التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ مّحكماتٌ...}
{منه آياتٌ مّحكماتٌ} يعني: مبيّنات للحلال, والحرام , ولم ينسخن, وهنّ الثلاث الآيات في الأنعام أوّلها: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم}, والآيتان بعدها, وقوله: {هنّ أمّ الكتاب}, يقول: هنّ الأصل.
{وأخر متشابهاتٌ}, وهنّ: ألمص، وألر، وألمر؛ اشتبهن على اليهود؛ لأنهم التمسوا مدّة أكل هذه الأمّة من حساب الجمّل، فلمّا لم يأتهم على ما يريدون, قالوا: خلّط محمد صلى الله عليه وسلم , وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فقال الله: {فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} يعني: تفسير المدّة.
ثم قال: {وما يعلم تأويله إلاّ اللّه}, ثم استأنف {والراسخون}, فرفعهم بـ{يقولون} لا بإتباعهم إعراب الله, وفي قراءة أبيّ {ويقول الراسخون},
وفي قراءة عبد الله :{إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون}). [معاني القرآن: 1/190-191]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( (آياتٌ محكماتٌ) يعني: هذه الآيات التي تسمّيها في القرآن.
(وأخر متشابهاتٌ): يشبه بعضها بعضاً.
(في قلوبهم زيغٌ) أي: جور.
(فيتّبعون ما تشابه منه): ما يشبه بعضه بعضاً، فيطعنون فيه.
(ابتغاء الفتنة): الكفر.
(والرّاسخون في العلم): العلماء، ورسخ أيضاً في الإيمان.
(تأويله): التأويل: التفسير، والمرجع: مصيره، قال الأعشى:
على أنها كانت تأوّل حبّها= تأوّل ربعيّ السّقاب فأصحبا
قوله: تأول حبها: تفسيره: ومرجعه، أيك إنه كان صغيراً في قلبه، فلم يزل ينبت، حتى أصحب, فصار قديماً كهذا السقب الصغير لم يزل يشبّ حتى أصحب, فصار كبيراً مثل أمّه). [مجاز القرآن: 1/86-87]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ مّحكماتٌ هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهاتٌ فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ مّن عند ربّنا وما يذّكّر إلاّ أولوا الألباب},قال: {هنّ أمّ الكتاب}, ولم يقل: "أمهات" كما تقول للرجل: "ما لي نصيرٌ" , فيقول: "نحن نصيرك" , وهو يشبه "دعني من تمرتان", قال:
تعرّضت لي بمكان حلّ = تعرّض المهرة في الطولّ
= تعرّضاً لم تأل عن قتلا لي=
فجعله على الحكاية ؛ لأنه كان منصوباً قبل ذلك كما ترى، كما تقول: "نودي" "الصلاة الصلاة" "أي: تحكى قوله: "الصلاة الصلاة",
وقال بعضهم: إنّما هي "أن قتلاًلي" , ولكنه جعله عيناً, لأنّ من لغته في "أن", "عن", والنصب على الأمر؛ كأنك قلت: ضرباً لزيدٍ"). [معاني القرآن: 1/159-160]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): (وقال: {كلٌّ مّن عند ربّنا}؛لأن "كلّ" قد يضمر فيها كما قال: {إنّا كلٌّ فيها} يريد: كلّنا فيها, ولا تكون "كلّ" مضمراً فيها, وهي صفة إنما تكون مضمراً فيها إذا جعلتها اسماً, فلو كان "إنّا كلاّ فيها" على الصفة لم يجز ؛ لأن الإضمار فيها ضعيف, لا يتمكن في كل مكان). [معاني القرآن: 1/160]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({في قلوبهم زيغ}: جور زاغ عن الطريق أي حاد، وأزغته أنا.
{ابتغاء الفتنة}: قالوا الكفر).[غريب القرآن وتفسيره: 101]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({في قلوبهم زيغٌ}, أيك جور, يقال: زغت عن الحق. ومنه قوله: {أم زاغت عنهم الأبصار} أي: عدلت, ومالت.
{ابتغاء الفتنة}أي: الكفر, والفتنة تتصرف على وجوه قد ذكرتها في كتاب «تأويل المشكل».
{أولو الألباب}: ذوو العقول, وواحد «أولو» : ذو, وواحد أولات: ذات). [تفسير غريب القرآن: 101]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): (ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ في المتشابه إلا أن يقولوا: {آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}لم يكن للراسخين فضل على المتعلمين، بل على جهلة المسلمين، لأنهم جميعا يقولون: {آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}.
وبعد فإنّا لم نر المفسرين توقّفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرّوه كلّه على التفسير، حتى فسروا (الحروف المقطّعة) في أوائل السّور، مثل: الر، وحم، وطه، وأشباه ذلك. وسترى ذلك في الحروف المشكلة، إن شاء الله.
فإن قال قائل: كيف يجوز في اللغة أن يعلمه الراسخون في العلم، والله تعالى يقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] وأنت إذا أشركت الراسخين في العلم انقطعوا عن (يقولون)، وليست هاهنا واو نسق توجب للراسخين فعلين. وهذا مذهب كثير من النحويين في هذه الآية، ومن جهته غلط قوم من المتأوّلين؟.
قلنا له: إن (يقولون) هاهنا في معنى الحال، كأنه قال: الرّاسخون في العلم قائلين: آمنا به. ومثله في الكلام: لا يأتيك إلا عبد الله، وزيد يقول: أنا مسرور بزيارتك. يريد: لا يأتيك إلا عبد الله وزيد قائلا: أنا مسرور بزيارتك.
ومثله لابن مفرّغ الحميريّ يرثي رجلا في قصيدة أولها:
أصرمت حبلك من أمامه من بعد أيّام برامه
والرّيح تبكي شجوها والبرق يلمع في غمامه
أراد: والبرق لامعاً في غمامة تبكي شجوه أيضا، ولو لم يكن البرق يشرك الرّيح في البكاء، لم يكن لذكره البرق ولمعه معنى). [تأويل مشكل القرآن: 100-101]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلّا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلّا أولو الألباب}
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إنّه قال: المحكمات: الآيات في آخر الأنعام, وهي قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم}, إلى آخر هذه الآيات، والآيات المتشابهات {الم}, و{المر} , وما اشتبه على اليهود من هذه , ونحوها.
وقال قوم: معنى {منه آيات محكمات} أي: أحكمت في الإبانة , فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها؛ لأنها ظاهرة بينة نحو : ما أنبأ الله من أقاصيص الأنبياء مما اعترف به أهل الكتاب, وما أخبر الله به من إنشاء الخلق من قوله عز وجل: {ثمّ خلقنا النّطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثمّ أنشأناه خلقاً آخر}, فهذا اعترف القوم به, وأقروا بأن الله هو خالقهم، وما أخبر اللّه به من خلقه من الماء كل شيء حي وما خلق لهم من الثمار, وسخر لهم من الفلك, والرياح , وما أشبه ذلك.
فهذا ما لم ينكروه، وأنكروا ما احتاجوا فيه إلى النظر , والتدبر من أن اللّه عزّ وجلّ يبعثهم بعد أن يصيروا تراباً, فقال: {وقال الّذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبّئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفي خلق جديد * أفترى على اللّه كذبا أم به جنّة}
{وكانوا يقولون أئذا متنا وكنّا ترابا وعظاما أإنّا لمبعوثون *أوآباؤنا الأوّلون }, فهذا الذي هو المتشابه عليهم، فأعلمهم اللّه الوجه الذي ينبغي أن يستدلوا به على أن هذا المتشابه عليهم كالظاهر إن تدبروه, ونظروا فيه، فقال عزّ وجلّ: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم* قل يحييها الّذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم * الّذي جعل لكم من الشّجر الأخضر ناراً}
وقال: {أوليس الّذي خلق السّماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} أي: إذا كنتم قد أقررتم بالإنسان , والابتداء , فما تنكرون من البعث والنشور؛ وهذا قول كثير من الناس وهو بين واضح, والقول الأول حسن أيضاً, فأما (أخر) فغير مصروفة.
زعم سيبويه, والخليل أن (أخر) فارقت أخواتها, والأصل الذي عليه بناء أخواتها، لأن أخر أصلها أن تكون صفة بالألف واللام, كما تقول الصغرى والصّغر، والكبرى والكبر, فلما عدلت عن مجرى الألف واللام , وأصل " أفعل منك ", وهي مما لا تكون إلا صفةمنعتالصرف.
وقوله عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه}الزيغ: الجور والميل عن القصد، ويقال: زاغ, يزيغ إذا جار.
ومعنى (ابتغاء الفتنة) أي: يفعلون ذلك لطلب الفتنة, ولطلب التأويل.
والفتنة في اللغة على ضروب:
فالضرب الذي ابتغاه هؤلاء هو فساد ذات البين في الدّين والحروب، والفتنة في اللغة: الاستهتار بالشيء والغلو فيه.
يقال: فلان مفتون في طلب الدنيا، أي: قد غلا في طلبها , وتجاوز القدرة, والفتنة الاختبار كقوله عزّ وجلّ: {وكذلك فتنّا بعضهم ببعض} أي: اختبرنا، ومعنى ابتغائهم تأويله كأنهم طلبوا تأويل بعثهم , وإحيائهم، فأعلم الله أن تأويل ذلك, ووقته لا يعلمه إلا الله, والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {هل ينظرون إلّا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الّذين نسوه من قبل}أي: يوم يرون ما وعدوا به من البعث, والنشور, والعذاب.
{يقول الّذين نسوه من قبل} أي: الذين تركوه, وتركوا ما أنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم عن اللّه عزّ وجلّ من بعثهم، ومجازاتهم.
وقوله عزّ وجلّ: {قد جاءت رسل ربّنا بالحقّ} أي: قد رأينا ما أنبأتنا به الرسل.
فالوقف التام قوله: (وما يعلم تأويله إلّا اللّه) أي: لا يعلم أحد متى البعث(غير اللّه).
ومعنى: (والراسخون في العلم) أي: الثابتون.
يقال: رسخ الشيء , يرسخ, رسوخاً إذا ثبت, أي: يقولون صدقنا بأنّ اللّه يبعثنا، ويؤمنون بأنّ البعث حق كما أن الإنشاء حق، ويقولون: {كلّ من عند ربّنا}, ويدل على أن الأمر الذي اشتبه عليهم لم يتدبروه.
قوله عزّ وجلّ: {وما يذّكّر إلّا أولو الألباب} أي: ذوو العقول, أي: ما يتذكر القرآن , وما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم إلّا أولو الألباب). [معاني القرآن: 1/376-379]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله جل وعز: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}
روي , عن ابن عباس: المحكمات الثلاث الآيات: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم} إلى ثلاث آيات, والتي في بني إسرائيل , {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه }, قال : والمتشابه ما تشابه عليهم نحو: {الم}, و{المر}.
وقال يحيى بن يعمر: المحكمات: الفرائض, والأمر, والنهي, وهن عماد الدين , وعماد كل شيء أمه.
وقال مجاهد, وعكرمة: نحوا من هذا قالا: ما فيه من الحلال, والحرام, وما سوى ذلك, فهو متشابه :يصدق بعضه بعضاً.
وقال قتادة نحوه, قال: المحكم : ما يعمل به .
وقال الضحاك: المحكمات: الناسخات, والمتشابهات: المنسوخات .
وقال ابن عباس : كل من عند ربنا, يعني : ما نسخ, وما لم ينسخ.
قال ابن كيسان: أحكامها بيانها , وإيضاحها , وقد يكون إيجابها وإلزامها, وقد يكون أنها لا تحتمل إلا معاني ألفاظها, ولا يضل أحد في تأويلها.
ويجمع ذلك أن كل محكم تام الصنعة, وقد يكون الإحكام ههنا المنع من احتمال التأويلات,
ومنه سميت حكمة الدابة لمنعها إياها, قال : متشابهات: يحتمل أن يشبه اللفظ اللفظ, ويختلف المعنى, أو يشتبه المعنيان, ويختلف اللفظ, أو يشتبه الفعل من الأمر , والنهي, فيكون هذا نحو الناسخ , والمنسوخ.
وقيل: المتشابهات, ما كان نحو قوله تعالى: {ثلاثة قروء}
وأجمع هذه الأقوال: أن المحكم ما كان قائما بنفسه لا يحتاج إلى استدلال, والمتشابه ما لم يقم بنفسه, واحتاج إلى استدلال). [معاني القرآن: 1/344-346]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقال الله عز وجل: {منه آيات محكمات}, وقد قال: {كتاب أحكمت آياته},
وقال: {وأخر متشابهات}, وقد قال كتاباً متشابهاً, فالجواب أن معنى {أحكمت آياته}, جعلت كأنها محكمة, ثم فصلت , فكأن بعضها أم الكتاب, وليس قوله: {منه آيات محكمات} بمزيل الحكمة عن المتشابهات, وكذا كتاباً متشابهاً, وليس قوله: {وأخر متشابهات} بمزيل عن المحكمات أن تكون متشابهات في باب الحكمة بل جملته إذا كان محكماً لاحقة لجميع ما فصل منه , وكتاباً متشابهاً,أي: متشابهاً في الحكمة, لا يختلف بعضه مع بعض كما قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} , وقد بينا معنى : و{منه آيات محكمات} بأقاويل العلماء فيه.
وهذا معنى قول ابن عباس : أنها ما أوجب الله على عباده من أحكامه اللازمة التي لم يلحقها تغير , ولا تبديل.
وقد يكون المحكم: ما كان خبراً؛ لأنه لا يلحقه نسخ , والمتشابه الناسخ, والمنسوخ؛ لأنهم لا يعلمون منتهى ما يصيرون إليه منه , وفي كل ذلك حكمة, وبعضه يشبه بعصا في الحكمة .
وقال تعالى: {هن أم الكتاب}, ولم يقل: أمهات , قال الأخفش: هذا حكاية.
قال الفراء :{ هن أم الكتاب}؛ لأن معناهن شيء واحد
قال ابن كيسان: وأحسب الأخفش أراد هذا , أي : هن الشيء الذي يقال: هو أم الكتاب, أي: كل واحدة منهن يقال لها: أم الكتاب كما تقول أصحابك علي أسد ضار , أي واحد كاسد ضار؛ لأنهم جروا مجرى شيء واحد في الفعل
ومنه {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} ؛ لأن شانهما واحد في أنها جاءت به من غير ذكر , وأنه لا أب له , فلم تكن الآية لها إلا به ولا له إلا بها, ولم يرد أن يفصله منها فيقول آيتين
وكذلك هن أم الكتاب إنما جعلهن شيئا واحداً في الحكمة والبيان, فذلك الشيء هو أم الكتاب). [معاني القرآن: 1/346-349]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه}
روى أيوب , عن ابن أبي مليكة, عن عائشة , عن النبي صلى الله عليه وسلم :{فأما الذين في قلوبهم زيغ, فيتبعون ما تشابه منه}, قال: ((فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه, فهم أولئك؛ فاحذروهم)).
قال ابن عباس : هم الخوارج , وقال أبو غالب: قال أبو أمامة الباهلي, ورأى رؤوساً من رؤوس الخوارج , فقرأ : {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه} , ثم قال: هم هؤلاء.
فقلت: يا أبا أمامة أشيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , أم شيئا قلته من رأيك.
فقال:إني إذاً لجريء , يقولها ثلاثاً, بل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة, ولا مرتين, ولا ثلاث.
قال مجاهد: الزيغ : الشك , وابتغاء الفتنة: الشبهات.
وقيل: إفساد ذات البين, وقد ذكرنا تصرف الفتنة , والتأويل من قولهم آل الأمر إلى كذا إلى صار إليه , وأولته تأويلاً صيرته إليه .
قيل : الفرق بين التأويل:
والتفسير: أن التفسير نحو قول العلماء الريب: الشك.
والتأويل: نحو قول ابن عباس: الجد أب , وتأمل قول الله {يا بني آدم}). [معاني القرآن: 1/349-351]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} , في هذه الآية اختلاف كثير منه أن التمام عند قوله: {إلا الله}, وهذا قول الكسائي, والأخفش , والفراء, وأبي عبيدة , وأبي حاتم ,ويحتج في ذلك بما روى طاووس, عن ابن عباس أنه قرأ :{وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به}, وقال عمر بن عبد العزيز: انتهى علم الراسخين في العلم إلى أن قالوا: آمنا به .
قال ابن كيسان : التأويل في كلام العرب ما يؤول إليه معنى الكلام, فتأويله: ما يرجع إليه معناه, وما يستقر عليه الأمر في ذلك المشتبه , هل ينجح أم لا, فالكلام عندي منقطع على هذا.
والمعنى: والثابتون في العلم, المنتهون إلى ما يحاط به منه مما أباح الله خلقه بلوغه, يقولون: آمنا به على التسليم, والتصديق به, وإن لم ينتهوا إلى علم ما يؤول إليه أمره
ودل على هذا {كل من عند ربنا}, أي: المحكم , والمتشابه , فلو كان كله عندهم سواء, لكان كله محكماً, ولم ينسب شيء منه إلى المتشابه.
قال أبو جعف: وهذا قول حسن, ولكنه على قول من قال: المحكم الذي لا ينسخ نحو: الأخبار, ودعاء العباد إلى التوحيد.
والمتشابه: ما يحتمل النسخ من الفرائض لم يكن إلى العباد علم تأويله. وما يثبت عليه , ومن جعل تأويله بمعنى تفسيره ؛ لأنه ما يؤول إليه معنى الكلام , فالراسخون في العلم عنده يعلمون تأويله.
كما روى ابن نجيح, عن مجاهد :{الراسخون في العلم يعلمون تأويله يقولون آمنا به}, قال مجاهد: قال ابن عباس : أنا ممن يعلم تأويله.
قال أبو جعفر : والقول الأول وإن كان حسناً, فهذا أبين منه؛ لأن واو العطف الأولى بها أن تدخل الثاني فيما دخل فيه الأول حتى يقع دليل بخلافه.
وقد مدح الله عز وجل الراسخين بثباتهم في العلم , فدل على أنهم يعلمون تأويله.
وقد قال جل وعز: {أفلا يتدبرون القرآن}
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه دعا لابن عباس, فقال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل))
وقال أبو إسحاق: معنى {ابتغائهم تأويله}: أنهم طلبوا تأويل بعثهم, وأحيائهم, فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك, ووقته لا يعلمه إلا الله , قال: والدليل على ذلك قوله: {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله}, أي: يوم يرون ما وعدوا به من البعث, والنشور, والعذاب, يقول: الذين نسوه, أي: تركوه : قد جاء ت رسل ربنا بالحق, أي: قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل.
قال: والوقف التام: { وما يعلم تأويله إلا الله}, أي: يعلم أحد متى البعث غير الله). [معاني القرآن: 1/350-355]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و{الراسِحونَ فِي الْعِلْمِ}:الحفاظ الذاكرون). [ياقوتة الصراط: 185]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({زيغ} جور وميل, {ابتغاء الفتنة}, أي: الكفر.
{أولو الألباب}: ذوو العقول). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 47]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({زَيْغٌ}: ميل.
{الْفِتْنَةِ}: الكفر). [العمدة في غريب القرآن: 96]
تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {من لدنك} أي: من عندك). [مجاز القرآن: 1/87]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): (و{لا تزغ قلوبنا}: لا تصرفها عن الهدى في التفسير). [غريب القرآن وتفسيره: 101]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب}أي: لا تملها عن الهدى والقصد، أي: لا تضلّنا بعد إذ هديتنا.
وقيل أيضاً {لا تزغ قلوبنا}: لا تتعبّدنا بما يكون سبباً لزيغ قلوبنا, وكلاهما جيد). [معاني القرآن: 1/379]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله جل وعز: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}, أي: لا تبتلينا بما نزيغ به, أي: يقولون هذا , ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمد.
ويقال إزاغة القلب : فساد وميل عن الدين , أو كانوا يخافون , وقد هدوا أن ينقلهم الله إلى الفساد.
فالجواب: أن يكونوا سألوا إذ هداهم الله أن لا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال , فيعجزوا عنه نحو , ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم.
قال ابن كيسان: سألوا أن لا يزيغوا, فيزيغ الله قلوبهم نحو , فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم, أي: ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا , وأن لا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا.
قال : وفيها جواب آخر أنه جل وعز الذي من عليهم بالهداية, وعرفهم ذلك, فسألوه أن يدوموا على ما هم عليه, وأن يمدهم منه بالمعونة, وأن لا يلجئهم إلى أنفسهم , وقد ابتدأهم بفضله , فتزيغ قلوبهم , وذلك مضاف إليه جل وعز ؛ لأنه إذا تركهم, ولم يتول هدايتهم ؛ ضلوا, فكان سبب ذلك: تخليته إياهم, قال: وقول جامع القلوب لله جل وعز يصرفها كيف يشاء .
وفي الحديث , عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) ). [معاني القرآن: 1/355-357]
تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لا ريب فيه}, لا شك فيه). [مجاز القرآن: 1/87]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ربّنا إنّك جامع النّاس ليوم لا ريب فيه إنّ اللّه لا يخلف الميعاد (9)}
يدل على تأويل قوله: {وما يعلم تأويله إلّا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به}, فقولهم: {إنّك جامع النّاس ليوم لا ريب فيه}, إقرار بالبعث, ودليل أنهم خالفوا من يتبع المتشابه؛ لأن الذين ابتغوا المتشابه هم الذين أنكروا البعث.
{لا ريب فيه}لا شك فيه, وقد شرح باستقصاء فيما تقدم من كتابنا.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه لا يخلف الميعاد}, جائز أن يكون:
1- حكاية عن الموحدين.
2- وجائز أن يكون إخباراً عن اللّه وجائز فتح { أن اللّه لا يخلف الميعاد }, فيكون المعنى: جامع الناس ؛ لأنك لا تخلف الميعاد, أي: قد أعلمتنا ذلك , ونحن غير شاكّين فيه). [معاني القرآن: 1/379]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد} , قال ابن كيسان: {لا ريب فيه}, أي : دليله قائم في أنفس العباد , وإن جحدوا به ؛ لإقرارهم بالحياة الأولى , ولم يكونوا قبلها شيئاً, فإذا عرفوا الإعادة , فهي لهم لازمة بأن يقروا بها, وأن لا يشكوا فيها ؛ لأن إنشاء ما لم يكن مبين بأن المنشء على الإعادة قادر
ومن حسن ما قيل فيه: أن يوم القيامة لا ريب فيه ؛ لأنهم إذا شاهدوه, وعاينوا ما وعدوا فيه, لم يجز أن يداخلهم ريب فيه). [معاني القرآن: 1/357-358]