قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (لا خلاف بين أهل العلم فى تحريم إتلاف المصاحف على وجه الاستخفاف , بل صرح بعضهم بكون ذلك بابا من أبواب الردة , أعاذنا الله من ذلك .
فإن كان الإتلاف لا على وجه الاستخفاف , فلا يخلو من أن يكون المصحف سليما صالحا للإنتفاع به , أو أن يكون معطلا باليا يتعذر الانتفاع به , أو أن يكون قد تنجس بما لا يأتى معه تطهيره , كالمكتوب بمداد نجس مثلا.
فإن كان المصحف طاهرا سليما يمكن الانتفاع به , فلا يجوز إتلافه , صرح بذلك غير واحد من اهل العلم , كابن عبد الهادى الحنبلى فى كتابه مغنى ذوى الأفهام , حيث قال : ( ولا يجوز دفن مصحف صحيح ولا غسله ).
والظاهر أن مرادهم فيما لم يكن إتلافه لغرض صحيح , وإن لم أجد تصريحا منهم بهذا القيد , لكن إتلاف الصحابة لما عدا المصحف الإمام , ثم إحراق مروان بعد ذلك للصحف التى عند حفصة رضى الله عنها , وكون ذلك فى محضر من الصحابة يدل على جواز إتلاف المصاحف متى اقتضى إتلافها غرض صحيح تنتفى معه احتمالات العبث والاستخفاف .
وسيأتى لذلك تفصيل فى غير موضع من هذا البحث إن شاء الله تعالى . {37}
وقد يتعين إتلاف المصاحف متى طرأ عليها خلل يتعلق بطهارتها , كما لو تنجست بما يتعذر معه تطهيرها . لأن بقاء النجاسة على المصحف فيه إزدراء به , وعدم القيام باحترامه , فاقتضت رعاية ذلك وجوب احترامه .
وفصل بعض الفقهاء بين ما كان من أمهات المصاحف وبين ما لم يكن كذلك فقال بمنع إتلاف الأول دون الثانى . فقد ذكر الونشريسى المالكى أن الشيخ أبا إسحاق الشاطبى سئل عن كتاب أو مصحف تحل فيه نجاسة؟
فأجاب : إن كانت نسخة المصحف أو الكتاب من الأمهات المعتبرة التى يرجع إليها أو يعتمد فى صحة غيرها عليها , أو لا يكون ثم نسخة من الكتاب سوى ما وقعت فيه النجاسة , فالحكم أن يزال من جرم النجاسة ما استطيع عليه , ولا إثم للأثر , فإن الصحابة رضوان الله عليهم تركوا مصحف عثمان رضى الله عنه وعليه الدم . ولم يمحوه بالماء ولا أتلفوا موضع الدم لكونه عمدة الإسلام .{38}
وأما إن لم يكن الكتاب أو المصحف كذلك ينبغى أن يغسل الموضع , ويجبر إن كان مما يجبر , أو يستغنى عنه بغيره , والله أعلم . فهذا ما ظهر من الجواب .
وحكى الونشريسى أيضا عن بعض فقهاء المالكية فى المصحف إذا تنجس أنه ينتفع به كذلك , كما أجيز لبس الثوب المتنجس فى غير الصلاة , وذكر الله طاهر لا يدركه شئ من الواقعات . بيد أن المشهور عند فقهاء المالكية موافق لما عليه جمهور الفقهاء من وجوب إتلاف المصحف إذا تنجس وتعذر تطهيره
وسيأتى بيان ذلك فى مسألة تطهير المصحف إذا تنجس , واختلاف أهل العلم فيما إذا ترتب على تطهيره تلف ماليته , وبخاصة إتلاف ما كان منه لمحجور أو كان وقفا . والفرق بين ما أصابت النجاسة كتابته , وبين ما لوكانت نجاسته على الحواشى أو الجلد .
وقد نص بعض أهل العلم على وجوب إتلاف ما ترجحت مفسدة بقاءه , كالذى كثر لحنه كثرة يتعذر معها إصلاحه , أو كان فيه من السقط ما لا يمكن تداركه , مما ترتب عليه إضلال الجهال وإيهام معانى غير مرادة , قياسا على إتلاف ما خالف الرسم العثمانى بالأولى .
كما لا يختلف أهل العلم فى وجوب إتلاف ما بلى من المصاحف واندرس {39}
وتعطل الانتفاع به , صيانته للمصاحف , وحسما لمادة امتهانها .
قال بعض أهل العلم : إذا احتيج إلى تعطيل بعض أوراق المصحف لبلاء ونحوه فلا يجوز وضعها فى شق أو غيره , لأنه قد يسقط , ويوطأ . ولا يجوز تمزيقها لما فيه من تقطيع الحروف وتفرقة الكلم , وفى ذلك إزراء بالمكتوب . {40}
وخلاصة القول أن أهل العلم قد جوزوا إتلاف المصاحف إذا تحقق فيها واحد من جملة أسباب :
1: إذا كانت عتيقة بالية قد تعطل نفعها .
2: إذا تنجست بما يتعذر معه تطهيرها
3: إذا دخلها خلل يخاف معه على الجهال من الضلال , إما لكثرة السقط فيها , أو كثرة اللحن , أو دس فيها ما ليس منها , أو كان رسمها مخالفا لرسم المصحف الإمام .
كيفية الإتلاف :
ثم إن أهل العلم حين اتفقوا على مشروعية إتلاف المصاحف متى قام فيها سبب الإتلاف قد اختلفوا فيما يتم هذا الإتلاف , وهل يكون ذلك بتحريقها , أو بغسلها وتغريقها , أو بدفنها , أو بتمزيقها , على أن تراعى الطهارة فى ذلك كله أعنى فى مواد التحريق والتغريق ومكان الدفن . صيانة لكتاب الله وآثاره وإكراما له واحترازا عن امتهانه .
وقد ذهب إلى القول بجواز التحريق جمهور أهل العلم , {41}
ومنعه آخرون . ثم إن أهل العلم لم يختلفوا فى جواز كل من الغسل والدفن {43}
وإن اختلفوا فى حكم التشقيق والتمزيق , إذ صرح بعضهم بمنعه لما فيه من تقطيع الحروف وسكت عنه الأكثرون , بل إن بعض الآثار قد وردت بما يشهد للجواز . وقد تحمل على أن ذلك تشقيق تلاه تحريق جمعا بين الروايات , إذ قد ثبت فى الصحيح أن الصحابة قد أحترقت ما خالف المصحف الإمام إحراقا , وأن مروان قد أحرق الصحف التى كانت عند حفصة أم المؤمنين رضى الله عنها , وأن ذلك كان بمحضر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .
وعلى القول بمنع حرق المصاحف إذا بليت , وهو قول مرجوح كما مر , فلابد {44}
حينئذ من بديل تتحقق معه صيانة المصحف عن الامتهان . فالمنقول عن السلف أنه يدفن . فقد أخرج أبو عبيد فى فضائل القرآن بسنده عن إبراهيم النخعى قال : ( كانوا يأمرون بورق المصحف , إذا بلى أن يدفن .
وأخرج ابن أبى داود فى المصاحف بسنده عن طلحة بن مصرف : ( أن عثمان رضى الله عنه دفن المصاحف بين القبر والمنبر ).
ثم إن أهل العلم قد اختلفوا بعد ذلك فى كون هذا الدفن يصار إليه رأسا , أم أن الأولى أن يكون بعد الغسل والمحو , كما نص بعضهم على أن هيئة الدفن {45}
تكون شبيهة بدفن الآدمى , فليحد للمصحف لحدا , أو يسقف عليه سقفا , ولا يعال عليه التراب مباشرة , وذلك بعد أن يوضع فى خرقة طاهرة , مبالغة فى إكرام المصحف وصيانته , ولئلا يباشره التراب , ولكى لا يكون عرضة للوطء , كما صرح بعضهم بأن يكون مكان الدفن مكانا طاهرا شريفا كالمسجد مثلا . وقد ذكر البخارى رحمة الله أن الصحابة حرقت المصاحف بالحاء المهملة . فى حين تضمن نقل أبى عبيد عن إبراهيم وابن أبى داود عن طلحة بن مصرف : ( أنهم دفنوها , وأمروا بدفنها ).
الجمع بين روايتى الإحراق والدفن :
فيجمع بين الروايتين بأن يقال : حرقوها أولا , ثم دفنوا ما تخلف عن التحريق . لأن رواية الإحراق قد ثبتت فى الصحيح , فيتعين الأخذ بها , وتقديمها على رواية الدفن . لو قدر التعارض مع أنه لا تعارض فى واقع الأمر إذ الجمع ممكن , فيتعين المصير إليه . قال الحافظ فى الفتح بعد أن ذكر الروايات المتعارضة فى مسألة إتلاف مروان للصحف التى كانت عند حفصة رضى الله عنها : ( ويجمع بأنه صنع بالصحف جميع ذلك من تشقيق ثم غسل ثم تحريق , ويحتمل أن يكون بالخاء أن يكون بالخاء المعجمة فيكون مزقها , ثم غسلها .. والله أعلم ) .
وسيأتى نص الحافظ بتمامه فى مسألة تمزيق المصحف) . {46}