والتأخير وليست أو ههنا بمعنى الواو وإنما هي للإباحة.
والفرق بينها وبين الواو: أنه لو قال من بعد وصية يوصي بها ودين جاز أن يتوهم السامع بأن هذا إذا اجتمعا فلما جاء بأو جاز أن يجتمعا وأن يكون واحد منهما). [معاني القرآن: 2/32-33]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا} قال ابن عباس: «في الدنيا».
وقال غيره: «إذا كان الابن أرفع درجة من الأب سأل الله أن يلحقه به وكذلك الأب إذا كان أرفع درجة منه»). [معاني القرآن: 2/33]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} أي: عليم بما فرض حكيم به .
ومعنى كان ههنا فيه أقوال :
أحدهما: أن معناه لم يزل كأن القوم عاينوا حكمة وعلما فأعلمهم الله عز وجل أنه لم يزل كذلك وقيل الإخبار من الله في الماضي والمستقبل واحد لأنه عنده معلوم). [معاني القرآن: 2/33-34]