(فصل ) "من" بالكسر و"من" و"من ذا"
قال جمال الدين محمد بن علي الموزعي المعروف بابن نور الدين (ت: 825هـ): ((فصل) "من" بالكسرأما "مِن" بالكسر فهي من حروف الجر، وتأتي على ستة عشر وجهًا:
الأول: ابتداء الغاية، وهو الغالب عليها، حتى زعم جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه، وتقع لذلك في غير الزمان اتفاقًا كقوله تعالى: {من المسجد الحرام}، وقال الكوفيون والأخفش والمبرد وابن درستويه: تقع في الزمان أيضًا؛ بدليل قوله تعالى: {من أول يومٍ}، وقول النابغة يصف السيوف:
تُخيرن من أزمان يوم حليمة ..... إلى اليوم قد جرين كل التجارب
ومنه الحديث: «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة»، وصححه ابن مالك لكثرة شواهده في القرآن واللسان، كقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به}، وقوله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد}، وأما تأويل البصريين فتسعف، وذكر ابن أبي الربيع أن محل الخلاف بين الفريقين في أن "من" هل يجوز أن تقع موقع "منذ"؟ فإنها لابتداء الغاية بلا خلاف، فالبصريون يمنعون ذلك والكوفيون يجوزونه.
الثاني: التبعيض، كقوله تعالى: {منهم من كلم الله}، وعلامتها إمكان سد البعض مسدها، قال بعضهم: فقولك: ويحه "من" رجل، للتبعيض لأنك إنما أردت أن تجعله "من" بعض الرجال، وقولك: هو أفضل "من" زيد، إنما أردت أن تفضله على زيد وحده ولم تعم، فجعلت ابتداء فضله "من" زيد ولم يعلم موضع الانتهاء، فإن قلت: ما أحسنه "من" رجل، فيحتمل أن يكون لابتداء الغاية، كأنك بينت ابتداء فضله في الحسن ولم تذكر انتهاءه، ويحتمل أن تكون للتبعيض، كأنك قلت: ما أحسنه "من" الرجال إذا ميزوا رجلًا رجلًا.
الثالث: بيان الجنس، كقوله تعالى: {يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابًا خضرًا من سندس واستبرق}، وقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}، وأنكر هذا المعنى قوم، وقالوا: هي للتبعيض وهو خطأ وفي كتاب المصاحف لابن الأنباري: أن بعض الزنادقة تمسك بقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا}، في الطعن على بعض الصحابة.
الرابع: التعليل، كقوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارًا}.
وقول الفرزدق:
يُغضي حياءً ويغضى من مهابته ..... فما يُكلَّمُ إلا حين يبتسم
الخامس: البدل، كقوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة}، وقوله تعالى: {لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون}، لأن الملائكة لا تكون "من" الإنس، قال ابن هشام: وجعل منه ابن مالك قول الشاعر:
..... ولم تذق من البقول الفستقا .....
أي: بدل البقول، ثم اعترضه وقال: قال الجوهري: إن الرواية: النقول "بالنون"، فتكون "من" للتبعيض.
قلت: وهذا "منه" غلط فإن الجوهري لم يقل ذلك، وإنما قال: ظن هذا الأعرابي أن الفستق "من" البقول، وهذا يروى "بالباء" وأنا أظنه "بالنون"؛ لأن الفستق "من" النقل وليس "من" البقل، انتهى كلامه، هذا تصريح من الجوهري بأن الرواية "بالباء" وإنما رواية "النون" ظن منه.
السادس: مرادفة "عن"، كقوله تعالى: {فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله}، أي: عن ذكر الله وقوله تعالى: {قد كنا في غفلةٍ من هذا}.
السابع: مرادفة "الباء"، كقوله تعالى: {ينظرون من طرفٍ خفي}، قاله يونس، قيل: ومنه وقوله تعالى: {يحفظونه من أمر الله}.
الثامن: مرادفة "في"، كقوله تعالى: {أروني ماذا خلقوا من الأرض}، وقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة}.
التاسع: مرادفة "عند"، كقوله تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا}، أي: "عند" الله، قاله أبو عبيدة.
العاشر: مرادفة "ربما"، وذلك إذا اتصلت بـ "ما" كقول الشاعر:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربةً ..... على راسه تُلقى اللسان من الفم
قاله السيرافي وابن خروف وابن طاهر والأعلم، قال ابن هشام: إن "من" في ذلك ابتدائية و"ما" مصدرية والمعنى: أنهم خلقوا "من" الضرب، مثل قوله تعالى: {خُلق الإنسان من عَجلٍ}، وقول الشاعر:
..... وضنت علينا والضنين من البُخلِ .....
الحادي عشر: مرادفة "على"، {ونصرناه من القوم}، وقيل: "على" التضمين، أي: معناه "منهم" بالنصر.
الثاني عشر: الفصل والتمييز، وهي الداخلة على ثاني الضدين، كقوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح}، وقوله تعالى: {حتى يميز الخبيث من الطيب}.
الثالث عشر: الغاية، قال سيبويه: تقول: رأيته "من" ذلك الموضع، فجعلته غاية لرؤيتك أي: محلًا للابتداء والانتهاء، وكذا أخذته "من" زيد.
الرابع عشر: التنصيص على العموم بزيادتها، وإنما سميت منصصة لأنك إذا قلت قبل زيادتها: ما جاءني رجل، احتمل أن تكون نافيًا لرجلٍ واحد، وقد جاء أكثر "منه"، واحتمل أن تكون نافيًا لجميع الجنس، فإذا زدت "من" أخرجته من حيز الاحتمال إلى حيز التنصيص في استغراق عموم النفي، ومنه قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولدٍ}، {ما لكم من إلهٍ غيره}، قال الشاعر:
فما حملتْ من ناقةٍ فوقَ ظهرها ..... أبرّ وأوفى ذمةً من محمدٍ
الخامس عشر: توكيد العموم بزيادتها، وهي الزائدة في نحو: ما جاءني "من" أحدٍ، وما بها "من" ديار ولا دوري، ولا فيها "من" طوري ولا نافخ نار، وما أشبه ذلك مما لا يستعمل إلا في عموم النفي فإنها ألفاظ عامة في النفي وهي نص في عموم النفي، و"من" إذا زيدت معها أفادت التوكيد للنفي.
ولا تزاد عند سيبويه إلا في النفي، أو ما هو في معنى النفي مثل النهي والاستفهام نحو قوله تعالى: {وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها}، {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور}، وتقول: لا يقم "من" أحدٍ، وزاد الفارسي الشرط كقول الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ .... وإن خالها تخفى على الناس تُعلم
وجوز الأخفش وأبو عبيدة زيادتها في الإيجاب، كقوله تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش}، وقوله تعالى: {يغفر لكم من ذنوبكم}، وقوله تعالى: {ولقد جاءك من نبأ المرسلين}، وقوله تعالى: {يُحلون فيها من أساور}.
السادس عشر: القسم، كقولك: "من" ربي ما فعلت، وضعت موضع "الباء"، وتضم "الميم" من "من" فيقال: "مُن" ربي إنك لأشر، قال سيبويه: ولا تدخل الضمة في "من" إلا ها هنا، كما لا تدخل الفتحة في "لدن" إلا مع غدوة، ولا تدخل إلا على «ربي» كما لا تدخل "التاء" إلا على اسم الله والكعبة، وسمع الأخفش: "مُن" الله ربي.
وأما قولهم: "مُ" الله، قيل: أصله من قولهم: "مِنُ" ربي إنك لأشر، فحذفت "النون" لكثرة الاستعمال عند التقاء الساكنين ولم تحرك "نونها"، كقول الشاعر:
أبلغ أبا دختنوس مالكةً ..... غير الذي قد يقال مالكذبِ
وكقوله:
لقد ظفر الزوار أقفية العدا ..... بما جاوز الآمال ما لأسر والقتل
ورأي بعضهم أن تكون "الميم" بدلًا من "الواو" لقرب المخرج).[مصابيح المغاني: 465 - 469]