الخلاصة في مسألة السفر بالمصحف إلى أرض الكفار
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م):(أخرج الأئمة مالك , والشافعى , وأحمد , والبخارى , ومسلم واللفظ له قال : ( حدثنا يحى بن يحيى قال : قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر باقرآن إلى أرض العدو "
وحدثنا قتيبة , حدثنا ليث ح , وحدثنا ابن رمح , أخبرنا الليث عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو "
وحدثنا أبو الربيع العتكى وأبو كامل قالا : حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسافروا بالقرآن فإنى لا آمن أن يناله العدو " قال أيوب : فقد ناله العدو وخاصموكم به ).
وقد روى حديث بن عمر من طرق كثيرة لدى طائفة من المصنفين فى الحديث وبألفاظ مختلفة تتتضمن النهى عن السفر بالقرآن تارة , أو شئ منه تارة أخرى , أو المصاحف تارة ثالثة .
وقد استقصى أبو بكر ابن أبى داود فى كتاب المصاحف تلك الطرق عن السفر بالقرآن والمصاحف إلى أرض العدو مرفوعا وموقفا .
الخلاف فى المسافرة بالمصاحف إلى أرض الكفر :
ظاهر الآثار السالفة الذكر يقتضى منع المسافرة بالمصحف إلى دار الكفر مطلقا سواء كانت دار حرب أو دار عهد , وهو الذى صرح به غير واحد من أهل العلم , فقد حكى الأنصارى فى شرح الروض أنهم اتفقوا على أنه يحرم السفر به إلى أرض الكفار إذا خفيت وقوعه فى أيديهم .
وأفتى الهيتمى بأن الذى صرح به أصحابنا يحرم بالأتفاق السفر بالقرآن إلى أرض الكفر , سواء كان أهلها ذميين أم حربيين . قال فى المجموع : ومحله إذا خيف وقوعه بأيديهم لما فيه من تعريضه لأمتهان . وفى شرح مسلم إن أمن ذلك كدخوله فى الجيش الظاهر عليهم فلا منع ولا كراهة . وقال جماعة من أصحابنا بالنهى مطلقا لظاهر الحديث , وخشية من أن تناله الأيدى . قال الأذرعى : وهو المختار الأحوط . ا.هـ كلام الهيتمى .
والقول بمنع السفر بالمصحف إلى أرض الكفر مطلقا هو مقتضى كلام ابن الماجشون على ما فى التمهيد , وهو اختيار ابن حزم فى المحلى .
قال بن عبد البر فى التمهيد : ( وذكر أحمد بن المعدل عن عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون أنه سئل عن الرجل يدخل بالمصحف أرض العدو لما له فى ذلك من استذكار القرآن والتعليم , ولما يخشى أن يطول به السفر فينسى ؟ فقال عبد الملك : لايدخل أرض العدو بالمصاحف , لما يخشى من التعبث بالقرآن والإمتهان له مع أنهم أنجاس ومع ما جاء فى ذلك من النهى الذى لاينبغى أن يتعدى )
وقال ابن حزم فى المحلى : ( مسألة : ولا يحل السفر بالمصحف إلى أرض الحرب لا فى عسكر ولا فى غير عسكر , روينا من طريق معمر عن أيوب السختيانى عن نافع عن ابن عمر قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو ". وقال ومالك : إن كان عسكر مأمون فلا بأس به .
قال أبو محمد : وهذا خطأ , وقد يهزم العسكر المأمون ولا يجوز أن يعترض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخص بلا نص "
وقال الخرشى فى شرحه على خليل : ( يحرم علينا أن نسافر بالمحف إلى أرض الكفر , ولو كان الجيش آمنا خيفة أن يسقط منا ولا نشعر به فتناله الإهانة وتصغير ما عظم الله ).
وقال العدوى فى حاشيته على الخرشى : (" قوله خشية الإهانة " أى : بوضعه فى الأرض والمشى عليه بنعالهم ." قوله فيه الآيات " يتعارض معنى الجزء من القرآن , إلا أن فى شرح عب أن المراد بالمصحف ما قابل الكتاب الذى فيه كالآية , وينبغى تحريم السفر بكتب الحديث كالبخارى لاشتماله على آيات كثيرة , وحرمة ما ذكر ولو طلبه الملك ليتدبره خشية الأهانة . " قوله والمصحف قد يسقط ولا نشعر به فيأخذونه فتحصل منهم إهانته ").
وفى الدردير مع الدسوقى ومثله فى المنح : ( وحرم إرسال مصحف لهم ولو طلبوه ليتدبوه خشية إهانتهم له , وأراد بالمصحف ما قابل الكتاب الذى فيه الآية ونحوها , وحرم سفر به – أى المصحف – لأرضهم ولو مع جيش كبير , ومثل المصحف كتب الحديث فيما ظهر )
وصرح الدسوقى : ( بتحريم السفر بالمصحف إلى أرض الكفر مطلقا ولو كان الجيش آمنا )
وجزم غير واح من أصحابنا الحنابلة بحمل النهى عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو على التحريم وهو الذى جزم به الموفق فى المغنى كما مر .
قال ابن مفلح فى الفروع : ( ويحرم السفر به إلى دار الحرب " و م ش " نقل إبراهيم بن الحرث لا يجوز للرجل أن يغزو ومعه المصحف . وقيل : إلا مع غلبة السلامة . وفى المستوعب يكره بدونها " و هـ").
والقول بتقييد المنع بحال الخوف على المصحف هو الذى جزم به النووى فى تبيانة حيث قال :( تحرم المسافرة بالمصحف إلى أرض العدو إذا خيف وقوعه فى أيديهم للحديث المشهور فى " الصحيحين " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو " . ويحرم بيعه من الذمى فإن باعه ففى صحة البيع قولان للشافعى أصحهما لا يصح , والثانى يصح , ويؤمر فى الحال بإزالة ملكه عنه ) .
وقال الحافظ ابن حجر فى الفتح : ( قال ابن عبد البر : أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف فى السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه , واختلفوا فى الكبير المأمون عليه : فمنع مالك أيضا مطلقا , فصل أبو حنيفة , وأدر الشافعية الكراهة مع الخوف وجودا وعدما . وقال بعضهم كالمالكية , واستددل به على منع بيع المصحف من الكافر
لوجود المعنى المذكور فيه وهو التمكن من الأستهانة به, ولا خلاف فى تحريم ذلك وإنما وقع الأختلاف هل يصح لو وقع ويؤمر بإزالة ملكه عنه أم لا ؟ واستدل به على منع تعلم الكافر القرآن : فمنع مالك مطلقا , وأجاز الحنفية مطلقا , وعن الشافعى قولان , وفصل بعض المالكية بين القليل لأجل مصلحة قيام الحجة عليهم فأجازه , وبين الكثير فمنعه . ويؤيده قصة هرقل حيث كتب إليه النبى صلى الله عليه وسلم بعض الآيات , وقد سبق فى " باب هل يرشد " بشى من هذا , وقد نقل النووى الأتفاق على جواز الكتابة إليهم بمثل ذلك )
وقال الطحاوى فى مشكل الآثار : ( وقد أختلف أهل العلم فى السفر به إلى أرض العدو , فذهب بعضهم إلى إباحة ذلك منهم : أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن
كما حدثنا محمد بن العباس قال : حدثنا على بن معبد عن محمد بن الحسن عن يعقوب عن أبى حنيفة , ولم يحك خلافا بينهم . وذهب محمد بن الحسن بأخلرة فى " سيره الكبير " إلى أنه إن كان مأمونا عليه من العدو فلا بأس بالسفر إلى أرضهم , وإن كان مخوفا عليه منهم فلا ينبغى السفر به إلى أرضهم , ولم يحك هناك خلافا فى ذلك بينه وبين أحد من أصحابه .
فاحتمل أن يكون ما فى الرواية الأولى التى رويناها من إباحة السفر به إلى أرض العدو عن الأمان عليه من العدو , وهذا القول أحسن ما قيل فى هذا الباب والله تعالى نسأله التوفيق).
وقد جاء فى كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن مع شرحه للسرخسى ما نصه : ( ولا بأس بإدخال المصاحف فى أرض العدو لقراءة القرآن فى مثل هذا العسكر العظيم , ولا يستحب له ذلك إذا كان يخرج فى سرية , لأن الغازى ربما يحتاج إلى القراءة من المصحف إذا كان لا يحسن القراءة عن ظهر قلبه , أو يتبرك بحمل المصحف , أو يستنصر به . فالقرآن حبل الله المتين من اعتصم به نجا إلا أنه منهى عن تعريض المصحف لاستخفاف العدو به , ولهذا لو اشتراه ذمى أجبر على بيعه , والظاهر أنه فى العسكر العظيم يأمن هذا لقوتهم , وفى السرية ربما يبتلى به لقلة عددهم , فمن هذا الوجه يقع الفرق , والذى روى عن النبى صلى الله عليه وسلم :" نهى أن يسافر بالقرآن فى أرض العدو " تأويله هذا أن يكون سفره مع جريدة خيل لا شوكة لهم , هكذا ذكره محمد . وذكر الطحاوى أن هذا النهى كان فى ذلمك الوقت .لأن الماحف لم تكثر فى أيدى المسلمين, وكان لايؤمن إذا وقعت المصاحف فى أيدى العدو أن يفوت شئ من القرآن من أيدى المسلمين , ويومن من مثله فى زماننا لكثرة المصاحف وكثرة القراء.
قال الطحاوى : لو وقع مصحف فى يدهم لم يستخفوا به , لأنهم وإن كانوا لا يقرون بأنه كلام الله فهم يقرون بأنه أفصح الكلام بأوجز العبارات , وأبلغ المعانى فلا يستخون به كما لا يستخفون بسائر الكتب , لكن ماذكره محمد أصح فإنهم يفعلون ذلك مغايظه للمسلمين , وقد أظهر ذلك من القرامطة حين ظهروا على مكه جعلوا يستنجون بالمصاحف إلى أن قطع الله دابرهم, ولهذا منع الذمى من شرى المصحف وأجبر على بيعه كما أجبر على بيع العبد المسلم . وكذلك كتب الفقه بمنزلة المصحف فى هذا الحكم , فأما كتب الشعر فلا بأس بأن يحمله مع نفسه , وكذلك إن اشتراه الكافر لا يجبر على بيعه .
وإن دخل إليهم مسلم بأمان فلا بأس بأن يدخل معه المصحف إذا كانوا قوما يوفون بالعهد , لأن الظاهر هو الأمن من تعرض العدو لما فى يده , فأما إذا كانوا ربما لا يوفون بالعهد فلا ينبغى له أن يحمل المصحف مع نفسه إذا دخل دارهم بأمان ).
ولما تعرض السرخسى فى المبسوط لذكر حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم : " نهى أن تدخل المصاحف أرض العدو " قال (المشهور فيه ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ) : لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ويستخفوا به , فعلى هذا فى سرية ليست لهم منعة قوية , فأما إذا كانوا جندا عظيما " كالصائفة" فلا بأس بأن يتبرك الرجل منهم بحمل المصحف مع نفسه ليقرأ فيه لأنهم يأمنون من ذلك لقوتهم وشوكتهم " فإن قيل " أهل الشرك وإن كانوا يزعمزن أن القرآن ليس بكلام الله تعالى فيقرون أنه كلام حكيم فصيح فكيف يستخفون به؟
" قلنا " إنما يفعلون ذلك مغايظة للمسلمين , وقد ظهر ذلك من فعل القرامطة فى الموضع الذى اظهروا فيه اعتقادهم على ماذكره ابن رزام فى كتابه أنهم كانوا يستنجون بالمصاحف . وذكر الطحاوى رحمه الله تعالى فى مشكل الآثار أن هذا النهى كان فى ذلك الوقت , لأنه يخاف فوت شئ من القرآن من أيدى المسلمين,فأما فى زماننا فقد كثرت المصاحف , وكثر الحافظون للقرآن عن ظهر قلب , فلا بأس بحمل المصحف إلى أرض العدو لأنه لا يخاف فوت شئ من القرآن وإن وقع بعض المصاحف فى أيدهم )
وحمل النهى عن الزمن الأول لقلة المصاحف مخافة أن يفوت على المسلمين شئ نتها فى أرض العدو , منسوب إلى الطحاوى وابن الحسن القمى على ماذكرهالكمال فى الفتح , والعينى فى البناية , وذكر نحوا مما مر فى نص السير والمبسوط
مجمل الخلاف :
والمتأمل للنصوص السالفة الذكر فى مسألة السفر بالمصاحف إلى أرض الكفر يخلص إلى أن لأهل العلم فى هذه المسألة أقولا ثلاثة :
"أحداهما " أن السفر بالمصحف إلى دار الكفر محظور مطلقا , لافرق فى ذلك بين أن تكون دار حرب أو دار عهد لعموم النهى الوارد فى هذا الشأن , وللتعليل الذى تضمنته بعض ألفاظه والمتمثل فى الخوف من أن يناله الكفار بأيديهم وهو محتمل لأمتها والأستخفاف بالمصحف وحصول تحريف فيه ووضع أيديهم عليه .. وكل هذه المحاذير يتعين اتقاؤها .
" القول الثانى " أن محل النهى إذا خيف على المصحف وهو منتف مع الجيش والعسكر الكبير ذى الشوكة والمنعة .
" والقول الثالث " أن السفر بالمصحف إلى دار الكفر مباح سواء كانت دار حرب دخلها بأمان أو كانت دار عهد وعرف عن أهلها أنهم يوفون بالعهد , وقد نسب إلى أبى جعفر الطحاوى وأبى الحسن القمى من فقهاء الحنفية قول بأن النهى محمول على الزمن الأول حين كانت المصاحف قليلة مخافة أن يفوت شئ من القرآن فى دار الكفر , فيتأثر المسلمون بفواته).[المتحف: 629-637]