التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {كهيئة الطّير فأنفخ فيه...}, يذهب إلى الطين، وفي المائدة {فتنفخ فيها}ذهب إلى الهيئة، فأنث لتأنيثها، وفي إحدى القراءتين (فأنفخها), وفي قراءة عبد الله: (فأنفخها) بغير في، وهو مما تقوله العرب: ربّ ليلة قد بتّ فيها وبتّها.
ويقال في الفعل أيضاً:
= ولقد أبيت على الطوى وأظلهّ =
تلقى الصفات, وإن اختلفت في الأسماء والأفاعيل, وقال الشاعر:
إذا قالت حذام فأنصتوها = فإن القول ما قالت حذام
وقال الله تبارك وتعالى وهو أصدق قيلا: {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}, يريد: كالوا لهم، وقال الشاعر:
ما شقّ جيب ولا قامتك نائحة = ولا بكتك جياد عند أسلاب
وقوله: {وما تدّخرون} , هي تفتعلون من ذخرت، وتقرأ (وما تدخرون) خفيفة على تفعلون، وبعض العرب يقول: تدّخرون , فيجعل الدال, والذال يعتقبان في تفتعلون من ذخرت، وظلمت تقول: مظّلم ومطّلم، ومذّكر ومدّكر، وسمعت بعض بني أسد يقول: قد اتّغر، وهذه اللغة كثيرة فيهم خاصّة. وغيرهم: قد اثّغر.
فأمّا الذين يقولون: يدّخر, ويدّكر, ومدّكر؛ فإنهم وجدوا التاء إذا سكنت, واستقبلتها ذال, دخلت التاء في الذال , فصارت ذالاً، فكرهوا أن تصير التاء ذالاً, فلا يعرف الافتعال من ذلك، فنظروا إلى حرف يكون عدلاً بينهما في المقاربة، فجعلوه مكان التاء, ومكان الذال.
وأمّا الذين غلّبوا الذال: فأمضوا القياس، ولم يلتفتوا إلى أنه حرف واحد، فأدغموا تاء الافتعال عند الذال, والتاء, والطاء.
ولا تنكرنّ اختيارهم الحرف بين الحرفين؛ فقد قالوا: ازدجر, ومعناها: ازتجر، فجعلوا الدال عدلاً بين التاء والزاي,
ولقد قال بعضهم: مزجّر، فغلّب الزاي كما غلّب التاء, وسمعت بعض بني عقيل يقول: عليك بأبوال الظباء, فاصّعطها ؛ فإنها شفاء للطحل، فغلب الصاد على التاء، وتاء الافتعال تصير مع الصاد , والضاد طاء، كذلك الفصيح من الكلام , كما قال الله عز وجل: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ}, ومعناها: افتعل من الضرر, وقال الله تبارك وتعالى: {وأمر أهلك بالصّلاة واصطبر عليها} , فجعلوا التاء طاء في الافتعال). [معاني القرآن: 1/216]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( (الأكمه): الذي يولد من أمه أعمى، قال رؤبة:
وكيد مطّالٍ وخصمٍ مندهٍ= هرّجت فارتدّ ارتداد الأكمه
هرّجته حتى هرج، مثل: هرج الحرّ). [مجاز القرآن: 1/93-94]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({الأكمه}: الذي يولد وهو أعمى).[غريب القرآن وتفسيره: 105]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({الأكمه}: الذي يولد أعمى, والجمع كمه). [تفسير غريب القرآن: 105]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({ورسولاً إلى بني إسرائيل أنّي قد جئتكم بآية من ربّكم أنّي أخلق لكم من الطّين كهيئة الطّير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن اللّه وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إنّ في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}, ونصب {ورسولا إلى بني إسرائيل} على وجهين:
أحدهما: ويجعله رسولاًإلى بني إسرائيل،
2- والاختيار عندي - واللّه أعلم -: ويكلم الناس رسولاً إلى بني إسرائيل, والدليل على ذلك: أنّه قال: {أنّي قد جئتكم بآية من ربّكم}, فالمعنى - واللّه أعلم - ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم، ولو قرئت إني قد جئتكم - بالكسر - كان صواباً, المعنى: إني قد جئتكم بآية من ربكم , أي: بعلامة تثبت رسالتي.
وقوله جلّ وعزّ: {أنّي أخلق لكم من الطّين}, يصلح أن يكون خفضاً, ورفعاً, فالخفض على البدل من (آية) , المعنى: جئتكم بأنّي أخلق لكم من الطّين،
وجائز أن يكون: {إنّي أخلق لكم من الطّين}, يخبرهم بهذه الآية : ما هي؟, أي: أقول لكم أنّي أخلق لكم من الطّين كهيئة الطير.
يقال: إنّه صنع؛ كهيئة الخفاش , ونفخ فيه , فصار طيراص,
وجاز أن يكون" فأنفخ فيه للفظ الطين، وقال في موضع آخر: {فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني}, للفظ الهيئة.
{وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن اللّه}: {الأكمه} :الذي يولد أعمى.
قال الراجز:
= هرجت فارتد ارتداد الأكمه
وقوله عزّ وجلّ: {وأنبّئكم بما تأكلون}, أي: أخبركم بمأكولكم، فجائز أن تكون (ما) ههنا في موضع الذي.
والمعنى: أنبئكم بالذي تأكلونه, وتدخرونه، ويجوز أن يكون " ما ", وما وقع بعدها بمنزلة المصدر.
المعنى: أنبئكم بأكلكم, وادخاركم, والأول أجود.
ومعنى تدخرون: جاء في التفسير ما تأكلون في غدوكم, وتدخرون بالدال والذال.
وقال بعض النحويين: إنما اختير تدخرون ؛ لأن التاء تدغم في الذال نحو تذكرون، فكرهوا تذخرون؛ لأنه لا يشبه ذلك، فطلبوا حرفاً بين التاء والذال, فكان ذلك الحرف الدال
وهذا يحتاج صاحبه إلى أن يعرف الحروف المجهورة والمهموسة: وهي فيما زعم الخليل ضربان: فالمهجورة حرف أشبع الاعتماد عليه في موضعه، ومنع النفس أن يجري معه، والمهموس حرف أضعف الاعتماد عليه في موضعه , وجرى معه النفس.
وإنما قيل {تدّخرون} , وأصله: تذخرون، أي: يفتعلون من الذخر؛ لأن الذال حرف مجهور لا يمكن النفس أن يجري معه لشدة اعتماده في مكانه, والتاء مهموسة، فأبدل من مخرج التاء حرف مجهور يشبه الذال في جهرها, وهو الدال.
فصار تذدخرون, ثم أدغمت الذال في الدال، وهذا أصل الإدغام أن تدغم الأول في الثاني، وتذخرون جائز - فأما ما قال في الملبس فليس تذخرون ملبسا بشيء). [معاني القرآن: 1/413-414]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله}
{الأكمه }, قال مجاهد: هو الذي يبصر في النهار, ولا يبصر في الليل ,فهو يتكمه.
قال الكسائي: يقال: كمه يكمه كمها, وقال الضحاك: هو الأعمى.
قال أبو عبيدة: هو الذي يولد أعمى, وأنشد لرؤبة:
= هرجت فارتد ارتداد الأكمه
قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم}
يجوز أن يكون معنى: الكل, وأنشد للبيد:
تراك أمكنه إذا لم أرضها = أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة ؛ لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل .
وقال أبو العباس: معنى أو يرتبط بعض النفوس, أو يرتبط نفسي كما يقول بعضنا يعرفه, أي: أنا أعرفه، ومعنى الآية على بعضها: لأن عيسى إنما أحل لهم أشياء مما حرمها عليهم موسى من أكل الشحوم , وغيرها , ولم يحل لهم القتال, ولا السرقة , ولا الفاحشة منها .
والدليل على هذا: أنه روي عن قتادة أنه قال: جاءهم عيسى بألين مما جاء به موسى صلى الله عليهما؛ لأن موسى جاءهم بتحريم الإبل, وأشياء من الشحوم, فجاءهم عيسى بتحليل بعضها). [معاني القرآن: 1/402-404]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): (و{الأكمه}: الذي يولد أعمى). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 49]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({الأكْمَهَ}: الذي يولد أعمى). [العمدة في غريب القرآن: 99]
تفسير قوله تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ومصدّقاً...}, نصبت (مصدّقا) على فعل (جئت)، كأنه قال: وجئتكم مصدّقا لما بين يديّ من التوراة، وليس نصبه بتابع لقوله (وجيهاً) ؛ لأنه لو كان كذلك لكان (ومصدّقا لما بين يديه).
وقوله: {ولأحلّ لكم} الواو فيها بمنزلة قوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السّموات والأرض وليكون من الموقنين}). [معاني القرآن: 1/216]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم}, بعض يكون شيئاً من الشيء، ويكون كلّ الشيء، قال لبيد بن ربيعة:
تراك أمكنةٍ إذا لم أرضها= أو يعتلق بعض النفوس حمامها
فلا يكون الحمام ينزل ببعض النفوس، فيذهب البعض، ولكنه يأتي على الجميع). [مجاز القرآن: 1/94]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ومصدّقاً لّما بين يديّ من التّوراة ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم وجئتكم بآيةٍ مّن رّبّكم فاتّقوا اللّه وأطيعون}, قال تعالى: {ومصدّقاً لّما بين يديّ} على قوله: {وجئتكم}, {مصدّقاً لّما بين يديّ}, {رسولاً}؛لأنه قال: {قد جئتكم بآيةٍ مّن رّبّكم}). [معاني القرآن: 1/171]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{ومصدّقا لما بين يديّ من التّوراة ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم وجئتكم بآية من ربّكم فاتّقوا اللّه وأطيعون}, نصب {مصدّقاً} على الحال، المعنى: وجئتكم مصدقاً لما بين يدي , أي: للكتاب الذي أنزل قبلي فهو أمري أن تتبعوني.
{ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم وجئتكم بآية من ربّكم}, أي: لم احل لكم شيئا بغير برهان، فهو حق عليكم اتباعي؛ لأني أنبئكم ببرهان، وتحليل طيبات كانت حرمت عليكم.
(فاتّقوا اللّه وأطيعون) أي: اتبعوني.
قال أبو عبيدة: معنى: {ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم}, قال معناه: كل الذي حرم عليكم، وهذا مستحيل في اللغة, وفي التفسير, وما عليه العمل, فأمّا استحالته في اللغة ؛ فإن البعض والجزء لا يكون الكل , وأنشد في ذلك أبو عبيدة بيتاص غلط في معناه , وهو قول لبيد:
تراك منزلة إذا لم أرضها= أو يعتلق بعض النفوس حمامها
قال: المعنى " أو يعتلق كل النفوس حمامها" , وهذا كلام تستعمله الناس، يقول القائل: بعضنا يعرفك يريد أنا أعرفك، فهذا إنما هو تبعيض صحيح, وإنما جاءهم عيسى بتحليل ما كان حراماً عليهم.
قال اللّه عزّ وجلّ: {فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم}, وهي نحو الشحوم وما يتبعها في التحريم، فأما أن يكون أحل لهم القتل, والسرقة, والزنا فمحال). [معاني القرآن: 1/415]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({إنّ اللّه ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مّستقيمٌ}, قال: {إنّ اللّه ربّي وربّكم} , فـ{إنّ} على الابتداء,
وقال بعضهم {أنّ}, فنصب على {وجئتكم بأنّ اللّه ربّي وربّكم}, هذا معناه). [معاني القرآن: 1/171-172]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (ومعنى:{إنّ اللّه ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}
{هذا صراط مستقيم}، أي: هذا طريق الدين مستوياً). [معاني القرآن: 1/416]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله تعالى: {فاعبدوه هذا صراط مستقيم}, أي: هذا طريق واضح). [معاني القرآن: 1/404]