قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("إذ"
"إذ" على أربعة أوجه:
1 - أحدها: أن تكون اسما للزمن الماضي، ولها أربعة استعمالات:
أحدها: أن تكون ظرفا، وهو الغالب، نحو:{فقد نصره الله إذأخرجه الّذين كفروا}.
والثّاني: أن تكون مفعولا به، نحو:{واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم}.
والغالب على المذكورة في أوائل القصص في التّنزيل أن تكون مفعولا به بتقدير اذكر، نحو:{وإذ قال ربك للملائكة}،{وإذ قلنا للملائكة}،{وإذ فرقنا بكم البحر}، وبعض المعربين يقول في ذلك إنّه ظرف لـ اذكر محذوفا، وهذا وهم فاحش لاقتضائه "حينئذٍ" الأمر بالذكر في ذلك الوقت مع أن الأمر للاستقبال، وذلك الوقت قد مضى قبل تعلق الخطاب بالمكلفين منا، وإنّما المراد ذكر الوقت نفسه لا الذّكر فيه.
والثّالث: أن تكون بدلا من المفعول، نحو:{واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت}، فإذ بدل اشتمال من مريم على حد البدل في:{يسألونك عن الشّهر الحرام قتال فيه}، وقوله تعالى:{اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء} يحتمل كون "إذ" فيه ظرفا للنعمة، وكونها بدلا منها.
والرّابع: أن يكون مضافا إليها اسم زمان صالح للاستغناء عنه، نحو: "يومئذٍ" و"حينئذٍ"، أو غير صالح له، نحو قوله تعالى:{بعد إذ هديتنا}،
وزعم الجمهور أن "إذ" لا تقع إلّا ظرفا أو مضافا إليها، وأنّها في نحو:{واذكروا إذ كنتم قليلا} ظرف لمفعول محذوف، أي: واذكروا نعمة الله عليكم "إذ" كنتم قليلا، وفي نحو:{إذ انتبذت} ظرف لمضاف إلى مفعول محذوف، أي: واذكر قصّة مريم، ويؤيّد هذا القول التّصريح بالمفعول في:{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء}، ومن الغريب أن الزّمخشريّ قال في قراءة بعضهم:[لمن من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا] إنّه يجوز أن يكون التّقدير منه "إذ" بعث، وأن تكون "إذ" في محل رفع كـ "إذا" في قولك أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما، أي: لمن من الله على المؤمنين وقت بعثه انتهى. فمقتضى هذا الوجه أن "إذ" مبتدأ، ولا نعلم بذلك قائلا ثمّ تنظيره بالمثال غير مناسب؛ لأن الكلام في "إذ" لا في "إذا"، وكان حقه أن يقول "إذ" كان؛ لأنهم يقدرون في هذا المثال ونحوه، "إذ" تارة و"إذا" أخرى بحسب المعنى المراد، ثمّ ظاهره أن المثال يتكلّم به هكذا، والمشهور أن حذف الخبر في ذلك واجب، وكذلك المشهور أن "إذا" المقدرة في المثال في موضع نصب، ولكن جوز عبد القاهر كونها في موضع رفع تمسكا بقول بعضهم أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة بالرّفع، فقاس الزّمخشريّ "إذ" على "إذا" والمبتدأ على الخبر.
2 - والوجه الثّاني: أن تكون اسما للزمن المستقبل، نحو:{يومئذٍ تحدث أخبارها}، والجمهور لا يثبتون هذا القسم، ويجعلون الآية من باب {ونفخ في الصّور}، أعني من تنزيل المستقبل الواجب الوقوع منزلة ما قد وقع، وقد يحتج لغيرهم بقوله تعالى:{فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم}، فإن:{يعلمون} مستقبل لفظا ومعنى لدخول حرف التّنفيس عليه، وقد أعمل في "إذ" فيلزم أن يكون بمنزلة "إذا".
3 - والثّالث: أن تكون للتّعليل، نحو:{ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون}، أي: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب لأجل ظلمكم في الدّنيا، و"هل" هذه حروف بمنزلة "لام" العلّة، أو ظرف، والتّعليل مستفاد من قوّة الكلام لا من اللّفظ، فإنّه "إذا" قيل ضربته "إذ" أساء وأريد بـ "إذ" الوقت. اقتضى ظاهر الحال أن الإساءة سبب الضّرب قولان: وإنّما يرتفع السّؤال على القول الأول فإنّه لو قيل لن ينفعكم اليوم وقت ظلمكم الاشتراك في العذاب، لم يكن التّعليل مستفادا لاختلاف زمني الفعلين، ويبقى إشكال في الآية، وهو أن "إذ" لا تبدل من اليوم لاختلاف الزمانين، ولا تكون ظرفا لينفع لأنّه لا يعمل في ظرفين، ولا لـ {مشتركون} لأن معمول خبر الأحرف الخمسة لا يتقدّم عليها، ولأن معمول الصّلة لا يتقدّم على الموصول، ولأن اشتراكهم في الآخرة لا في زمن ظلمهم، وممّا حملوه على التّعليل {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}،{وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلّا الله فأووا إلى الكهف}، وقوله: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر
وقول الأعشى:
إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السّفر إذ مضوا مهلا
أي: إن لنا حلولا في الدّنيا، وإن لنا ارتحالا عنها إلى الآخرة، وإن في الجماعة الّذين ماتوا قبلنا إمهالا لنا؛ لأنهم مضوا قبلنا وبقينا بعدهم. وإنّما يصح ذلك كله على القول بأن "إذ" التعليلية حرف كما قدمنا، والجمهور لا يثبتون هذا القسم، وقال أبو الفتح راجعت أبا عليّ مرارًا في قوله تعالى:{ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم} الآية مستشكلا إبدال "إذ" من اليوم فآخر ما تحصل منه أن الدّنيا والآخرة متصلتان وأنهما في حكم الله تعالى سواء، فكأن اليوم ماض أو كان "إذ" مستقبله انتهى. وقيل المعنى "إذ" ثبت ظلمكم، وقيل التّقدير بعد "إذ" ظلمتم، وعليهما أيضا فـ "إذ" بدل من اليوم، وليس هذا التّقدير مخالفا لما قلناه في {بعد إذ هديتنا}؛ لأن المدعى هناك أنّها لا يستغنى عن معناها، كما يجوز الاستغناء عن يوم في "يومئذٍ"؛ لأنّها لا تحذف لدليل، و"إذا" لم تقدر "إذ" تعليلا، فيجوز أن تكون أن وصلتها تعليلا، والفاعل مستتر راجع إلى قولهم {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين}، أو إلى القرين، ويشهد لهما قراءة بعضهم (إنّكم) بالكسر على الاستئناف.
4- والرّابع: أن تكون للمفاجأة، نص على ذلك سيبويه، وهي الواقعة بعد "بينا" أو "بينما"، كقوله:
استقدر الله خيرا وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وهل هي ظرف مكان أو زمان أو حرف بمعنى المفاجأة أو حرف توكيد، أي زائد أقوال وعلى القول بالظرفية، فقال ابن جني عاملها الفعل الّذي بعدها لأنّها غير مضافة إليه، وعامل "بينا" و "بينما" محذوف يفسره الفعل المذكور، وقال الشلوبين "إذ" مضافة إلى الجملة فلا يعمل فيها الفعل، ولا في "بينا" و "بينما"؛ لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا فيما قبله، وإنّما عاملهما محذوف يدل عليه الكلام، و"إذ" بدل منهما، وقيل العامل ما يلي بين بناء على أنّها مكفوفة عن الإضافة إليه، كما يعمل تالي اسم الشّرط فيه، وقيل بين خبر لمحذوف وتقدير قولك "بينما" أنا قائم "إذ" جاء زيد، بين أوقات قيامي مجيء زيد، ثمّ حذف المبتدأ مدلولا عليه بجاء عمرو، وقيل مبتدأ، و"إذ" خبره، والمعنى حين أنا قائم حين جاء عمرو، وذكر لـ "إذ" معنيان آخران.
أحدهما التوكيد: وذلك بأن تحمل على الزّيادة قاله أبو عبيدة، وتبعه ابن قتيبة، وحملا عليه آيات منها:{وإذ قال ربك للملائكة}.
والثّاني التّحقيق: كـ "قد"، وحملت عليه الآية، وليس القولان بشيء، واختار ابن الشجري أنّها تقع زائدة بعد "بينا" و "بينما" خاصّة، قال لأنّك "إذا" قلت "بينما" أنا جالس "إذ" جاء زيد، فقدرتها غير زائدة أعملت فيها الخبر، وهي مضافة إلى جملة جاء زيد، وهذا الفعل هو الناصب لـ "بين" فيعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف انتهى. وقد مضى كلام النّحويين في توجيه ذلك، وعلى القول بالتحقيق في الآية فالجملة معترضة بين الفعل والفاعل مسألة تلزم "إذ" الإضافة إلى جملة إمّا اسمية، نحو:{واذكروا إذ أنتم قليل}، أو فعلية فعلها ماض لفظا ومعنى، نحو: {وإذ قال ربك للملائكة}،{وإذ ابتلى إبراهيم ربه}،{وإذ غدوت من أهلك}، أو فعلية فعلها ماض معنى لا لفظا، نحو:{وإذ يرفع إبراهيم القواعد}،{وإذ يمكر بك الّذين كفروا}،{وإذ تقول للّذي أنعم الله عليه}، وقد اجتمعت الثّلاثة في قوله تعالى:{إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الّذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}. الأولى ظرف لنصره، والثّانية بدل منها، والثّالثة قيل بدل ثان، وقيل ظرف لثاني اثنين، وفيهما وفي إبدال الثّانية نظر؛ لأن الزّمن الثّاني والثّالث غير الأول فكيف يبدلان منه، ثمّ لا يعرف أن البدل يتكرّر إلّا في بدل الإضراب، وهو ضعيف لا يحمل عليه التّنزيل، ومعنى {ثاني اثنين} واحد من اثنين، فكيف يعمل في الظّرف، وليس فيه معنى فعل، وقد يجاب بأن تقارب الأزمنة ينزلها منزلة المتحدة أشار إلى ذلك أبو الفتح في المحتسب، والظرف يتعلّق بوهم الفعل وأيسر روائحه، وقد يحذف أحد شطري الجملة فيظن من لا خبرة له أنّها أضيفت إلى المفرد، كقوله: هل ترجعن ليال قد مضين لنا ... والعيش منقلب إذ ذاك أفنانا
والتّقدير: إذ ذاك كذلك، وقال الأخطل:
كانت منازل الأف عهدتهم ... إذ نحن إذ ذاك دون النّاس إخوانًا
ألّاف بضم "الهمزة" جمع "آلف" بالمدّ، مثل: كافر وكفار، ونحن وذاك مبتدآن حذف خبراهما، والتّقدير: عهدتهم إخوانًا "إذ" نحن متآلفون، "إذ" ذاك كائن، ولا تكون "إذ" الثّانية خبرا عن نحن؛ لأنّه زمان ونحن اسم عين، بل هي ظرف للخبر المقدر، و"إذ" الأولى ظرف لعهدتهم، ودون إمّا ظرف له، أو للخبر المقدر، أو لحال من إخوانًا محذوفة، أي: متصافين دون النّاس، ولا يمنع ذلك تنكير صاحب الحال لتأخره فهو كقوله:
لمية موحشا طلل ...
ولا كونه اسم "عين" لأن دون ظرف مكان لا زمان، والمشار إليه بـ ذاك التجاور المفهوم من الكلام، وقالت الخنساء:
كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذ النّاس إذ ذاك من عزبزا
"إذ" الأولى ظرف لـ يتقى أو لـ حمى أو لـ يكونوا، إن قلنا "إن" لـ "كان" النّاقصة مصدرا، والثّانية ظرف لـ بز، ومن مبتدأ موصول لا شرط؛ لأن بز عامل في "إذ" الثّانية، ولا يعمل "ما" في حيّز الشّرط فيما قبله عند البصريين، وبز خبر من، والجملة خبر النّاس، والعائد محذوف، أي: من عز منهم، كقولهم السّمن منوان بدرهم، ولا تكون "إذ" الأولى ظرفا لبز؛ لأنّه جزء الجملة الّتي أضيفت "إذ" الأولى إليها، ولا يعمل شيء من المضاف إليه في المضاف، ولا "إذ" الثّانية بدل من الأولى؛ لأنّها إنّما تكمل بما أضيفت إليه، ولا يتبع اسم حتّى يكمل، ولا تكون خبرا عن النّاس لأنّها زمان، والنّاس اسم "عين"، وذاك مبتدأ محذوف الخبر، أي: كائن، وعلى ذلك فقس، وقد تحذف الجملة كلها للعلم بها، ويعوض عنها التّنوين، وتكسر "الذّال" لالتقاء الساكنين، نحو:{ويومئذ يفرح المؤمنون}، وزعم الأخفش أن "إذ" في ذلك معربة لزوال افتقارها إلى الجملة، وأن الكسرة إعراب لأن اليوم مضاف إليها، ورد بأن بناءها لوضعها على حرفين، وبأن الافتقار باقٍ في المعنى كالموصول تحذف صلته لدليل قال:
نحن الألى فاجمع جموعه ... عك ثمّ وجههم إلينا
أي: نحن الألى عرفوا، وبأن العوض ينزل منزلة المعوض عنه، فكأن المضاف إليه مذكور، وبقوله:
نهيتك عن طلابك أم عمرو ... بعافية وأنت إذ صحيح
فأجاب عن هذا بأن الأصل "حينئذٍ"، ثمّ حذف المضاف، وبقي الجرّ كقراءة بعضهم:{والله يريد الآخرة}، أي: ثواب الآخرة.
تنبيه
أضيفت "إذ" إلى الجملة الاسمية: فاحتملت الظّرفيّة والتعليلية في قول المتنبي:
أمن ازديارك في الدجى الرقباء ... إذ حيث كنت من الظلام ضياء
وشرحه أن أمن فعل ماض فهو مفتوح الآخر لا مكسورة على أنه حرف جر، كما توهم شخص ادّعى الأدب في زماننا وأصر على ذلك،
والازديار أبلغ من الزّيارة كما أن الاكتساب أبلغ من الكسب؛ لأن الافتعال للتّصرّف و"الدّال" بدل عن "التّاء"، وفي متعلقة به لا بأمن؛ لأن المعنى أنهم أمنوا دائما أن تزوري في الدجى، و"إذ" إمّا تعليل، أو ظرف مبدل من محل في الدجى، وضياء مبتدأ خبره حيث، وابتدئ بالنكرة لتقدم خبرها عليها ظرفا، ولأنّها موصوفة في المعنى لأن من الظلام صفة لها في الأصل، فلمّا قدمت عليها صارت حالا منها، ومن للبدل، وهي متعلقة بمحذوف، وكان تامّة، وهي وفاعلها خفض بإضافة حيث، والمعنى "إذ" الضياء حاصل في كل موضوع حصلت فيه بدلا من الظلام). [مغني اللبيب: 2/ 5 - 45]
"إذ ما"
قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("إذ ما"
"إذ ما": أداة شرط تجزم فعلين، وهي حرف عند سيبويه بمنزلة "إن" الشّرطيّة، وظرف عند المبرد، وابن السراج والفارسي، وعملها الجزم قليل لا ضرورة خلافًا لبعضهم). [مغني اللبيب: 2 / 46 - 47]