العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة التوبة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:31 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي تفسير سورة التوبة [ من الآية (38) إلى الآية (40) ]

تفسير سورة التوبة
[ من الآية (38) إلى الآية (40) ]

بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) }


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:33 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) )
قال عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي (ت: 181هـ): (- أخبرنا مسعر، قال: حدثني معن وعون، أو أحدهما، أن رجلًا أتى عبد الله ابن مسعودٍ، فقال: اعهد إلي؟ فقال: إذا سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك، فإنها خيرٌ يأمر به، أو شرٌّ ينهى عنه). [الزهد لابن المبارك: 2/ 18]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن الأعمش {فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلا قليل} قال: المتاع زاد الرّاعي مخلاته فيها طعامه [الآية: 38]). [تفسير الثوري: 126]
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا عبدة بن سليمان، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: ما تقرؤون في القرآن: {يا أيّها الّذين آمنوا} فإنّ موضعه في التّوراة: يا أيّها المساكين). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 318]

قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلاّ قليلٌ}. وهذه الآية حثٌّ من اللّه جلّ ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الرّوم، وذلك غزوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تبوك.
يقول جلّ ثناؤه: يا أيّها الّذين صدّقوا اللّه ورسوله {ما لكم} أيّ شيءٍ أمركم {إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه} يقول: إذا قال لكم رسول اللّه محمّدٌ: انفروا، أي اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم.
وأصل النّفر: مفارقة مكانٍ إلى مكانٍ لأمرٍ هاجه على ذلك، ومنه نفور الدّابّة غير أنّه يقال من النّفر إلى الغزو: نفر فلانٌ إلى ثغر كذا ينفر نفرًا ونفيرًا، وأحسب أنّ هذا من الفروق الّتي يفرّقون بها بين اختلاف المخبر عنه وإن اتّفقت معاني الخبر.
فمعنى الكلام: ما لكم أيّها المؤمنون إذا قيل لكم: اخرجوا غزاةً في سبيل اللّه، أي في جهاد أعداء اللّه {اثّاقلتم إلى الأرض} يقول تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها.
وقيل: اثّاقلتم لأنّه أدغم التّاء في الثّاء. فأحدث لها ألفٌ ليتوصّل إلى الكلام بها. لأنّ التّاء مدغمةٌ في الثّاء، ولو أسقطت الألف وابتدئ بها لم تكن إلاّ متحرّكةً، فأحدثت الألف لتقع الحركة بها، كما قال جلّ ثناؤه: {حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعًا} وكما قال الشّاعر:
تولي الضّجيع إذا ما استافها خصرًا = عذب المذاق إذا ما اتّابع القبل
فهو بنى الفعل افتعلتم من التّثاقل.
وقوله: {أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة} يقول جلّ ثناؤه أرضيتم بحظّ الدّنيا والدّعة فيها عوضًا من نعيم الآخرة وما عند اللّه للمتّقين في جنانه؟ {فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة} يقول: فما الّذي يستمتع به المتمتّعون في الدّنيا من عيشها ولّذاتها في نعيم الآخرة والكرامة الّتي أعدّها اللّه لأوليائه وأهل طاعته {إلاّ قليلٌ} يسيرٌ. يقول لهم: فاطلبوا أيّها المؤمنون نعيم الآخرة وترف الكرامة الّتي عند اللّه لأوليائه بطاعته، والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النّفير لجهاد عدوّه.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض} أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد الطّائف، وبعد حنينٍ. أمروا بالنّفير في الصّيف حين خرفت النّخل، وطابت الثّمار، واشتهوا الظّلال، وشقّ عليهم المخرج.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض} الآية، قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنينٍ، وبعد الطّائف أمرهم بالنّفير في الصّيف، حين اخترفت النّخل، وطابت الثّمار، واشتهوا الظّلال، وشقّ عليهم المخرج. قال: فقالوا: منّا الثّقيل، وذو الحجّة، والضّيعة، والشّغل، والمنتشر به أمره في ذلك كلّه. فأنزل اللّه: {انفروا خفافًا وثقالاً}). [جامع البيان: 11/458-460]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلّا قليلٌ (38)
قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض.
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قوله: ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطّائف وبعد حنينٍ، أمروا بالنّفر في الصّيف حين خرفت النّخل، وطابت الثّمار واشتهوا الظّلال وشقّ عليهم المخرج.
قوله تعالى: اثّاقلتم إلى الأرض.
- حدّثنا عبد اللّه بن سليمان ثنا الحسين بن عليٍّ ثنا عامر ابن الفرات ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: اثّاقلتم إلى الأرض فيقول: حين قعدوا وأبوا الخروج.
قوله تعالى: أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة.
- حدّثنا أبي ثنا سلمة بن شبيتٍ ثنا أبو المغيرة ثنا صفوان عن شريح بن عبيدٍ قال: قال أبو ثعلبة: اللّه أحبّ إليكم أم الدّنيا؟ قالوا: بل اللّه قال: فما بالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض فلم تخرجوا حتّى يخرجكم الشرط من منازلكم؟ وإذا قيل لكم انصرفوا على بركة اللّه مأذونًا لكم ضربتم أكبادها وأسهرتم عيونها، حتّى تبلغوا أهليكم؟.
قوله تعالى: فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلا قليلٌ.
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ ثنا المحاربيّ عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن قيسٍ عن المستورد أخى بني فهرٍ قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم» «ما الدّنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم ترجع».
- حدّثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصيّ بحمص، ثنا الرّبيع بن روحٍ ثنا محمّد بن خالدٍ الوهبيّ حدّثنا زيادٌ، يعني الجصّاص، عن أبي عثمان قلت: يا أبا هريرة، سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنّك تقول: سمعت نبيّ اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- يقول: «إنّ اللّه يجزي بالحسنة ألف ألف حسنةٍ» ، فقال أبو هريرة- رضي اللّه عنه-: بل سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- يقول: «إنّ اللّه يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنةٍ» ، ثمّ تلا هذه الآية فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلا قليلٌ فالدّنيا، ما مضى منها إلى ما بقي منها عند اللّه قليلٌ.
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا محمّد بن أبي حمّادٍ ثنا مهران عن سفيان عن الأعمش فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلا قليلٌ قال: كزاد الرّاعي.
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا حاشد بن عبد اللّه بن عبد الواحد البخاريّ، ثقةٌ، ثنا إبراهيم بن الأشعث لأمٌ ثنا عبد العزيز بن أبي حازمٍ عن أبيه قال: لمّا حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال: «ائتوني بكفني الّذي أكفّن فيه أنظر إليه» ، فلمّا وضع بين يديه نظر إليه فقال: أما ليه من كثيرٍ؟ ما أخلف من الدّنيا إلا هذا؟ ثمّ ولّى ظهره فبكى وهو يقول: «أفٍّ لك من دارٍ إن كان كثيرك لقليلٌ» ، وإن كان قليلك لقصيرٌ، وإن كنّا منك لفي غرورٍ). [تفسير القرآن العظيم: 6/1796-1797]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض قال هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وبعد الطائف وبعد حنين أمروا بالنفر في الصيف حين خرفت النخل وطاب الثمر واشتهيت الظلال وشق عليهم الخروج). [تفسير مجاهد: 278-279]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 38.
أخرج سنيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا} الآية، قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين أمرهم بالنفير في الصيف حين خرقت الأرض فطابت الثمار واشتهوا الظلال وشق عليهم المخرج فأنزل الله سبحانه وتعالى (انفروا خفافا وثقالا) (التوبة الآية 41)، قوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}
وأخرج الحاكم وصححه عن المستور رضي الله عنه قال: كنا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فتذاكروا الدنيا والآخرة فقال بعضهم: إنما الدنيا بلاغ للآخرة فيها العمل وفيها الصلاة وفيها الزكاة وقالت طائفة منهم: الآخرة فيها الجنة، وقالوا ما شاء الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل أصبعه فيه فما خرج منه فهي الدنيا، وأخرجه أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجة عن المستور بن شداد رضي الله عنه قال: كنت في ركب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر بسخلة ميتة فقال أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول الله قال: فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جعل الدنيا قليلا وما بقي منها إلا القليل كالثعلب في الغدير شرب صفوه وبقي كدره.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل عمر رضي الله عنه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا رسول الله لو اتخذت فرشا أوثر من هذا فقال ما لي وللدنيا وما للدنيا وما لي والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه، وابن ماجة والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نام على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا يا رسول الله: لو اتخذنا لك فقال: ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها.
وأخرج الحاكم وصححه عن سهل رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فرأى شاة شائلة برجلها فقال أترون هذه الشاة هينة على صاحبها قالوا: نعم يا رسول الله، قال: والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها شربة ماء.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي الدنيا في كتاب المنامات والحاكم وصححه والبيهقي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تمور في جوها فالله الله في إخوانكم من أهل القبور فإن أعمالكم تعرض عليهم.
وأخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحب الله عبدا حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الماء.
وأخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حلوة الدنيا مرة الآخرة ومرة الدنيا حلوة الآخرة.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي جحيفة قال: أكلت لحما كثيرا وثريدا ثم جئت فقعدت قبال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجعلت أتجشأ فقال اقصر من جشائك فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا في الآخرة.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب ولا تستخلفي ثوبا حتى ترقعيه وإياك ومجالسة الأغنياء.
وأخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي عن سعد بن طارق رضي الله عنه عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته حتى يرضي ربه وبئست الدار لمن صدته عن آخرته وقصرت به عن رضا ربه وإذا قال العبد: قبح الله الدنيا، قالت الدنيا: قبح الله أعصانا لربه.
وأخرج ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعظ فقال: ازهد الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس
وأخرج أحمد والحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وسننه فإذا خرج من الدنيا فارق السجن والسنة.
وأخرج الحاكم والبيهقي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء ومن لم يهتم للمسلمين فليس منهم.
وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن الأعمش عن أبي سفيان رضي الله عنه عن أشياخه قال: دخل سعد رضي الله عنه على سلمان يعوده فبكى فقال سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض وترد عليه الحوض وتلقى أصحابك، قال: ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهدا، قال ليكن بلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب، وحولي هذه الأساودة وإنما حوله أجانة وجفنة ومطهرة.
وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا ليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم.
وأخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا ولا يزدادون من الله إلا بعدا.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن سفيان قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري قال: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح ذبابة ما سقى منها كافرا شربة ماء
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن المستور قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر ثم يرجع.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي عثمان النهدي قال: قلت يا أبا هريرة: سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة فقال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة ثم تلا هذه الآية {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} فالدنيا ما مضى منها إلى ما بقي منها عند الله قليل وقال (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) (البقرة الآية 245) فكيف الكثير عند الله تعالى إذا كانت الدنيا ما مضى منها وما بقي عند الله قليل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} كزاد الراعي
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حازم قال: لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال: أمالي كثير ما أخلف من الدنيا إلا هذا ثم ولى ظهره وبكى وقال: أف لك من دار إن كان كثيرك القليل وإن كان قليلك الكثير وإن كنا منك لفي غرور). [الدر المنثور: 7/353-361]

تفسير قوله تعالى: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وقال في براءة: {إلا تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضرّوه شيئًا}؛ وقال: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول اللّه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظمأٌ ولا نصبٌ ولا مخمصةٌ في سبيل الله ولا يطؤون موطئًا يغيظ الكفّار ولا ينالون من عدوٍّ نيلاً}، الآية كلها؛
فنسختها واستثنى بالآية التي تليها، فقال: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}). [الجامع في علوم القرآن: 3/74-75]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إلاّ تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضرّوه شيئًا واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله، متوعّدهم على ترك النّفر إلى عدوّهم من الرّوم: إن لم تنفروا أيّها المؤمنون إلى من استنفركم رسول اللّه، يعذّبكم اللّه عاجلاً في الدّنيا بترككم النّفر إليهم عذابًا موجعًا.
{ويستبدل قومًا غيركم} يقول: يستبدل اللّه بكم نبيّه قومًا غيركم، ينفرون إذا استنفروا، ويجيبونه إذا دعوا، ويطيعون اللّه ورسوله. {ولا تضرّوه شيئًا} يقول: ولا تضرّوا اللّه بترككم النّفير ومعصيتكم إيّاه شيئًا؛ لأنّه لا حاجة به إليكم، بل أنتم أهل الحاجة إليه، وهو الغنيّ عنكم وأنتم الفقراء {واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} يقول جلّ ثناؤه: واللّه على إهلاككم واستبدال قومٍ غيركم بكم وعلى كلّ ما يشاء من الأشياء قديرٌ.
وقد ذكر أنّ العذاب الأليم في هذا الموضع كان احتباس القطر عنهم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا زيد بن الحباب، قال: حدّثني عبد المؤمن بن خالدٍ الحنفيّ، قال: حدّثني نجدة الخراسانيّ، قال: سمعت ابن عبّاسٍ، سئل عن قوله: {إلاّ تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا} قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استنفر حيًّا من أحياء العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر، فكان ذلك عذابهم، فذلك قوله: {إلاّ تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا}.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، قال: حدّثنا عبد المؤمن، عن نجدة، قال: سألت ابن عبّاسٍ، فذكر نحوه، إلاّ أنّه قال: فكان عذابهم أن أمسك عنهم المطر.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {إلاّ تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا} استنفر اللّه المؤمنين في لهبان الحرّ في غزوة تبوك قبل الشّأم على ما يعلم اللّه من الجهد.
وقد زعم بعضهم أنّ هذه الآية منسوخةٌ.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، والحسن البصريّ، قالا: قال: {إلاّ تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا} وقال: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول اللّه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} إلى قوله: {ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون} فنسختها الآية الّتي تلتها: {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً} إلى قوله: {لعلّهم يحذرون}.
قال أبو جعفرٍ: ولا خبر بالّذي قال عكرمة والحسن من نسخ حكم هذه الآية الّتي ذكروا يجب التّسليم له، ولا حجّة تأتي بصحّة ذلك، وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عددٌ من الصّحابة والتّابعين سنذكرهم بعد. وجائزٌ أن يكون قوله: {إلاّ تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا} لخاصًّ من النّاس، ويكون المراد به من استنفره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلم ينفر على ما ذكرنا من الرّواية عن ابن عبّاسٍ.
وإذا كان ذلك كذلك، كان قوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً} نهيًا من اللّه المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمنٍ مقيمٍ فيها، وإعلامًا من اللّه لهم أنّ الواجب النّفر على بعضهم دون بعضٍ، وذلك على من استنفر منهم دون من لم يستنفر. وإذا كان ذلك كذلك لم يكن في إحدى الآيتين نسخٌ للأخرى، وكان حكم كلّ واحدةٍ منهما ماضيًا فيما عنيت به). [جامع البيان: 11/460-462]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (إلّا تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضرّوه شيئًا واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (39)
قوله تعالى: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما.
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ عبد اللّه بن سعيدٍ الكنديّ الأشجّ ثنا زيد بن الحباب عن عبد المؤمن بن خالدٍ الحنفيّ ثنا نجدة بن نفيعٍ قال: سألت ابن عبّاسٍ عن هذه الآية إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما فقال ابن عبّاسٍ: استنفر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- حيًّا من العرب، فتثاقلوا عليه، فأنزل- اللّه تعالى- هذه الآية إلا تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا فأمسك اللّه عنهم المطر، قال: فكان عذابهم.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي ثنا ابن أبي عمر العدنيّ ثنا سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول عن عكرمة قال: لمّا نزلت إلا تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا وقد كان تخلف عنه ناسٌ في البدو يفقّهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناسٌ من أصحاب النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم في البوادي وقالوا: هلك أصحاب البوادي، فنزلت وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح ثنا حجّاج بن محمّدٍ أنا ابن جريح وعثمان بن عطاءٍ عن عطاءٍ الخراسانيّ عن عبد اللّه بن عبّاسٍ قال في براءة: إلا تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضرّوه شيئًا الآية، فنسخ هؤلاء الآيات وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً الآية، وروي عن عكرمة والحسن وزيد بن أسلم: إنّها منسوخةٌ.
قوله تعالى: واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ.
تقدّم تفسيره عن ابن إسحاق- رحمه اللّه-). [تفسير القرآن العظيم: 6/1797-1798]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (د) ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال: في قوله تعالى: {إلّا تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً} [التوبة: 39] و {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول اللّه} [التوبة: 120] قال: نسختها {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً} [التوبة: 122]. أخرجه أبو داود). [جامع الأصول: 2/190]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (د) ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال: نجدة بن نفيع: سألت ابن عباس عن هذه الآية: {إلّا تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً} ؟ قال: فأمسك عنهم المطر، فكان عذابهم. أخرجه أبو داود). [جامع الأصول: 2/191]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 39.
وأخرج أبو داود، وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس في قوله {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} قال: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم استنفر حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه فأنزل الله هذه الآية فأمسك عنهم المطر فكان ذلك عذابهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} وقد كان تخلف عنه ناس في البدو يفقهون قومهم فقال المنافقون: قد بقي ناس في البوادي، وقالوا: هلك أصحاب البوادي فنزلت (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) (التوبة الآية 122)
وأخرج أبو داود، وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} قال: نسختها (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ). [الدر المنثور: 7/361-362]

تفسير قوله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن الزهري في قوله إذ هما في الغار قال هو الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثورا مكث النبي فيه و أبو بكر ثلاث ليال). [تفسير عبد الرزاق: 1/276]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب قوله: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إنّ اللّه معنا} [التوبة: 40] «أي ناصرنا، السّكينة فعيلةٌ من السّكون»
- حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ، حدّثنا حبّان، حدّثنا همّامٌ، حدّثنا ثابتٌ، حدّثنا أنسٌ، قال: حدّثني أبو بكرٍ رضي اللّه عنه، قال: كنت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الغار فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول اللّه، لو أنّ أحدهم رفع قدمه رآنا، قال: «ما ظنّك باثنين اللّه ثالثهما»
- حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ، حدّثنا ابن عيينة، عن ابن جريجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما: أنّه قال حين وقع بينه وبين ابن الزّبير: قلت: «أبوه الزّبير، وأمّه أسماء، وخالته عائشة، وجدّه أبو بكرٍ، وجدّته صفيّة» ، فقلت لسفيان: إسناده؟ فقال: حدّثنا، فشغله إنسانٌ، ولم يقل ابن جريجٍ
- حدّثني عبد اللّه بن محمّدٍ، قال حدّثني يحيى بن معينٍ، حدّثنا حجّاجٌ، قال ابن جريجٍ: قال ابن أبي مليكة: وكان بينهما شيءٌ، فغدوت على ابن عبّاسٍ، فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزّبير، فتحلّ حرم اللّه؟ فقال: «معاذ اللّه، إنّ اللّه كتب ابن الزّبير وبني أميّة محلّين، وإنّي واللّه لا أحلّه أبدًا» ، قال: قال النّاس: بايع لابن الزّبير فقلت: " وأين بهذا الأمر عنه، أمّا أبوه: فحواريّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم - يريد الزّبير - وأمّا جدّه: فصاحب الغار - يريد أبا بكرٍ - وأمّه: فذات النّطاق - يريد أسماء - وأمّا خالته: فأمّ المؤمنين - يريد عائشة - وأمّا عمّته: فزوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم - يريد خديجة - وأمّا عمّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فجدّته - يريد صفيّة - ثمّ عفيفٌ في الإسلام، قارئٌ للقرآن، واللّه إن وصلوني وصلوني من قريبٍ، وإن ربّوني ربّوني أكفاءٌ كرامٌ، فآثر التّويتات والأسامات والحميدات يريد أبطنًا من بني أسدٍ بني تويتٍ وبني أسامة وبني أسدٍ، إنّ ابن أبي العاص برز يمشي القدميّة - يعني عبد الملك بن مروان - وإنّه لوّى ذنبه - يعني ابن الزّبير - "
- حدّثنا محمّد بن عبيد بن ميمونٍ، حدّثنا عيسى بن يونس، عن عمر بن سعيدٍ، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، دخلنا على ابن عبّاسٍ، فقال: «ألا تعجبون لابن الزّبير قام في أمره هذا» ، فقلت: «لأحاسبنّ نفسي له ما حاسبتها لأبي بكرٍ، ولا لعمر، ولهما كانا أولى بكلّ خيرٍ منه» ، وقلت: «ابن عمّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وابن الزّبير، وابن أبي بكرٍ، وابن أخي خديجة، وابن أخت عائشة، فإذا هو يتعلّى عنّي، ولا يريد ذلك» ، فقلت: «ما كنت أظنّ أنّي أعرض هذا من نفسي، فيدعه وما أراه يريد خيرًا، وإن كان لا بدّ لأن يربّني بنو عمّي أحبّ إليّ من أن يربّني غيرهم»). [صحيح البخاري: 6/66-67]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب قوله ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا)
أي ناصرنا قال أبو عبيدة في قوله تعالى إن الله معنا أي ناصرنا وحافظنا قوله السّكينة فعيلةٌ من السّكون هو قول أبي عبيدة أيضًا
[4664] قوله حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ هو الجعفيّ وهو المذكور في جميع أحاديث الباب إلّا الطّريق الأخير وفي شيوخه عبد اللّه بن محمّدٍ جماعةٌ منهم أبو بكر بن أبي شيبة ولكن حيث يطلق ذلك فالمراد به الجعفيّ لاختصاصه به وإكثاره عنه وحبّان بفتح أوله ثمّ الموحدة الثّقيلة هو بن هلالٍ وقد تقدّم الحديث مع شرحه في مناقب أبي بكرٍ قوله حين وقع بينه وبين بن الزبير أي بسبب البيعة وذلك أن بن الزّبير حين مات معاوية امتنع من البيعة ليزيد بن معاوية وأصرّ على ذلك حتّى أغرى يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة بالمدينة فكانت وقعة الحرّة ثمّ توجّه الجيش إلى مكّة فمات أميرهم مسلم بن عقبة وقام بأمر الجيش الشّامي حصين بن نمير فحصر بن الزّبير بمكّة ورموا الكعبة بالمنجنيق حتّى احترقت ففجأهم الخبر بموت يزيد بن معاوية فرجعوا إلى الشّام وقام بن الزّبير في بناء الكعبة ثمّ دعا إلى نفسه فبويع بالخلافة وأطاعه أهل الحجاز ومصر والعراق وخراسان وكثيرٌ من أهل الشّام ثمّ غلب مروان على الشّام وقتل الضّحّاك بن قيس الأمير من قبل بن الزّبير بمرج راهطٍ ومضى مروان إلى مصر وغلب عليها وذلك كلّه في سنة أربعٍ وستّين وكمّل بناء الكعبة في سنة خمسٍ ثمّ مات مروان في سنة خمسٍ وستّين وقام عبد الملك ابنه مقامه وغلب المختار بن أبي عبيدٍ على الكوفة ففرّ منه من كان من قبل بن الزّبير وكان محمّد بن عليّ بن أبي طالبٍ المعروف بابن الحنفيّة وعبد اللّه بن عبّاسٍ مقيمين بمكّة منذ قتل الحسين فدعاهما بن الزبير إلىالبيعة له فامتنعا وقالا لا نبايع حتّى يجتمع النّاس على خليفةٍ وتبعهما جماعةٌ على ذلك فشدد عليهم بن الزّبير وحصرهم فبلغ المختار فجهّز إليهم جيشًا فأخرجوهما واستأذنوهما في قتال بن الزّبير فامتنعا وخرجا إلى الطّائف فأقاما بها حتّى مات بن عبّاس سنة ثمان وستّين ورحل بن الحنفيّة بعده إلى جهة رضوى جبل بينبع فأقام هناك ثمّ أراد دخول الشّام فتوجّه إلى نحو أيلة فمات في آخر سنة ثلاثٍ أو أوّل سنة أربعٍ وسبعين وذلك عقب قتل بن الزّبير على الصّحيح وقيل عاش إلى سنة ثمانين أو بعد ذلك وعند الواقديّ أنّه مات بالمدينة سنة إحدى وثمانين وزعمت الكيسانيّة أنّه حيٌّ لم يمت وأنّه المهديّ وأنّه لا يموت حتّى يملك الأرض في خرافاتٍ لهم كثيرةٍ ليس هذا موضعها وإنّما لخّصت ما ذكرته من طبقات بن سعدٍ وتاريخ الطّبريّ وغيره لبيان المراد بقول بن أبي مليكة حين وقع بينه وبين بن الزّبير ولقوله في الطّريق الأخرى فغدوت على بن عبّاس فقلت أتريد أن تقاتل بن الزبير وقول بن عبّاسٍ قال النّاس بايع لابن الزّبير فقلت وأين بهذا الأمر عنه أي أنّه مستحقٌّ لذلك لما له من المناقب المذكورة ولكن أمتنع بن عبّاسٍ من المبايعة له لما ذكرناه وروى الفاكهيّ من طريق سعيد بن محمّد بن جبير بن مطعمٍ عن أبيه قال كان بن عبّاس وبن الحنفيّة بالمدينة ثمّ سكنا مكّة وطلب منهما بن الزّبير البيعة فأبيا حتّى يجتمع النّاس على رجلٍ فضيّق عليهما فبعث رسولًا إلى العراق فخرج إليهما جيشٌ في أربعة آلافٍ فوجدوهما محصورين وقد أحضر الحطب فجعل على الباب يخوفهما بذلك فأخرجوهما إلى الطّائف وذكر بن سعد أن هذه القصّة وقعت بين بن الزبير وبن عبّاسٍ في سنة ستٍّ وستّين قوله وأمّه أسماء أي بنت أبي بكرٍ الصّدّيق وقوله وجدته صفيّة أي بنت عبد المطلب وقوله في الرّواية الثّانية وأمّا عمّته فزوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يريد خديجة أطلق عليها عمّته تجوّزًا وإنّما هي عمّة أبيه لأنّها خديجة بنت خويلد أي بن أسد والزّبير هو بن العوّام بن خويلد بن أسدٍ وكذا تجوّز في الرّواية الثّالثة حيث قال بن أبي بكر وإنّما هو بن بنته وحيث قال بن أخي خديجة وإنّما هو بن بن أخيها العوّام قوله فقلت لسفيان إسناده بالنّصب أي اذكر إسناده أو بالرّفع أي ما إسناده فقال حدّثنا فشغله إنسانٌ ولم يقل بن جريجٍ ظاهر هذا أنّه صرّح له بالتّحديث لكن لما لم يقل بن جريجٍ احتمل أن يكون أراد أن يدخل بينهما واسطةً واحتمل عدم الواسطة ولذلك استظهر البخاريّ بإخراج الحديث من وجهٍ آخر عن بن جريجٍ ثمّ من وجهٍ آخر عن شيخه قوله في الطّريق الثّانية حجاج هو بن محمّد المصّيصي قوله قال بن أبي مليكة وكان بينهما شيءٌ كذا أعاد الضّمير بالتّثنية على غير مذكورٍ اختصارًا ومراده بن عبّاس وبن الزّبير وهو صريحٌ في الرّواية الأولى حيث قال قال بن عبّاس حين وقع بينه وبين بن الزّبير قوله فتحلّ ما حرّم اللّه أي من القتال في الحرم قوله كتب أي قدّر قوله محلّين أي أنّهم كانوا يبيحون القتال في الحرم وإنّما نسب بن الزّبير إلى ذلك وإن كان بنو أميّة هم الّذين ابتدءوه بالقتال وحصروه وإنّما بدأ منه أوّلًا دفعهم عن نفسه لأنّه بعد أن ردّهم اللّه عنه حصر بني هاشمٍ ليبايعوه فشرع فيما يؤذن بإباحته القتال في الحرم وكان بعض النّاس يسمى بن الزّبير المحلّ لذلك قال الشّاعر يتغزّل في أخته رملة ألا من لقلب معنى غزلٍ بحبّ المحلّة أخت المحلّ وقوله لا أحلّه أبدًا أي لا أبيح القتال فيه وهذا مذهب بن عبّاسٍ أنّه لا يقاتل في الحرم ولو قوتل فيه قوله قال قال النّاس القائل هو بن عبّاس وناقل ذلك عنه بن أبي مليكة فهو متّصلٌ والمراد بالنّاس من كان من جهة بن الزّبير وقوله بايع بصيغة الأمر وقوله وأين بهذا الأمر أي الخلافة أي ليست بعيدةً عنه لما له من الشّرف بأسلافه الّذين ذكرهم ثمّ صفته الّتي أشار إليها بقوله عفيفٌ في الإسلام قارئٌ للقرآن وفي رواية بن قتيبة من طريق محمّد بن الحكم عن عوانة ومن طريق يحيى بن سعدٍ عن الأعمش قال قال بن عبّاسٍ لمّا قيل له بايع لابن الزّبير أين المذهب عن بن الزّبير وسيأتي الكلام على قوله في الرّواية الثّانية بن أبي بكرٍ في تفسير الحجرات قوله واللّه إن وصلوني وصلوني من قريبٍ أي بسبب القرابة قوله وإن ربّوني بفتح الرّاء وضمّ الموحّدة الثّقيلة من التّربية قوله ربّوني في رواية الكشميهنيّ ربّني بالإفراد وقوله أكفاءٌ أي أمثالٌ واحدها كفءٌ وقوله كرامٌ أي في أحسابهم وظاهر هذا أن مراد بن عبّاس بالمذكورين بنو أسد رهط بن الزّبير وكلام أبي مخنفٍ الأخباريّ يدلّ على أنّه أراد بني أميّة فإنّه ذكر من طريق أخرى أن بن عبّاسٍ لمّا حضرته الوفاة بالطّائف جمع بنيه فقال يا بني إن بن الزّبير لمّا خرج بمكّة شددت أزره ودعوت النّاس إلى بيعته وتركت بني عمّنا من بني أميّة الّذين إن قبلونا قبلونا أكفاءً وإن ربّونا ربّونا كرامًا فلمّا أصاب ما أصاب جفاني ويؤيّد هذا ما في آخر الرّواية الثّالثة حيث قال وإن كان لا بد لأن يربنى بنو عمي أحب إلى من أن يربني غيرهم فإن بني عمه هم بنو أميّة بن عبد شمس بن عبد منافٍ لأنهم من بني عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فعبد المطلب جدّ عبد اللّه بن عبّاس بن عبد المطلب بن عمّ أميّة جدّ مروان بن الحكم بن أبي العاص وكان هاشمٌ وعبد شمسٍ شقيقين قال الشّاعر عبد شمسٍ كان يتلو هاشمًا وهما بعد لأم ولأب وأصرح من ذلك ما في خبر أبي مخنفٍ فإن في آخره أن بن عبّاسٍ قال لبنيه فإذا دفنتموني فالحقوا ببني عمّكم بني أميّة ثمّ رأيت بيان ذلك واضحا فيما أخرجه بن أبي خيثمة في تاريخه في الحديث المذكور فإنّه قال بعد قوله ثمّ عفيفٌ في الإسلام قارئٌ للقرآن وتركت بني عمّي إن وصلوني وصلوني عن قريبٍ أي أذعنت له وتركت بني عمّي فآثر على غيري وبهذا يستقيم الكلام وأصرح من ذلك في رواية بن قتيبة المذكورة أن بن عبّاسٍ قال لابنه عليٍّ الحق بابن عمّك فإنّ أنفك منك وإن كان أجدعٌ فلحق عليٌّ بعبد الملك فكان آثر النّاس عنده قوله فآثر عليًّ بصيغة الفعل الماضي من الأثرة ووقع في رواية الكشميهنيّ فأين بتحتانيّة ساكنةٍ ثمّ نونٍ وهو تصحيف وفي رواية بن قتيبة المذكورة فشددت على عضده فآثر عليًّ فلم أرض بالهوان قوله التّويتات والأسامات والحميدات يريد أبطنا من بني أسدٍ أمّا التّويتات فنسبةٌ إلى بني تويت بن أسدٍ ويقال تويت بن الحارث بن عبد العزّى بن قصيّ وأمّا الأسامات فنسبةٌ إلى بني أسامة بن أسد بن عبد العزّى وأمّا الحميدات فنسبةٌ إلى بني حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزّى قال الفاكهيّ حدّثنا الزّبير بن بكّارٍ عن محمّد بن الضّحّاك في آخرين أنّ زهير بن الحارث دفن في الحجر قال وحدّثنا الزّبير قال كان حميد بن زهيرٍ أوّل من بنى بمكّة بيتًا مربّعًا وكانت قريشٌ تكره ذلك لمضاهاة الكعبة فلمّا بنى حميدٌ بيته قال قائلهم اليوم يبنى لحميدٍ بيته إمّا حياته وإمّا موته فلمّا لم يصبه شيءٌ تابعوه على ذلك وتجتمع هذه الأبطن مع خويلد بن أسد جد بن الزبير قال الأزرقيّ كان بن الزّبير إذا دعا النّاس في الإذن بدأ ببني أسدٍ على بني هاشمٍ وبني عبد شمس وغيرهم فهذا معنى قول بن عبّاسٍ فآثر على التّويتات إلخ قال فلمّا ولي عبد الملك بن مروان قدّم بني عبد شمس ثمّ بني هاشم وبني المطلب وبني نوفلٍ ثمّ أعطى بني الحارث بن فهرٍ قبل بني أسدٍ وقال لأقدّمنّ عليهم أبعد بطنٍ من قريشٍ فكان يصنع ذلك مبالغة منه في مخالفة بن الزبير وجمع بن عبّاسٍ البطون المذكورة جمع القلّة تحقيرًا لهم قوله يريد أبطنًا من بني أسد بن تويتٍ كذا وقع وصوابه يريد أبطنًا من بني تويت بن أسدٍ إلخ نبّه على ذلك عياضٌ قلت وكذا وقع في مستخرج أبي نعيمٍ على الصّواب وفي رواية أبي مخنفٍ المذكورة أفخاذًا صغارًا من بني أسد بن عبد العزّى وهذا صوابٌ قوله أنّ بن أبي العاص يعني عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص قوله برز أي ظهر قوله يمشي القدميّة بضمّ القاف وفتح الدّال وقد تضمّ أيضًا وقد تسكّن وكسر الميم وتشديد التّحتانيّة قال الخطّابيّ وغيره معناها التّبختر وهو مثل يريد أنه برز يطلب معالى الأمور قال بن الأثير الّذي في البخاريّ القدميّة وهي التّقدّمة في الشّرف والفضل والّذي في كتب الغريب اليقدميّة بزيادة تحتانيّةٍ في أوّله ومعناها التّقدّمة في الشّرف وقيل التّقدّم بالهمّة والفعل قلت وفي رواية أبي مخنفٍ مثل ما وقع في الصّحيح قوله وأنه لوى ذنبه يعني بن الزّبير لوّى بتشديد الواو وبتخفيفها أي ثناه وكنّى بذلك عن تأخّره وتخلّفه عن معالي الأمور وقيل كنّى به عن الجبن وإيثار الدّعة كما تفعل السّباع إذا أرادت النّوم والأوّل أولى وفي مثله قال الشّاعر مشى بن الزّبير القهقرى وتقدّمت أميّة حتّى أحرزوا القصبات وقال الدّاوديّ المعنى أنّه وقف فلم يتقدّم ولم يتأخّر ولا وضع الأشياء مواضعها فأدنى الناصح وأقصى الكاشح وقال بن التّين معنى لوّى ذنبه لم يتمّ له ما أراده وفي رواية أبي مخنفٍ المذكورة وأن بن الزّبير يمشي القهقرى وهو المناسب لقوله في عبد الملك يمشي القدميّة وكان الأمر كما قال بن عبّاس فإن عبد الملك لم يزل في تقدّم من أمره إلى أن استنقذ العراق من بن الزبير وقتل أخاه مصعبا ثمّ جهز العساكر إلى بن الزّبير بمكّة فكان من الأمر ما كان ولم يزل أمر بن الزّبير في تأخّر إلى أن قتل رحمه اللّه تعالى قوله في الرّواية الثّالثة
[4666] عن عمر بن سعيد أي بن أبي حسين المكّيّ وقوله لأحاسبنّ نفسي أي لأناقشنّها في معونته ونصحه قاله الخطّابيّ وقال الدّاوديّ معناه لأذكرنّ من مناقبه ما لم أذكر من مناقبهما وإنّما صنع بن عبّاسٍ ذلك لاشتراك النّاس في معرفة مناقب أبي بكرٍ وعمر بخلاف بن الزّبير فما كانت مناقبه في الشّهرة كمناقبهما فأظهر ذلك بن عبّاسٍ وبيّنه للنّاس إنصافًا منه له فلمّا لم ينصفه هو رجع عنه قوله فإذا هو يتعلّى عنّي أي يترفّع عليّ متنحّيًا عنّي قوله ولا يريد ذلك أي لا يريد أن أكون من خاصّته وقوله ما كنت أظنّ أنّي أعرض هذا من نفسي أي أبدؤه بالخضوع له ولا يرضى منّي بذلك وقوله وما أراه يريد خيرًا أي لا يريد أن يصنع بي خيرًا وفي رواية الكشميهنيّ وإنّما أراه يريد خيرًا وهو تصحيفٌ ويوضّحه ما تقدّم وقوله لأن يربّني أي يكون عليّ ربًّا أي أميرًا أو ربّه بمعنى ربّاه وقام بأمره وملك تدبيره قال التّيميّ معناه لأن أكون في طاعة بني أميّة أحبّ إليّ من أن أكون في طاعة بني أسدٍ لأنّ بني أميّة أقرب إلى بني هاشمٍ من بني أسدٍ كما تقدم والله أعلم). [فتح الباري: 8/326-330]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (باب قوله: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا} (التّوبة: 40) أي: ناصرنا)
أي: هذا باب في قوله تعالى: {ثاني اثنين} إلى آخره، وليس في بعض النّسخ لفظ: باب، وقيل: ثاني اثنين {إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذا خرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} الآية. قوله: (إلّا تنصروه) أي إلاّ تنصروا رسوله محمّدًا صلى الله عليه وسلم، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره (إذ أخرجه الّذين كفروا) أي حين أخرجه مشركو مكّة وذلك عام الهجرة حين هموا بقتله أو حبسه أو نفيه. قوله: (ثاني اثنين) أي: أحد الإثنين، كقولك: ثالث ثلاثة، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصّديق رضي الله عنه. وانتصابه على الحال، وقرىء: ثاني اثنين، بالسّكون قوله: (إذ هما) بدل من قوله: (إذ أخرجه الّذين كفروا) والغار ثقب في أعلى ثور وهو جبل مشهور بالمفجر من خلف مكّة من طريق اليمن، وهو المعروف بثور أطحل، وقال الزّمخشريّ: وهو جبل في يمنى مكّة على مسيرة ساعة. قوله: (إذ يقول:) بدلٌ ثانٍ. قوله: (لصاحبه) هو أبو بكر رضي الله عنه. قوله: (أي ناصرنا) هذا تفسير قوله: (معنا) .
السكينة فعيلةٌ من السّكون
أشار به إلى قوله: {فأنزل الله سكينته عليه وأيده} الآية، ثمّ أشار إلى أن وزن السكينة: فعيلة، وأنه مشتقّ من السّكون، وفي التّفسير: {فأنزل الله سكينته عليه} أي: تأييده، ونصره عليه أي: على رسوله في أشهر القولين، وقيل: على أبي بكر رضي الله عنه، وروي عن ابن عبّاس وغيره، قالوا: لأن الرّسول لم تزل معه سكينة، وهذا لا ينافي تجديد سكينة خاصّة بتلك الحال، ولهذا قال: {أيده بجنود لم تروها} أي: الملائكة.
- حدّثنا عبد الله بن محمّدٍ حدثنا حبّان حدثنا همّامٌ حدّثنا ثابتٌ حدثنا أنسٌ قال حدّثني أبو بكرٍ رضي الله عنه قال كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين قلت يار سول الله لو أنّ أحدهم رفع قدمه رآنا قال ما ظنّك بإثنين الله ثالثهما. (انظر الحديث 3653 وطرفه) .
مطابقته للتّرجمة ظاهرة. وعبد الله بن محمّد أبو جعفر الجعفيّ البخاريّ المعروف بالسندي، وحبان، بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة: ابن هلال الباهليّ، وهمّام بتشديد الميم الأولى ابن يحيى العوذي، بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالذال المعجمة، وثابت بن أسلم البنانيّ ولم يأت إسناد إلى هنا مثل هذا الإسناد، فإن رواته كلهم بالتّحديث الصّرف، والحديث مضى في مناقب أبي بكر رضي الله عنه، فإنّه أخرجه هناك عن محمّد بن سنان عن همام ... إلى آخره. ومضى الكلام فيه هناك.
- حدّثنا عبد الله بن محمّدٍ حدّثنا ابن عيينة عن ابن جريجٍ عن ابن أبي مليكة عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه قال حين وقع بينه وبين ابن الزّبير قلت أبوه الزّبير وأمّه أسماء وخالته عائشة وجدّه أبو بكرٍ وجدّته صفيّة فقلت لسفيان إسناده فقال حدّثنا فشغله إنسانٌ ولم يقل ابن جريجٍ.
عبد الله بن محمّد هذا هو المذكور فيما قبله فإنّه أخرج عنه في هذا الباب ثلاثة أحاديث متواليات كما تراه، ويمكن أن يكون وجه المطابقة في هذا الحديث للتّرجمة وفي الحديث الّذي بعده من حيث كونهم من رواية عبد الله بن محمّد، ويكتفي بهذا المقدار على أن في هذا الحديث ذكر أسماء وعائشة في معرض فضيلتهما المستلزمة لفضل أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وفي التّرجمة الإشعار بفضل أبي بكر.
وابن عيينة هو سفيان، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي مليكة، وقد تكرر ذكرهم.
قوله: (حين وقع بينه وبين ابن الزبير) أي: حين وقع بين ابن عبّاس وبين عبد الله بن الزبير. رضي الله تعالى عنهم، وذلك بسبب البيعة، وملخّص ذلك أن معاوية لما مات امتنع ابن الزبير من البيعة ليزيد بن معاوية وأصر على ذلك، ولما بلغه خبر موت يزيد بن معاوية دعا ابن الزبير إلى نفسه فبويع بالخلافة وأطاعه أهل الحجاز ومصر وعراق وخراسان وكثير من أهل الشّام، ثمّ جرت أمور حتّى آلت الخلافة إلى عبد الملك، وذلك كله في سنة أربع وستّين، وكان محمّد بن عليّ بن أبي طالب المعروف بابن الحنفيّة وعبد الله بن عبّاس مقيمين بمكّة منذ قتل الحسين، رضي الله تعالى عنه، فدعاهما ابن الزبير إلى البيعة له فامتنعا وقالا: لا نبايع حتّى يجتمع النّاس على خليفة، وتبعهما على ذلك جماعة فشدد عليهم ابن الزبير وحصرهم فبلغ الخبر المختار بن أبي عبيد وكان قد غلب على الكوفة وكان فر منه من كان من قبل ابن الزبير، فجهز إليهم جيشًا فأخرجوهما واستأذنوهما في قتال ابن الزبير فامتنعا، وخرجا إلى الطّائف فأقاما بها حتّى مات ابن عبّاس في سنة ثمان وستّين، ورحل ابن الحنفيّة بعده إلى جهة رضوى جبل ينبع فأقام هناك، ثمّ أراد دخول الشّام فتوجه إلى نحو أيلة فمات في آخر سنة ثلاثة أو أول سنة أربع وسبعين، وذلك عقيل قتل ابن الزبير على الصّحيح. قوله: (قلت أبوه الزبير) ، القائل هو ابن أبي مليكة يعدد بهذا إلى آخره شرف ابن الزبير وفضله واستحقاقه الخلافة مثل الّذي ينكر على ابن عبّاس على امتناعه من البيعة له، يقول: أبوه عبد الله هو الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرة بالجنّة. وأمه أسماء بنت أبي بكر الصّديق، وخالته عائشة لأنّها أخت أسماء، وجدته صفيّة بنت عبد المطلب وهي أم الزبير. قوله: (فقلت لسفيان) ، القائل هو عبد الله بن محمّد شيخ البخاريّ. قوله: (إسناده) ، أي: اذكر إسناده، ويجوز بالرّفع على تقدير: ما هو إسناده. قوله: (فقال: حدثنا) ، أي: قال سفيان: حدثنا فشغله إنسان بكلام أو نحوه ولم يقل حدثنا ابن جريج، وقال الكرماني: قد ذكر الإسناد أولا فما معنى السّؤال عنة؟ ثمّ أجاب عن كيفيّة العنعنة بأنّها بالواسطة وبدونها. قلت: فلذلك أخرج البخاريّ الحديث من وجهين آخرين على ما يجيء الآن لأجل الاستظهار.
- حدّثني عبد الله بن محمّدٍ قال حدّثني يحيى بن معينٍ حدّثنا حجّاجٌ قال ابن جريجٍ قال ابن أبي مليكة وكان بينهما شيءٌ فغدوت على ابن عبّاسٍ فقلت أتريد أن تقاتل ابن الزّبير فتحلّ حرم الله فقال معاذ الله إنّ الله كتب ابن الزّبير وبني أميّة محلّين وإنّي والله لا أحلّه أبدا قال: قال النّاس بايع لابن الزّبيرٍ فقلت وأين بهذا الأمر عنه أمّا أبوه فحواريّ النّبي صلى الله عليه وسلم يريد الزّبير وأمّا جدّه فصاحب الغار يريد أبا بكرٍ وأمّا أمّه فذات النّطاق يريد أسماء وأمّا خالته فأمّ المؤمنين يريد عائشة وأمّا عمّته فزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم يريد خديجة وأمّا عمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم فجدّته يريد صفيّة ثمّ عفيفٌ في الإسلام قارىءٌ للقرآن والله إن وصلوني وصلوني من قريبٍ وإن ربّوني ربّوني أكفاءٌ كرامٌ فآثر التّويتات والأسامات والحميدات يريد أبطنا من بني أسدٍ بني تويتٍ وبني أسامة وبني حميدٍ إنّ ابن أبي العاص برز يمشي القدميّة يعني عبد الملك بن مروان وأنّه لوّى ذنبه يعني ابن الزّبير. .
هذا الحديث الثّالث من الأحاديث الثّلاثة الّتي أخرجها عن عبد الله بن محمّد المذكور، وهو يرويه عن يحيى بن معين، بضم الميم، ابن عون أبي زكريّا البغداديّ عن حجاج بن محمّد المصّيصي إلى آخره.
قوله: (وكان بينهما) أي: بين ابن عبّاس وابن الزبير، ولكن لم يجر ذكرهما فأعاد الضّمير إليهما اختصارا. قوله: (شيء) يعني: ممّا يصدر بين المتخاصمين، وقيل: الّذي وقع بينه وبين ابن الزبير كان في بعض قراءة القرآن. قوله: (فغدوت) ، من الغدو وهو الذّهاب. قوله: (فقلت: أتريد) ؟ الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار يخاطب به ابن أبي مليكة ابن عبّاس. قوله: (فتحل) ، بالنّصب من الإحلال. قوله: (حرم الله) بالنّصب على المفعولية، ويروى: (فتحل ما حرم الله) أي: من القتال في الحرم. قوله: (فقال: معاذ الله) أي: فقال ابن عبّاس: العوذ باللّه على إحلال الحرم. قوله: (إن الله كتب ابن الزبير) أي: قدر ابن الزبير وبني أميّة محلين بكسر اللّام، أرادتهم كانوا محلين يعني مبيحين القتال في الحرم، وكان ابن الزبير يسمى المحل. قوله: (وإنّي والله لا أحله) ، من كلام ابن عبّاس، أي: لا أحل الحرم أبدا. وهذا مذهب ابن عبّاس أنه لا يقاتل في الحرم وإن قوتل فيه. قوله: (قال: قال النّاس) ، القائل هو ابن عبّاس، وناقل ذلك عنه هو ابن أبي مليكة، والمراد بالنّاس من كان من جهة ابن الزبير. قوله: (بايع) أمر من المبايعة. قوله: (فقلت) ، قائله ابن عبّاس. قوله: (وأين بهذا الأمر عنه) ؟ أراد بالأمر الخلافة، يعني: ليست بعيدة عنه لما له من الشّرف من قوله: أما أبوه إلى آخره، أي: أما أبو عبد الله وهو الزبير بن العوام فحواري النّبي صلى الله عليه وسلم، وقد مضى في مناقب الزبير عن جابر. قال: قال النّبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير بن العوام) والحواري النّاصر الخالص. قوله: (يريد الزبير) أي: يريد ابن عبّاس بقوله: فحواري النّبي صلى الله عليه وسلم. الزبير بن العوام، قوله: (وأمه) أي: وأم عبد الله بن الزبير. قوله: (فذات النطاق) وسميت أمه بذات النطاق لأنّها شقّت نطاقها السفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسقائه عند الهجرة. قوله: (يريد أسماء) ، يعني: يريد ابن عبّاس بقوله: ذات النطاق أسماء بنت أبي بكر الصّديق، رضي الله تعالى عنه. قوله: (وأما خالته) ، أي خالة عبد الله فهي أم المؤمنين عائشة أخت أسماء. قوله: (وأما عمته) فهي: أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد، وهي أخت العوام بن خويلد، وأطلق عليها عمته تجوزا لأنّها عمّة أبيه على ما لا يخفى. قوله: (وأما عمّة النّبي صلى الله عليه وسلم، فجدته) أي: جدة عبد الله بن الزبير. وهي صفيّة بنت عبد المطلب. قوله: (ثمّ عفيف) أي: ثمّ هو يعني عبد الله عفيف، وانتقل من بيان نسبه الشريف إلى بيان صفاته الذاتية الحميدة بكلمة ثمّ الّتي هي للتعقيب، وأراد بالعفة في الإسلام النزاهة عن الأشياء الّتي تشين الرجل، والعفة أيضا الكفّ عن الحرم والسّؤال من النّاس. قوله: (والله إن وصلوني) ، إلى آخره من كلام ابن عبّاس أيضا فيه عتب على ابن الزبير وشكر بني أميّة، وأراد بقوله: (إن وصلوني) بني أميّة من صلة الرّحم. وفسره بقوله: (وصلوني من قريب) أي: من أجل القرابة، وذلك أن ابن عبّاس هو عبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأميّة بن عبد شمس بن عبد مناف. قوله: (وإن ربوني) بفتح الرّاء وتشديد الباء الموحدة المضمومة من التربية. قوله: (ربوني أكفاء) ، من قبيل: أكلوني البراغيث. وأصله: ربني أكفاء، وكذا وقع في رواية الكشميهني على الأصل، وارتفاع أكفاء بقوله: ربوني أو ربّي، على الرّوايتين، والأكفاء جمع كفء من الكفاءة في النّكاح، وهو في الأصل بمعنى النظير والمساوي. قوله: (كرام) ، جمع كريم وهو الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل، وروى ابن مخنف الأنصاريّ بإسناده أن ابن عبّاس لما حضرته الوفاة بالطّائف جمع بنيه فقال: يا بني إن ابن الزبير لما خرج بمكّة شددت أزره ودعوت النّاس إلى بيعته وتركت بني عمنا من بني أميّة الّذين إن قتلونا قتلونا أكفاء وأن ربونا ربونا كراما فلمّا أصاب ما أصاب جفاني. قوله: (فآثر التويتات) أي: اختار التويتات والأسامات والحميدات عليّ ورضي بهم وأخذهم، وفي رواية ابن قتيبة: فشددت على عضده فآثر عليّ فلم أرض بالهوان، وآثر بالمدّ، ووقع في رواية الكشميهني: فأين، بسكون الياء آخر الحروف وبالنون وهو تصحيف، والتويتات، بضم التّاء المثنّاة من فوق وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف بعدها تاء مثناة من فوق أخرى جمع تويت وهو ابن الحارث بن عبد العزّى بن قصي، والأسامات، جمع أسامة نسبة إلى بني أسامة بن أسد ابن عبد العزّى، والحميدات، نسبة إلى بني حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزّى، فهؤلاء الثّلاثة من بني عبد العزّى. قوله: (يريد أبطنا) ، يعني: ابن عبّاس من هذه الثّلاثة أبطنا جمع بطن وهو ما دون القبيلة وفوق الفخذ، ويجمع على بطون أيضا. قوله: (من بني أسد بن تويت) ، قال عياض: وصوابه يريد أبطنا من بني أسد بن تويت، وكذا وقع في (مستخرج) أبي نعيم. قوله: (وبني أسامة) ، أي: ومن بني أسامة. قوله: (وبني حميد) ، أي: ومن بني حميد، وذكر ابن عبّاس هؤلاء الثّلاثة على سبيل التحقير والتقليل، فلذلك جمعهم بجمع القلّة حيث قال أبطنا. قوله: (أن ابن أبي العاص برز) ، أي: ظهر، وهو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص نسبة إلى جد أبيه. قوله: (يمشي القدمية) ، بفتح القاف وفتح الدّال وضمّها وسكونها وكسر الميم وتشديد الياء آخر الحروف. قال عبيد: يعني يمشي التّبختر ضربه، مثلا لركوبه معالي الأمور وسعى فيها وعمل بها، وقال ابن قتيبة: القدمية هي التقدمة، وقال ابن الأثير: الّذي عند البخاريّ: القدمية، معناه: تقدمه في الشّرف والفضل، والّذي جاء في كتب الغريب، والتقدمية واليقدمية. بالتّاء والياء، يعني: التّقدّم، وعند الأزهري بالياء أخت الواو، وعند الجوهري بالتّاء المثنّاة من فوق، وقيل: إن اليقدمية بالياء أخت الواو وهو التّقدّم بالهمة، وفي (المطالع) رواه بعض اليقدمية: بفتح الدّال وضمّها والضّم صحّ عن شيخنا أبي الحسن. قوله: (وأنه) أي: وأن ابن الزبير. قوله: (لوى ذنبه) أي: ثناه وصرفه، يقال: لوى فلان ذنبه ورأسه وعطفه إذا ثناه وصرفه، ويروى بالتّشديد للمبالغة وهو مثل لترك المكارم والزوغان عن المعروف وإيلاء الجميل، وقيل: هو كناية عن التّأخّر والتخلف، ويقال: هو كناية عن الجبن وإيثار الدعة، وقال الدّاوديّ: المعنى أنه وقف فلم يتقدّم ولم يتأخّر ولا وضع الأشياء فأدنى الكاشح وأقصى الناصح وقال ابن التّين: معنى: لوى ذنبه، لم يتم له ما أراده وكان الأمر كما ذكر، والآن عبد الملك لم يزل في تقدم من أمره إلى أن استنقذ العراق من ابن الزبير وقتل أخاه مصعبا، ثمّ جهر العساكر إلى ابن الزبير فكان من الأمر ما وقع، وكان ولم يزل ابن الزبير في تأخّر إلى أن قتل.
- حدّثنا محمّد بن عبيدٍ بن ميمونٍ حدّثنا عيسى بن يونس عن عمر بن سعيدٍ قال أخبرني ابن أبي مليكة دخلنا على ابن عبّاسٍ فقال ألا تعجبون لابن الزّبيرٍ قام في أمره هذا فقلت لأحاسبنّ نفسي له ما حاسبتها لأبي بكرٍ ولا لعمر ولهما كانا أولى بكلّ خيرٍ منه وقلت ابن عمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم وابن الزّبير وابن أبي بكرٍ وابن أخي خديجة وابن أخت عائشة فإذا هو يتعلّى عنّي ولا يريد ذلك فقلت ما كنت أظنّ أنّي أعرض هذا من نفسي فيدعه وما أراه يريد خيرا وإن كان لا بدّ لأن يربّني بنو عمّي أحبّ إليّ من أن ير بّني غيرهم.
هذا طريق آخر في الحديث المذكور أخرجه عن محمّد بن عبيد بن ميمون المدينيّ، ويقال له: محمّد بن أبي عباد عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق الهمداني الكوفي عن عمر بن سعيد بن أبي حسين النّوفلي القرشي المكّيّ عن عبد الله بن أبي مليكة إلى آخره.
قوله: (قام في أمره) أي: في الخلافة. قوله: (لأحاسبن نفسي) أي: لأناقشنها له. أي: لابن الزبير، وقيل: لأطالبن نفسي بمراعاته وحفظ حقه ولأنافسن في معونته ولاستقصين عليها في النصح له والذب عنه. قوله: (ما حاسبتها) كلمة. ما للنّفي، أي: ما حاسبت نفسي لأبي بكر ولا لعمر. قوله: (ولهما كان أولى بكل خير) اللّام فيه لام الابتداء، والواو فيه يصلح أن يكون للحال. وهما يرجع إلى أبي بكر وعمر، قوله: (منه) أي: من ابن الزبير. قوله: (وقلت: ابن عمّة النّبي صلى الله عليه وسلم) تجوز، وإنّما هي عمّة أبي النّبي صلى الله عليه وسلم، وهي صفيّة بنت عبد المطلب. وكذلك قوله: (وابن أبي بكر) تجوز لأنّه ابن بنت أبي بكر، وكذلك قوله: وابن أخي خديجة تجوز لأنّه ابن ابن أخيها العوام. قوله: (فإذا هو) أي: ابن الزبير: (يتعلى عني) أي: يترفع منتحيا عني. قوله: (ولا يريد ذلك) أي: لا يريد أن أكون من خاصته. قوله: (ما كنت أظن أنّي أعرض هذا) أي: أظهر وأبذل هذا من نفسي وأرضى به فيدعه. أي: فإن يدعه أي يتركه ولا يرضى هو بذلك. قوله: (وما أراه يريد خيرا) أي: وما أظنه يريد خيرا يعني في الرّغبة عني. قوله: (وإن كان لابد) أي: وإن كان هذا الّذي صدر منه لا فراق له منه لأن يربني بنو عمي أي بنو أميّة ويريني من التربية ومعناه: يكون بنو أميّة أمراء عليّ وقائمين بأمري قوله: (أحب إليّ) خبر إن. قوله: (غيرهم) أي: غير بني عمي. وهم الأمويون. وقال الحافظ إسماعيل في كتاب (التّخيير) يعني: بقوله لأن يربني بنو عمي إلى آخره، لأن أكون في طاعة بني أميّة وهم أقرب إلى قرابة من بني أسد أحب إليّ). [عمدة القاري: 18/266-270]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب قوله: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا} ناصرنا السّكينة: فعيلةٌ من السّكون
(باب قوله) تعالى وسقط من اليونينية لغير أبي ذر ({ثاني اثنين}) نصب على الحال من مفعول أخرجه وهو مثل خامس خمسة أي أحد اثنين ({إذ هما في الغار}). أي حصلا فيه والغار ثقب في الجبل يجمع على غيران ({إذ يقول}) -صلّى اللّه عليه وسلّم- ({لصاحبه}) وهو أبو بكر الصديق فيه دليل على أن من أنكر كون أبي بكر من الصحابة كفر لتكذيبه القرآن. فإن قلت: لا دلالة في اللفظ على خصوصه. أجيب: بأن الإجماع على أنه لم يكن غيره ({لا تحزن إن الله معنا}) [التوبة: 40] أي (ناصرنا) وسقط لغير أبي ذر {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} وقال معنا ناصرنا.
(السكينة: فعيلة من السكون) يريد تفسير قوله تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه} أي على الصديق أي ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه وقيل الضمير عائد على النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- في قال بعضهم وهذا أقوى والسكينة هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة والخصائص التي لا تصلح إلا لهم كقوله تعالى: {فيه سكينة من ربكم} [البقرة: 248].
- حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ، حدّثنا حبّان، حدّثنا همّامٌ حدّثنا ثابتٌ، حدّثنا أنسٌ قال: حدّثني أبو بكرٍ -رضي الله عنه- قال: كنت مع النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- في الغار فرأيت آثار المشركين قلت: يا رسول اللّه لو أنّ أحدهم رفع قدمه رآنا قال: «ما ظنّك باثنين اللّه ثالثهما؟».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) الجعفي المسندي قال: (حدّثنا حبان) بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة ابن هلال الباهلي قال: (حدّثنا همام) بفتح الهاء وتشديد الميم ابن يحيى بن دينار العوذي بفتح المهملة وسكون الواو وكسر المعجمة البصري قال: (حدّثنا ثابت) هو ابن أسلم البناني قال: (حدّثنا أنس) هو ابن مالك (قال: حدّثني) بالإفراد (أبو بكر) الصديق (-رضي الله عنه- قال: كنت مع النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- في الغار) بثور أطحل خلف مكة من طريق اليمن (فرأيت آثار المشركين) لما طلعوا فوق الغار وفي رواية: فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم (قلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه) بالإفراد (رآنا: قال) عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر (ما ظنك باثنين) يريد نفسه الشريفة وأبا بكر (الله ثالثهما) بالنصر والمعونة.
- حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ، حدّثنا ابن عيينة، عن ابن جريجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عبّاسٍ -رضي الله عنهما- أنّه قال وقع بينه وبين ابن الزّبير قلت: أبوه الزّبير، وأمّه أسماء، وخالته عائشة، وجدّه أبو بكرٍ وجدّته صفيّة فقلت لسفيان: إسناده فقال: حدّثنا فشغله إنسانٌ ولم يقل ابن جريجٍ. [الحديث 4664 - طرفاه في: 4665، 4666].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) الجعفي المسندي قال: (حدثنا ابن عيينة) سفيان (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبد الرحمن (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال حين وقع بينه) أي بين ابن عباس (وبين ابن الزبير) عبد الله بسبب البيعة، وذلك أن ابن الزبير امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية لما مات أبوه وأصر على ذلك حتى مات يزيد ثم دعا ابن الزبير إلى نفسه بالخلافة فبويع بها وأطاعه أهل الحجاز ومصر والعراق وخراسان وكثير من أهل الشام ثم غلب مروان على الشام وقتل الضحاك بن قيس الأمير من قبل ابن الزبير، ثم توفي مروان سنة خمس وستين وقام عبد الملك ابنه مقامه وغلب المختار بن أبي عبيد على الكوفة ففر منه من كان من قبل ابن الزبير، وكان محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس مقيمين بمكة مدة قتل الحسين فدعاهما ابن الزبير إلى البيعة له فامتنعا وقالا: لا نبايع حتى يجتمع الناس على خليفة وتبعهما على ذلك جماعة فشدد ابن الزبير عليهم وحصرهم فبلغ ذلك المختار فجهز إليهم جيشًا فأخرجوهما واستأذنوهما في قتال ابن الزبير فامتنعا وخرجا إلى الطائف قال ابن أبي مليكة:
(قلت) أي لابن عباس كالمنكر عليه امتناعه من مبايعة ابن الزبير معددًا شرفه واستحقاقه للخلافة: (أبوه الزبير) بن العوّام أحد العشرة المبشرة بالجنة (وأمه أسماء) بنت أبي بكر الصديق (وخالته عائشة) أم المؤمنين (وجدّه أبو بكر) صاحب النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- في الغار (وجدته) أم أبيه الزبير (صفية) بنت عبد المطلب عمة النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: عبد الله بن محمد المسندي شيخ المؤلّف (فقلت لسفيان) بن عيينة: (إسناده). أي هذا الحديث ما هو إسناده؟ ويجوز النصب على تقدير: اذكر إسناده أي هل العنعنة بواسطة أو بدونها (فقال) أي سفيان: (حدّثنا فشغله إنسان) بكلام أو نحوه (ولم يقل ابن جريج) بالرفع أي لم يقل حدّثنا ابن جريج فاحتمل أن يكون أراد أن يدخل بينهما واسطة، واحتمل أن لا يدخلها، ولذلك استظهر البخاري فأخرج الحديث من وجه آخر عن ابن جريج ثم من وجه آخر عن شيخه.
- حدّثني عبد اللّه بن محمّدٍ، قال: حدّثني يحيى بن معينٍ، حدّثنا حجّاجٌ قال ابن جريجٍ: قال ابن أبي مليكة: وكان بينهما شيءٌ فغدوت على ابن عبّاسٍ فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزّبير فتحلّ حرم اللّه؟ فقال: معاذ اللّه إنّ اللّه كتب ابن الزّبير وبني أميّة محلّين وإنّي واللّه لا أحلّه أبدًا قال: قال النّاس بايع لابن الزّبير فقلت: وأين بهذا الأمر عنه أمّا أبوه فحواريّ النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم-، يريد الزّبير. وأمّا جدّه فصاحب الغار، يريد أبا بكرٍ. وأمّه فذات النّطاق يريد أسماء وأمّا خالته فأمّ المؤمنين يريد عائشة، وأمّا عمّته فزوج النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- يريد خديجة، وأمّا عمّة النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- فجدّته، يريد صفيّة، ثمّ عفيفٌ في الإسلام قارئٌ للقرآن واللّه إن وصلوني وصلوني من قريبٍ وإن ربّوني ربّني أكفاءٌ كرامٌ فآثر التّويتات والأسامات والحميدات يريد أبطنًا من بني أسدٍ بني تويتٍ وبني أسامة وبني أسدٍ إنّ ابن أبي العاص برز يمشى القدميّة يعني عبد الملك بن مروان وإنّه لوّى ذنبه يعني ابن الزّبير.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الله بن محمد) هو المسندي السابق (قال: حدثني) بالإفراد (يحيى بن معين) بفتح الميم البغدادي الحافظ المشهور إمام الجرح والتعديل المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين بالمدينة النبوية وله بضع وسبعون سنة قال: (حدّثنا حجاج) هو ابن محمد المصيصي (قال ابن جريج) عبد الملك (قال ابن أبي مليكة) عبد الله (وكان بينهما) أي بين ابن الزبير وابن عباس (شيء) مما يصدر بين المتخاصمين وقيل كان اختلافًا في بعض قراءات القرآن (فغدوت على ابن عباس فقلت) له: (أتريد أن تقاتل ابن الزبير) بهمزة الاستفهام الإنكاري (فتحل) بالنصب وفي اليونينية فتحل بالرفع (حرم الله)؟ وفي نسخة ما حرم الله أي من القتال في الحرم (فقال) أي ابن عباس (معاذ الله) أي أتعوّذ بالله عن إحلال ما حرم الله (إن الله كتب) أي قدر (ابن الزبير وبني أمية محلين) مبيحين القتال في الحرم. قال في فتح الباري: وإنما نسب ابن الزبير لذلك وإن كان بنو أمية هم الذين ابتدؤوه بالقتال وحصروه، وإنما بدا منه أولاً دفعهم عن نفسه لأنه بعد أن ردهم الله عنه حصر بني هاشم ليبايعوه فشرع فيما يؤذن بإباحة القتال في المحرم (إني) أي قال ابن عباس وإني (والله لا أحله) أي القتال فيه (أبدًا) وإن قوتلت فيه.
قال ابن أبي مليكة بالإسناد السابق: (قال) ابن عباس (قال الناس) الذين من جهة ابن الزبير (بايع) بكسر التحتية والجزم على الأمر (لابن الزبير) بالخلافة. قال ابن عباس (فقلت) لهم: (وأين بهذا الأمر عنه؟) أي الخلافة يريد أنها ليست بعيدة عنه لما له من الشرف بأسلافه الذين ذكرهم بقوله (أما أبوه فحواري النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم-) بالحاء المهملة أي ناصره (يريد) بذلك ابن عباس (الزبير وأما جده فصاحب الغار يريد) بذلك ابن عباس (أبا بكر) الصديق -رضي الله عنه- (وأما أمه فذات النطاق) بالإفراد لأنها شقت نطاقها لسفرة رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- وسقائه عند الهجرة (يريد) ابن عباس بذلك (أسماء) بنت أبي بكر (وأما خالته فأم المؤمنين يريد) ابن عباس (عائشة) -رضي الله عنها- (وأما عمته فزوج النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- بريد) ابن عباس (خديجة) وأطلق عليها عمته تجوّزًا وإنما هي عمة أبيه لأنها خديجة بنت خويلد بن أسد والزبير هو ابن العوّام بن خويلد بن أسد (وأما عمة النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- فجدته) أم أبيه (يريد) ابن عباس (صفية) بنت عبد المطلب ثم ذكر شرفه بصفته الذاتية الحميدة بقوله: (ثم عفيف في الإسلام) نزيه عما يشين من الرذائل (قارئ للقرآن) زاد ابن أبي خيثمة في تاريخه هنا وتركت بني عمي أي أذعنت لابن الزبير وتركت بني عمي بني أمية (والله إن وصلوني) أي بنو أمية (وصلوني من قريب) أي بسبب القرابة، وذلك لأن عباسًا هو ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فعبد المطلب ابن عم أمية جد مروان بن الحكم بن أبي العاص، وهذا شكر من ابن عباس لبني أمية وعتب على ابن الزبير (وإن ربوني) أي كانوا عليّ أمراء (ربوني) بفتح الراء وضم الموحدة المشددة فيهما وهو في الثاني من باب أكلوني البراغيث، وللكشميهني ربوني ربني (أكفاء) بالإفراد على الأصل ورفع أكفاء بسابقه أي أمثال واحدها كفء (كرام) في أحسابهم.
وعند أبي مخنف الأخباري من طريق أخرى أن ابن عباس لما حضرته الوفاة بالطائف جمع بنيه فقال: يا بني إن ابن الزبير لما خرج بمكة شددت أزره ودعوت الناس إلى بيعته وتركت بني عمنا من بني أمية الذين إن قتلونا أكفاء وإن ربونا ربونا كرامًا، فلما أصاب ما أصاب جفاني فهذا صريح أن مراد ابن عباس بنو أمية لا بنو أسد رهط ابن الزبير، وقال الأزرقي: كان ابن الزبير إذا دعا الناس في الإذن بدأ ببني أسد على بني هاشم وبني عبد المطلب وغيرهم، فلذا قال ابن عباس: (فآثر) بالمد والمثلثة أي اختار ابن الزبير بعد أن أذعنت له وتركت بني عمي على (التويتات) جمع تويت مصغر توت بمثناتين وواو (والأسامات) بضم الهمزة جمع أسامة (والحميدات) بضم الحاء المهملة مصغر حمد (يريد) ابن عباس (أبطنًا) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وضم الطاء المهملة جمع بطن وهو ما دون القبيلة وفوق الفخذ وقال: أبطنًا ولم يقل بطونًا لأن الأول جمع قلة فعبّر به تحقيرًا لهم (من بني أسد بني تويت) كذا في غير ما فرع من الفروع المقابلة على أصل اليونيني وكذا رأيتها فيه بني تويت. وقال الحافظ ابن حجر: قوله ابن تويت كذا وقع أي في روايات البخاري وصوابه بني تويت فبه عليه عياض وهو في مستخرج أبي نعيم بني على الصواب اهـ.
وهذا عجيب فإن خط الحافظ ابن حجر على كثير من الفروع المقابلة على اليونينية بالقراءة والسماع، وتويت هو ابن الحارث بن عبد العزى بن قصي (و) من (بني أسامة) بن أسد بن عبد العزى (وبني أسد) ولأبي ذر من أسد. وأما الحميدات: فنسبه إلى بني حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى وتجتمع هذه الابطن مع خويلد بن أسد جد الزبير (أن ابن أبي العاص) بكسر الهمزة (برز) أي ظهر (يمشي القدمية) بضم القاف وفتح الدال المهملة وكسر الميم وتشديد التحتية مشية التبختر وهو مثل يريد أنه ركب معالي الأمور وتقدم في الشرف والفضل على أصحابه (يعني) ابن عباس (عبد الملك بن مروان) بن الحكم بن أبي العاص (وإنه) بكسر الهمزة (لوى ذنبه) بتشديد الواو وتخفف (يعني ابن الزبير) يعني تخلف عن معالي الأمور أو كناية عن الجبن كما تفعل السباع إذا أراد النوم أو وقف فلم يتقدم ولم يتأخر ولا وضع الأشياء مواضعها فأدنى الناصح وأقصى الكاشح وهذا قاله الداودي. وفي رواية أبي مخنف وأن ابن الزبير يمشي القهقرى. قال في فتح الباري: وهو المناسب لقوله في عبد الملك يمشي القدمية، وكان الأمر كما قال ابن عباس فإن عبد الملك لم يزل في تقدم من أمره حتى استنقذ العراق من ابن الزبير وقتل أخاه مصعبًا ثم جهز العساكر إلى ابن الزبير بمكة فكان من الأمر ما كان، ولم يزل أمر ابن الزبير في تأخير إلى أن قتل -رحمه الله- ورضي عنه.
- حدّثنا محمّد بن عبيد بن ميمونٍ، حدّثنا عيسى بن يونس، عن عمر بن سعيدٍ، قال: أخبرني ابن أبي مليكة دخلنا على ابن عبّاسٍ فقال: ألا تعجبون لابن الزّبير قام في أمره هذا؟ فقلت: لأحاسبنّ نفسي له ما حاسبتها لأبي بكرٍ ولا لعمر ولهما كانا أولى بكلّ خيرٍ منه وقلت ابن عمّة النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم-، وابن الزّبير، وابن أبي بكرٍ، وابن أخي خديجة، وابن أخت عائشة فإذا هو يتعلّى عنّي ولا يريد ذلك فقلت: ما كنت أظنّ أنّي أعرض هذا من نفسى فيدعه وما أراه يريد خيرًا وإن كان لا بدّ لأن يربّني بنو عمّي أحبّ إليّ من أن يربّني غيرهم.
وبه قال: (حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون) بضم العين مصغرًا من غير إضافة لابن ميمون المدني قال: (حدّثنا عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق الهمداني الكوفي (عن عمر بن سعيد) بضم العين في الأول وكسرها في الثاني ابن أبي حسين النوفلي القرشي المكي أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (ابن أبي مليكة) عبد الله قال: (دخلنا على ابن عباس) -رضي الله عنهما- (فقال: ألا) بالتخفيف (تعجبون لابن الزبير قام في أمره هذا؟) يعني الخلافة (فقلت: لأحاسبن نفسي له ما حاسبتها لأبي بكر ولا لعمر) أي لأناقش نفسي لابن الزبير في معونته ولأستقصين عليها في النصح له والذب عنه ما ناقشتها للعمرين، وما نافية، وقال الداودي أي لأذكرن في مناقبه ما لم أذكر في مناقبهما، وإنما صنع ابن عباس ذلك لاشتراك الناس في معرفة مناقب أبي بكر وعمر بخلاف ابن الزبير، فما كانت مناقبه في الشهرة كمناقبهما، فأظهر ذلك ابن عباس وبينه للناس إنصافًا منه له (ولهما) بلام الابتداء والضمير للعمرين وفي نسخة، فإنهما (كانا أولى بكل خير منه) أي من ابن الزبير (وقلت) وفي نسخة: فقلت هو (ابن عمة النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم-) صفية بنت عبد المطلب (وابن الزبير) حواري رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- (وابن أبي بكر) الصديق -رضي الله عنه- (وابن أبي خديجة) أم المؤمنين -رضي الله عنها- (وابن أخت عائشة) أسماء وإنما هو ابن ابن أخي خديجة العوام وابن ابنة أبي بكر أسماء وابن ابن صفية فهي جدته لأبيه وعبر بذلك على سبيل المجاز (فإذا هو) أي ابن الزبير (يتعلّى) بتشديد اللام يترفع معرضًا أو متنحيًا (عني ولا يريد ذلك) قال العيني كابن حجر أي لا يريد أن أكون من خاصته. وقال البرماوي كالكرماني: ولا يريد ذلك القول إذا عاتبته. قال ابن عباس (فقلت: ما كنت أظن أني أعرض) أي أظهر (هذا) الخضوع (من نفسي) له (فيدعيه) أي يتركه ولا يرضى به مني (وما أراه) بضم الهمزة أي وما أظنه (يريد) بي (خيرًا) في الرغبة عني، وللكشميهني وإنما أراه بدل ما وهو تصحيف كما لا يخفى (وإن كان لا بد) أي الذي صدر منه لا فراق له منه (لأن) كذا في اليونينية والذي في الفرع التنكزي أن (يريني) بفتح الموحدة (بنو عمي) بنو أمية أي يكونوا عليّ أمراء (أحبّ إلىّ من أن يربني غيرهم) إذ هم أقرب إليّ من بني أسد كما مرّ، ومن زائدة عند أبي ذر). [إرشاد الساري: 7/148-152]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا زياد بن أيّوب البغداديّ، قال: حدّثنا عفّان بن مسلمٍ، قال: حدّثنا همّامٌ، قال: حدّثنا ثابتٌ، عن أنسٍ، أنّ أبا بكرٍ حدّثه، قال: قلت للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ونحن في الغار: لو أنّ أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكرٍ، ما ظنّك باثنين اللّه ثالثهما.
هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ. إنّما يروى من حديث همّامٍ تفرّد به.
وقد روى هذا الحديث حبّان بن هلالٍ، وغير واحدٍ عن همّامٍ، نحو هذا). [سنن الترمذي: 5/129]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله تعالى: {ثاني اثنين إذ هما في الغار}
- أخبرنا نصر بن عليٍّ، حدّثنا عبد الله بن داود، قال سلمة بن نبيطٍ: أخبرنا نعيم بن أبي هندٍ، عن نبيط بن شريطٍ، عن سالم بن عبيدٍ: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا قبض قالت الأنصار: منّا أميرٌ ومنكم أميرٌ، فقال عمر: " من له مثل هذه الثّلاث {إذ هما في الغار} [التوبة: 40] من هما؟ {إذ يقول لصاحبه} [التوبة: 40] من هو؟ {لا تحزن إنّ الله معنا} [التوبة: 40] من هما؟ ثمّ بسط يده وبايعه النّاس بيعةً حسنةً جميلةً "). [السنن الكبرى للنسائي: 10/114]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إلاّ تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا}.
وهذا إعلامٌ من اللّه أصحاب رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكيرٌ منه لهم فعل ذلك به، وهو من العدد في قلّةٍ والعدوّ في كثرةٍ، فكيف به وهو من العدد في كثرةٍ والعدوّ في قلّةٍ؟
يقول لهم جلّ ثناؤه: إلاّ تنفروا أيّها المؤمنون مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه، فاللّه ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم، كما نصره إذ أخرجه الّذين كفروا باللّه من قريشٍ من وطنه وداره {ثاني اثنين} يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين: أي واحدٌ من الاثنين.
وكذلك تقول العرب: هو ثاني اثنين يعني أحد الاثنين، وثالث ثلاثةٍ، ورابع أربعةٍ، يعني: أحد ثلاثةٍ، وأحد الأربعة، وذلك خلاف قولهم: هو أخو ستّةٍ وغلام سبعةٍ؛ لأنّ الأخ والغلام غير السّتّة والسّبعة، وثالث الثّلاثة: أحد الثّلاثة.
وإنّما عنى جلّ ثناؤه بقوله: {ثاني اثنين} رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبا بكرٍ رضي اللّه عنه؛ لأنّهما كانا اللّذين خرجا هاربين من قريشٍ؛ إذ همّوا بقتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واختفيا في الغار.
وقوله: {إذ هما في الغار} يقول إذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكرٍ رحمة اللّه عليه في الغار، والغار: النّقب العظيم يكون في الجبل. {إذ يقول لصاحبه} يقول: إذ يقول رسول اللّه لصاحبه أبي بكرٍ: {لا تحزن} وذلك أنّه خاف من الطّلب أن يعلموا بمكانهما، فجزع من ذلك، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لا تحزن لأنّ اللّه معنا، واللّه ناصرنا، فلن يعلم المشركون بنا، ولن يصلّوا إلينا.
يقول جلّ ثناؤه: فقد نصره اللّه على عدوّه وهو بهذه الحال من الخوف وقلّة العدد، فكيف يخذله ويحوجه إليكم وقد كثّر اللّه أنصاره، وعدد جنوده؟.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {إلاّ تنصروه} ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعثه، يقول اللّه: فأنا فاعلٌ ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {إلاّ تنصروه فقد نصره اللّه} قال: ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعث، فاللّه فاعلٌ به كذلك ناصره كما نصره إذ ذاك {ثاني اثنين إذ هما في الغار}.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {إلاّ تنصروه فقد نصره اللّه} الآية، قال: فكان صاحبه أبو بكرٍ. وأمّا الغار: فجبلٌ بمكّة يقال له ثورٌ.
- حدّثنا عبد الوارث بن عبد الصّمد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا أبان العطّار، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن عروة، قال: لمّا خرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكرٍ رضي اللّه عنه، وكان لأبي بكرٍ منيحةٌ من غنمٍ تروح على أهله، فأرسل أبو بكرٍ عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثورٍ، وكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالغار في ثورٍ، وهو الغار الّذي سمّاه اللّه في القرآن.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم بن جبيرٍ الواسطيّ، قال: حدّثنا عفّان، وحبّان، قالا: حدّثنا همّامٌ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، أنّ أبا بكرٍ، رضي اللّه عنه حدّثهم قال: بينا أنا مع، رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الغار، وأقدام المشركين فوق رءوسنا، فقلت: يا رسول اللّه، لو أنّ أحدهم رفع قدمه أبصرنا، فقال: يا أبا بكرٍ ما ظنّك باثنين اللّه ثالثهما.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن شريكٍ، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن مجاهدٍ، قال: مكث أبو بكرٍ مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في الغار ثلاثًا.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزّهريّ: {إذ هما في الغار} قال: في الجبل الّذي يسمّى ثورًا، مكث فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكرٍ ثلاث ليالٍ.
- حدّثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبيه: أنّ أبا بكرٍ الصّدّيق، رحمة اللّه تعالى عليه حين خطب قال: أيّكم يقرأ سورة التّوبة؟ قال رجلٌ: أنا، قال: اقرأ، فلمّا بلغ: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} بكى أبو بكرٍ وقال: أنا واللّه صاحبه.
القول في تأويل قوله تعالى: {فأنزل اللّه سكينته عليه وأيّده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة اللّه هي العليا واللّه عزيزٌ حكيمٌ}.
يقول تعالى ذكره: فأنزل اللّه طمأنينته وسكونه على رسوله وقد قيل: على أبي بكرٍ {وأيّده بجنودٍ لم تروها} يقول: وقوّاه بجنودٍ من عنده من الملائكة لم تروها أنتم. {وجعل كلمة الّذين كفروا} وهي كلمة الشّرك {السّفلى} لأنّها قهرت وأذّلّت وأبطلها اللّه تعالى ومحق أهلها، وكلّ مقهورٍ ومغلوبٍ فهو أسفل من الغالب والغالب هو الأعلى. {وكلمة اللّه هي العليا} يقول: ودين اللّه وتوحيده وقول لا إله إلاّ اللّه، وهي كلمته العليا على الشّرك وأهله الغالبة.
- كما حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى} وهي: الشّرك باللّه. {وكلمة اللّه هي العليا} وهي لا إله إلاّ اللّه.
وقوله: {وكلمة اللّه هي العليا} خبر مبتدأٍ غير مردودٍ على قوله: {وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى} لأنّ ذلك لو كان معطوفًا على الكلمة الأولى لكان نصبًا.
وأمّا قوله: {واللّه عزيزٌ حكيمٌ} فإنّه يعني: واللّه عزيزٌ في انتقامه من أهل الكفر به، لا يقهره قاهرٌ ولا يغلبه غالبٌ ولا ينصره من عاقبه ناصرٌ، حكيمٌ في تدبيره خلقه وتصريفه إيّاهم في مشيئته). [جامع البيان: 11/463-467]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (إلّا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا فأنزل اللّه سكينته عليه وأيّده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة اللّه هي العليا واللّه عزيزٌ حكيمٌ (40)
قوله تعالى: إلا تنصروه فقد نصره اللّه.
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ قوله: إلا تنصروه ذكر ما كان من أوّل شأنه حين بعث، يقول: فاللّه فاعلٌ ذلك به، ناصره كما نصره وهو ثاني اثنين.
قوله تعالى: إذ أخرجه الّذين كفروا.
- حدّثنا أبي ثنا عبد اللّه بن رجاءٍ أنبأ إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء ابن عازبٍ قال: اشترى أبو بكرٍ من عازب رحلا بثلاثة عشر درهمًا فقال أبو بكرٍ لعازبٍ: مره ليحمله لي فقال له عازبٌ: لا، حتّى تخبرني كيف صنعت أنت ورسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- حين خرجتما والمشركون يطلبوكما، فقال: ارتحلنا والقوم يطلبونا فلم يدكنا منهم غير سراقة بن جعشمٍ على فرسٍ له فقلت له: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول اللّه، قال: لا تحزن إنّ اللّه معنا فلمّا أن دنا كان بيننا وبينه قيد رمحٍ أو ثلثه، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول اللّه، وبكيت فقال: ما يبكيك؟ فقلت: أما والله على نفسي أبكي ولكن أبي عليك، فدعا عليه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- فقال: «اللّهمّ اكفناه فساخت به فرسه إلى بطنها فوثب عنها» ثمّ قال: يا محمّد، قد علمت أنّ هذا عملك، فادع اللّه أن ينجّيني ممّا أنا فيه، فو الله لأعمّينّ على من ورائي من الطّلب، وهذه كنانتي فخذ سهمًا، فإنّك ستمرّ على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- لا حاجة لنا في إبلك، فدعا له رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم فانطلق راجعًا إلى أصحابه ومضى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- وأنا معه حتّى قدمنا المدينة.
قوله تعالى: ثاني اثنين.
- حدّثنا أبي ثنا أبو مالكٍ- كثير بن يحيى- ثنا أبو عوانة عن أبي بلجٍ عن عمرو بن ميمونٍ عن ابن عبّاسٍ قال: وشرى عليٌّ بنفسه نام على فراش رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- فكان المشركون يرمونه، فجاء أبو بكرٍ فقال: يا رسول اللّه، وهو يحسب أنّه رسول اللّه فقال: لست نبيّ اللّه، أدرك نبيّ اللّه ببئر ميمونٍ، فدخل معه الغار وكانوا يرمون رسول اللّه فلا يتضوّر وكان عليٌّ يتضوّر فلمّا أصبحوا قالوا: كنّا نرمي محمّدًا فلا يتضوّر، وأنت تتضوّر وقد استنكرنا ذلك.
قوله تعالى: إذ هما في الغار.
- حدّثنا يونس بن عبد الأعلى أنبأ عبد اللّه بن وهبٍ ثنا يونس بن يزيد عن ابن شهابٍ أنا عروة بن الزّبير قال: قالت عائشة بينا نحن يوما جلوسا في نحر الظّهيرة إذ قال قائلٌ لأبي بكر: هذا رسول الله مقبلا، في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكرٍ: فدًى له أبي وأمّي إن جاء به في هذه السّاعة لأمرٌ، فجاء رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- فاستأذن فأذن له، فدخل فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- لأبي بكرٍ: أخرج من عندك، فقال أبو بكرٍ: يا رسول اللّه، إنّما هم أهلك بأبي أنت، قال: فإنّه قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول اللّه قال: نعم، قال أبو بكرٍ: فخذ منّي إحدى راحلتيّ هاتين، فقال: رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- بالثّمن، قالت عائشة: فجهّزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهما صفرةً في جرابٍ، وقطعت أسماء بنت أبي بكرٍ قطعةً من نطاقها فأوكت به الجراب، فلذلك تسمّى ذات النّطاقين، ثمّ لحق رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- بغارٍ في جبلٍ يقال له: ثورٌ، فمكثا فيه ثلاث ليالٍ.
قوله تعالى: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا.
- حدّثنا أبو سعيدٍ أحمد بن محمّد بن يحيى بن سعيدٍ القطّان ثنا يحيى بن آدم ثنا حميد الرّؤاسيّ عن سلمة بن نبيطٍ الأشجعيّ عن نعمٍ عن نبيطٍ عن سالم بن عبيدٍ وكان من أهل الصّفّة قال: أخذ عمر بيد أبي بكرٍ فقال: من له هذه الثّلاث؟
إذ يقول لصاحبه من صاحبه؟ إذ هما في الغار من هما؟ لا تحزن إنّ اللّه معنا.
- حدّثنا أبو زرعة ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ ثنا ابن وهبٍ عن عمرو ابن الحارث عن أبيه أنّ أبا بكرٍ الصّدّيق- رضي اللّه عنه- حين خطب قال: أيّكم يقرأ سورة التّوبة؟! قال رجلٌ: أنا، قال: اقرأ، فلمّا بلغ إذ يقول لصاحبه لا تحزن بكى أبو بكرٍ وقال: أنا واللّه صاحبه.
قوله تعالى: فأنزل اللّه سكينته عليه.
[الوجه الأول]
- حدّثنا يونس بن حبيبٍ ثنا أبو داود ثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: بينما رجلٌ يقرأ سورة الكهف ليلةً إذ رأى دابّته تركض أو قال: فرسه تركض، فنظر فإذا مثل الضّبابة أو مثل الغمامة، فذكر ذلك للنّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: تلك السّكينة نزلت للقرآن، أو تنزّلت على القرآن.
- حدّثنا أبي ثنا عبدة بن سليمان أنبأ ابن المبارك أنبأ يحيى بن أيّوب عن عبيد اللّه بن زحرٍ عن سعد بن مسعودٍ: أن ّرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم-؟
كان في مجلسٍ فرفع رأسه إلى السّماء ثمّ طأطأ نظره ثمّ رفعه فسئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: إنّ هؤلاء القوم كانوا يذكرون اللّه- يعني أهل المجلس أمامه- فنزلت عليهم السّكينة تحملها الملائكة كالقبّة، فلمّا دنت منهم تكلّم رجلٌ بباطلٍ فرفعت عنهم.
- حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن يزيد المقرئ ثنا سفيان عن مسعدٍ عن سلمة بن كهيلٍ عن أبي الأحوص عن عليٍّ قال: السّكينة لها وجهٌ كوجه الإنسان، وهي بعد ريحٍ هفّافةٍ.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو زرعة ثنا منجابٌ بن الحارث أنبأ بشر بن عمارة عن أبي روقٍ عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ في قوله: فأنزل اللّه سكينته عليه قال: الطّمأنينة.
وهي مثل الأخرى فأنزل السّكينة قد ذكر بالاستقصاء في البقرة.
قوله تعالى: عليه.
- حدّثنا أبي ثنا أحمد بن عبد اللّه بن يونس وإبراهيم بن مهديٍّ المصّيصيّ والسّياق لإبراهيم قالا: أخبرنا أبو معاوية ثنا عبد العزيز بن سياهٍ عن حبيب ابن أبي ثابتٍ في قوله: فأنزل اللّه سكينته عليه قال: نزلت على أبي بكرٍ، فأمّا النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- فكانت سكينته عليه قبل ذلك.
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا محمّد بن أبي حمّادٍ ثنا عليّ بن مجاهدٍ عن أشعث بن إسحاق عن جعفرٍ عن سعيدٍ عن ابن عبّاسٍ سكينته عليه قال: على أبي بكرٍ، أنّ النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- لم تزل السّكينة معه.
- ذكر عن يزيد بن زريعٍ ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: فأنزل اللّه سكينته عليه أي: على رسوله وعلى المؤمنين.
قوله تعالى: وأيّده.
- حدّثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصمٍ النبيل ثنا أبي أنا شبيبٌ ثنا عكرمة عن ابن عبّاسٍ في قوله: فأيدنا يقول: قوّينا.
- حدّثنا أبي ثنا شهاب بن عبّادٍ ثنا إبراهيم بن حميدٍ عن إسماعيل بن أبي خالدٍ وأيّده قال: أعانه جبريل- وروي عن الرّبيع بن أنسٍ: نحو ذلك.
قوله تعالى: بجنودٍ لم تروها.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ فيما كتاب إليّ ثنا أحمد بن مفضّلٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ قوله: بجنودٍ لم تروها قال: هم الملائكة.
قوله تعالى: وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة اللّه هي العليا الآية
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وهو الشّرك باللّه، وكلمة اللّه هي العليا قال: لا إله إلا اللّه.
قوله تعالى: واللّه عزيزٌ حكيمٌ.
- حدّثنا عصام بن روّادٍ ثنا آدم ثنا أبو جعفرٍ عن الرّبيع بن أنسٍ عن أبي العالية واللّه عزيزٌ حكيمٌ يقول: عزيزٌ في نقمته إذا انتقم، حكيمٌ في أمره.
وروي عن قتادة والرّبيع نحو ذلك.
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان ثنا سلمة قال: محمّد بن إسحاق العزيز في نصرته ممّن كفر به إذا شاء الحكيم في عذره وحجّته إلى عباده). [تفسير القرآن العظيم: 6/1798-1802]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله إلا تنصروه فقد نصره الله قال ذكر ما كان من أول شأنه حين أخرجوه يقول فالله ناصره كما نصره وهو ثاني اثنين). [تفسير مجاهد: 279]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 40.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {إلا تنصروه فقد نصره الله} قال: ذكر ما كان من أول شأنه حتى بعث يقول الله: فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم، وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رجلا بثلاثة عشر درهما فقال لعازب: مر البراء فليحمله إلى منزلي، فقال: لا حتى تحدثنا كيف صنعت حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معه فقال أبو بكر رضي الله
عنه: خرجنا فأدلجنا فاحثثنا يوما وليلة حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فضربت ببصري هل أرى ظلا فآوي إليه فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية ظلها فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروة وقلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب فإذا أنا براعي غنم فقلت: لمن أنت يا غلام فقال: لرجل من قريش فسماه فعرفته فقلت: هل في غنمك من لبن قال: نعم، فقلت: وهل أنت حالب لي قال: نعم، قال: فأمرته فاعتقل لي شاة منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار ثم أمرته فنفض كفيه ومعي إداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبة من اللبن فصببت على القدح من الماء حتى برد أسفله ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت ثم قلت: هل آن الرحيل قال: فارتحلنا والقوم يطلبونا فلم يدركنا منهم إلا سراقة على فرس له فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال: لا تحزن إن الله معنا حتى إذا دنا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت، قال: لم تبك، فقلت: أما والله لا أبكي على نفسي ولكني أبكي عليك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اللهم اكفناه بما شئت فساخت فرسه إلى بطنها في أرض صلد ووثب عنها وقال: يا محمد إن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حاجة لي فيها ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق ورجع إلى أصحابه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة فتلقاه الناس فخرجوا على الطرق وعلى الأجاجير واشتد الخدم والصبيان في الطرق الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد تنازع القوم أيهم ينزل عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك، فلما أصبح غدا حيث أمر.
وأخرج البخاري عن سراقة بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت أطلب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه حتى إذا دنوت منهما عثرت بي فرسي فقمت فركبت حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر رضي الله عنه يكثر التلفت ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عنان ساطع في السماء مثل الدخان فناديتهما بالأمان: فوقفا لي ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهما أنه سيظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل لحق بغار ثور قال: وتبعه أبو بكر رضي الله عنه فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسه خلفه خاف أن يكون الطلب فلما رأى ذلك أبو بكر رضي الله عنه تنحنح فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفه فقام له حتى تبعه فأتيا الغار فأصبحت قريش في طلبه فبعثوا إلى رجل من قافة بني مدلج فتبع الأثر حتى انتهى إلى الغار وعلى بابه شجرة فبال في أصلها القائف ثم قال: ما جاز صاحبكم الذي تطلبون هذا المكان، قال: فعند ذلك حزن أبو بكر رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا قال: فمكث هو وأبو بكر رضي الله عنه في الغار ثلاثة أيام يختلف إليهم بالطعام عامر بن فهيرة وعلي يجهزهم فاشتروا ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهم دليلا فلما كان بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علي رضي الله عنه بالإبل والدليل فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته وركب أبو بكر أخرى فتوجهوا نحو المدينة وقد بعثت قريش في طلبه.
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس وعلي وعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم وعائشة بنت قدامة وسراقة بن جعشم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والقوم جلوس على بابه فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يدرها على رؤوسهم ويتلو (يس، والقرآن الحكيم) (يس الآية 1 - 2) الآيات ومضى فقال لهم قائل ما تنتظرون قالوا: محمدا، قال: قد - والله - مر بكم، قالوا: والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إلى غار ثور فدخلاه وضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض وطلبته قريش أشد الطلب حتى انتهت إلى باب الغار فقال بعضهم: إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن عائشة بنت قدامة أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لقد خرجت من الخوخة متنكرا فكان أول من لقيني أبو جهل فعمى الله بصره عني وعن أبي بكر حتى مضينا.
وأخرج أبو نعيم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه رأى رجلا مواجه الغار فقال: يا رسول الله إنه لرائينا، قال: كلا إن الملائكة تستره الآن بأجنحتها فلم ينشب الرجل أن قعد يبول مستقبلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر لو كان يراك ما فعل هذا.
وأخرج أبو نعيم عن محمد بن إبراهيم التيمي رضي الله عنه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين دخل الغار ضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض فلما انتهوا إلى فم الغار قال قائل منهم: ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف: وما أربكم إلى الغار إن عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد فنهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل العنكبوت قال: إنها جند من جنود الله.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن أبي ميسرة رضي الله عنه قال: نسجت العنكبوت مرتين، مرة على داود عليه السلام حين كان طالوت يطلبه ومرة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الغار.
وأخرج ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن أنس رضي الله عنه قال: لما خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه التفت أبو بكر رضي الله عنه فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبي الله هذا فارس قد لحقنا، فقال اللهم اصرعه، فصرع عن فرسه فقال: يا نبي الله مرني بما شئت، قال: تقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا، فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي آخر النهار مسلحة له وفي ذلك يقول سراقة مخاطبا لأبي جهل: أبا حكم لو كنت والله شاهدا * لأمر جوادي أن تسيخ قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا * رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
وأخرج البيهقي في الدلائل، وابن عساكر عن ضبة بن محصن العبري قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنت خير من أبي بكر فبكى وقال: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر هل لك أن أحدثك بليلته ويومه قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أما ليلته فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هاربا من أهل مكة خرج ليلا فتبعه أبو بكر رضي الله عنه فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعلك قال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون من خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه أنها قد حفيت حمله على كاهله وجعل يشد به حتى أتى فم الغار فأنزله ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئا فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي فخشي أبو بكر رضي الله عنه أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلن يضربنه وتلسعه الأفاعي والحيات وجعلت دموعه تتحدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته أي طمأنينته لأبي بكر رضي الله عنه فهذه ليلته.
وأمّا يومه فلما توفي رسول الله وارتدت العرب فقال بعضهم: نصلي ولا نزكي، وقال بعضهم: لا نصلي ولا نزكي فأتيته ولا آلوه نصحا فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم، فقال: جبار في الجاهلية خوار في الإسلام بماذا تألفهم أبشعر مفتعل أو بشعر مفتري قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي فوالله لو منعوني عقالا مما كانوا يعطون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، قال: فقاتلنا معه فكان - والله - رشيد الأمر فهذا يومه.
وأخرج أبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب رضي الله عنه وعروة رضي الله عنه، أنهم ركبوا في كل وجه يطلبون النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم ويجعلون له الجعل العظيم وأتوا على ثور الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه وسمع أبو بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم أصواتهم وأشفق أبو بكر وأقبل عليه الهم والخوف فعند ذلك يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت عليه سكينة من الله فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}
وأخرج ابن شاهين، وابن مردويه، وابن عساكر عن حبشي بن جنادة قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو أن أحدا من المشركين رفع قدمه لأبصرنا، قال يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا.
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الذين طلبوهم صعدوا الجبل فلم يبق أن يدخلوا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا وانقطع الأثر فذهبوا يمينا وشمالا.
وأخرج ابن عساكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرج رسول الله وخرج أبو بكر رضي الله عنه معه لم يأمن على نفسه غيره حتى دخلا الغار.
وأخرج ابن شاهين والدارقطني، وابن مردويه، وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أنت صاحبي في الغار وأنت معي على الحوض.
وأخرج ابن عساكر من حديث ابن عباس عن أبي هريرة، مثله.
وأخرج ابن عدي، وابن عساكر من طريق الزهري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان رضي الله عنه: هل قلت في أبي بكر شيئا قال: نعم، قال: قل وأنا أسمع، فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا * من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: صدقت يا حسان هو كما قلت.
وأخرج خيثمة بن سليمان الإطرابلسي في فضائل الصحابة، وابن عساكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن الله ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر رضي الله عنه فقال {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.
وأخرج ابن عساكر عن أبي بكر رضي الله عنه أن قال: ما دخلني إشفاق من شيء ولا دخلني في الدين وحشة إلى أحد بعد ليلة الغار فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى إشفاقي عليه وعلى الدين قال لي هون عليك فإن الله قد قضى لهذا الأمر بالنصر والتمام.
وأخرج ابن عساكر عن سفيان بن عيينة رضي الله عنه قال: عاتب الله
المسلمين جميعا في نبيه صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر رضي الله عنه وحده فإنه خرج من المعاتبة ثم قرأ {إلا تنصروه فقد نصره الله} الآية.
وأخرج الحكيم الترمذي عن الحسن رضي الله عنه قال: لقد عاتب الله جميع أهل الأرض فقال {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين}.
وأخرج ابن عساكر من طريق محمد بن يحيى قال: أخبرني بعض أصحابنا قال: قال شاب من أبناء الصحابة في مجلس فيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: والله ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من موطن إلا وأبي فيه معه، قال: يا ابن أخي لا تحلف، قال: هلم، قال: بلى ما لا ترده قال الله {ثاني اثنين إذ هما في الغار}.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي وأبو عوانة، وابن حبان، وابن المنذر، وابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر رضي الله عنه قال كنت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت آثار المشركين فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل عن أبي بكر رضي الله عنه، أنهما لما انتهيا إلى الغار إذا جحر فألقمه أبو بكر رضي الله عنه رجليه قال: يا رسول الله إن كانت لدغة أو لسعة كانت في.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كانت ليلة الغار قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله دعني فلأدخل قبلك فإن كانت حية أو شيء كانت في قبلك، قال ادخل، فدخل أبو بكر رضي الله عنه فجعل يلمس بيديه فكلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع وبقي جحر فوضع عليه عقبه وقال: ادخل، فلما أصبح قال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: فأين ثوبك فأخبره بالذي صنع فرفع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة، فأوحى الله إليه أن الله قد استجاب لك.
وأخرج ابن مردويه عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: لما انطلق أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار قال له أبو بكر رضي الله عنه: لا تدخل يا رسول الله حتى استبرئه فدخل أبو بكر رضي الله عنه الغار، فأصاب يده شيء فحعل يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول:
هل أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت.
وأخرج ابن مردويه عن جعدة بن هبيرة رضي الله عنه قال: قالت عائشة رضي الله عنها: قال أبو بكر رضي الله عنه: لو رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صعدنا الغار فأما قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفطرتا دما وأما قدماي فعادتا كأنهما صفوان، قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعود الحفية.
وأخرج ابن سعد، وابن مردويه عن ابن مصعب قال: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه النّبيّ فسترته وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسترته وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بعصيهم وأسيافهم وهراويهم حتى إذا كانوا من النّبيّ صلى الله عليه وسلم قدر أربعين ذراعا فنزل بعضهم فنظر في الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما لك لم تنظر في الغار فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد، فسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما قال فعرف أن الله درأ عنه بهما فسمت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليهن وفرض جزاءهن وانحدرن في الحرم فأخرج ذلك الزوج كل شيء في الحرم.
وأخرج ابن عساكر في تاريخه بسند واه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار فعطش فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب إلى صدر الغار فاشرب، فانطلق أبو بكر رضي الله عنه إلى صدر الغار فشرب منه ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك ثم عاد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن خرق نهرا من جنة الفردوس إلى صدر الغار لتشرب.
وأخرج ابن المنذر عن الشعبي رضي الله عنه قال: والذي لا إله غيره لقد عوتب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في نصرته إلا أبا بكر رضي الله عنه فإن الله تعالى {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} خرج أبو بكر رضي الله عنه والله من المعتبة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سالم بن عبيد الله رضي الله عنه - وكان من أهل الصفة - قال: أخذ عمر بيد أبي بكر رضي الله عنهما فقال: من له هذه الثلاث، (إذ يقول لصاحبه) من صاحبه (إذ هما في الغار) من هما (لا تحزن إن الله معنا).
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن الحارث عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أيكم يقرأ سورة التوبة قال: رجل: أنا، قال: اقرأ، فلما بلغ {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} بكى وقال: والله أنا صاحبه.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه قال: كان صاحبه أبا بكر رضي الله عنه والغار جبل بمكة يقال له ثور.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر أخي وصاحبي في الغار فاعرفوا ذلك له فلو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا سدوا كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لو اتخذت خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي في الغار.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عن الزهري رضي الله عنه في قوله {إذ هما في الغار} قال: الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثورا.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت قوما يصعدون حراء فقلت: ما يلتمس هؤلاء في حراء فقالوا: الغار الذي اختبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، قالت عائشة رضي الله عنها: ما اختبأ في حراء إنما اختبأ في ثور وما كان أحد يعلم مكان ذلك الغار إلا عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر فإنهما كانا يختلفان إليهما وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه فإنه كان إذا سرح غنمه مر بهما فحلب لهما.
وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد رضي الله عنه قال: مكث أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا.
وأخرج عبد الرزاق وأحمد، وعبد بن حميد والبخاري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية ولما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجرا قبل أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وسيد القارة فقال ابن الدغنة: أين تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر رضي الله عنه: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار، فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها ما شاء وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا ولا يشتغلن بالصلاة والقراءة في غير داره، ففعل ثم بدا لأبي بكر رضي الله عنه فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رضي الله رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن الصلاة والقراءة وإنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فإن أحب أن يقتصر أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، فأتى ابن الدغنة أبا بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في عقد رجل عقدت له، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين قد أريت دار هجرتكم رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما حرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين وتجهز أبو بكر رضي الله عنه مهاجرا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر رضي الله عنه: وترجو ذلك بأبي أنت قال: نعم، فحبس أبو بكر رضي الله عنه نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبته وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر، فبينما نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر رضي الله عنه: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر رضي الله عنه: فداه أبي وأمي إن جاء به في هذه الساعة إلا أمر فجاء رسول الله فاستأذن صلى الله عليه وسلم فأذن له فدخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل لأبي بكر رضي الله عنه أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فإنه قد أذن لي بالخروج، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فالصحابة بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن، فقالت عائشة رضي الله عنها: فجهزناهما أحسن الجهاز فصنعنا لهما سفرة من جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها فأوكت به الجراب - فلذلك كانت تسمى ذات النطاقين - ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب لقن ثقف فيخرج من عندهما سحرا فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمر يكاد أن به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى لأبي بكر منيحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب بغلس ساعة من الليل فيبيتان في رسلهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني الديل ثم من بني عبد بن عدي هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث ليال فارتحلا فانطل معهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر والدليل الديلي فأخذ بهم طريقا آخر وهو طريق الساحل قال الزهري: أخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن حعشم: إن أباه أخبره أنه سمع سراقة يقول: جاءتنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهما لمن قتلهما أو أسرهما، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل لا أراها إلا محمدا وأصحابه قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكن رأيت فلانا وفلانا انطلقوا ثم لبثت في المجلس حتى قمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتي أن تخرج لي فرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت برمحي الأرض وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسي فركبتها ودفعتها تقرب بي حتى رأيت أسودتهما فلما دنوت منهم حيث يسمعهم الصوت عثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره أن لا أضرهم فركبت فرسي وعصيت الأزلام حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر رضي الله عنه يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها فجررتها فنهضت فلم تكد تخرج يداها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء من الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره أن لا أضرهم فناديتهم بالأمان فوقف وركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم من أخبار سفرهم وما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني شيئا ولم يسألاني إلا أن أخف عنا فسألته أن يكتب لي كتابا موادعة آمن به فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أديم ثم مضى، قال الزهري: وأخبرني عروة بن الزبير أنه لقي الزبير وركبا من المسلمين كانوا تجارا بالشام قابلين إلى مكة فعرفوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فكساهم ثياب بيض وسمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يؤذيهم حر الظهيرة فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظاره فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أطما من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فنادى بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوه بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل في بني عمرو بن عوف بقباء وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يذكر الناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا وطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبه أبا بكر حتى أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم الشمس فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى ظلل عليه برادئه فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وابتنى المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته فسار ومشى الناس حتى بركت به عند مسجد رسول الله بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتمين أخوين في حجر أبي
أمامة أسعد بن زرارة من بني النجار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته هذا المنزل إن شاء الله ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد يتخذه مسجدا، فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما حتى ابتاعه منهما وبناه مسجدا وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنائه وهو يقول:
هذا الجمال لا جمال خيبر * هذا أبر ربنا وأطهر
إن الأجر أجر الآخرة * فارحم الأنصار والمهاجرة
ويتمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي قال ابن شهاب: ولم يبلغني في الأحاديث أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت من الشعر تاما غير هؤلاء الأبيات ولكن يرجزهم لبناء المسجد، فلما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش حالت الحرب بين مهاجري أرض الحبشة وبين القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقوه بالمدينة زمن الخندق فكانت أسماء بنت عميس تحدث: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعيرهم بالمكث في أرض الحبشة فذكرت ذلك أسماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: لستم كذلك وكانت أول آية أنزلت في القتال (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) (الحج آية 39) حتى بلغ (لقوي عزيز).
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري عن أنس رضي الله عنه قال: أقبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو يردف أبا بكر رضي الله عنه وهو شيخ يعرف والنبي لا يعرف فكانوا يقولون: يا أبا بكر من هذا الغلام بين يديك فيقول: هاد يهديني السبيل قال: فلما دنونا من المدينة نزلنا الحرة وبعث إلى الأنصار فجاءوا قال: فشهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوما كان أحسن منه وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن عبد البر في التمهيد عن كثير بن فرقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج مهاجرا إلى المدينة ومعه أبو بكر رضي الله عنه أتى براحلة أبي بكر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ويردفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنت راكب وأردفك أنا فإن الرجل أحق بصدر دابته فلما خرجا لقيا في الطريق سراقة بن جعشم - وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يكذب - فسأله من الرجل قال: باغ، قال: فما الذي وراءك قال: هاد، قال: أحسست محمدا قال: هو ورائي.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {فأنزل الله سكينته عليه} قال: على أبي بكر رضي الله عنه لأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر غار حراء فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم يبصر موقع قدمه لأبصرني وإياك، فقال ما ظنك باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر إن الله أنزل سكينته عليك وأيدني بجنود لم تروها.
وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت رضي الله عنه {فأنزل الله سكينته عليه} قال: على أبي بكر رضي الله عنه فأما النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد كانت عليه السكينة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى} قال: هي الشرك {وكلمة الله هي العليا} قال: لا إله إلا الله.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك، مثله.
وأخرج البخاريي ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وابن مردويه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله تعالى). [الدر المنثور: 7/362-386]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:34 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم...}
معناه والله أعلم: {تثاقلتم} فإذا وصلتها العرب بكلام أدغموا التاء في الثاء؛ لأنها مناسبة لها، ويحدثون ألفا لم يكن؛ ليبنوا الحرف على الإدغام في الابتداء والوصل. وكأن إحداثهم الألف ليقع بها الابتداء، ولو حذفت لأظهروا التاء لأنها مبتدأة،
والمبتدأ لا يكون إلا متحركا. وكذلك قوله: {حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً}، وقوله: {وازّيّنت} المعنى - والله أعلم -: تزينت، و{قالوا اطّيّرنا} معناه: تطيرنا. والعرب تقول: {حتى إذا اداركوا} تجمع بين ساكنين: بين التاء من تداركوا وبين الألف من إذا. وبذلك كان يأخذ أبو عمرو بن العلاء ويردّ الوجه الأوّل، وأنشدني الكسائي:
تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا = عذب المذاق إذا ما اتّابع القبل).
[معاني القرآن: 1/437-438]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثّاقلتم إلى الأرض}، انفروا: اخرجوا واغزوا، ومحاز: {أثاقلتم}: مجاز افتعلتم من التثاقل فأدغمت التاء في الثاء فثقلت وشددت؛ إلى الأرض أي أخلدتم إليها فأقمتم وابطأتم). [مجاز القرآن: 1/260]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلاّ قليلٌ}
وقال: {اثّاقلتم إلى الأرض} لأنه من "تثاقلتم" فأدغم التاء في الثاء فسكنت فأحدث لها ألفاً ليصل إلى الكلام بها). [معاني القرآن: 2/30]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {اثّاقلتم إلى الأرض} أراد تثاقلتم فأدغم التاء في الثاء، وأحدث الألف ليسكن ما بعدها. وأراد: قعدتم ولم تخرجوا [وركنتم] إلى المقام). [تفسير غريب القرآن: 186]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلّا قليل}
الإجماع في الروايات أن هذا كان في غزوة تبوك، وذلك أن الناس خرجوا فيه على ضيقة شديدة شاقة.
وقوله عزّ وجلّ: {اثّاقلتم إلى الأرض}.
المعنى تثاقلتم، إلا أن التاء أدغمت في التاء، فصارت ثاء ساكنة.
فابتدئت بألف الوصل - الابتداء -.
وفي {اثّاقلتم إلى الأرض} عندي غير وجه.
منها أن معناه تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم، ومنها اثّاقلتم إلى شهوات الدنيا.
وقوله: {أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة}.
أي أرضيتم بنعيم الحياة الدنيا من نعيم الآخرة
{فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلّا قليل}.
أي ما يتمتع به في الدنيا قليل عندما يتمتع به أولياء اللّه في الجنة). [معاني القرآن: 2/447-448]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض}
قال مجاهد في غزوة تبوك أمروا بالخروج في شدة الحر وقد طابت الثمار وقالوا إلى الظلال
ثم قال جل وعز: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} [آية: 38] أي أرضيتم بنعيم الحياة الدنيا من نعيم الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل
والمتاع المنفعة والنعيم). [معاني القرآن: 3/209]

تفسير قوله تعالى: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) )
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {إلّا تنفروا يعذّبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضرّوه شيئا واللّه على كلّ شيء قدير}
هذا وعيد شديد في التخلف عن الجهاد، وأعلم انه يستبدل لنصر دينه ونبيه قوما غير مثاقلين عن النصر إلى أعدائه إذ أعلمهم اللّه عزّ وجل أنهم إن تركوا نصره فلن يضره ذلك شيئا كما لم يضرره إذ كان بمكة لا ناصرين له.
فقال عز وجل:
{إلّا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا فأنزل اللّه سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة اللّه هي العليا واللّه عزيز حكيم (40)}
وكان المشركون قد أجمعوا على قتله - صلى الله عليه وسلم - فمضى هو وأبو بكر الصديق هاربا منهم في الليل، وترك عليا على فراشه ليروا شخصه على الفراش فلا يعلمون وقت مضيّه، وأطلعا أسماء بنت أبي بكر على مكانهما في الغار، ومر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثمامة، وهي شجرة صغيرة ضعيفة فأمر أبا بكر أن يأخذها معه، فلما صارا إلى الغار، أمر أبا بكر فجعلها على باب الغار، ثم سبق أبو بكر إلى دخول الغار فانبطح فيه، وألقى نفسه، فقال رسول اللّه: لم فعلت ذلك؟
فقال: لأنّ هذه الغيران تكون فيها الهوامّ المؤذية والسباع فأحببت إن كان فيها شيء أن أقيك بنفسي يا رسول اللّه.
ونظر أبو بكر إلى جحر في الغار فسدّه برجله، وقال إن خرج منه ما يؤذي وقيتك منه.
فلما أصبح المشركون اجتازوا بالغار فبكى أبو بكر الصديق فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يبكيك؟
فقال: أخاف أن تقتل فلا يعبد اللّه بعد اليوم.
فقال له رسول اللّه: {لا تحزن إنّ اللّه معنا} أي إنّ الله تعالى يمنعهم منا وينصرنا،
فقال: أهكذا يا رسول اللّه: قال نعم فرقأ دمع أبو بكر وسكن.
وقال المشركون حين اجتازوا بالغار: لو كان فيه أحد لم تكن ببابه هذه الثمامة.
{فأنزل اللّه سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها}.
أيده بملائكة يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه.
وقوله: {سكينته عليه}.
يجوز أن تكون الهاء التي في عليه لأبي بكر، وجائز أن تكون ترجع على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن اللّه جل ثناؤه ألقى في قلبه ما سكن به وعلم أنهم غير واصلين إليه.
فأعلم الله أنهم إن تركوا نصره، نصره كما نصره في هذه الحال.
وثاني اثنين منصوب على الحال.
المعنى فقد نصره الله أحد اثنين.
أي نصره منفردا إلا من أبي بكر - رضي الله عنه -). [معاني القرآن: 2/448-449]

تفسير قوله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى...}
فأوقع {جعل} على الكلمة، ثم قال: {وكلمة اللّه هي العليا} على الاستئناف، ولم ترد بالفعل. وكلمة الذين كفروا الشرك بالله، وكلمة الله قول {لا إله إلا الله}. ويجوز {وكلمة الله هي العليا} ولست أستحبّ ذلك لظهور الله تبارك وتعالى؛ لأنه لو نصبها - والفعل فعله - كان أجود الكلام أن يقال: "وكلمته هي العليا"؛ ألا ترى أنك تقول: قد أعتق أبوك غلامه، ولا يكادون يقولون: أعتق أبوك غلام أبيك. وقال الشاعر في إجازة ذلك:
متى تأت زيدا قاعدا عند حوضه =لتهدم ظلما حوض زيد تقارع
فذكر زيدا مرّتين ولم يكن عنه في الثانية، والكناية وجه الكلام). [معاني القرآن: 1/438]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {إنّ الله معنا} أي ناصرنا وحافظنا). [مجاز القرآن: 1/260]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنودٍ لّم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة اللّه هي العليا واللّه عزيزٌ حكيمٌ}
وقال: {وكلمة اللّه هي العليا} لأنه لم يحمله على {جعل} وحمله على الابتداء.
وقال: {ثاني اثنين} وكذلك {ثالث ثلاثةٍ} وهو كلام العرب. وقد يجوز "ثاني واحدٍ" و"ثالث اثنين" وفي كتاب الله {ما يكون من نّجوى ثلاثةٍ إلاّ هو رابعهم ولا خمسةٍ إلاّ هو سادسهم} وقال: {ثلاثةٌ رّابعهم كلبهم} و{خمسةٌ سادسهم كلبهم} و{سبعةٌ وثامنهم كلبهم} ). [معاني القرآن: 2/30]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (الحسن {وكلمة الله هي العليا} كأنه على "وجعل كلمة الله" لأن جعل قبلها.
أبو عمرو وأهل المدينة {وكلمة الله} بالرفع على الابتداء). [معاني القرآن لقطرب: 629]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {ثاني اثنين} فهو أحد الاثنين، وكذلك ثالث ثلاثة، كأنك قلت: أحد الثلاثة.
وقوله {في الغار} فهو النقب العظيم في الجبل). [معاني القرآن لقطرب: 643]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {فأنزل اللّه سكينته عليه} السكينة: السكون والطمأنينة.
{عليه} قال قوم: على أبي بكر واحتجوا بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، كان مطمئنا يقول لصاحبه: {لا تحزن إنّ اللّه معنا}، والمذعور صاحبه، فأنزل اللّه السكينة.
{وأيّده} أي قواه بملائكة. قال الزهري: الغار في جبل يسمى «ثورا» ومكثا فيه ثلاثة أيام). [تفسير غريب القرآن: 186]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار}
قال الزهري خرج هو وأبو بكر ودخلا غارا في جبل ثور فأقاما فيه ثلاثا
والمعنى فقد نصره الله ثاني اثنين أي نصره الله منفردا إلا من أبي بكر رضي الله عنه
وقوله جل وعز: {فأنزل الله سكينته عليه}
يجوز أن تكون تعود على أبي بكر والأشبه على قول أهل النظر أن تكون تعود على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت عليه السكينة وهي السكون والطمأنينة لأنه جل وعز أخبر عنه أنه قال: {لا تحزن إن الله معنا} وسأذكر هذا في الإعراب على غاية الشرح). [معاني القرآن: 3/209-210]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {والسكينة} الطمأنينة). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 97]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:40 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) }

تفسير قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }

تفسير قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (هذا باب ذكرك الاسم الذي به تبين العدة كم هي مع تمامها الذي هو من ذلك اللفظ
فبناء الاثنين وما بعده إلى العشرة فاعلٌ وهو مضافٌ إلى الاسم الذي به يبين العدد وذلك قولك ثاني اثنين قال الله عز وجل: {ثاني اثنين إذ هما في الغار} و: {ثالث ثلاثة} وكذلك ما بعد هذا إلى العشرة). [الكتاب: 3/559]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (هذا باب اشتقاقك للعدد اسم الفاعل
كقولك: هذا ثاني اثنين، وثالث ثلاثة، ورابع أربعة
اعلم أنك إذا قلت: هذا ثاني اثنين، فمعنى هذا: أحد اثنين؛ كما قال الله عز وجل: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين} وقال: عز وجل: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} على هذا: فإن قلت: هذا ثالث اثنين فعلى غير هذا الوجه. إنما معناه: هذا الذي جاء إلى اثنين فثلثهما فمعناه الفعل. وكذلك هذا رابع ثلاثة. ورابعٌ ثلاثةٌ يا فتى، لأن معناه: أنه ربعهم، وثلثهم. وعلى هذا قوله عز وجل: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم}. ومثله قوله عز وجل: {سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم}.
وتلك الأولى لا يجوز أن تنصب بها؛ لأن المعنى: أحد ثلاثة وأحد أربعة). [المقتضب: 2/179-180]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وإن أردت إلا التي تقع في المجازاة، نحو قول الله عز وجل: {إلا تنصروه فقد نصره الله} لم تكن إلا الحكاية لأنها إن ضمت إليها لا.
وكذلك إما التي في الجزاء في مثل قوله عز وجل: {فإما ترين من البشر أحداً} الحكاية لا غير؛ لأنها إن، وما). [المقتضب: 4/34]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:41 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 03:42 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:42 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:43 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلاّ قليلٌ (38) إلاّ تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرّوه شيئاً واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (39)
هذه الآية هي بلا اختلاف نازلة عتابا على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفا بين راكب وراجل، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة، وخص الثلاثة كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية بذلك التذنيب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم لغير علة حسب ما يأتي، وقوله ما لكم استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ، وقوله قيل يريد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن صرفه الفعل لا يسمى فاعله يقتضي إغلاظا ومخاشنة ما، و «النفر» هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث، يقال في ابن آدم نفر إلى الأمر ينفر نفيرا ونفرا، ويقال في الدابة نفرت تنفر بضم الفاء نفورا، وقوله اثّاقلتم أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء فاحتيج إلى ألف الوصل كما قال فادّارأتم وكما تقول ازين، وكما قال الشاعر [الكسائي]: [البسيط]
تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا = عذب المذاق إذا ما اتّابع القبل
وقرأ الأعمش فيما حكى المهدوي وغيره «تثاقلتم» على الأصل، وذكرها أبو حاتم «تتثاقلتم» بتاءين ثم ثاء مثلثة، وقال هي خطأ أو غلط، وصوب «تثاقلتم» بتاء واحدة وثاء مثلثة أن لو قرئ بها، وقوله اثّاقلتم إلى الأرض عبارة عن تخلفهم ونكولهم وتركهم الغزو لسكنى ديارهم والتزام نخلهم وظلالهم، وهو نحو من أخلد إلى الأرض، وقوله: أرضيتم تقرير يقول أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة وحظها الأسعد، ثم أخبر فقال إن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر، فتعطي قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر بدل الكثير الباقي). [المحرر الوجيز: 4/ 314-315]

تفسير قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله إلّا تنفروا الآية، إلّا تنفروا يعذّبكم شرط وجواب، وقوله يعذّبكم لفظ عام يدخل تحته أنواع عذاب الدنيا والآخرة، والتهديد بعمومه أشد تخويفا، وقالت فرقة يريد يعذبكم بإمساك المطر عنكم، وروي عن ابن عباس أنه قال: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة من القبائل فقعدت فأمسك الله عنها المطر وعذبها به، و «أليم» بمعنى مؤلم بمنزلة قول عمرو بن معديكرب: [الوافر] أمن ريحانة الداعي السميع وقوله ويستبدل قوماً غيركم توعد بأن يبدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوما لا يقعدون عند استنفاره إياهم، والضمير في قوله ولا تضرّوه شيئاً عائد على الله عز وجل أي لا ينقص ذلك من عزه وعز دينه، ويحتمل أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أليق، واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ أي على كل شيء مقدور وتبديلهم منه ليس بمحال ممتنع). [المحرر الوجيز: 4/ 315]

تفسير قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: إلاّ تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا فأنزل اللّه سكينته عليه وأيّده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة اللّه هي العليا واللّه عزيزٌ حكيمٌ (40)
هذا أيضا شرط وجواب والجواب في الفاء من قوله فقد وفيما بعدها، قال النقاش: هذه أول آية نزلت من سورة براءة، ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فالله متكفل به، إذ فقد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو، فنصره إياه اليوم أحرى منه حينئذ، وقوله إذ أخرجه الّذين كفروا يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه، وأسند الإخراج إليهم إذ المقصود تذنيبهم، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله: من طردت كل مطرد. لم يقرره النبي صلى الله عليه وسلم، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر، واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمر الله عز وجل في الهجرة من مكة، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج من مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصبر فلعل الله أن يسهل في الصحبة»، فلما أذن الله لرسوله في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال، وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهوا إلى الغار فطمس عليهم الأثر، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم لقدمه لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما.
ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار، ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يجعل ثماما في باب الغار فتخيله المشركون نابتا وصرفهم الله عنه، ووقع في الدلائل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبتت على باب الغار راءة أمرها الله بذلك في الحين، قال الأصمعي: جمعها راء وهي نبات من السهل.
وروي أن أبا بكر لما دخل الغار خرق رداءه فسدّ به كواء الغار لئلا يكون فيها حيوان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي أنه بقيت واحدة فسدها برجله فوقى الله تعالى، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه،
وقوله ثاني اثنين معناه أحد اثنين، وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة فالمعنى صير الثلاثة بنفسه أربعة، وقرأ جمهور الناس «ثاني اثنين» بنصب الياء من «ثاني». قال أبو حاتم: لا يعرف غير هذا وقرأت فرقة «ثاني اثنين» بسكون الياء من ثاني، قال أبو الفتح: حكاها أبو عمرو بن العلاء، ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذه كقراءة ما بقي من الربا وكقول جرير: [البسيط]
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم = ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
و «صاحبه» أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وروي أن أبا بكر الصديق قال يوما وهو على المنبر: أيكم يحفظ سورة التوبة، فقال رجل أنا، فقال اقرأ فقرأ، فلما انتهى إلى قوله إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا بكى وقال أنا والله صاحبه، وقال الليث: ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر الصديق، وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: إلّا تنصروه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أقول بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ولم يتخلف، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط، أما إن هذه الآية منوهة بأبي بكر حاكمة بقدمه وسابقته في الإسلام رضي الله عنه، وقوله:
إنّ اللّه معنا يريد به النصر والإنجاء واللطف، وقوله تعالى: فأنزل اللّه سكينته عليه الآية، قال حبيب بن أبي ثابت: الضمير في عليه عائد على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكون النفس والجأش، وقال جمهور الناس: الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أقوى، و «السكينة» عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم، كقوله تعالى: فيه سكينةٌ من ربّكم [البقرة: 248] ويحتمل أن يكون قوله فأنزل اللّه سكينته إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة، فعلى هذا تكون «الجنود» الملائكة النازلين ببدر وحنين، ومن رأى أن الآية مختصة بتلك القصة قال «الجنود» ملائكة بشروه بالنجاة وبأن الكفار لا ينجح لهم سعي، وفي مصحف حفصة «فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما»، وقرأ مجاهد «وأأيده» بألفين، والجمهور «وأيّده» بشد الياء، وقوله: وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى يريد بإدحارها ودحضها وإذلالها، وكلمة اللّه هي العليا قيل يريد لا إله إلا الله، وقيل الشرع بأسره، وقرأ جمهور الناس «وكلمة» بالرفع على الابتداء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويعقوب «وكلمة» بالنصب على تقدير وجعل كلمة، قال الأعمش: ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب «وجعل كلمته هي العليا»). [المحرر الوجيز: 4/ 315-318]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:43 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 21 شعبان 1435هـ/19-06-2014م, 08:43 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلا قليلٌ (38) إلا تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضرّوه شيئًا واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (39)}
هذا شروعٌ في عتاب من تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك، حين طابت الثّمار والظّلال في شدّة الحرّ وحمارّة القيظ، فقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه} أي: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل اللّه {اثّاقلتم إلى الأرض} أي: تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدّعة والخفض وطيّب الثّمار، {أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة} أي: ما لكم فعلتم هكذا أرضًا منكم بالدّنيا بدلًا من الآخرة
ثمّ زهّد تبارك وتعالى في الدّنيا، ورغّب في الآخرة، فقال: {فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلا قليلٌ} كما قال الإمام أحمد.
حدّثنا وكيع ويحيى بن سعيدٍ قالا حدّثنا إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن قيسٍ، عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما الدّنيا في الآخرة إلّا كما يجعل إصبعه هذه في اليم، فلينظر بما ترجع؟ وأشار بالسّبّابة.
انفرد بإخراجه مسلمٌ
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي، حدّثنا الرّبيع بن روح، حدّثنا محمّد بن خالدٍ الوهبيّ، حدّثنا زيادٌ -يعني الجصّاص -عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة، سمعت من إخواني بالبصرة أنّك تقول: سمعت نبيّ اللّه يقول: "إنّ اللّه يجزي بالحسنة ألف ألف حسنةٍ" قال أبو هريرة: بل سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّ اللّه يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنةٍ" ثمّ تلا هذه الآية: {فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلا قليلٌ}
فالدّنيا ما مضى منها وما بقي منها عند اللّه قليلٌ.
وقال [سفيان] الثّوريّ، عن الأعمش في الآية: {فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلا قليلٌ} قال: كزاد الرّاكب.
وقال عبد العزيز بن أبي حازمٍ عن أبيه: لمّا حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال: ائتوني بكفني الّذي أكفّن فيه، أنظر إليه فلمّا وضع بين يديه نظر إليه فقال: أما لي من كبير ما أخلّف من الدّنيا إلّا هذا؟ ثمّ ولّى ظهره فبكى وهو يقول أفٍّ لك من دارٍ. إن كان كثيرك لقليلٌ، وإن كان قليلك لقصيرٌ، وإن كنّا منك لفي غرورٍ). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 153-154]

تفسير قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ توعّد تعالى على ترك الجهاد فقال: {إلا تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا} قال ابن عبّاسٍ: استنفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حيًّا من العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك اللّه عنهم القطر فكان عذابهم.
{ويستبدل قومًا غيركم} أي: لنصرة نبيّه وإقامة دينه، كما قال تعالى: {إن تتولّوا يستبدل قومًا غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم} [محمّدٍ: 38].
{ولا تضرّوه شيئًا} أي: ولا تضرّوا اللّه شيئًا بتولّيكم عن الجهاد، ونكولكم وتثاقلكم عنه، {واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} أي: قادرٌ على الانتصار من الأعداء بدونكم.
وقد قيل: إنّ هذه الآية، وقوله: {انفروا خفافًا وثقالا} وقوله {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول اللّه} [التّوبة: 120] إنّهنّ منسوخاتٌ بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ} [التّوبة: 122] روي هذا عن ابن عبّاسٍ، وعكرمة، والحسن، وزيد بن أسلم. وردّه ابن جريرٍ وقال: إنّما هذا فيمن دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الجهاد، فتعيّن عليهم ذلك، فلو تركوه لعوقبوا عليه.
وهذا له اتّجاهٌ، واللّه [سبحانه و] تعالى أعلم [بالصّواب] ). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 154]

تفسير قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللّه معنا فأنزل اللّه سكينته عليه وأيّده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة اللّه هي العليا واللّه عزيزٌ حكيمٌ (40)}
يقول تعالى: {إلا تنصروه} أي: تنصروا رسوله، فإنّ اللّه ناصره ومؤيّده وكافيه وحافظه، كما تولّى نصره {إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين [إذ هما في الغار]} أي: عام الهجرة، لمّا همّ المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه، فخرج منهم هاربًا صحبة صدّيقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة، فلجأ إلى غار ثورٍ ثلاثة أيّامٍ ليرجع الطّلب الّذين خرجوا في آثارهم، ثمّ يسيرا نحو المدينة، فجعل أبو بكرٍ، رضي اللّه عنه، يجزع أن يطّلع عليهم أحدٌ، فيخلص إلى الرّسول، عليه السّلام منهم أذًى، فجعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يسكّنه ويثبّته ويقول: " يا أبا بكرٍ، ما ظنّك باثنين اللّه ثالثهما"، كما قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا همّامٌ، أنبأنا ثابتٌ، عن أنسٍ أنّ أبا بكرٍ حدّثه قال: قلت للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ونحن في الغار: لو أنّ أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. قال: فقال: "يا أبا بكرٍ، ما ظنّك باثنين اللّه ثالثهما".
أخرجاه في الصّحيحين
ولهذا قال تعالى: {فأنزل اللّه سكينته عليه} أي: تأييده ونصره عليه، أي: على الرّسول في أشهر القولين: وقيل: على أبي بكرٍ، وروي عن ابن عبّاسٍ وغيره، قالوا: لأنّ الرّسول لم تزل معه سكينةٌ، وهذا لا ينافي تجدّد سكينةٍ خاصّةٍ بتلك الحال؛ ولهذا قال: {وأيّده بجنودٍ لم تروها} أي: الملائكة، {وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة اللّه هي العليا}
قال ابن عبّاسٍ: يعني {كلمة الّذين كفروا} الشّرك و {كلمة اللّه} هي: لا إله إلّا اللّه.
وفي الصّحيحين عن أبي موسى الأشعريّ، رضي اللّه عنه، قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الرّجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياءً، أيّ ذلك في سبيل اللّه؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه"
وقوله: {واللّه عزيزٌ} أي: في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، لا يضام من لاذ ببابه، واحتمى بالتّمسّك بخطابه، {حكيمٌ} في أقواله وأفعاله). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 154-155]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:43 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة