تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ومن أظلم ممّن افترى على اللّه كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيءٌ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل اللّه ولو ترى إذ الظّالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على اللّه غير الحقّ وكنتم عن آياته تستكبرون (93)}
هذه ألفاظ عامة فكل من واقع شيئا مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله تعالى بقوله: ومن أظلم أي لا أحد أظلم وقال قتادة وغيره: المراد بهذه الآيات مسيلمة والأسود العنسي، وذكروا رؤية النبي عليه السلام للسوارين وقال السدي: المراد بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح الغامدي وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة فلما نزلت: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طينٍ ثمّ جعلناه نطفةً في قرارٍ مكينٍ ثمّ خلقنا النّطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثمّ أنشأناه خلقاً آخر} [المؤمنون: 14] فقال عبد الله بن سعد من تلقاء نفسه: {فتبارك اللّه أحسن الخالقين} [المؤمنون: 23] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتبها فهكذا أنزلت»، فتوهم عبد الله ولحق بمكة مرتدا وقال أنا أنزل مثل ما أنزل الله، وروي عنه أيضا أن النبي عليه السلام ربما أملى عليه «والله غفور رحيم» فبدلها هو «والله سميع عليم» فقال النبي عليه السلام:« ذلك سواء ونحو هذا»، وقال عكرمة: أولها في مسيلمة والآخر في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وذكر الزهراوي والمهدوي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه عارض القرآن بقوله: والزارعات زرعا والخابزات خبزا إلى غير ذلك من السخافات.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: فخصص المتأولون في هذه الآيات ذكر قوم قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها ثم هي إلى يوم القيامة تتناول من تعرض شيئا من معانيها كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد وسواهما وقرأ الجمهور «سأنزل مثل ما أنزل» بتخفيف وقرأ أبو حيوة «سأنزّل» بفتح النون وتشديد الزاي.
قوله عز وجل: ولو ترى إذ الظّالمون الآية، جواب لو محذوف تقديره لرأيت عجبا أو هولا ونحو هذا وحذف هذا الجواب أبلغ من نصه لأن السامع إذا لم ينص له الجواب يترك مع غاية تخيله والظّالمون لفظ عام لمن واقع ما تقدم ذكره وغير ذلك من أنواع الظلم الذي هو كفر و «الغمرات» جمع غمرة وهي المصيبة المبهمة المذهلة، وهي مشبهة بغمرة الماء، ومنه قول الشاعر [بشر بن أبي خازم]: [الوافر]
ولا ينجي من الغمرات إلّا ....... براكاء القتال أو الفرار
والملائكة ملائكة قبض الروح، وباسطوا أيديهم كناية عن مدها بالمكروه كما قال تعالى حكاية عن ابني آدم:{ لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني} [المائدة: 28].
وهذا المكروه هو لا محالة أوائل عذاب وأماراته، قال ابن عباس: يضربون وجوههم وأدبارهم، وأما البسط لمجرد قبض النفس فإنه يشترك فيه الصالحون والكفرة، وقيل إن المراد بسط الأيدي في جهنم، والغمرات كذلك لكنهم لا يقضى عليهم فيموتوا، وقوله: أخرجوا أنفسكم حكاية لما تقوله الملائكة، والتقدير يقولون أخرجوا أنفسكم، ويحتمل قول الملائكة ذلك أن يريدوا فأخرجوا أنفسكم من هذه المصائب والمحن وخلصوها إن كان ما زعمتموه حقا في الدنيا، وفي ذلك توبيخ وتوقيف على سالف فعلهم القبيح، قال الحسن: هذا التوبيخ على هذا الوجه هو في جهنم، ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الزجر والإهانة كما يقول الرجل لمن يقهره بنفسه على أمر ما أفعل كذا، لذلك الأمر الذي هو يتناوله بنفسه منه على جهة الإهانة وإدخال الرعب عليه.
وقوله تعالى: {اليوم تجزون عذاب الهون ... الآية}، هذه حكاية عن قول الملائكة للكفرة عند قبض أرواحهم، والهون الهوان ومنه قول ذي الأصبع: [البسيط]
إليك عني فما ألمى براعية ....... ترعى المخاض ولا أفضى على الهون
وقرأ عبد الله بن مسعود وعكرمة «عذاب الهوان» بالألف.
وقوله تعالى: {تقولون على اللّه غير الحقّ} لفظ جامع لكل نوع من الكفر ولكنه يظهر منه ومن قوله وكنتم عن آياته تستكبرون الإنحاء على من قرب ذكره من هؤلاء الذين ادعوا الوحي وأن ينزلوا مثل ما أنزل الله، فإنها أفعال بين فيها «قول غير الحق على الله» وبين فيها الاستكبار). [المحرر الوجيز: 3/ 419-421]
تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّةٍ وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الّذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء لقد تقطّع بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون (94)}
هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم، فإما عند خروجها من الأجساد وإما يوم القيامة كل ذلك محتمل، وفرادى معناه فردا فردا، والألف في آخره ألف تأنيث ومنه قول الشاعر [ابن مقبل]:
ترى النعرات الزرق تحت لبانه ....... فرادى ومثنى أصعقتها صواهله
وقرأ أبو حيوة «فرادى» منونا على وزن فعال وهي لغة تميم، وفرادى قيل هو جمع فرد بفتح الراء، وقيل جمع فرد بإسكان الراء والمقصد في الآية توقيف الكفار على انفرادهم وقلة النصير واحتياجهم إلى الله عز وجل بفقد الخول والشفعاء، فيكون قوله: كما خلقناكم أوّل مرّةٍ تشبيها بالانفراد الأول في وقت الخلقة، ويتوجه معنى آخر وهو أن يتضمن قوله: كما خلقناكم زيادة معان على الانفراد كأنه قال ولقد جئتمونا فرادى وبأحوال كذا، والإشارة على هذا بقوله كما هي إلى ما قاله النبي عليه السلام في صفة من يحشر أنهم يحشرون حفاة عراة غرلا، وخوّلناكم معناه أعطيناكم، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير:[الطويل]:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ....... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
وراء ظهوركم إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجودا.
وقوله تعالى: {وما نرى معكم شفعاءكم ... الآية}، توقيف على الخطأ في عبادة الأصنام وتعظيمها، قال الطبري: وروي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه قال سوف تشفع له اللات والعزى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن كان من العرب يعتقد أنها تشفع وتقرب إلى الله زلفى ويرى شركتها بهذا الوجه فمخاطبته بالآية متمكن وهكذا كان الأكثر، ومن كان منهم لا يقر بإله غيرها فليس هو في هذه الآية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر، وحمزة «بينكم» بالرفع، وقرأ نافع والكساء «بينكم» بالنصب أما الرفع فعلى وجوه، أولاها أنه الظرف استعمل اسما وأسند إليه الفعل كما قد استعملوه، اسما في قوله تعالى: {من بيننا وبينك حجابٌ} [فصّلت: 5] وكقولهم فيما حكى سيبويه أحمر بن بين العينين، ورجح هذا القول أبو علي الفارسي، والوجه الآخر أن بعض المفسرين منهم الزهراوي والمهدوي وأبو الفتح وسواهم حكوا أن «البين» في اللغة يقال على الافتراق وعلى الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا عندي اعتراض لأن ذلك لم يرو مسموعا عن العرب وإنما انتزع من الآية، والآية محتملة، قال الخليل في العين «والبين» الوصل.
لقوله عز وجل: {لقد تقطّع بينكم} فعلل سوق اللفظة بالآية، والآية معرضة لغير ذلك، أما إن أبا الفتح قوى أن «البين» الوصل وقال: «وقد أتقن ذلك بعض المحدثين بقوله: قد أنصف البين من البين».
والوجه الثالث من وجوه الرفع أن يكون «البين» على أصله في الفرقة من بان يبين إذا بعد، ويكون في قوله:
تقطّع تجوز على نحو ما يقال في الأمر البعيد في المسافة تقطعت الفجاج بين كذا وكذا عبارة عن بعد ذلك، ويكون المقصد لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك «بالبين» الذي هو الفرقة، وأما وجه قراءة النصب فأن يكون ظرفا ويكون الفعل مستندا إلى شيء محذوف وتقديره لقد تقطع الاتصال أو الارتباط بينكم أو نحو هذا.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس: مجاهد والسدي وغيرهما، ووجه آخر يراه أبو الحسن الأخفش وهو أن يكون الفعل مسندا إلى الظرف ويبقى الظرف على حال نصبه وهو في النية مرفوع، ومثل هذا عنده قوله: {وأنّا منّا الصّالحون ومنّا دون ذلك} [الجن: 11] وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش «تقطع ما بينكم» بزيادة ما وضلّ معناه تلف وذهب، وما كنتم تزعمون يريد دعواهم أنها تشفع وتشارك الله في الألوهية). [المحرر الوجيز: 3/ 421-424]