تفسير قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و(أمّيّون) هنا عبارة عن جهلة بالتوراة،
قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما: «المعنى: ومن هؤلاء اليهود المذكورين»، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم، أي: إنهم ممن لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال،
وقيل: المراد هنا بالأميين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين،
وقال عكرمة والضحاك: «هم في الآية نصارى العرب»،
وقيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قال: «هم المجوس».
والضمير في (منهم) على هذه الأقوال هو للكفار أجمعين،
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول أبي العالية ومجاهد أوجه هذه الأقوال،
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «أميون» بتخفيف الميم،
والأمي في اللغة: الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب،
- نسب إلى الأم: إما لأنه بحال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها،
- وقيل: نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك،
- وقيل: نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف، فإنها لا تقرأ ولا تكتب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في العرب: «إنا أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب»، الحديث.
والألف واللام في (الكتاب) للعهد، ويعني به التوراة في قول أبي العالية ومجاهد.
والأماني جمع أمنية، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في بعض ما روي عنه «أماني» بتخفيف الياء، وأصل أمنية أمنوية على وزن أفعولة، ويجمع هذا الوزن على أفاعل، وعلى هذا يجب تخفيف الياء، ويجمع على أفاعيل فعلى هذا يجيء أمانيي أدغمت الياء في الياء فجاء «أماني».
واختلف في معنى أمانيّ؛
- فقالت طائفة: هي هنا من تمني الرجل إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ وإنما يقول بظنه شيئا سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب،
- وقال آخرون: هي من تمنى إذا تلا، ومنه قوله تعالى: {إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته} [الحج: 52] ، ومنه قول الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليله ....... وآخره لاقى حمام المقادر
فمعنى الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى لا علم لهم بصحته،
- وقال الطبري: هي من تمنى الرجل إذا حدث بحديث مختلق كذب، وذكر أهل اللغة أن العرب تقول تمنى الرجل إذا كذب واختلق الحديث، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: «ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت».
فمعنى الآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أنهم يسمعون من الأحبار أشياء مختلقة يظنونها من الكتاب،
و(إن) نافية بمعنى (ما)، والظن هنا على بابه في الميل إلى أحد الجائزين). [المحرر الوجيز: 1/ 262-263]
تفسير قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فويلٌ للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون (79) وقالوا لن تمسّنا النّار إلاّ أيّاماً معدودةً قل أتّخذتم عند اللّه عهداً فلن يخلف اللّه عهده أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون (80) بلى من كسب سيّئةً وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (81) والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون (82)}
(الذين) في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء،
قال الخليل: الويل شدة الشر، وقال الأصمعي: الويل القبوح وهو مصدر لا فعل له، ويجمع على ويلات، والأحسن فيه إذا انفصل الرفع، لأنه يقتضي الوقوع، ويصح النصب على معنى الدعاء أي: ألزمه الله ويلا، وويل وويح وويس وويب تتقارب في المعنى، وقد فرق بينها قوم،
- وروى سفيان وعطاء بن يسار أن الويل في هذه الآية: «واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار»،
- وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا»،
- وقال أبو عياض: «إنه صهريج في جهنم»،
- وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه جبل من جبال النار».
- وحكى الزهراوي عن آخرين أنه باب من أبواب جهنم.
والذين يكتبون: هم الأحبار الذين بدلوا التوراة.
وقوله تعالى: {بأيديهم} بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم الله، وفرق بين من كتب وبين من أمر، إذ المتولي للفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله، وإن كان رأيا له، وقال ابن السراج: هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم، والذي بدلوا هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم ليستديموا رياستهم ومكاسبهم،
- وقال ابن إسحاق: «كانت صفته في التوراة أسمر ربعة، فردوه آدم طويلا»،
- وذكر السدي: «أنهم كانوا يكتبون كتبا يبدلون فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبيعونها من الأعراب ويبثونها في أتباعهم ويقولون هي من عند الله»،
وتناسق هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرئ لهم.
والثمن قيل: عرض الدنيا، وقيل: الرشا والمآكل التي كانت لهم، ووصفه بالقلة إما لفنائه وإما لكونه حراما،
وكرر الويل لتكرار الحالات التي استحقوه بها، ويكسبون معناه من المعاصي والخطايا، وقيل: من المال الذي تضمنه ذكر الثمن). [المحرر الوجيز: 1/ 264-265]
تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وقالوا لن تمسّنا النّار} الآية،
- روى ابن زيد وغيره أن سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: «من أهل النار؟»، فقالوا: نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال لهم: «كذبتم، لقد علمتم أنا لا نخلفكم»، فنزلت هذه الآية،
- ويقال: «إن السبب أن اليهود قالت: إن الله تعالى أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل»، قاله ابن عباس وقتادة وعطاء،
- وقالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن طول جهنم مسيرة أربعين سنة وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم،
- وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وابن جريج: «إنهم قالوا إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوما».
و(أتّخذتم) أصله «ايتخذتم»، وزنه افتعلتم من الأخذ، سهلت الهمزة الثانية لامتناع جمع همزتين فجاء «ايتخذتم» فاضطربت الياء في التصريف فجاءت ألفا في ياتخذوا وواوا في «موتخذ» فبدلت بحرف جلد ثابت وهو التاء وأدغمت، فلما دخلت في هذه الآية ألف التقرير استغني عن ألف الوصل، ومذهب أبي علي أن أتّخذتم من «تخذ» لا من «أخذ» وقد تقدم ذكر ذلك.
- وقال أهل التفسير: العهد من الله تعالى في هذه الآية الميثاق والوعد،
- وقال ابن عباس وغيره: «معناه: هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون أنكم خارجون من النار؟»،
فعلى هذا التأويل الأول يجيء المعنى: هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون؟
وعلى التأويل الثاني يجيء: هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون؟، وقوله: {فلن يخلف اللّه عهده} اعتراض أثناء الكلام). [المحرر الوجيز: 1/ 265-266]
تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و(بلى) رد بعد النفي بمنزلة نعم بعد الإيجاب،
- وقال الكوفيون: أصلها بل التي هل للإضراب عن الأول وزيدت عليها الياء ليحسن الوقف عليها وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام بما يأتي بعدها،
- وقال سيبويه: هي حرف مثل بل وغيره،
وهي في هذه الآية رد لقول بني إسرائيل لن تمسّنا النّار، فرد الله عليهم وبين الخلود في النار والجنة بحسب الكفر والإيمان،
و(من) شرط في موضع رفع بالابتداء، و«أولئك» ابتداء ثان، و(أصحاب) خبره، والجملة خبر الأول، والفاء موطئة أن تكون الجملة جواب الشرط.
وقالت طائفة: السيئة: الشرك، كقوله تعالى: {ومن جاء بالسّيّئة فكبّت وجوههم في النّار} [النمل: 90]، والخطيئات: كبائر الذنوب، وقال قوم: «خطيئته» بالإفراد،
وقال قوم: السيئة هنا: الكبائر، وأفردها وهي بمعنى الجمع لما كانت تدل على الجنس، كقوله تعالى: {وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها} [إبراهيم: 34]، والخطيئة: الكفر،
ولفظة الإحاطة تقوي هذا القول وهي مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء،
وقال الربيع بن خيثم والأعمش والسدي وغيرهم: «معنى الآية: مات بذنوب لم يتب منها»،
وقال الربيع أيضا: «المعنى: مات على كفره»،
وقال الحسن بن أبي الحسن والسدي: «المعنى: كل ما توعد الله عليه بالنار فهي الخطيئة المحيطة»،
والخلود في هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في المشركين، ومستعار بمعنى الطول والدوام في العصاة وإن علم انقطاعه، كما يقال: ملك خالد ويدعى للملك بالخلد.
وقوله تعالى: {والّذين آمنوا} الآية. يدل هذا التقسيم على أن قوله: {من كسب سيّئةً} الآية في الكفار لا في العصاة،
- ويدل على ذلك أيضا قوله: {أحاطت} لأن العاصي مؤمن فلم تحط به خطيئته،
- ويدل على ذلك أيضا أن الرد كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة فهم المراد بالخلود، والله أعلم). [المحرر الوجيز: 1/ 266-267]
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}